
إلهامي الميرغني 12 فبراير 2025
تم تعريف مفهوم «السيادة الغذائية» للمرة الأولى من قبل حركة طريق الفلاح الدولية «فيا كامبيسينا»، في العام 1996. ويشير المصطلح إلى «حق الشعوب في الغذاء الصحّي والملائم ثقافياً من خلال أساليب سليمة بيئياً ومستدامة»، والحق في «تحديد طعامها والنظم الزراعية المناسبة لظروفها». وفي العام 2007 صدر عن المنتدى الدولي للسيادة الغذائية، الذي عُقِد في قرية تيليني بمالي، تعريفاً أكثر وضوحاً يشير إلى «حق الشعوب والمجتمعات المحلّية والبلدان في تحديد سياساتها الخاصة بالزراعة والعمالة وصيد الأسماك والغذاء والأراضي التي تكون ملائمة بيئياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً لظروفها الفريدة. وهي تشتمل على الحق الحقيقي في النفاذ للغذاء وعناصر إنتاجه، ما يعني أن لجميع الناس الحق في غذاء آمن ومغذٍ وملائم ثقافياً، وموارد إنتاج الغذاء والقدرة على إعالة أنفسهم ومجتمعاتهم. وتركّز السيادة الغذائية على أولوية حقوق الناس والمجتمعات المحلية في إنتاج الغذاء، والغذاء مسبوق على الاعتبارات التجارية». كذلك عرّف البعض السيادة الغذائية بأنها تعني حق الشعوب في تحديد سياساتها الغذائية والزراعية أو حماية وتنظيم التجارة والإنتاج الزراعي المحلي من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتحديد المدى الذي تعتمد به على نفسها، وتقييد الإغراق في أسواقها، وإعطاء المجتمعات المعتمدة على المصائد المحلية الأسبقية في إدارة استعمال الموارد المائية والحقوق فيها. السيادة الغذائية لا تنفي التجارة، لكن تشجّع صياغة سياسات وممارسات تخدم حقوق الشعوب في الإنتاج الآمن والصحي والمستدام أيكولوجياً.
منذ لجأت مصر إلى المؤسسات المالية الدولية للاستدانة، فرض الصندوق والبنك الدوليين خطّة لتفكيك الزراعة المصرية، اعتمدت على إلغاء الدورة الزراعية واستبدال المحاصيل الأساسية بالمحاصيل التصديرية وانخفاض نسب الاكتفاء الذاتي وزيادة الاعتماد على الخارج والخضوع للسوق العالمية وتقلباتها المرتبطة بسعر الدولار، وهو ما ينعكس على ميزان المدفوعات. كما تمّ التوجّه إلى تحرير الزراعة المصرية، خصوصاً البذور والأسمدة والمبيدات، وترك الحرّية للفلاح في زراعة المحاصيل المختلفة، وإلغاء الإرشاد الزراعي، وترك الفلاحين ضحية لتجارب الشركات الدولية، ومنع الإكثار من البذور الذي مارسه الفلاح المصري منذ آلاف السنين، إذ أصبح يستورد بذور تستخدم في الزراعة لسنة واحدة. كما تم تحرير العلاقة الإيجارية في الأرض الزراعية، ورفع الدعم عن الفلاحين، وتحول بنك التسليف الزراعي والتعاوني إلى بنك تجاري تسبّب في سجن الآلاف من الفلاحين. بالإضافة إلى تصفية كل شركات القطاع العام الزراعي، وإطلاق يد القطاع الخاص والاستثماري والمستوردين الأمر الذي يتجسّد في مشروع زراعة القمح الإماراتي في توشكي وزراعة وصناعة البنجر في ملوي بمحافظة المنيا في صعيد مصر. وأصبحت مصر معتمدة على الخارج في غذائها وكسائها، وأصبحت صناعة الدواجن كنموذج يعتمد بالكامل على مكوّنات مستوردة ما يعمّق التبعية للخارج ويفقد مصر سيادتها الغذائية.
تغيّر المتوسط السنوي لنصيب الفرد في مصر من مجمل محاصيل الحبوب خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2000 و2021، وبلغ أدنى مستوى له وهو 221.1 كيلوغراماً في العام 2012، فيما سجّل أعلى مستوى في العام 2008 وقد بلغ 355.6 كيلوغراماً. وفي خلال هذه الفترة انخفض متوسط استهلاك الفرد في مصر من الحبوب من 280.8 كيلوغراماً في العام 2000 إلى 277.7 كيلوغراماً في العام 2010، ثم وصل إلى 269.3 كيلوغراماً في العام 2021. وهو ما يعكس تدهور متوسط نصيب الفرد من مجمل محاصيل الحبوب.
وإذا حاولنا تأمل حالة محاصيل الحبوب في مصر كمؤشر على مدى تحقّق السيادة الغذائية في هذه المحاصيل نجد الآتي:
القمح
يعتبر محصول القمح من أهم المحاصيل الغذائية في مصر، حيث يعتمد عليه الشعب المصري وخصوصاً محدودي الدخل في غذائهم اليومي، ويسهم بنحو 65% من إجمالي نصيب الفرد من السعرات الحرارية اليومية وبنحو 40% إلى 45% من كمية البروتينات اللازمة للفرد يومياً وذلك في صورة خبز.
تطور إنتاج مصر من القمح من 4.3 مليون طن في العام 1990 إلى 6.6 مليون طن في العام 2000، وصولاً إلى 7.2 مليون طن في العام 2010، ونحو 9.8 مليون طن في العام 2021. وعلى الرغم من مضاعفة حجم الإنتاج من القمح في مصر، لا تزال لدينا فجوة كبيرة في القمح، وهي تتسع مع النمو السكاني حتى وصلت إلى 10.8 مليون طن في العام 2021. وهي عبء كبير على ميزان المدفوعات المصري وخصوصاً في ظل الأوضاع العالمية، وحرب روسيا وأوكرانيا أهم موردي القمح لمصر. وتعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم.
توجد فجوة في سوق القمح في مصر وصلت لنصف احتياجات مصر السنوية من القمح، وقد ارتفعت إلى 61.7% في العام 2000، ثم وصلت إلى أعلى معدل للاكتفاء الذاتي وهو 74.4% في العام 2009. وبحساب متوسط الفجوة في خلال السنوات الماضية اتضح أنها في حدود 52.1%، وبذلك تكون مصر معتمدة على الخارج في تدبير أكثر من نصف احتياجاتها السنوية من القمح المصدر الرئيس لغذاء المصريين وصناعة الخبز.
الأرز
يعتبر الأرز من المحاصيل الغذائية والتصديرية الهامة في مصر. ويعتبر الغذاء الرئيسي لأكثر من ثلث سكان العالم تقريباً. وهو ثالث محاصيل الحبوب من حيث المساحة المزروعة، وثانيها من حيث كمية المحصول العالمي. تطوّر الإنتاج من محصول الأرز وارتفعت كمية الإنتاج من 2.19 مليون طن في العام 1990 إلى 4.14 مليون طن في العام 2000 ومن ثمّ إلى 5.52 مليون طن في العام 2010. فيما بلغت 3.74 مليون طن في العام 2020.
مصر معتمدة على الخارج في تدبير أكثر من نصف احتياجاتها السنوية من القمح المصدر الرئيس لغذاء المصريين وصناعة الخبز.
كان إنتاج مصر من الأرز فائضاً عن الاستهلاك المحلي بنسبة 112% في العام 1998، ووصل الفائض إلى 135.8% في العام 2005 و130.4% في العام 2007. وبدأ التدهور منذ العام 2015، إذ تراجعت نسبة الاكتفاء الذاتي حتى وصلت إلى أسوأ معدلاتها في العام 2019 (76.8%)، وهي أدنى نسبة اكتفاء ذاتي في خلال 4 عقود. ولكنها عادت للارتفاع مرة أخرى في العام 2020 لتصل إلى 101.6% بعد 4 سنوات من انخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي، بسبب تقليص مساحات زراعة الأرز والآثار المترتبة على سد النهضة الإثيوبي وتأثيره على حصة مصر المائية.
بلغ متوسط استهلاك الفرد السنوي من الأرز في مصر أعلى معدلاته في الأعوام 2003 (51.7 كلغ/فرد) و2008 (58.5 كلغ/فرد) و2009 (56.2 كلغ/فرد). وفي خلال الفترة 2002 إلى 2020 انخفض متوسط النصيب السنوي للفرد من الأرز من 44.1 كلغ إلى 29.6 كلغ.
الذرة الشامية
يتميز محصول الذرة الشامية باستخدامه كغذاء للإنسان والحيوان، وقد ارتفعت كمية إنتاج الذرة في مصر من 4.8 مليون طن في العام 1990 إلى 6.5 مليون طن في العام 2000، وصولاً إلى 7.7 مليون طن في العام 2010 ومن ثم بلغ 7.3 مليون طن في العام 2020. لم تتعدَ فجوة الطلب في العام 1990 نحو 22.8% لكنها ارتفعت إلى 32% في العام 1997، ووصلت إلى 49% في العام 2011. وأصبحت مصر خامس أكبر دولة مستوردة للذرة في العالم. ويتضح أن مصر استوردت 60% من احتياجاتها من الذرة الشامية في العام 2018. وعلى مستوى متوسط نصيب الفرد من الاستهلاك يتضح وجود انخفاض كبير في متوسط نصيب الفرد من 80.8 كلغ في العام 1995 إلى 27.6 كلغ في العام 2020.
الذرة الرفيعة
يطلق على الذرة الرفيعة للحبوب أسماء مختلفة في المناطق المختلفة لزراعته في العالم، إذ يطلق عليه الدخن الكبير وذرة غينيا في غرب أفريقيا، والميلو والسورجو في أميركا، والكاوليانج في الصين والدرة في السودان، والجولا والشولام في الهند. كما شهدت المساحة المزروعة بالذرة الرفيعة تغيرات على مدى سنوات من 365 ألف فدان في العام 2002 إلى 351 ألف فدان في العام 2005 و329 ألف فدان في العام 2010 و355 ألف فدان في العام 2015، وصولاً إلى 357 ألف فدان في العام 2021. أما الإنتاج الكلي لمحصول الذرة الرفيعة فتغير من 888 ألف طن في العام 2002 إلى 834 في العام 2005، ومن ثمّ إلى 692 ألف طن في العام 2010، وصولاً إلى 914 ألف طن في العام 2015، وانخفض إلى 791 ألف طن في العام 2021.
الشعير
يعتبر الشعير من أقدم وأهم المحاصيل المزروعة في التاريخ. لقد كان الشعير حتى القرن السادس عشر هو محصول الحبوب الأكثر أهمية في غذاء الإنسان ثم بدأ القمح والراي يحلان محله. وهناك بعض الأدلة على أن حبوب أو سنابل الشعير وجدت في مصر في منطقة الفيوم وفي هرم سقارة، ويرجع عمرها إلى 5,000 و10,000 سنة. شهد الإنتاج تغيرات غير منتظمة من 101 ألف طن في العام 2002 إلى 198 ألف طن في العام 2005، ثم 117 ألف طن في العام 2010، 101 ألف طن في العام 2015 ثم وصل إلى 88 ألف طن في العام 2021. كما تطور استهلاك الشعير وصولاً إلى 208 ألف طن في العام 2016.
لم يجر تصدير الشعير في غالبية السنوات، إلا في خلال الفترة الممتدّة بين عامي 2008 و2013 بكميات تراوحت بين 5,000 طن و71 ألف طن في العام 2008. أما الواردات فقد بلغت أعلى معدلاتها في العام 2016 بنحو 100 ألف طن، وفي العام 2014 بنحو 98 ألف طن. تطوّرت نسبة الاكتفاء الذاتي من محصول الشعير من 72.3% في العام 2000 وصولاً إلى 98.5% في العام 2005، قبل أن تنخفض إلى 88.6% في العام 2010 وصولاً إلى 51.9% في العام 2016.
إن استيراد مستلزمات الإنتاج وتخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار أدّيا إلى رفع تكلفة الإنتاج بنسب متفاوتة بين المحافظات.
نخلص من العرض السابق أن هناك أزمة تتفاقم في محاصيل الحبوب في مصر، وتؤثر على سيادة مصر الغذائية، وتحتاج إلى مواجهة من نوع مختلف.
- إن استيراد مستلزمات الإنتاج وتخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار أدّيا إلى رفع تكلفة الإنتاج بنسب متفاوتة بين المحافظات.
- يؤثر سعر الصرف بنسبة 71% على واردات مصر من القمح من روسيا وأوكرانيا، كما يؤثر على أسعار الحبوب التي يتم استيرادها من الخارج. لذلك توجد ضرورة لاتخاذ تدابير تحدّ من ارتفاع سعر صرف الدولار وخفض فاتورة استيراد الغذاء.
- ضرورة عودة الدورة الزراعية، وإعادة النظر في التركيب المحصولي، ورسم سياسة سعرية سليمة لرفع نسبة الاكتفاء الذاتي من السلع الزراعية ومحاصيل الحبوب.
- ضرورة العمل على رفع صافي العائد الفداني، من خلال تخفيض التكاليف الإنتاجية، عبر توفير مستلزمات الإنتاج بأسعار مناسبة عن طريق الجمعيات التعاونية واستخدام أصناف محسّنة وذات الإنتاجية المرتفعة.
- تقليل الفاقد من الحبوب في مراحل الجمع والحصاد والنقل والتخزين من خلال إنشاء صوامع جيدة للتخزين.
- تفعيل دور الإرشاد الزراعي والتعاونيات في توجيه المزارعين في الاستخدام الصحيح للمياه وترشيد استخدامها في زراعة محاصيل الحبوب.
- الاهتمام بنتائج الأبحاث والدراسات العلمية، التي تجري بالمراكز البحثية، والتي تؤدي إلى زيادة الإنتاجية بنسب كبيرة.
- توفير المعلومات والإرشادات الخاصة بالأسعار لمساعدة المزارعين في اتخاذ قراراتهم بالتوسّع في زراعة محاصيل الحبوب.
- توجيه السياسة السعرية الزراعية وتحديدها وإعلان الحد الأدنى للسعر المزرعي، بحيث يقارب السعر العالمي في وقت مبكر، حتى يشجع المزارعين على زراعته، لتقليل حجم الواردات ولتقليل العجز في ميزان المدفوعات.
- ضرورة العمل على توفير منافذ بيع حكومية لبذور الحبوب والأسمدة الزراعية والمبيدات الكيماوية بأسعار مناسبة للمزارعين.
- الاهتمام باستنباط أصناف عالية الإنتاجية والجودة.
تشكّل محاصيل الحبوب ركيزة رئيسة لتحقيق السيادة الغذائية في مصر، ومن دون مواجهة الفجوة الحالية سوف يتم تعميق التبعية وزيادة الاعتماد على الخارج وعدم التحكم في غذائنا وزيادة عجز ميزان المدفوعات. لذلك لنبدأ بمحاصيل الحبوب.

