
بقلم: عادل حمودة
المجتمع المريض وحده هو الذي لا تشتبك فيه كرياته الحمراء والبيضاء في صراع شريف من أجل الحقيقة.
لكن… أحياناً يكون الاشتباك نوعاً من التعصب.. أو تصلب الشرايين.. أو تصلب الرأي.. وأحياناً يكون نوعاً من النوم في العسل والاستغراق في الماضي والحنين إليه والإيمان به.. والماضي حتى لو كان ساحراً.. رائعاً.. ملوناً فهو ماضٍ.. لا يجوز أن يقف كالشوكة في الحلق.. أو يقف كالسيارة المشلولة.. مفككة في منتصف الطريق.. لا هي قادرة على الحركة.. ولا غيرها قادر على المرور.
إننا في وقت تتغير فيه الدنيا كل ساعة.. حجم المعرفة التي كانت تستوعبه البشرية في120 سنة.. لا مفر من استيعابه في 12 سنة.. والعالم كله مشغول بما يسمى في الغرب بفخ العولمة.. حيث يملك 358 مليارديراً ثورة تضاهي ما يملكه أكثر من نصف سكان الأرض.. وحيث تستحوذ 20% من دول العالم علي 85% من الثروات والأسواق والمدخرات.. وحيث ينتظر 80% من البشر الجوع والبطالة والتشرد والعيش فقط على الإحسان والتبرعات.
في هذا الوقت الذي نحتاج فيه إلى حلول مبتكرة لمتاعبنا لنطفو على سطح الحياة يخرج فؤاد سراج الدين في الذكرى الثمانين لعيد الجهاد ليتساءل: أين الذهب؟
والذهب المقصود هو الذهب الذي تملكه مصر.. وقد قال فؤاد سراج الدين: إن الذهب حجمه 65 مليون جنيه ذهبية وأنه أودعها في خزانة البنك الأهلي ـالذي كان بمثابة البنك المركزي أيضاًـ في عام 1951 وأن قيمة هذا الذهب الآن تزيد على ملياري جنيه.. فما هو مصير هذا الذهب؟.. هل خرج من خزائن البنك المركزي ليدخل مغارة علي بابا؟
وللذهب بريقه في مصر.. وللكلام بريقه أيضاً.. ومع أنه ليس كل ما يبرق أو يقال ذهباً فإن السكوت ليس من ذهب في مثل هذه الأمور الشائكة التي تحمل ضغائن الماضي البعيد.. خصوصاً عندما يحمل القول غمزاً ولمزاً يشوهان سمعة حكومات متعاقبة لا تقدر الآن على الدفاع عن نفسها.. يضاف إلى هذا حكاوي القهاوي التي تحولت دون فحص أو تحقيق إلى عناوين رئيسية لجريدة الوفد عن إنفاق الذهب في اليمن وتهريبه إلى يوغوسلافيا أيام حكم الرئيس تيتو.. إن الوفد ـالحزب والصحيفةـ كانا عليهما تحقيق الاتهام قبل نشره وسماع الشهود وهم على قيد الحياة وليس مجرد التلطيش في الظلام.

لقد تحدثت مباشرة إلى الرجل الذي باع جزءاً من ذهب مصر وهو علي نجم المحافظ السابق للبنك المركزي.. لكنه عندما قام بهذه المهمة كان عمره 30 سنة وكان في بداية حياته العملية.. وأصل الحكاية.. أن الولايات المتحدة الأمريكية ـللذين يتعمدون الفقدان المؤقت للذاكرةـ قررت تجويع الشعب المصري فمنعت شحنات القمح عنه ولم يجد الرئيس الأمريكي في منتصف الستينات ليندون جونسون
-الذي كان يوصف بأنه كان شخصية من أعقد الشخصيات التي دخلت وعاشت في البيت الأبيض- مبرراً لإبلاغ مصر بهذا القرار في وقت مبكر حتى تدبر احتياجاتها الضرورية من أرغفة الخبز الأسمر الذي يعيش عليه السواد الأعظم من الشعب دون غموس في معظم الأحيان.. كما أن الرئيس ليندون جونسون -الذي كان دليلاً على صحة القول بالفصل بين السياسة والأخلاق- استغل فرصة انهيار محصول القمح السوفيتي وصعوبة استجابة موسكو لطلبات القمح المصري العاجلة ليضرب ضربته متصوراً أن الشعب المصري الجائع سيزحف على بطنه الخاوية لإسقاط نظام جمال عبدالناصر الذي كان قد خرج نهائياً من المدار الأمريكي.
وكان أن اجتمع مجلس الوزراء لمناقشة كيفية تدبير المبالغ اللازمة لشراء القمح فوراً قبل وقوع الكارثة.. وفي سخونة المناقشة جاء اقتراح بيع جزء من الذهب قيمته 10 ملايين دولار تُدفع كعربون لشركات القمح العالمية لتحويل شحنات من القمح تحملها سفن كانت في عرض البحر إلى ميناء الإسكندرية.. واتخذ القرار مجلس الوزراء وصدَّق عليه رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر الذي قال -حسب شهادة محمد حسنين هيكل الآن- إنه إذا لم نستعمل الذهب الآن فمتى نستعمله؟.. إن كنوز الدنيا لا تساوي أي شيء أمام تجويع مواطن واحد من هذا الشعب الذي يتغنون به طوال اليوم.
وكان جمال عبدالناصر قد رفض من قبل تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية -بعد حرب السويس وتراجُع واشنطن عن المساعدة والمساندةـ ببيع الآثار ورصيد الذهب وكان هناك من اقترح ذلك في عام 1957 بدعوى بيع الماضي لمصلحة المستقبل.
في خريف عام 1964 رافق علي نجم سبائك الذهب وقد حملتها 4 طائرات نقل خاصة إلى بنك التسويات الدولية في بازل.. في سويسرا وكانت هذه السبائك تزن حوالي 15 طناً وتمثل أقل من %10 من مخزون الذهب المصري المخزون منذ عام 1952 وكان وزنه يزيد على 150 طناً وهو وزن يزيد كثيراً على تقديرات فؤاد سراج الدين وهو وزير مالية قبل الثورة وتقديراته الآن. ويقترب الرقم من تقديرات رئيس الحكومة د. كمال الجنزوري الذي أعلن أن الرقم هو 154 طناً وكان ذلك أمام مجلس الوزراء يوم الأربعاء 25 نوفمبر 1998.
كل شهود العيان عما قبل عام 1970 يقولون إن التصرف في رصيد الذهب -المحفوظ في خزائن البنك المركزي على هيئة قوالب في صناديق مغلقة عليها أرقام مسجلة تسجيلاً دقيقاً في الداخل والخارج- لم يزد على الكميات التي بيعت في عام 1964 لإنقاذ مصر من حرب التجويع الأمريكية.. وقد بيعت هذه الكميات بالأوقية -الأوقية حوالي 31 جراماً من الذهب عيار 24 ـ وكان سعر الأوقية في ذلك الوقت 35 دولاراً.
وهناك خطأ شائع -حتي عند بعض المستويات الرسميةـ أن جزءاً من رصيد الذهب المصري وزعته السلطة في العهد الناصري على القبائل اليمنية أثناء الحرب التي جرت هناك.. والحقيقة التي فتشت عنها ووجدتها في أرشيف جريدة الأهرام وعلى شرائط الميكروفيلم فيها.. لقد استضافت القاهرة الملك سعود بن عبدالعزيز هو وأسرته بعد خلعه وكانت إقامته في الطابقين العلويين من فندق هيلتون النيل قبل تدبير قصر له وقد كانت نصيحة سعود لجمال عبدالناصر.. إن الحرب النظامية التي يخوضها الجيش المصري في اليمن ليست مناسبة لطبيعة البلاد الجبلية القاسية وأن من الضروري شراء القبائل أو بعضها لضمان دعمها وتجنب شرها.. وتطوع سعود واشترى من أمواله 5 ملايين جنيه استرليني في صورة عملات ذهبية ليوزعها بنفسه على القبائل اليمنية.. وفي الوقت نفسه كتب شيكاً على ورقة كراسة بـ15 مليون دولار صرفت من أحد البنوك الهولندية إلى مصر.. هي التي تحدث عنها الكاتب الراحل جلال الدين الحمامصي في كتابه “حوار وراء الأسوار” واستخدمها في الطعن في ذمة جمال عبدالناصر وقد كان السهل تبرئة ذمة زعيم لم يملك بيته وكان فراشه الذي ينام عليه عهدة أميرية.
وفي 23 أبريل عام 1967 سافر الملك سعود على متن طائرة خاصة إلى اليمن حملت صناديق الجنيهات الذهبية.. وفي الطائرة كان هناك من بين رجاله من وضعوا الجنيهات الذهبية في أكياس من القطيفة بعد تقسيمها إلى ثلاث فئات هي: 1000 و500 و100 جنيه حسب قوة وأهمية القبيلة.. وكان معه على الطائرة المشير عبدالحكيم عامر وأنور السادات وشمس بدران وزير الحربية وحسن صبري الخولي الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية والدكتور عبدالقادر حاتم الذي وصفه الخبر الرئيسي لصحيفة الأهرام في يوم 24 أبريل 1967 بأنه المسئول عن جهاز الإعلام المختص بالرد على الدعايات الاستعمارية الخارجية.. وحسب الخبر نفسه فإن الرحلة استغرقت 4 أيام وأن الملك سعود ألقى خطاباً من شرفة القصر الجمهوري في منطقة “الألوف” في صنعاء أعلن فيه اعترافه بثورة اليمن ونظامها الجمهوري.. ولم ينسَ الخبر أن يذكر أن الملك قد وزع عطاياه على القبائل.. ولم يكن شاهداً على ذلك عبدالحكيم عامر وأنور السادات اللذان فضَّلا أن تتم الصفقة بعيداً عن أي وجود رسمي لمصر.. ورغم ذلك لم تنجح عملية شراء القبائل بالذهب في تخفيف شدة الحرب لأن الأخطر من القبائل كان المرتزقة الأجانب الذين كان عددهم 5 آلاف محترف جاءوا من أوروبا عبر مكتب التجنيد الرئيسي في لندن.. ولم تمر سوى عدة أسابيع على واقعة الذهب في اليمن حتى كانت هزيمة يونيو التي فتحت بما سببته من جراح صفحة جديدة في العلاقات المصرية ـ العربية.. ثم راحت الدوائر تدور.. وتدور.. وتدور.
هذه في تصوري وتحرياتي أصدق الوقائع عن الذهب في مصر.. وفي خزانة محافظ البنك المركزي إسماعيل حسن ما يمكن أن يؤيدني.. ففي هذه الخزانة أوراق ومستندات دامغة أقوى من أي ادعاء.
شهادة الأستاذ محمد حسنين هيكل بالفيديو
https://drive.google.com/file/d/1Dx1eKejOzwHSTHEAmGQBvuoH7HUawYcD/view?usp=sharing