الرئيسية / أخــبار / عبد الناصر: “لن يغفر لي الأمريكيون حيًا أو ميتًا”

عبد الناصر: “لن يغفر لي الأمريكيون حيًا أو ميتًا”

زاهر المحروقي

عبد الناصر: “لن يغفر لي الأمريكيون حيًا أو ميتًا”

صادف يوم السبت 15 يناير 2022، الذكرى 104 لميلاد الزعيم جمال عبد الناصر، فيما مرّت خمسون عامًا على وفاته، وما زال يُشغل النّاس كأنّه حيّ، ممّا يطرح سؤالا هو: ما السر في ذلك؟ وكيف لهذه الجماهير أن تخرج في مظاهرات مليونية مساء 9 يونيو 1967 رفضًا للاستقالة التي قدّمها؟ ولماذا لم يقتصر الرفض الشعبي للاستقالة على مصر وحدها، إذ عمّ الوطن العربي كله ودول العالم الثالث، وحتى الجاليات العربية في المهجر؟ وكيف للجماهير العربية أن تستقبل عبد الناصر في الخرطوم بالملايين، وهو المهزوم هزيمة ثقيلة عام 1967؟ وكيف لتلك الملايين أن تخرج في جنازته في القاهرة، وفي جنازات رمزية في الوطن العربية ودول العالم الثالث؟ إنّ مبغضي جمال عبد الناصر يرون أنه كان ظاهرة صوتية، وأنّه اعتمد على العاطفة فقط؛ ولكن الواقع يقول إنه لا يمكن لرجل أن يخدع تلك الملايين، كلّ تلك السنين حتى بعد وفاته بنصف قرن، إذ تحتفل الناس بذكرى ميلاده ووفاته، وما حقّق من إنجازات على الصعيد الداخلي والخارجي؛ فقد كان الرجل زعيمًا عربيًا مخلصًا، له ما أصاب فيه وله ما أخطأ فيه أيضًا، كان شريفًا يمثل آمال الشعوب العربية في العزة والكرامة، ولم يخن تطلعات بلاده وأمته؛ لذا أحبّته تلك الجماهير وبادلته حبًا بحب، رغم أخطائه. وكما هو معروفٌ فإنّ الصورة الجماهيرية الناجحة لأيّ زعيم تستوجب أن تكون الصفات التي تمثلها تلك الصورة موجودة فعلا لدى صاحبها وليست مقحمة على شخصيته – كما يقول سامي شرف سكرتير عبد الناصر ووزير شؤون الرئاسة لسنوات – ذلك أنّ رجل الشارع لديه الفراسة الفطرية دائمًا، والتي تمكنّه من أن يكتشف ما هو حقيقي ممّا هو مزيّف، “وهنا نجد أنّ الجماهير العربية كانت على قدر كبير من الوعي، ليس فقط من الحكم على صحة الصورة الجماهيرية التي تمتّع بها عبد الناصر أثناء حياته؛ وإنّما مكّنها أيضًا من التصدي لمحاولات العبث بهذه الصورة بعد مماته”.

وإذا كان القادة الوطنيون في العالم قد تعرّضوا لحملات تشويه ممنهجة، فإنّ عبد الناصر هو أكثر من تعرّض لحملات التشويه في حياته وبعد مماته، من خلال المخابرات الأمريكية والغربية والصهيونية، مع أبواق الأنظمة العربية الرجعية، التي رأت في نزاهة الرجل خطورةً عليها. بدأت تلك الحملات في حياة عبد الناصر ولم تقف حتى اللحظة، وقادها ضابط المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند الذي أصدر كتابًا سماه “لعبة الأمم” صدر عام 1969، أي قبل وفاة عبد الناصر بعام، وهو الكتاب الذي أثبت بصيرة عبد الناصر الذي قال “لن يغفر لي الأمريكيون ما فعلته معهم.. حيًا أو ميتًا”. والغريبُ في الأمر أنّه رغم صدور الكتاب قبل 53 عامًا، إلا أنه طُبع من جديد عدةَ مرات ومن عدة دور نشر، بعد أن موّلت إحدى الدول العربية تأليفه وتكاليف طباعته للمرة الأولى، بهدف قتل عبد الناصر معنويًا. وأذكر أني اشتريتُ الكتاب في الثمانينات من القرن الماضي، وقرأتُه قراءة سريعة، ورغم طريقة التأليف التي تحاول الإيحاء بأنّ الكتاب يقدّم حقائق، إلا أنّ النفس السوية ترفض ما جاء فيه، وهذا ما صار معي؛ إذ اعتبر كوبلاند كلّ إيجابيات عبد الناصر أنها من توجيه المخابرات المركزية الأمريكية، وكانت أغرب التهم هي تهمة صلة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية قبل الثورة، وحصوله على الضوء الأخضر من الأمريكيين للإطاحة بالنظام الملكي في مصر. وبما أني لم أكن في وضع يجعلني أستوعب ما جاء في الكتاب، فإني قد وزّعته ضمن الكتب التي لا أحتاج إليها، ولكن كوبلاند أبى أن يتركني في حالي، فقد عاد إليّ بقوة، عندما نشر محمد حسنين هيكل كتابه “سنوات الغليان” عام 1988، أورد فيه مجموعة من الوثائق والرسائل التي تثبت أنّ كوبلاند نشر كتابه بأوامر أمريكية في إطار الحرب الأمريكية المستمرة على عبد الناصر، والتي تهدف لتشويه سمعته من أجل اغتيال شخصيته معنويًا في أعين الجماهير العربية. وقد هاج كوبلاند بعد أن فضحه هيكل بالوثائق، وهدد برفع قضايا تعويض، وهو ما لم يفعله، رغم مرور سنوات على نشر تلك الوثائق. وبالتأكيد فإنّ كوبلاند أخذ الموافقة لنشر الكتاب، لأنّ أيّ كتاب يُصدره العاملون في المخابرات المركزية الأمريكية لا بد أن يحصل على موافقة مسئولي الوكالة، وتتم – كما قال هيكل – عملية مراجعة دقيقة لما يحتويه، لمعرفة مدى خدمته لمصالح وأهداف السياسة الأمريكية، وهو ما خضع له بالطبع كتاب “لعبة الأمم”.

ويقول الباحث الناصري الشاب عمرو صابح: “المدهش أنّ هناك كتبًا عربية عديدة ظهرت كان مرجعها الأساسي والرئيسي هو كتاب “لعبة الأمم” مثل كتابي “كلمتي للمغفلين” و”ثورة يوليو الأمريكية” لمحمد جلال كشك، وكتاب “عبد الناصر ولعبة الأمم” لمحمد الطويل، وقد راجت تلك الكتب وأصبحت المراجع الرئيسية لكلّ أعداء ثورة 23 يوليو”. ويقول “عندما تم الإفراج عن وثائق وزارة الخارجية الأمريكية التي تتناول عام 1952 والتي أثبتت مفاجأة الخارجية الأمريكية بثورة الجيش في مصر خرج علينا أعداء عبد الناصر وثورته بتفسير مريض برّروا فيه مفاجأة الخارجية الأمريكية بالثورة، بأنّ من كان يتولى التنسيق مع عبد الناصر ليسوا من وزارة الخارجية الأمريكية، بل من المخابرات؛ لذا فطبيعي ألا تحتوي وثائق الخارجية الأمريكية على تفاصيل مؤامرة عبد الناصر مع الأمريكيين”. ولكن كذب هؤلاء لم يدم طويلا؛ ففي عام 2009 صدر كتاب “إرثٌ من الرماد.. تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية” للكاتب الأمريكي تيم واينر مراسل جريدة “النيويورك تايمز” تناول تاريخ الوكالة منذ إنشائها وحتى نهاية عهد جورج بوش، اعتمد الكتاب على 50 ألف وثيقة من وثائق الوكالة. يقول واينر: “فوجئت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بثورة الجيش في مصر، برغم أنّ ضباط الوكالة في مصر وقتها فاقوا مسؤولي وزارة الخارجية عددًا بنحو أربعة إلى واحد في السفارة الأمريكية بالقاهرة”. وتقول إحدى الوثائق “حاولت الوكالة شراء عبد الناصر فدفعت له 3 ملايين كدعم لنظامه، وساعدته في بناء محطة إذاعية قوية، ووعدته بمساعدة عسكرية و اقتصادية أمريكية؛ لكن المفاجأة أنّ عبد الناصر رفض أن يتم شراؤه، فقام باستخدام قسم من ملايين الدعم الثلاثة لبناء برج القاهرة، وعندما لم يف الأمريكيون بتعهداتهم بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية له، اتجه إلى السوفييت من أجل تسليح جيشه”، فيما تشير وثيقة أخرى أنه قبل تأميم عبد الناصر لقناة السويس، كان هناك تنسيق بين الوكالة والمخابرات البريطانية من أجل تنظيم عملية لإزاحته من السلطة. “اقترح البريطانيون اغتياله فورًا، ودرسوا تحويل مجرى نهر النيل لإغراق مصر وتدمير محاولة عبد الناصر للتنمية المستقلة في مصر. رفض الرئيس الأمريكي إيزنهاور الخطة وأيّد مع مسؤولي الوكالة تنظيم حملة طويلة وبطيئة من الإفساد ضد مصر والحصار الاقتصادي لإسقاط عبد الناصر”.

لقد تكررت محاولات النيل من طهارة يد عبد الناصر وسلامة ذمته المالية، في حرب بدأت فور وفاته، مثل الزعم بوجود حسابات باسمه في بعض البنوك السويسرية، وصلت إلى اتهامه باختلاس 15 مليون جنيه ووضعها في حسابه الخاص، حسب الكاتب جلال الدين الحمامصي في كتابه “حوار وراء الأسوار”. ويقول سامي شرف “كنتُ عند صدور الكتاب وراء أسوار السجون، وتم استدعائي للتحقيق بواسطة المدعي العام الاشتراكي، وقمتُ بتفنيد كلّ هذه الافتراءات ودحضها، وأصررتُ أن يكون التحقيق مكتوبًا لأوقّع عليه، لأننا أمام اتهام خطير لأنظف رجل حكم مصر”.

في خطاب التنحي قال عبد الناصر: “إنّ قوى الاستعمار تتصور أنّ عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحًا أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس عبد الناصر. والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائمًا بأنها إمبراطورية لعبد الناصر، وليس ذلك صحيحًا لأنّ أمل الوحدة العربية بدأ قبل عبد الناصر، وسوف يبقى بعد عبد الناصر”.

هناك حقيقة لا يمكن إنكارها هي أنّ كلّ من تقف ضده المخابرات الأمريكية، والصهيونية، والدول الغربية، إضافة إلى الأنظمة الرجعية العربية فهو على حقّ، وهذا ما حصل مع جمال عبد الناصر. فلا أقول عنه الزعيم الخالد ولا الزعيم الأوحد ولا قائد الأمة، فهو في غنى عن هذه الأوصاف؛ لم يكن ملاكًا، وبالمقابل لم يكن شيطانًا رجيمًا كما يصوره أعداؤه، كان إنسانًا حرًا آمن بوطنه وعروبته، وله ما أصاب فيه كما له ما أخطأ فيه، ولا ينبغي التغاضي عن أخطائه، ولا ينبغي تتبّع أخطائه من أجل تشويه صورته وذكراه في نفوس الجماهير. فيكفي أنه لم يفرّط بالحقوق العربية، ولم يتآمر على القضية الفلسطينية. وفي عهده لم تكن كلمة “التطبيع” ضمن القاموس العربي اليومي ولا يمكن تصوّر ذلك.

• زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب “الطريق إلى القدس”

email
whatsapp
twitter
facebook

مرتبط

عن admin

شاهد أيضاً

فورين افيرز: ما يريده أهل غزة-حرب وحشية أضعفت الدعم لحماس – لكنها جعلت السلام مع إسرائيل أكثر صعوبة

سكان يعودون إلى مدينة غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي، فبراير 2025 داود أبو الكاس / رويترز …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *