صبحي حديدي
بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار «المشبوهين المعتادين» القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز، الذي يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.
ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: «بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ».
ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد «غضب» شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.
في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 في المئة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها «جزيرة القمامة» مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.
وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA هي «أعظم حركة سياسية في التاريخ»؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها (جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.
كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
وفي قلب الـ»ماغا» كان يتنامى هوس «القومية الأمريكية» الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات «التفوّق» العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من «القِيَم» الأمريكية.
وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ«ماغا» فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من «واجب مقدّس» أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل «الإمبراطورية بالصدفة العمياء» و«الإمبريالية بالتطوّع» و«العبء الجديد للرجل الأبيض». وفي كتاب بعنوان «السلام الأمريكي» صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فييتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: «على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا»!
والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّ سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار «نطاسيي» الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ»ماغا» في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.
وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
من هم مناصرو تيّار “ماغا”؟
كلمة ماجا (MAGA)، هي اختصار لشعار دونالد ترامب الانتخابي “لنجعل أمريكا عظيمة من جديد” Make America Great Again.
أطلق ترامب هذا الشعار خلال حملة ترشّحه لمنصب الرئاسة عام 2016، وكان يستخدمه بشكل خاص عند تناول موضوع الهجرة إلى الولايات المتحدة، ليشير إلى أن بلاده فقدت “مكانتها العظيمة” بسبب التعددية الثقافية أو بسبب عدم ضبط الحدود أمام المهاجرين.
ويؤيد تيّار “ماغا” القومي المناصر لترامب، سياسات منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة، التي روّج لها خلال حملته عام 2015.
ويُتّهم هذا التيّار بالعنصرية، وذلك ما يرفضه أنصاره، كما يتهمه خصومه بتبني خطاب كراهية ضد الأقليات الجنسية وبالتحريض على العنف.
ويؤمن أنصار تيار “ماغا” بالعديد من نظريات المؤامرة، مثل اعتقادهم بأن الرئيس السابق باراك أوباما ليس مواطناً أمريكياً مولوداً في الولايات المتحدة. وأنّ سياسات الهجرة تهدف إلى استبدال المواطنين الأمريكيين البيض.
ويردّد أنصار هذا التيار أن الانتخابات الأمريكية عام 2020، سُرقت من خلال عملية تزوير واسعة أسقطت مرشحهم دونالد ترامب.
ويُذكر أن أنصار الرئيس السابق اقتحموا مبنى الكابيتول في الكونغرس الأمريكي في 6 يناير/ كانون الثاني عام 2021، في مشهد غير مسبوق في تاريخ البلاد، اعتراضاً على نتائج الانتخابات وخسارة مرشّحهم.
وذكّر بايدن بهذه الأحداث في كلمته التي ألقاها في أريزونا. وقال إنّ “الجمهوريين لا يؤيدون (حركة) ماغا لكنهم صامتون أمام ما تفعله”.
مناصرة تيار “ماغا” لا تقتصر على جمهور المحافظين الذين أعجبوا بخطابات ترامب الشعبوية، بل تمتد إلى بعض النخب من مؤيدي الحزب الجمهوري الذين يدافعون عن أفكار وشعارات ترامب.
وأصدر شارلي كيرك كتاباً عام 2020 بعنوان “عقيدة ماغا – الأفكار الوحيدة التي ستنتصر في المستقبل”.
شارلي كيرك ناشط مناصر للحزب الجمهوري ومقدّم إذاعي بارز، شارك في تأسيس منظمة “نقطة تحوّل الولايات المتحدة” عام 2012، لمناصرة سياسة المحافظين في المدارس والجامعات.
ويروّج كيرك في كتابه لأفكار “عقيدة ماغا” على أنها تحثّ على استعادة “الحكم الذاتي الذي طال انتظاره من قبل السكان”.
ويرى أن الأمريكيين اشتاقوا للأيام التي كانت فيها الولايات المتحدة تكترث لحكم الشعب من قبل الشعب ومن أجل الشعب – وفق ما يروّج إعلان الكتاب.
ويتهم كيرك وسائل الإعلام الرئيسية بنشر الأكاذيب حول أجندة “ماغا”.
ترامب ليس الأول
لم يكن ترامب أوّل من استخدم شعار “لنجعل الولايات المتحدة عظيمة من جديد”، في الحملات الانتخابية.
استخدم السيناتور ألكسندر وايلي هذا الشعار في كلمة ألقاها خلال جلسات الكونغرس التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1940.
وفي انتخابات الرئاسة عام 1964، لجأ المرشح باري غولدواتر لاستخدام هذا الشعار ضمن حملته الانتخابية.
وعاد هذا الشعار ليظهر بقوة مرة أخرى، في حملة الرئيس السابق رونالد ريغن عام 1980.
وعام 1992 استخدم بيل كلينتون هذه العبارة في حملته الانتخابية. وكرّرها في مداخلة إذاعية دعماً لترشح زوجته هيلاري كلينتون عام 2008.