محمد رءوف حامد | : الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 – 6:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 – 6:35 م
إذا كانت تداعيات «7 أكتوبر» قد نبهت إلى حدة عورات النظام الدولى، فالأكثر أهمية أن هذه العورات قد نجمت عن تراكمات مزمنة من الانحرافات الدولية، الأمر الذى يدل على قدر حاجة الشأن العام العالمى إلى تصحيح أوضاع النظام الدولى. من هنا، يجتهد الطرح الحالى فى النظر إلى المسارات التى يتطلبها هكذا تصحيح.
أولًا- الحاجة إلى حوكمة معرفية
يتجسد الجوهر الحقيقى للحوكمة الجارية فى العالم فى ممارسات لا أخلاقية، مثل ازدواجية المعايير، ودعم الكيان الصهيونى بشأن ما يصنعه من اضطرابات ومآسٍ، ومثل استيلاء بلدان من الشمال على ثروات شعوب الجنوب، سواء بالنهب، أو بتعويق التنمية، أو بتهيئة أنظمة الحكم لتفاقمية القروض، كمدخل للتحكم فى الأوضاع. ذلك فضلا عن الضلوع فى إحداث الانقلابات، كما جرى فى الكونغو (لومومبا 1960)، وغانا (نكروما 1966)، وشيلى (الليندى 1973)، وفنزويلا (شافيز 2002)، والبرازيل (ديلما روسيف 2016).
أيضًا من اللا أخلاقيات اختلاق القطب الأوحد (بالتآذر مع حلفائه) لمناوشات مع قوى دولية تتمتع بقدرات (أو بتطلعات) منافسة، كما يجرى مع الصين (خاصة باستخدام تايوان كزر إقلاق)، ومع روسيا، بتآمرية إشعال الحرب الروسية الأوكرانية.
وهكذا، لا أخلاقية النظام الدولى الراهن تستدعى نشأة توجه عالمى لاستحداث بديل، تكون فيه الأخلاقيات قوة دافعة لحوكمة المسارات.
هنا – كمثال – نتساءل: إذا كان الرأى العالم العالمى يطالب بتحرير فلسطين، فلمن يُوَجَه هكذا طلب؟ هل إلى النظام الدولى الذى تآكلت صدقيته، أم يكون على حركيات الرأى العام العالمى، المناهض للحيودات، أن تسعى للتحول إلى نظام أكثر أخلاقية؟
بمعنى آخر، يحتاج العالم التحول إلى حوكمة تنبع من منصة المعرفة الإنسانية التغييرية الأكثر اكتمالًا، وليس من منصة المصالح الخاصة بالنيوليبرالية أو بالصهيونية العالمية وقوى التطرف.
• • •
ثانيًا – إبداع التحول
هكذا حوكمة، تتطلب بناء منصة إبداعية عالمية تختص بالولوج إلى التحول، الأمر الذى يحتاج إلى تفاعلات جماعية، فكرية/تخطيطية، فى مجالين رئيسيين، وهما مأسسة التحول، وأهدافه الجزئية.
فى هذا الخصوص تكون المقاربات عملية، وأكثر ثراء، عندما تُبنى من خلال الفهم والتأمل للعلاقة بين «جدلية الفكر والقوة» والنظام الدولى، والتى كانت قد جرت الإشارة إليها من قبل (غزة.. ما بين اليوم التالى والمتبقيات – الشروق 15 أغسطس 2024).
من منظور هذه العلاقة، لم تأتِ عورات النظام الدولى صدفة، وإنما قد نشأت وتضخمت بالاعتماد على «فكر» يصب فى مصالح المهيمنين على هذا النظام.
ذلك بمعنى أن بلطجة القوة المهيمنة دوليًا قد تولدت بالاعتماد على «فكر القوة»، والذى جرى تجهيزه بدراسات وترتيبات ومناورات.
من هنا، لا يمكن مجابهة عورات النظام الدولى إلا بالاهتمام المنهجى بالتوجهات الناقدة لهذا النظام، والتى تعتبر بمثابة «قوة فكر» أولية.
قوة الفكر هذه تحتاج إلى فكر يأخذ بيدها ويطورها. إنه «فكر قوة الفكر»، كما تحتاج أيضًا إلى بناء قوة تساعدها على التأثير. إنها «قوة قوة الفكر».
هذا الاعتبار يوضح أن «كهرباء» (أو طاقة) الرأى العام العالمى، سواء فى دعم تحرير فلسطين، أو فى مجابهة أى من عورات النظام الدولى، لا يمكن لها أن تُضىء بغير تطوير قوة الفكر المجابهة لهذه العورات، أى بتطوير «فكر قوة الفكر»، وأيضًا بغير توليد قوة تأثيرية (بمعنى فاعلية Efficacy) لقوة الفكر، والتى هى «قوة قوة الفكر».
هكذا إذن المسألة، مجابهة عورات النظام الدولى تحتاج إلى تحول معرفى يقوم على فكر يصنع القوة التى تجعله مؤثرًا فى الأحداث والمسارات (المستقبل بين فكر القوة وقوة الفكر – المكتبة الأكاديمية – 2006).
• • •
ثالثًا – مأسسة التحول
تبدأ المأسسة بتشييد «بوابة التحول»، والتى من خلالها يمكن الولوج إلى «منصة قوة الفكر». أما عن اكتمال نضج المأسسة فيتحقق بالحفاظ على «انتماءات قوة الفكر».
1- بوابة التحول – تصاعد قوة الفكر:
يتشكل مفتاح البوابة -أساسًا- من ثلاثة عناصر، «التفكير العلمى»، و«الجماعية»، و«حركية المعرفة». عندما تتناغم فاعليات هذه العناصر يبدأ التحول، بظهور قوة الفكر، وبتصاعدها.
2- بناء المنصة اللازمة للتحول – منصة قوة الفكر:
فى ظل تصاعد قوة الفكر تتطور «البنى الفكرية»، وتتحسن تشابكاتها مع بعضها فى عموم الحركيات والمسارات. هذا، وتتشكل العناصر الأساسية للبنى الفكرية (الخاصة بقوة الفكر) من كل من «الحكماء» (والذين يكونون -عادة- نواة لجماعية المفكرين)، و«العاملون فى مجالات الفكر»، أى المفكرون من النشطاء والأكاديميين. ذلك إضافة إلى من يمكن اعتبارهم «أنبياء قوة الفكر»، والذين يُطلق عليهم المُبَلِغِون Whistleblowers، ويكونون عادة من أشد المقاومين للفساد، على غرار جوليان أسانج، وإدوارد سنودن.
3- انتماءات قوة الفكر:
إذا وُجدت قوة الفكر فى غياب انتماءات محددة، وواضحة، فإنها تتآكل، أو تنحرف، أما فى وجود الانتماءات فإن تعاملاتها مع محدوديات ومشكلات الواقع تكون أقوى ما يمكن.
يرجع السبب فى ذلك إلى دور الانتماءات كأداة لتنقية الفاعليات من أية تناقضات.
وعن مسطرة الانتماءات فإنها تتشكل من ثلاثة مستويات رئيسية، بدءا من الانتماء العقائدى (الدينى أو الفلسفى.. إلخ)، وصعودًا إلى مستوى الانتماء للوطن، ثم إلى أعلى المستويات، الانتماء للإنسانية.
• • •
رابعًا- الأهداف الجزئية الأكثر إلحاحًا- إنجاز ما ينبغى أن يكون:
تختص هذه الأهداف بالقفز الممنهج إلى ما تحتاجه البشرية لتخطى عورات النظام الدولى القائم، وبالتالى فهى تُعنى بالتحول إلى إنجاز «ما ينبغى أن يكون»، والذى يتجسد فيما يلى:
1) التحول عن تجريم معاداة السامية:
يحتاج العالم ككل، شعوبًا وحكومات، إلى التمسك بمجمل حقوق الإنسان، طبقًا لمرجعية الإعلان العالمى لحقوق الإنسان (1948). وذلك بحيث أن أى اتجاهات أو محاولات لفرض ما يُدعى بحقوق إنسانية ما، من خارج نطاق صيغة ومواد الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، إنما تمثل حيودًا عن الإنسانية، وبالتالى تراجعًا عما ينبغى أن يكون.
طبقًا لذلك، يُنظر إلى مسألة تجريم العداء للسامية من زاويتين. أولًا، لو أن المقصود بتجريم العداء للسامية هو تجريم العداء لليهود فإن هذا التجريم وارد تمامًا كتطبيق مباشر للإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والمتوافق عليه عالميًا. ومن ثم، لا حاجة إلى حوكمة التعامل مع العداء لليهود من منظور يأتى من خارج حقوق الإنسان، حيث من ناحية الشكل، يكون فى ذلك توجهًا عنصريًا، وبراجماتيًا يكون هكذا وضع صادرًا عن مصالح خاصة، بعيدة عن مصالح المنتمين لليهودية.
ثانيًا، لو أن المقصود هو تجريم العداء للصهيونية فهذا التجريم فى حد ذاته لا يجوز، لأنه يكون تجريمًا لحقوق الإنسان، حيث الصهيونية تعنى أيديولوجية سياسية، وليس ديانة، وحيث لا يمكن القبول بتجريم الرؤى المناقضة (أو الناقدة) للأيديولوجيات.
لذا، فما يُشار إليه باعتباره عداء للسامية هو نوع من التستر العنصرى للأيديولوجية الصهيونية خلف رداء دينى.
بناء على ذلك، لا معنى لمسألة العداء للسامية ما دام يوجد اتفاق عالمى لحماية كافة تنوعات حقوق الإنسان، أيًا كانت الانتماءات، دينية أو غير دينية، يهودية أو غير يهودية.
وعليه، يكون فى تخليص العالم مما يسمى الاتهام بالعداء للسامية فتحا لآفاق من الحرية والسلام لجميع البشر، حيث يتحرر الجميع من تسلطات عنصرية الأيديولوجيات، صهيونية أو غير صهيونية، وحيث تتوافر لليهود الحماية بالتساوى مع بقية البشر.
وكتطبيق عملى للمطروح هنا يكون فى تجريم العداء للسامية تجريمًا لليهود الذين خرجوا فى تظاهرات، أو ساهموا فى مواقف، تدين ممارسات إسرائيل، وتطالب بتحرير فلسطين. وهكذا ينكشف الزيف الصارخ، بشأن تجريم العداء للسامية.
2) الاعتراف بالانتهاكات الإنسانية التاريخية للبشر (كتلك التى جرت للسكان الأصليين فى أمريكا، وللأفارقة ولشعوب شبه القارة الهندية)، والاعتذار عنها.
3) التأكيد على إنسانية الإنسان فى كل مكان، بما يكمن فيها (أى إنسانية الإنسان) من خصوصيات، وما تحمله من إمكانات وآمال، الأمر الذى لا يستقيم بغير «الرجوع الكامل عن المركزية الغربية».
4) التوصل إلى آليات وأدوات يكون من شأنها تجنيب العالم لشرور التأثيرات السلبية للتراكمات المالية وللاحتكارات على استراتيجيات التنمية البشرية ومساراتها.
هذا، وتتضمن العائدات المهمة، والممكنة، للانشغال بـ«ما ينبغى أن يكون»، استنهاض ثقافة احترام الآخر، وتفعيل قيم التعددية والتنوع، والاجتهاد من أجل منع هيمنة فكر القوة على قوة الفكر.
• • •
ختامًا؛ وماذا بعد؟ يكاد يكون من المستحيل تحسن أوضاع العالم دون إعادة هيكلة حوكمته، الأمر الذى يتطلب، أولًا وقبل كل شىء، اضطلاع المفكرين بمسئوليتهم (يا مفكرو العالم فكروا معًا – الشروق 16 أبريل 2024).
وأما فى النكوص عن ذلك فيكون العالم بأسره، وليس فقط غزة أو الشرق الأوسط، عرضة لمآسى جنون القوة. هكذا وضعية تكون مولدة ومدعمة لشواشات التطرف شمالًا وجنوبًا، من الجميع ضد الجميع. من الوارد عندها أن يصل الشارع السياسى للقطب الأوحد إلى تغير درامى فى تضاريسه.
خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق