ـ الجزء الأول ـ
ـ 1 ـ
بدأت رحلة المرض مع الرئيس جمال عبد الناصر فى عام 1958 عندما أكتشف لأول مرة أنه يعانى من مرض السكر ” ديابيتس ميليتيس ، ولم يكن كما ادعى بعض من لا يعلمون الحقائق أو يريدون تشويه الصورة عن عمد أو جهل ، أقول لم يكن من النوع البرونزى الذى يحتاج لتحليل النحاس فى الدم وإن كان قد تم تحليل النحاس فى الدم أكثر من مرة وكانت النتائج باستمرار سلبية . كانت عملية تحليل السكر تتم للرئيس يوميا وكانت النتائج فى حدود المعقول والمقبول لمريض السكر . ولم يظهر أى ظواهر غير طبيعية أبدا إلا عقب عدوان 5 يونيو سنة 1967 ببضعة أيام ثم مع العلاج عادت النتائج إلى الحدود الطبيعية المعتادة . وفى يوم انتحار المشير عامر عادت وارتفعت نسبة السكر فى الدم و ظهر الأسيتون فى تحليل عينة الدم ثم عادت النتائج إلى الحدود الطبيعية المعتادة بعد ذلك . وكان هذا المرض يعتمد فى علاجه على نظام غذائى ونظام علاجى خاص يجب أن يلتزم بهما المريض ، فلم يظهر عليه طوال الفترة التى تلت هذا التاريخ أية مضاعفات تذكر وانحصرت هذه المضاعفات التى ظهرت بعدها بعشر سنوات أى فى عام 1968 فى آلام فى الساق الذى بدأ يشعر بها بعد ذلك ، ولم يجد الرئيس جمال عبد الناصر صعوبة تذكر فى إتباع النظام الغذائى الذى أشار به الأطباء المعالجين ، فقد كان غذاؤه الذى اتبعه منذ صدر شبابه وحتى اليوم الأخير بسيطا للغاية إن لم يكن متواضعا ولا يختلف بأى حال عن النظام الغذائى الذى تتبعه أسرة مصرية متوسطة ولم يكن يميل إلى البذخ أو إقامة الموائد الممتدة التى اعتادت عليها الطبقات العليا أو حتى تلك التى كانت تظهر فى بيوت بعض المحيطين به
لقد كان غذاؤه مصريا عاديا ، ففى الإفطار كان طعامه الرئيسى يتكون عادة من الخبز والفول المدمس والجبن الأبيض والخيار أو بيضة مسلوقة فى بعض الأحيان ، وفى العشاء كان يتناول بعض أنواع من الفاكهة المصرية الطازجة والجبن الأبيض وأحيانا كوب من اللبن الزبادى ، أما طعام الغذاء فيتكون من الخضراوات والأرز والسلطة الخضراء واللحوم البتلو أو الأسماك أو الفراخ البلدى ، وكانت كمية النشويات التى يتناولها فى وجباته الثلاثة محدودة بوجه عام .
أما النظام العلاجى فكان يعتمد على تناوله حقنة من الأنسولين يوميا قبل الإفطار .
وقد بدأ فريق الأطباء المعالجين له والمتابعين لحالته الصحية بالدكتور أحمد ثروت الذى اختاره الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه للإشراف على متابعة علاجه والذى كان يتردد عليه بانتظام مرتين فى اليوم بصفة مستديمة إلى أن كان عام 1967 حيث حل الدكتور الصاوى محمود حبيب محل أحمد ثروت الذى مرض وأصبحت حالته الصحية لا تسمح بمتابعة الإشراف على علاج الرئيس بانتظام ، وإن كان استمر يداوم المرور على منشية البكرى كلما سمحت ظروفه الصحية بذلك . كما كان يشارك فى متابعة الحالة الصحية للرئيس عبد الناصر من الأطباء الأجانب الدكتور ” بولسون ” وهو دانمركى ومن أكبر أخصائيى السكر فى العالم وكان يحضر إلى القاهرة مرة أو مرتين كل عام حسب الحالة ، وكان يحمل إعجابا كبيرا بشخصية الرئيس كما كان يأتى متطوعا رافضا الحصول على أى أتعاب أو مقابل .
كما كان يزور الرئيس عبد الناصر من وقت لآخر الدكتور ” فايفر ” وهو طبيب ألمانى متخصص فى مرض السكر أيضا.
هذا علاوة على الدكتور البريطانى” والتر سمرفيل ” الذى كان يستدعى عند اللزوم من لندن كطبيب باطنى وأخصائى القلب . وكان هذا الطبيب من المستشرقين وعلى دراية باللغة العربية ويقرأ القرآن الكريم .
وكانت مجموعة الأطباء المصريين الذين يتابعون حالة الرئيس الصحية فى مختلف الأفرع الأخرى وكانوا يزوره كلما اقتضى الأمر الأساتذة الدكاترة :
أنور المفتى ( حتى وفاته ) ـ على المفتى ـ محمد صفوت ـ حسنى عبد المقصود ـ يحيى طاهرـ على البدرى ـ ناصح أمين ـ محمود صلاح الدين ـ منصور فايز ـ زكى الرملى ـ الدكتور صيدلى صلاح جبر . وكان يرافق ركب الرئيس جمال عبد الناصر فى سيارة الإسعاف الدكتورين طه عبد العزيز ومحمود فراج من الحرس الجمهورى .
وبعد يونيو1967 انتظم الدكتوران منصور فايز وناصح أمين فى زيارته يوميا مع الدكتور الصاوى حبيب .
لقد كان الرئيس جمال عبد الناصر يتقبل نصائح وتوصيات الأطباء ويتبع تعليماتهم بدقة مؤمنا بضرورة الالتزام بها .
وفى عام 1968 عندما شعر بآلام الساق نتيجة التهاب الأعصاب الناشئ عن مرض السكر DIABETIC NEUROPATHY ومن أنواعه التى عانى منها DIABETIC CAMYOTROPHY ومن مظاهره حدوث آلام شديدة فى الساق وضمور عضلات الإلية وأعلى الفخذ ـ وقد طلب إليه الأطباء المعالجين التقليل من المشى والرياضة (التنس) .
كان روتين العمل اليومى للرئيس جمال عبد الناصر كما أوضحت فى مواقع أخرى فى المذكرات يستغرق أكثر من ثمانية عشر ساعة يوميا فى المتوسط ، وبعد 1967 أضيف لهذا الروتين اليومى هموما ثقال يصعب أن يحتملها بشر ، فشكلت ضغوطا أصبحت تتزايد يوما بعد يوم على جسمه وطاقاته بوجه عام ، فهو فى النهاية بشر توجد حدود لاحتماله يصعب تجاوزها وكان أول مظاهر هذه الضغوط زيادة نسبة السكر فى الدم ، وكان من رأى الدكتور “بولسون ” عندما جاء لمناظرته أن ذلك أمر طبيعى نتيجة للضغوط التى يواجهها الرئيس ، وأنه يصعب التحكم فى الحالة لكنها ستتحسن مع الوقت ، ولكن كانت النتيجة المباشرة التى ترتبت على ذلك زيادة آلام الساقين نتيجة ضعف الدورة الدموية وهى إحدى المضاعفات المعروفة لمرض السكر .
وفى الحادى عشر من سبتمبر 1969 أصيب الرئيس جمال عبد الناصر بالأزمة القلبية الأولى عندما اكتشف طبيبه الخاص الدكتور الصاوى حبيب صوت ثالث مع ضربات القلب فأجرى رسما للقلب الذى أكد التشخيص بأنه جلطة فى الشريان التاجى ، وقد أثبت الفحص الطبى والتحاليل ورسومات القلب حدوث جلطة بالشريان التاجى للقلب ، وقد أكدت التحاليل التى أجريت هذا التشخيص الذى جاء نتيجة الإرهاق الشديد ، وهذا النوع من الجلطات يحدث بدون ألم، الشىء الذى تم التعارف عليه الآن من أن 25% تقريبا من جلطة الشريان التاجى لمرضى السكر تتم بدون ألم ، وطلب إليه أطباؤه منصور فايز ومحمود صلاح الدين ، الذين استدعوا فورا ضرورة أخذ راحة لمدة ثلاثة أسابيع على الأقل وبالفعل اضطر للاعتكاف بضعة أيام لم تزد على أصابع اليد الواحدة ، كما طلب إليه الأطباء المعالجون ومنهم الطبيب الروسى المشهور ” شازوف ” أن يمتنع عن التدخين ، وكان الرئيس عبد الناصر يشعر بأن هذه العادة هى الهواية الوحيدة التى بقيت له ويستكثر حرمانه منها ، ولكنه فى هذا التاريخ أطفأ سيجارة كانت مشتعلة فى يده ولم يعد إلى التدخين بعد ذلك حتى رحيله عن هذه الدنيا.
لقد كان الرئيس جمال عبد الناصر يدخن حوالى ستين سيجارة يوميا فى المتوسط وتفاوتت أنواع السجائر التى كان يدخنها من ” كرافن أ ” “ CRAVEN A ” ـ عندما كان ضابطا فى الجيش وحتى الأيام الأولى من قيام ثورة يوليو52 إلى“ L M .” ـ خلال الخمسينات ثم “كنت ““ KENT “ من نهاية الخمسينات وحتى أطفأ آخر سيجارة يــوم 15سبتمبر سنة 1969.
وقد استدعانا الرئيس جمال عبد الناصر مساء يوم 11سبتمبر1969 إلى غرفة نومه ، وكنا مجتمعين فى مكتبى لبحث بعض المسائل الهامة ، وكان الحضور السادة أنور السادات وشعراوى جمعة وأمين هويدى ومحمد حسنين هيكل وأنا حيث أبلغنا بما قرره الأطباء وطلب الرئيس منا استمرار العمل بنفس الأسلوب وبزيادة لقاءنا اليومى ليكون مرتين بدلا من مرة واحدة وأتفق على أن يذاع خبر بأن الرئيس مصاب بدور أنفلونزا حادة وأنه سيلزم الفراش لبضعة أيام وكما سبق أن ذكرت فى مكان آخر من هذه المذكرات كيف كانت مجموعة العمل اليومى تمارس نشاطها برئاسة السادات ومن خلال اتصال مباشر مع عبد الناصر الذى كان حريصا على عدم تسرب مرضه بالقلب وبخاصة للإسرائيليين والأمريكان نظرا لأبعاده السياسية الخطيرة فى ظل ظروف النكسة .
لم تستغرق الراحة الإجبارية أكثر من يومين . فقد حدث فى اليوم الثالث للإصابة بالأزمة القلبية أن طلب السفير السوفيتى مقابلة عاجلة ليبلغ الرئيس رسالة هامة من القادة السوفيت ـ وكانت هذه الرسالة ردا على طلب كان الرئيس قد بعث به للقادة السوفيت للحصول على معدات وقطع غيار هامة للقوات الجوية والدفاع الجوى المصرى وكان هذا الطلب قد قدم قبل الإصابة وصاحبه توجيه من الرئيس لنا بأن نضغط على السفير وكبير الخبراء السوفيت للإسراع فى الاستجابة لهذه المطالب . وأذكر أنى اقترحت على الرئيس أن يقابلهما ـ السفير وكبير الخبراء ـ نيابة عنه إما لجنة العمل اليومى مجتمعة برئاسة السادات أو أقابلهما مع الفريق فوزى ، ولكنهما أصرا على مقابلة الرئيس شخصيا فى هذا الموضوع بالذات . فقال لى عبد الناصر :
” هات السفير وكبير الخبراء والمترجم الساعة التاسعة مساء ” .
وعندما وصلوا صعدنا إلى حجرة نوم الرئيس ، حيث أبلغا الرئيس بموافقة القيادة السوفيتية على مطالبه وأن المعدات وقطع الغيار المطلوبة قد وصلت فعلا مساء اليوم إلى مطار ألماظة الحربى .
ثم تحدث معهما الرئيس بعد ذلك قائلا :
” أنا مصاب بأزمة قلبية وبالنسبة للصديق عندما يعرف فلها مردود معين .
فقاما بعرض خدماتهما وتساءلا عما يمكن أن يقدمه الاتحاد السوفيتى فى هذا الشأن . ولم يمانع الرئيس قائلا لهما : ” شوفوا إنتم حا تعملوا إيه وبلغوا سامى أو أنور السادات ” . ومن ثم فقد حضر لزيارة القاهرة الدكتور ” شازوف ” نائب وزير الصحة السوفيتى وفحص الرئيس مرتين فى سنة 1969 و1970 وكان ذلك يتم بحضور ومشاركة الأطباء المصريين المعالجين للرئيس منصور فايز ومحمود صلاح الدين والصاوى حبيب .
ولم يمر يوم انقطع فيه الرئيس عبد الناصر عن متابعة كل أمور الدولة وبالذات الناحية العسكرية بكل دقة وإصدار التوجيهات والقرارات ، كما لم يمر أسبوع حتى عقد اجتماعا لمجلس الوزراء ، وأذكر أننا ونحن فى القاعة وقبل الاجتماع بالرئيس أن اتفقنا على أن نمتنع عن التدخين مجاملة له حيث كان هو قد امتنع عن التدخين ، إلا أنه بعد أن انعقدت الجلسة وبعد مضى حوالى عشرة دقائق أن لاحظ أن أحدا لم يشعل سيجارة ، فقال وهو يضحك : “هو أنتم بطلتم شرب السجاير ولا إيه ؟ أنتم ما بتشربوش سجاير ليه ؟ فلم يرد أحد .. فقال : “طيب أنا مبطل سجاير أنتم مالكومش دخل واللى بيشرب سجاير منكم يتفضل يولع سيجارته”.
وكل ما يمكن قوله أننا ـ مكتب سكرتير الرئيس للمعلومات ـ حاولنا التخفيف عنه بقدر الإمكان ، لكنه عاد بعد هذه الأيام العشرة للاستغراق مرة أخرى فى العمل بنفس المعدلات مخالفا بذلك نصائح أطبائه وبخاصة فيما يتعلق بعدم الإطالة فى الوقوف أو ضرورة إلقاء خطاباته العامة وهو جالس ، الشىء الذى لم يستجب له بأى حال .
ـ 2 ـ
وخلال شهر أغسطس 1970 آثر أن يتفرغ للتخطيط الإستراتيجى للدولة والابتعاد عن القاهرة بمشاكلها اليومية التى لا تنتهى ، فسافر إلى المعمورة
وفى أوائل سبتمبر1970 كان عليه أن يدرس خطط معركة التحرير مع الفريق محمد فوزى ويصدق على مراحلها ، فآثر أن يبتعد أكثر فاتجه إلى برج العرب ومنها إلى مرسى مطروح حتى يتفرغ تماما لهذه القرارات التاريخية ، وبالفعل صدق على المرحلة الأولى من الخطة .
وهناك فى مرسى مطروح كانت مؤشرات الأزمة بين الملك حسين والحكم الأردنى من ناحية والمقاومة الفلسطينية قد بدت تتجمع فى الأفق وبدا أنه من الصعب تفاديها وجاء إليه فى مرسى مطروح معمر القذافى وأثناء اجتماعاتهما وجه العقيد القذافى إلى الرئيس ما يشبه العتاب حيث تساءل كيف يجلس الرئيس هنا فى مطروح تاركا الأزمة تتفاعل دون ضوابط ، فطلب إليه عبد الناصر أن يرفع سماعة التليفون الموجودة إلى جواره فاستغرب العقيد الطلب، لكن عبد الناصر أصر على طلبه ، فرفع القذافى السماعة وكنت أنا على الطرف الآخر متوقعا أن الطالب هو الرئيس فقلت الكلمة المعتادة ” أفندم ؟ ” ولكنى سمعت صوت عبد الناصر يقول للمتحدث أن يستفسر عمن معه فى هذه اللحظة ، فقلت له أنا سامى يا سيادة العقيد 0 فلما طلب منه عبد الناصر أن يستفسر منى عمن يكون متواجد معى فى هذه اللحظة فقلت له موجود معى كل من محمود رياض وشعراوى جمعة وأمين هويدى ومحمد حافظ إسماعيل ومحمد أحمد صادق تتابع ما يجرى فى عمان لحظة بلحظة حيث معنا على الجانب الآخر سفيرنا هناك وغرفة العمليات فى المخابرات العامة والمخابرات الحربية . . عندها فقط اطمأن القذافى من أن عبد الناصر على بينة من كل ما يحدث من تطورات الأحداث لحظيا.
وكان ما كان من تطورات قادت إلى انعقاد القمة العربية الطارئة التى عالجت أحداث سبتمبر ـ أيلول الأسود ـ فى الفترة من 21 حتى 27سبتمبر1970 فى فندق الهيلتون بالقاهرة حيث أقام جمال عبد الناصر به طوال فترة انعقاد المؤتمر.
وفى الساعة الحادية عشر من مساء يوم 27سبتمبر غادر الرئيس عبد الناصر فندق النيل هيلتون عائدا إلى منزله فى منشية البكرى بعد انتهاء اجتماعات القمة ، ولكنه بدلا من الخلود إلى الراحة عقد اجتماعا بالعقيد القذافى فى منزله وظل يتابع ردود فعل المؤتمر ومدى تنفيذ الطرفين لقرارات القمة حتى فجر يوم 28سبتمبر1970 .
وفى هذه الليلة التقى عبد الناصر مع عائلته الصغيرة لأول مرة منذ أكثر من أسبوع وعندما دخل غرفة نومه وكان التليفون المعتاد الليلى الأخير بينه وبينى قال لى :
” يا سامى إحنا حا نعمل إيه فى خالد بالنسبة للتجنيد لما يخلص الكلية السنة دى ؟ ” فقلت له : ” هل فى ذهن سيادتك قرار محدد أم ترى أن أتتشاور مع الفريق فوزى حول هذا الموضوع ؟ ” . فقال : ” أنا شايف إنه يجند ويلحق بالحرس الجمهورى كفرد عادى تحت إشراف الليثى ، لأنى أخشى لو جند فى أى وحدة أخرى فسيكون موضع محاباة ولن يستفيد من فترة التجنيد ، لكن فى الحرس وتحت أنظارك إنت والليثى سيعامل المعاملة العادية كجندى بسيط دون مجاملات أو محاباة . . وإلا إيه رأيك ؟ وعلى العموم خذ رأى فوزى والليثى ونتكلم بكرة فى هذا الموضوع ، ثم سأل عن آخر أخبار جبهة القتال وعمان وأطفأ الأنوار وكانت الساعة تقترب من الثانية صباحا.
وفى الحادية عشر من صباح اليوم التالى 28 سبتمبر توجه بإصرار إلى مطار القاهرة لتوديع باقى الرؤساء والملوك المغادرين القاهرة واحد تلو الآخر ، وكنا قد حاولنا ـ أكثر من مسئول ـ أن يكتفى الرجل بما قام به من مجهود وأن ينوب عنه كبار المسئولين فى توديع المغادرين ولكنه أصر على استكمال عملية التوديع بنفسه كما استقبلهم بنفسه . وقد عاد إلى منشية البكرى قبل أن يعود مرة أخرى للمطار لتوديع آخر المغادرين ـ أمير الكويت ـ وفور وصوله إلى منشية البكرى اتصل بى مستفسرا عن أى جديد فى الموقف وقد أبلغته بكل الأخبار والمواقف التى استجدت فى هذه الفترة وفى نهاية حديثى رجوته أن يأخذ حقه بقسط من الراحة واقترحت عليه ملحا أن يوافقنى على بدء اتخاذ ترتيبات السفر للإسكندرية أو برج العرب بالقطار ـ لتفادى السفر بالسيارات ـ وكان رده :
” طيب يا سامى ما فيش مانع نقوم بكرة بالعربيات لبرج العرب . ” فقلت : ما سيادتك تركب القطار أريح . فقال : ” مافيش مانع بس ما ترتبشى حاجة إلا لما أقول لك بعد ما أرجع من المطار . “
وأعتقد أن القارئ على بينة من حجم المجهود الذى يبذل فى عمليات التوديع والاستقبال بين الرؤساء وما بين مرافقة الضيف فى توديع الحاضرين من كبار المسئولين واستعراض حرس الشرف وأداء النشيد الوطنى لكل دولة ، وكلها إجراءات يتم تنفيذها والرئيس يقف على قدميه .
المهم أن بعض الأخوة المرافقين للرئيس اتصلوا بى فى أعقاب مغادرة أمير الكويت وأبلغونى أن الرئيس شعر بالتعب بعدما قبل الأمير قبلة الوداع ، وأنهم لاحظوا أن قدميه لن تتحمل الانتظار فتم استدعاء السيارة إلى حيث يقف وهو فى الطريق إلى المنزل حيث صعد إلى الدور الثانى لملاقاة أعضاء الأسرة الذين كانوا فى انتظاره لتناول طعام الغذاء الذى تناوله على عجل ودخل إلى غرفة نومه حيث اتصل بى مستفسرا عن آخر المعلومات . . وقطع المكالمة دخول جمال الصغير ـ ابن أشرف مروان ومنى عبد الناصر ـ إلى غرفة نوم جده ليطلب منه كما عوده ، قطعة من اللبان أو الشوكولاته وقال لى الرئيس ، ابقى ابعث لى بكمية جديدة من اللبان والشوكولاته لأن العلبة فرغت. . واستكملنا الحديث حيث كررت على الرئيس ـ دون إشارة إلى ما حدث فى المطار ـ ضرورة السفر للإسكندرية وأنى سأبدأ من الآن ترتيبات إعداد القطار ليغادر محطة سراى القبة فى العاشرة من صباح اليوم التالى فلم يمانع وقال لى سأبلغك بعد الظهر عمن سيرافقنا فى هذه الإجازة .
وفى هذه اللحظة وصلتنى رسالة عاجلة تفيد أن العملية التى كان سيقوم بها بعض عناصر المقاومة الفلسطينية ضد طائرة الملك حسين عند هبوطها إلى مطار عمان قد ألغيت بناء على تدخل من الرئيس .. تم فى الصباح الباكر من هذا اليوم باتصال تم من جانبى معهم لتفادى تنفيذ هذه العملية بناء على رغبة شخصية من عبد الناصر ، وقد استجاب الأخوة فى عمان لهذه الرغبة وألغيت العملية . . فقمت بإبلاغ الرئيس بنص الرسالة فقال : الحمد لله ، إنت عارف يا سامى رأيى . . الدم بيجيب دم . . “
طلب عبد الناصر منى بعد ذلك أن أذهب إلى بيتى لتناول طعام الغذاء وأنه سوف يستريح قليلا . وبالفعل غادرت إلى منزلى بعد ذلك بحوالى نصف الساعة أى حوالى الرابعة بعد الظهر .
وفى الساعة الخامسة إلا عشر دقائق تقريبا اتصل بى على الخط الساخن فؤاد عبد الحى السكرتير الخاص المناوب فى هذا اليوم لغياب محمد أحمد الذى أعطاه الرئيس الإذن بالتغيب لحضور حالة وضع لزوجته قائلا له : ” على الله يا محمد يجىء لك المرة دى الولد الذى تنتظره” ـ لأن محمد أحمد كان كل أولاده من البنات ـ . . كان فؤاد عبد الحى يبكى وقال لى ما نصه : ” إلحقنى يا أفندم . . سيادة الريس تعبان . . تعالى حالا ! “
فى تلك اللحظة أصابنى إحساس غامض انقبض له قلبى . . ونزلت بسرعة بعد ما بلغت شعراوى جمعة تليفونيا بأنى سأمر عليه فتساءل باندهاش عما حدث فقلت له موش وقته.. إلبس هدومك و لما آجى لك سأحكى لك ما حدث . ومررت على شعراوى فى منزله المجاور لمنزلى ووجدته منتظرا على بابه واصطحبته فى السيارة التى كنت أقودها بنفسى وكرر سؤاله فقلت له أن الريس عاوزنا دلوقت . فقال هل هو طلبنا ؟ فقلت له : لا هو تعبان شوية كما أبلغنى فؤاد عبد الحى . وكنا قد وصلنا إلى منشية البكرى فى تلك اللحظة حيث تركت السيارة أمام الباب الرئيسى ثم صعدنا مباشرة إلى الدور الثانى و إلى غرفة نوم عبد الناصر وكان نائما على سريره مغمض العينين ويديه إلى جانبه و مرتديا بنطلون بيجامة رمادى فاتح بخط أزرق عليه فانلة سبور وبدون جاكتة ، وحوله الأطباء زكى الرملى ومنصور فايز والصاوى حبيب يمارسون عملهم فى سكون مطبق وبعد قليل وصل الدكتور طه عبدالعزيز من الحرس الجمهورى ، وكانت الأجهزة وأنابيب الأوكسيجين منصوبة إلى جوار السرير والأسلاك ممدودة إلى أجزاء مختلفة من الجسم الساكن للزعيم الثائر . وبعد وصولنا مباشرة بدأ الأطباء فى إجراء صدمات كهربائية للقلب علاوة على محاولات التدليك اليدوى للصدر و التى كانوا يقومون بها طوال الوقت ووصل بعد ذلك بقليل حوالى الساعة1725 كل من الفريق فوزى وعلى صبرى الذى وصل حوالى الساعة1740 وهما الذين كلفت مكتبى بالاتصال بهما مع آخرين من المسئولين ووصل السيد أنور السادات حوالى الساعة1845 تصحبه السيدة جيهان وحسين الشافعى الذى وصل حوالى الساعة1745 وحافظ إسماعيل وأمين هويدى ومحمود رياض الذين وصلوا ما بين الساعة 1850 /1900 ومحمد حسنين هيكل الذى وصل حوالى الساعة1750 و محمد أحمد الذى وصل حوالى الساعة1800 ثم توالى حضور الباقين تباعا كمحمد أحمد صادق وحسن التهامى و آخرين إلى منشية البكرى ولم يستطع كل من أمين هويدى ومحمود رياض الوصول مبكرين لوجودهم فى أماكن بعيدة فى ذلك الوقت وكان آخر من وصل حوالى الساعة السابعة إلا ربع مساء السيد أنور والسيدة جيهان السادات التى كانت ترتدى فستان أخضر اللون وكان وصولهما بعد أن تأكد وفاة عبد الناصر ولم يلحق السادات بنا فى الدور العلوى لأننا كنا قد نزلنا للدور الأرضى لتقوم العائلة بإلقاء نظرة أخيرة على الفقيد الغالى ، وقد صعد بمفرده إلى الدور العلوى حيث ألقى نظرة أخيرة على الجثمان المسجى ثم نزل ليلحق بنا فى الصالون الرئيسى فى الدور الأرضى .
وكان الفريق فوزى أثناء وجودنا إلى جوار سرير عبد الناصر غير متقبل فكرة أو احتمال رحيل الرجل فلم يتقبل التصرف العادى للأطباء فما كان منه إلا أن شخط فيهم قائلاً : إعملوا حاجة !! وأمام هذه الرغبة أعاد الأطباء استخدام جهاز الصدمات الكهربائية التى كان ينتفض من تأثيرها الجسم الساكن الساكت مما دعى الفريق فوزى لتناول التليفون ليطلب الفريق طبيب رفاعى محمد كامل كبير أطباء القوات المسلحة ليحضرإلى منشية البكرى وهو بالمناسبة لم يكن فى يوم من الأيام من الأطباء المعالجين للرئيس جمال عبد الناصر وقدحضر رفاعى فعلاً إلى منشية البكرى ولكن بعد أن قرر جميع الأطباء الحاضرين أن أمر الله قد نفذ وقال الدكتورمنصورفايز أن الرئيس جمال عبدالناصر قد أسلم الروح حوالى الخامسة أو قبلها بدقائق قليلة وأنه استسلم لقضاء الله الذى لا راد لقضائه كما كان حسين الشافعى وشعراوى جمعة وأنا نصلى لله من حول سرير عبد الناصر طوال عمل الأطباء الصامت حول لجسد الساكت .
-3 –
رحل الرئيس جمال عبد الناصر فجأة فى الساعة الخامسة من بعد ظهر يوم الثامن والعشرين من سبتمبر 1970 وقد يكون قد رحل قبلها بدقائق قليلة ، ولم يكن من بيننا نحن المحيطين به والقريبين منه من خطر على فكره أى بادرة من هذا النوع ، أو حسب حسابها قبل هذا التاريخ ، وكانت الصدمة كبيرة ، ولكن علينا كمسئولين وكبشر مؤمنين ان نقبل بإرادة الله ، ونبدأ على الفور بترتيب البيت من الداخل وتحديد أولويات العمل والأولويات المطلوبة والتى يجب أن تستحوذ على كل الاهتمام والجهد فى هذه الظروف العصيبة.
فبعد إقرار فريق الأطباء المعالجين بتأكيد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، عقد اجتماع فى الصالون الرئيسى فى منزل الرئيس عبد الناصر بمنشية البكرى حضره كل من السادة أنور السادات نائب رئيس الجمهورية ، وحسين الشافعى ، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات و على صبرى والفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة ، وشعراوى جمعة وزير الداخلية ، وسامى شرف وزير الدولة ، ومحمد حسنين هيكل وزير الأعلام ، وكان يقف على باب الصالون اللواء محمد الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى .
لم يكن هناك جدول أعمال محدد لهذا الاجتماع ، ولكن كان فى مقدمة بحثنا الترتيبات الضرورية التى يجب إنجازها بعد الرحيل ، وكان الاتجاه الغالب يتلخص فى ضرورة تغليب مظلة الشرعية أثناء الحوار مع تقدير كامل للمسئولية فى ضوء الفراغ الذى يمكن أن يحدثه غياب جمال عبد الناصر المفاجئ وبما يقضى قيام مؤسسات تباشر العمل وتتولى قيادة البلاد بأسرع وقت ممكن ، وقد أخذنا فى اعتبارنا جميعا الضغوط التى تواجهها مصر نتيجة للموقف القائم على جبهة القتال ووجود الإسرائيليين على الضفة الشرقية لقناة السويس ، والقوات المسلحة تواصل استعداداتها للقتال ، و القضية الفلسطينية تواجه ظروف دقيقة لا يمكن تجاهلها آو تأجيل التعامل معها ، خاصة وأن آخر معارك عبد الناصر كانت تلك التى حاول فيها مع القادة العرب حماية المقاومة الفلسطينية والإبقاء على صحوتها فى أحداث أيلول الأسود كما سماها الأخوة الفلسطينيين .
لم تثر هذه الأمور بهذا القدر من التحديد أو التفصيل ، ولكن ما تعلمناه من دروس من الرئيس جمال عبد الناصر ومعايشتنا له على مدى سنوات طويلة أوصلتنا إلى نتيجة واحدة تتمثل فى اعتبار قضية تحرير الأرض محور التركيز الأساسى فى كل مداولاتنا ، وأن القوات المسلحة التى تتحمل المسئولية الرئيسية فى هذه المهمة يجب أن يتوافر لها كل الإمكانيات التى تحتاجها ويجب أن نثبت للعالم أننا لا نقف عند الأشخاص وأن المبادئ هى التى يجب أن تبقى .
خلال هذا الاجتماع المصغر تم الاتفاق بصفة أولية على عقد اجتماع مشترك فورا لكل من اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى ومجلس الوزراء برئاسة أنور السادات نائب رئيس الجمهورية بهدف بحث هذه المسائل ، وكان أغلب الوزراء فى هذا اليوم بالذات فى زيارة للجبهة ومن ثم تم استدعاؤهم على عجل حتى أن أغلبهم وصل إلى القصر الجمهورى بالقبة فى ملابس الميدان ” الأوفر أول” .
( الملحق الوثائقى ، برنامج زيارات الوزراء للجبهة ) .
كذلك تم تشكيل مجموعة من الفريق أول محمد فوزى وكل من شعراوى جمعة وأمين هويدى وسامى شرف ومحمد أحمد والفريق محمد أحمد صادق رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة ، واللواء محمد الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى واللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة لإعداد ترتيبات تشييع الجنازة وتجهيز المدفن و إجراءات الدفن ، وقد تم الاتفاق على نقل الجثمان إلى قصر القبة حتى يتم وضعه فى ثلاجة القصر وبهدف التخفيف على العائلة والخوف من زحف الجماهير على منشية البكرى ، كما تم الاتفاق على تشييع الجنازة يوم أول أكتوبر1970 ، تمت هذه الأمور على وجه السرعة وبقى إعداد الضريح وتحديد مسار الجنازة واتفق على بحثهما بعد الاجتماع المشترك .
وفى قصر القبة كان هناك احتفال بليلة الإسراء والمعراج أقيم تحت إشراف حسن التهامى للعاملين فى رئاسة الجمهورية ، وأثناء دخول الجثمان إلى ثلاجة القصر كان جمهور الحاضرين فى الجانب الآخر من القصر يصفقون إعجابا ببلاغة فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقورى وكانت مفارقة غريبة وسوف يعدل حسن التهامى فى روايته للأحداث التى سنتعرض لها فيما بعد التسلسل الزمنى للأحداث وسوف نكتشف أهدافه فى حينه .
عقد الاجتماع المشترك لكل من اللجنة التنفيذية العليا الاتحاد الاشتراكى ومجلس الوزراء فى قصر القبة وكان الوزراء وباقى الأعضاء يأتون تباعا ، وأعلن السيد أنور السادات فى بداية الاجتماع وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ، وطلب من الدكتور منصور فايز حضور الاجتماع بصفة شخصية باعتباره كبير الأطباء المعالجين للرئيس ، ويتولى هو إعلان التقرير الطبى الرسمى للوفاة وكان يتواجد خارج قاعة الاجتماع كبير الأطباء الشرعيين بوزارة العدل .
ثم انتقل البحث فى مضمون البيان الذى يجب أن يذاع على الشعب حول وفاة الرئيس، وكان محمد حسنين هيكل قد بدأ فى صياغته قبل أن نغادر منشية البكرى ، وأنهى كتابته فى قصر القبة وأخطر المسئولين فى الإذاعة والتليفزيون بوصفه وزيرا للإعلام فى ذلك الوقت بقطع البرامج العادية ومواصلة إذاعة القرآن الكريم .
و كان نص البيان الرسمى كما يلى :
“فقدت الجمهورية العربية المتحدة ، وفقدت الأمة العربية ، وفقدت الإنسانية كلها رجلا من أغلى الرجال ، وأشجع الرجال ، وأخلص الرجال ، هو الرئيس جمال عبد الناصر، الذى جاد بأنفاسه الأخيرة فى الساعة السادسة والربع من مساء يوم 27رجب1390 الموافق 28سبتمبر1970 ، بينما هو واقف فى ساحة القتال يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ، ومن أجل يوم انتصارها .
لقد تعرض البطل الذى سيبقى ذكره خالدا إلى الأبد فى وجدان الأمة والإنسانية لنوبة قلبية حادة بدت أعراضها عليه فى الساعة الثالثة والربع بعد الظهر . وكان قد عاد إلى بيته بعد انتهائه من مراسم اجتماع مؤتمر الملوك والرؤساء العرب الذى انتهى بالأمس فى القاهرة، والذى كرس له القائد والبطل كل جهده وأعصابه ، ليحول دون مأساة مروعة دهمت الأمة العربية .
إن اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى ومجلس الوزراء ، وقد عقدا جلسة مشتركة طارئة على أثر نفاذ قضاء الله وقدره ، لا يجدان الكلمات التى يمكن بها تصوير الحزن العميق الذى ألمّ بالجمهورية العربية المتحدة وبالوطن العربى والإنسانى إزاء ما أراد الله امتحانها به فى وقت من أخطر الأوقات .
إن جمال عبد الناصر كان أكبر من الكلمات ، وهو أبقى من كل الكلمات ، ولا يستطيع أن يقول عنه غير سجله فى خدمة شعبه وأمته والإنسانية ، مجاهدا عن الحرية ، مناضلا من اجل الحق والعدل ، مقاتلا من أجل الشرف ، إلى آخر لحظة من العمر .
ليس هناك كلمات تكفى عزاء فى جمال عبد الناصر .
إن الشىء الوحيد الذى يمكن أن يفى بحقه وبقدره ، هو أن تقف الأمة العربية كلها الآن وقفة صابرة صامدة ، شجاعة ، قادرة ، حتى تحقق النصر الذى عاش وأستشهد من اجله ابن مصر العظيم ، وبطل هذه الأمة ورجلها وقائدها .
” يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية ، فادخلى فى عبادى وادخلى جنتى ” .
والسلام عليكم ورحمة الله ” .
ملحوظة : اعتبار الوفاة الساعة السادسة والربع وليس فى الخامسة كما سبق ان ذكرت جاء نتيجة ان الأطباء يقررون ساعة الوفاة فى التقرير الرسمى بعد بذل المحاولات الطبية الممكنة وبعد التأكد من حدوث الوفاة طبيا وجسديا وأنه لا فائدة من اجراء أى محاولات اخرى من أجل الإبقاء على حياة المتوفى .
بعد ذلك انتقل الاجتماع إلى بحث قضية استمرار النظام والشكل الذى يجب أن يتم به انتقال السلطة وهنا طرحت فكرتان كلاهما ينبثق عن مبدأ الشرعية .
كانت الفكرة الأولى تقترح أن يتولى أنور السادات منصب رئيس الجمهورية بحكم وضعه كنائب لرئيس الجمهورية ويمارس صلاحيات رئيس الجمهورية حتى انتهاء المدة المتبقية على رئاسة الرئيس جمال عبد الناصر .
أما الفكرة الثانية فهى أن يبقى السادات رئيسا للجمهورية حتى إزالة آثار العدوان وهو الحد الزمنى الذى وضعه الرئيس عبد الناصر عندما قبل التكليف الشعبى بالعودة إلى السلطة يوم 10يونيو1967 على أن تجرى انتخابات رئاسية جديدة بعد ذلك .
وبعد مناقشة قصيرة اتفق على تشكيل لجنة من القانونيين لمواءمة هذه الاقتراحات مع الشرعية الدستورية ، وكانت اللجنة تضم كلا من الدكتور محمد لبيب شقير رئيس مجلس الأمة و ضياء الدين داود عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى وعضو مجلس الأمة والمستشار مصطفى كامل اسماعيل وزير العدل وحافظ بدوى وزير الشئون الاجتماعية وعضو مجلس الأمة ، كما تم استدعاء على نور الدين النائب العام حيث شارك فى جانب من اجتماعات اللجنة ، وعادت اللجنة بعد فترة لتقترح ترشيح السادات رئيسا للجمهورية لفترة مستقلة وليس استكمالا لفترة رئاسة الرئيس جمال عبد الناصر ، وربط فترته بهدف إزالة آثار العدوان .
كان رأى اللجنة القانونية يستند إلى أن أى من الصيغتين اللتين سبق طرحهما لا يتفق مع الدستور فضلا أنهما ينطويان على تقييد لصلاحيات رئيس الجمهورية وبخاصة فيما يتعلق بقرار الحرب والذى يستلزم وجود رئيس منتخب يتولى تلقائيا منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة .
وقد لقى هذا الرأى تأييد أغلبية الحاضرين فى الاجتماع المشترك ، ولكن حسين الشافعى أبدى – وبطريقة غير مباشرة – تحفظه على اختيار أنور السادات وعبر عن ذلك بكلمات غير واضحة ، لكن مضمونها وصل إلى جميع الحاضرين ، أو غالبيتهم على الأقل ، ثم عاد وأيد الاقتراح البديل بأن يبقى أنور السادات لاستكمال المدة المتبقية لرئاسة عبد الناصر وقدرها ثلاث سنوات ، وقد عقب السادات على ذلك معربا عن موافقته قائلا :
” آنا أقبل آن أستمر استكمالا للمدة الباقية للرئيس جمال عبد الناصر “
لكن تطابق الرأى القانونى مع توجه الأغلبية أسفر عن قرار بترشيح السادات لفترة رئاسة جديدة ومنفصلة سواء عن فترة رئاسة عبد الناصر أو عن إزالة آثار العدوان .
وكان الفيصل فى الوصول إلى هذا القرار هو القوات المسلحة التى تكلم باسمها الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة الذى قال بوضوح وصراحة كلاما محددا ، مفاده أننا مقبلون على معركة التحرير بل وهناك إصرار على إتمام هذه المعركة ولن أستطيع أن أتحرك فى هذا الاتجاه لتنفيذ مهمتنا ما لم يكن هناك قائد أعلى للقوات المسلحة وبمعنى آخر رئيسا للجمهورية ومنتخب وفقا للدستور ، يحق له وفق الدستور أن يصدر أمر القتال ويصدق على الخطط العسكرية لخوض المعركة .
واصل المجتمعون بعد ذلك بحث الترتيبات الضرورية والمهمة وقد تقرر تشكيل لجنة طبية برئاسة كبير الأطباء الشرعيين بوزارة العدل وعضوية الأطباء المعالجين ،- وهنا طلب الفريق أول محمد فوزى أن ينضم إليهم الفريق طبيب رفاعى محمد كامل كبير أطباء القوات المسلحة حتى يكون التقرير صادر عن كل الجهات ذات الشأن ، وكان الفريق أول محمد فوزى قد سبق ، كما ذكرت ، أن طلب حضور الفريق طبيب رفاعى محمد كامل عندما كنا فى منشية البكرى لمشاركة الأطباء المعالجين فى محاولاتهم لإنقاذ حياة الرئيس عبد الناصر ولم يكن قد تأكد بعد أو أن نكون قد عرفنا أن قضاء الله قد حلّ فى تلك الأثناء وقد وصل الدكتور رفاعى كامل بعد الساعة السادسة مساء بدقائق ، وتأكد بنفسه من وفاة الرئيس ووقع الشهادة التى تؤكد ذلك مع باقى الأطباء ، و هى التى قدمها له الأستاذ الدكتور منصور فايز ، لإصدار بيان طبى رسمى حول أسباب الوفاة ومن ثم كان البيان الطبى مصاحبا للبيان السياسى وجاء نص البيان الطبى كما يلى :
” أثناء توديع سمو أمير الكويت بالمطار فى الساعة الثالثة والنصف مساء اليوم 28/9/1970 شعر سيادة الرئيس بدوخة مفاجئة مع عرق شديد وشعور بالهبوط .
وقد توجه سيادته بعد ذلك فورا إلى منزله بمنشية البكرى ، حيث حضر على الفور الأطباء ووجدوا عند سيادته أزمة قلبية شديدة نتيجة انسداد بالشريان التاجى للقلب .
وقد أجريت لسيادته جميع الإسعافات اللازمة بما فى ذلك استعمال أجهزة تنظيم ضربات القلب . ولكن مشيئة الله قد نفذت وتوفى إلى رحمة الله فى الساعة السادسة والربع أثناء إجراء هذه الإسعافات .”
توقيعات : د . رفاعة محمد كامل ـ د . منصور فايز ـ د . زكى الرملى ـ د .الصاوى حبيب ـ د . طه عبدالعزيز .
الرحيل وترتيبات الخلافة 2 – سامي شرف
Posted on 2-10-1428 هـ
Topic: سامي شرف
ـ 4 ـ
كان الشارع المصرى قد بدأ يستشعر وقوع شىء غير عادى بعد أن طالت نسبيا فترة إذاعة القرآن الكريم ، فطلبنا من السيد أنور السادات آن يتوجه إلى مبنى التليفزيون لإذاعة البيان الرسمى ، لكنه أبدى تردد حيث قال : ” كيف أنعى جمال عبد الناصر ؟! أنا ما أقدرش . . ” .
وكان رد الحضور كلهم أنه نائب رئيس الجمهورية . . والوضع الطبيعى – فى ضوء تمسكنا بالشرعية – يحتم عليه أن يقوم هو بإذاعة البيان ، فترك الاجتماع وتوجه مع محمد حسنين هيكل إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون وأذيع البيان على الشعب .
وكان أن اتخذ قرارا آخر يقضى باعتبار اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى ومجلس الوزراء فى حالة انعقاد دائم ، واستمرت الجلسة إلى أن عاد أنور السادات إلى القصر الجمهورى بالقبة وبدأنا نغادر المكان فى صمت .
نزلت مع شعراوى جمعة وأمين هويدى والفريق محمد فوزى واللواء محمد الليثى ناصف إلى ثلاجة القصر لإلقاء نظرة وداع على الجثمان المسجى فى هدوء وصمت موحش ثم طبع كل منا قبلة على جبين القائد والمعلم والإنسان الذى فارقنا فجأة وبلا مقدمات ، وسالت دموع ساخنة صامتة ، واتجهنا إلى منشية البكرى حيث اتفقنا على اللحاق بالفريق فوزى فى مكتبه بعد أن ننهى ترتيبات المدفن مع محمد أحمد ووجيه أباظة محافظ القاهرة والمهندس على السيد . .
لحق بنا فى مكتبى بعد ذلك محمد حسنين هيكل وفور دخوله بادرنا نحن الثلاثة بسؤاله : ” حا تعملوا إيه ؟! إيه اللى فى ذهنكم ؟ “
كان السؤال مفاجئ لنا ، فلم يكن فى ذهننا شىء محدد فى تلك اللحظة باستثناء حرصنا على الاستمرارية واعتبار المعركة مع إسرائيل هى القضية الأساسية ، ولكن سؤال هيكل فى هذا التوقيت استوجب لدى سؤال آخر فى داخلى وهو : ” هل يمكن أن أستمر فى نفس عملى مع رئاسة أخرى بخلاف عبد الناصر ؟
لقد بدا لى ذلك شىء غير معقول وغير مقبول نفسيا أو موضوعيا خاصة بالنسبة للأشخاص الذين اقتربوا من عبد الناصر وعملوا إلى جانبه فى ظروف مختلفة وعلى مدى سنوات طويلة .
اقترحت فى تلك اللحظة أن نقوم نحن الأربعة لنخرج بالسيارة للتجول فى شوارع القاهرة وخرجنا نحن الأربعة ، شعراوى وهويدى وهيكل وأنا قاطعين الطريق من منشية البكرى إلى العباسية ثم سرنا بمحاذاة كلية الشرطة وأوقفت السيارة وكنت أقودها ، وظللنا بداخلها صامتين للحظات إلى أن كرر هيكل سؤاله مرة ثانية قائلا :” حا تعملوا إيه ؟ “
كان ردنا – دون أن نتفق مسبقا – أننا لا نستطيع أن نعمل مع أحد آ خر بعد جمال عبد الناصر ، ولم نكن نعنى بذلك أن نترك مواقعنا على الفور ، ولكن يتم ذلك بعد أن نكون قد أدينا واجبنا تجاه عبد الناصر واستكمال رسالته بتهيئة الظروف الملائمة لخليفته وتستقر الأوضاع وأذكر أنى أضفت ” أننا ندرك تماما أن لكل رئيس رجاله الذين يستريح لهم ، ويمكنه التعاون معهم خاصة وأن لنا تجربة مع أنور السادات خلال السنوات 69 –1970 عندما كان يرأس لجنة العمل اليومى التى سبق أن أشرت إليها .
كان حديثنا مع هيكل حول عدم الاستمرار مع رئيس الجمهورية القادم يعنى أننا غير قادرين على تقبل أسلوب عمل السادات ، ولكن توقيت التنفيذ يرتبط بتولى المؤسسات صلاحيتها بشكل فعلى بعد انتخاب السادات رئيسا للجمهورية – وهو ما سنتعاون على إتمامه – حيث سيكون من حقه وقتئذ أن يختار معاونيه ومستشاريه ، ومن جهة أخرى فمن حقنا الدستورى كوزراء إما أن نقول رأينا أو نترك المسئولية لغيرنا وقد ثبت بعد ذلك أن هيكل قام بنقل هذا الحديث بصيغة مغايرة للسادات مما انعكس على موقف الأخير تجاه هذه المجموعة .
وكان رد هيكل علينا – فى حديث السيارة بالعباسية – أن قال :
” إزاى تسيبوا البلد فى هذه الظروف ؟! “
وكان ردنا أننا لا نريد أن نتخلى عن المسئولية ولكن فى الوقت نفسه لا نستطيع أن نواصل العمل مع السادات .
وفى اليوم التالى لرحيل الرئيس عبد الناصر أى يوم 29سبتمبر1970 كنا فى قصر القبة وعند انصرافنا كان هيكل يسترجع ما دار من حديث بيننا فى اليوم السابق وأضاف بالنص :
” يا سامى ، إذا مشيت أنا حاأمشى معاك . . ” ، ولم يزد . . و لم أعلّق . . !
فى هذا اليوم أيضا 29سبتمبر1970 دخل علىّ فى مكتبى فى حوالى الثالثة صباحا محمد المصرى مساعد سكرتير الرئيس للمعلومات للشئون العربية والتنظيم فى ذلك الوقت، وقال لى :
الأخ صلاح الشافعى ( شقيق حسين الشافعى وزميل دراسة قديم من المنصورة الثانوية لكلينا – والسفير بوزارة الخارجية فيما بعد ) – يطلب مقابلتك فى أمر عاجل ومهم، فرحبت به واستقبلته بحضور محمد المصرى ، وقد أبدى فى أول الأمر ترددا فى الحديث إلا أننى شجعته على الحديث باعتبار الزمالة والصداقة القديمة المستمرة فقال – ما نصه :
” أنت طبعا تعرف إن السيد حسين الشافعى بيحبك كتير قوى وبيقدرك . . وهو بيعرف شعورك تجاهه وأنك تكن له مشاعر الود والأحترام ، وأحب أن أقول لك إنه من إيدك دى لإيدك دى ! . . .
هكذا قالها بالنص !!
قلت :” أنا مش فاهم يا صلاح إنت بتقصد إيه بالضبط “
فقال ” مش هو أحسن من أنور السادات ؟! “
فقلت ” يا صلاح . . أمور البلد لا تدار بهذا الأسلوب . . هو كل من يزكى و احد يصبح رئيسا للجمهورية ، هذا أسلوب قبلى تلجأ إليه معظم القبائل البدائية ، ولكن إنت تعرف إن البلد فيها مؤسسات وأوضاع دستورية قائمة وهذه الأوضاع لابد أن تستمر ويجب المحافظة عليها واحترامها وإذا سمحنا باختفاء هذه الأوضاع نكون لم نتعلم شىء من جمال عبد الناصر . . . شوف يا صلاح . . الوضع الدستورى الشرعى سوف يستمر وأى شىء خلاف هذا سوف نحاربه . . ، هل هذا مفهوم يا أخ صلاح ؟
ورد صلاح الشافعى :” أيوة مفهوم ” . . وانتهت المقابلة عند هذا الحد .
وفى الصباح الباكر حضر إلى مكتبى ، أمين هويدى وشعراوى جمعة ورويت لهما ما أثاره صلاح الشافعى واتفقنا على أن نذهب لأنور السادات لإبلاغه بما حدث ، والتقينا به فى قصر القبة ورويت له ما دار بينى وبين صلاح الشافعى فكان أن عقب بألفاظ خارجة يستحيل إعادتها هنا . . !! . ثم أضاف “سيبوا لى الموضوع ده وأنا حا اتصرف . . ” .
فى يوم التاسع والعشرين من سبتمبر1970 حوالى الساعة الثامنة مساء دخل إلى مكتبى محمد المصرى وأحمد شهيب وأبلغانى أن بدر حميد بدر – أحد الضباط الأحرار فى سلاح المدفعية قد أبلغ أحمد شهيب رسالة نقلا عن العقيد محمد عبد الحليم أبو غزالة رئيس أركان المدفعية لتبلغ لسامى شرف ، وكان مفاد الرسالة أنه إذا تم اختيار أنور السادات رئيسا للجمهورية فإنه سيقوم بعمل انقلاب . . وكان ردى على هذه الرسالة أن الشرعية هى التى ستسود وأن على القوات المسلحة واجبات أخرى عليها أن تهتم بها وتترك الأمور السياسية للمؤسسات المعنية المسئولة . ولم يصلنى أى تعقيب على ردى هذا بعد ذلك . .
وفى نفس اليوم أى 29سبتمبر1970 اتصل بى من فندق هيلتون النيل ، فاروق أبو عيسى وكان يشغل منصب وزير خارجية السودان فى ذلك الوقت ، وحضر إلى القاهرة ضمن وفد التعزية الذى رأسه الرئيس جعفر نميرى – وطلب سرعة لقائه فى مقر إقامته فى الفندق ، فاتجهنا شعراوى جمعة وأمين هويدى وسامى شرف إلى الفندق حيث أبلغنا بوجود تحركات يقوم بها بعض الشخصيات السياسية المصرية التى تسعى لمقابلة بعض الوفود والشخصيات العربية المشاركة وتثير معهم موضوع الخلافة واستمرارية الحكم ، وعند استفسارنا عن من يقوم بهذا النشاط أبلغنا أنه أمين شاكر وزير السياحة السابق ، وأضاف أنه أى أمين شاكر موجود فى الفندق وأنه اتصل فعلا بالوفد السودانى وبالرئيس جعفر نميرى وطرح عليه فكرة أن زكريا محى الدين هو الأحق بتولى الرئاسة بعد رحيل جمال عبد الناصر ، كما طرح أفكارا أخرى حول إحياء صيغة مجلس قيادة الثورة ، وإن كان بشكل غير صريح ، ثم أضاف أبو عيسى أن الرئيس نميرى يود أن يلتقى بكم فأبلغناه أننا مرتبطون بموعد مع الرئيس هوارى بو مدين الآن وسوف نمر عليهم فور انتهاء المقابلة مع بومدين .
وفى لقاءنا مع الرئيس بومدين – وكان ذلك فى إطار الرد على الوفود التى قدمت للتعزية والاطمئنان على راحتهم وتقديم الشكر على مشاركتهم فى أحزاننا ، أبلغنا الرئيس هوارى بومدين أنه يشتم رائحة تحركات غير طبيعية ولكنه لا يملك أية تفاصيل كما أنه لم يتصل بالوفد الجزائرى أحد حتى الآن ، وإن كان يريد أن ينبهنا إلى ضرورة مراعاة الحذر والتزام اليقظة ، فمصر الآن هى محط أنظار الجميع ولابد أن تبقى كما كانت أيام جمال عبد الناصر ووعدنا بإبلاغنا بأى اتصال يتم معهم .
توجهنا بعد مقابلة الرئيس بومدين للقاء الرئيس جعفر نميرى الذى بادرنا بالسؤال :
” أنتم مخططكم إيه ؟ “
فكان ردنا : إحنا ليس لدينا مخططات فردية أو شخصية ، ثم شرحنا له خلاصة ما دار فى الاجتماع المشترك للجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء عقب رحيل الرئيس جمال عبد الناصر والذى جاء متفقا مع الشرعية والدستور .
فأبدى تأييده لذلك وأضاف ، ” ولكن يوجد بعض الوزراء المصريين طلبوا مقابلتى، وأنا لا أريد آن أتدخل فى شئونكم الداخلية . . لكن عايز رأيكم ؟”
فتساءلنا . . من هم يا سيادة الرئيس ؟
فقال : ” بعض الوزراء المصريين السابقين ” .
فقلنا له ” يا سيادة الرئيس مصر بلدك وهى والسودان بلد واحد . . ولتقابل من تريد مقابلته وتحدث معهم كما تريد . . . وإذا كنت ترى أن تنصحنا بشىء فنحن جاهزون ، أرسل إلينا من تريد أو اطلبنا نحن موجودين فى مكاتبنا طوال الوقت ليل نهار .
وبعد جولة فى الفندق التقينا فيها ببعض الوفود الأخرى عدنا إلى القصر الجمهورى بالقبة حيث كان يتواجد هناك أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى وكان معهم أيضا السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة السابق ، ونقلنا للسادات تفاصيل ما تلقيناه من معلومات وتحركات فكان رده : عظيم جدا ، وإذا كان فيه حاجة جديدة بلغونى على طول . . ” .
فى ثالث يوم أى 30سبتمبر 1970 حضر إلى مكتبى بمنشية البكرى فاروق أبو عيسى مصاحبا لمأمون عوض أبو زيد عضو مجلس قيادة الثورة السودانى وكان وقتئذ يشرف على المخابرات العامة فى السودان ، وكان ضمن وفد التعزية الذى رأسه الرئيس جعفر نميرى .
بعد الترحيب بالإخوة السودانيين بدأ فاروق أبو عيسى حديثه قائلا :
” جاءنى اليوم أمين شاكر وزير السياحة السابق وقال أنه يريد من الوفود العربية والوفد السودانى على وجه الخصوص ممارسة ضغوطها لتنصيب زكريا محى الدين رئيسا للجمهورية ” وأضاف أبو عيسى ” لقد أبلغناه أننا لا نتدخل فى شئون مصر الداخلية وأن معلوماتى الرسمية أن مجلس الوزراء واللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى عقدا اجتماعا مشتركا اتخذت فيه قرارات محددة ، وهى قرارات ملزمة ولا دخل لنا بها ، ولا نريد أن نتدخل بشأنها ، ولا نقبل من أحد أن يتدخل فيها سواء أكان من داخل مصر أو من خارجها .
واستطرد فاروق أبو عيسى قائلا :
” إن الأخ أمين شاكر يزور كل الوفود ويثير هذا الموضوع ، وقد أرسل لنا الرئيس هوارى بومدين بهذا المعنى ولكن بصورة مخففة ” .
وفى ضوء هذا اللقاء توجهنا إلى الرئيس السادات وأبلغناه بمضمون الحديث الذى أدلى به فاروق أبو عيسى فكان رده : ” اعتقلوا أمين شاكر ” .
وكان ردنا عليه بأن أمين شاكر يعبر عن رأيه ، وتأثيره ضعيف علاوة على أن سمعته معروفة فى الأوساط العربية بعد محاولة استغلاله لبعض أمراء الخليج فى صفقة مشبوهة ، كما أنه لا يمكنه أن يفعل شىء ولا داعى لاعتقاله . . فأمّن على رأينا .
لم يكن موقفنا هذا يحمل أى معنى خاص تجاه زكريا محى الدين الذى نقدره كرجل وطنى متميز بالنزاهة والشرف ولا يستطيع أحد أن ينكر دوره فى تنفيذ الثورة وترسيخ قواعدها بعد ذلك وعلى مدى السنوات التى أعقبت 23يوليو1952 ، وإنما كان كل همنا هو إقرار مبدأ الشرعية الدستورية ، وضرب المثل من مصر للأمة العربية وللعالم أجمع أن هناك مبادئ تحتم استمرارية النظام وأنه يجب احترامها ، وأن العملية لا ترتبط بأهواء شخصية أو مزاجية أو رغبة فى إحداث انقلاب أو خلافه .
كما كان تقديرى الشخصى أن أمين شاكر يعبر عن نفسه فقط بحثا عن دور فقده ثم أعيد له بكرم من عبد الناصر إلا أنه لم يستطع أن يحافظ عليه للمرة الثانية فكان أن تم أبعاده عن المسرح السياسى ، ولم أشك أنه كان فى تصرفه هذا مدفوعا من أحد القيادات المصرية خصوصا وأن الود بينه وبين زكريا محى الدين كان مفقودا من أمد بعيد .
الصلاة الأخيرة والوداع إلى الأبد
ـ 5 ـ
فى وحول جنازة جمال عبد الناصر
فى 28 سبتمبر من كل عام يبرق فى خيالنا الرجل الذى ظل يسند الحيطان المنهارة فى عواصم الأمة العربية حتى رحل تحت ركامها ، والذى كان يعيد صياغة الحقائق الخالدة فى معنى العروبة حتى هزمه الموت قبل الأوان .
لقد أحببنا أخطاؤه كما أحببنا آراؤه وقراراته .
لقد سميناه بطلا فى النصر وفى الهزيمة .
وكلما زادت الأنظمة السوداء فى تلك الأيام حقدا على جمال عيد الناصر كنا نزداد إيمانا به وكلما زاد الحقد الأمريكى فى تلك الأيام عليه كنا نمنحه ثقة أكبر وندرك كم كان الرجل خطرا على المشروع الاستعمارى برمته ، ولذلك فعندما هزمته وهزمتنا معه الآلة الحربية الأمريكية الإسرائيلية لم نلق عليه عبء الهزيمة بل بايعناه على النصر المقبل . ولو عاد عبد الناصر إلى أمته فلن يعرفها ولكنه سوف يعرفنا نحن ويدل علينا نحن الذين لا نقبل بمزيد من المضاربة على مصير الأمة .
لقد كانت جنازة جمال عبد الناصر جنازة شعبية بمعنى الكلمة . امتلأت شوارع القاهرة وبيروت ودمشق وطرابلس وبنغازى وبغداد وتونس وغيرها من العواصم ليلة تشييع الجنازة بملايين البشر ينشدون نشيدا واحدا ، لا يعرف أحد كيف انتشر ولا من الذى ألفه أو لحنه وكان انتشاره كالنار :
الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ، الوداع .
ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين ، الوداع .
إنت عايش فى قلوبنا يا جمال الملايين ، الوداع .
إنت ثورة ، إنت جمرة نذكرك طول السنين ، الوداع .
إنت نوارة بلدنا ، وإحنا عذبنا الحنين ، الوداع .
إنت ريحانة زكية لأجل الشقيانين ، الوداع .
الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ، الوداع .
وسارت الجنازات الشعبية فى كل العواصم والمدن والقرى فى جميع أنحاء الوطن العربى من البحر إلى البحر ،وكانت جماهيرها تردد :
إبكى ، إبكى يا عروبة على اللى بناكى طوبة طوبة .
ياجمال يا ابن مصر مين حايخطب يوم النصر .
روح يا شاب قول لأبوك ميت مليون بيودعوك .
الله حى . . . الله حى . . . عبد الناصر دايما حى .
ما تفرحشى يا استعمار . . . عبد الناصر فات أحرار .
ما تصدقش . . . ما تعيطش . . . عبد الناصر لسة ما ماتش .
لا أله إلا الله . . . عبد الناصر حبيب الله .
بالجيش والشعب . . . حا نكمل المشوار ـ كان هذا ما ردده الجنود على جبهة القتال .
وقد إشترك فى تشييع الجنازة ثلاثون رئيس دولة . ومائة وفد يرأس أغلبها إما رؤساء وزراء أو وزراء للخارجية علاوة على رؤساء الأحزاب وحركات التحرير فى العالم كله بدون استثناء .
615 حالة إغماء وآلاف الإصابات ووفيات وانتحارات فى مصر والعالم العربى .
وفيما يلى بعض ردود أفعال رحيل عبد الناصر :
*الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون قرر إلغاء مناورات الأسطول السادس الأمريكى فى البحر الأبيض ويصرح بقوله
” كان ناصر قائدا عاطفيا قادر على الرؤية داخل قلوب شعبه ، وقد سبب موته المفاجئ نار الأسى ومظاهر الحزن التى لم يشهد العالم لها مثيلا 0 لقد خلق ناصر لنفسه أعداء ألداء ، وأصدقاء أوفياء وقلة ممن كانوا حياديين تجاهه . . ” .
*زعماء العالم يصفون وفاته بأنها خسارة كبيرة لواحد من أكبر الزعماء هيبة .
*البابا كبرلس يقول : ” جمال لم يمت ، وسيظل تاريخنا مرتبط باسمه ” .
*حاكم الشارقة يصاب بانهيار عصبى أثناء توجهه لتشييع الجنازة .
· طالب ليبى يصاب بالعمى من فرط بكاؤه وطالب آخر يحرق نفسه وهو يردد اسمه .
· وشاب ليبى آخر يحطم جهاز التليفزيون حتى لا يرى موكب الجنازة .
· مواطن مصرى يموت أثناء المشاركة فى مسيرة .
· عدد ضحايا مدينة بيروت 16 شخص فى أعقاب الوفاة . وصلوات مشتركة فى المساجد والكنائس .
· لأول مرة تتشح النساء فى ليبيا بالسواد .
· ناظر مدرسة بالإسكندرية يتوفى وهو يرثى عبد الناصر .
· 20 ألف ليبى يعبرون الحدود المصرية للاشتراك فى تشييع الجنازة .
· مسيرتان يتقدم كل منها نميرى وعبد السلام جلود تسيران فى اتجاه مقر الاتحاد الاشتراكى.
· صلاة مشتركة فى المساجد والكنائس فى مصر والعالم العربى ( صلاة الغائب ) .
· جنازات ضخمة فى الأراضى المحتلة .
· المذيعون والمذيعات ـ وكانوا مصريون وعرب من جميع أنحاء الوطن العربى ـ يبكون أثناء وصف مظاهر الوداع والجنازة .
· مواكب صامتة فى عواصم أوروبية وآسيوية وإفريقية .
· المحاكم المصرية توقف جلساتها خمسة دقائق حدادا وتسجل الحدث فى محاضر الجلسات ( سابقة لم تحدث من قبل ) .
· نادى القضاة المصريين يصدر عددا خاصا من مجلة القضاة عن عبد الناصر ” دائرة الفكر القانونى المعاصر ” .
· البنوك تتوقف لمدة خمسة دقائق عن التعامل حدادا .
· الأندية الرياضية تغلق أبوابها لمدة أسبوع حدادا .
· أغلب برقيات العزاء قالت : السلام فقد أكبر أنصاره وسيبقى رمزا للنضال والسلام . “
· الآلاف يتوافدون رجالا ونساء وشبابا وطوائف ونقابات مهنية وعمالية وفلاحين لزيارة ضريح عبد الناصر ليل نهار .
· تماثيل أقيمت لعبد الناصر فى جميع أنحاء الوطن العربى .
· تسمية عبد الناصر لشارع يمتد من بيروت إلى دمشق وحتى عمان فى الأردن .
· الكاتب الأمريكى سالزبرجر يؤلف كتابه ” آخر العمالقة ” .
· أم كلثوم تلغى موسمها الغنائى حدادا على رحيل عبد الناصر .
· بعد الأربعين أم كلثوم تغنى ” رسالة إلى عبد الناصر ” ( نزار قبانى ) .
· محمد عبد الوهاب يؤلف الملحمة الموسيقية ” ناصر البطل ” .
· أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب يتقدمان مسيرة الفنانين والموسيقيين إلى ضريح عبد الناصر .
· أم كلثوم تقترح تسمية السد العالى باسم ” ناصر ” .
· احتجاج إسرائيلى على بعض الدول الغربية التى نكست أعلامها فى القدس حداد اعلى عبد الناصر .
· مناحم بيجن قال : ” إن عبد الناصر كان أخطر أعداء إسرائيل .. إن وفاة عبد الناصر تعنى وفاة عدو مر . إنه كان أخطر عدو لإسرائيل ولهذا السبب لا نستطيع أن نشارك فى حديث النفاق الذى يملأ العالم كله عن ناصر وقدرته وحكمته وزعامته .” .
· ورثاه نزار قبانى فى البكائية :
قتلناك يا جبل الكبرياء . . . وآخر قنديل زيت .
يضىء لنا ليالى الشتاء . . .…وآخر سيف من القادسية .
قتلناك نحن بكلتا يدينا … .وقلنا المنية لماذا قبلت المجىء إلينا .
فمثلك كان كثيرا علينا .
· بورقيبة يطلق اسم عبد الناصر على أكبر شارع فى تونس .
· إطلاق اسم عبد الناصر على أكبر شوارع طرابلس الغرب / ليبيا .
· صورة عبد الناصر على غلاف مجلة ” تايم ” كبرى المجلات الأمريكية .
· سيكوتورى يطلق اسم عبد الناصر على جامعة كوناكرى .
· اعتقالا فى الجولان بعد اشتباكات عنيفة مع الجنود الإسرائيليين .
· سويسرا تطلب رسميا نوتة نشيد الوداع الذى أنشدته الجماهير تلقائيا .
وهنا لابد أن أسجل اقتراحات طرحت فى تلك الفترة ولم تنفذ حتى اليوم منها :
تمثال بارتفاع 30 متر فى منطقة السد العالى ـ تمثال فى ميدان الحرية ـ ميدان حول الضريح ـ متاحف ـ لجان التراث ـ مسميات ـ مراكز دراسات والكثير من الاقتراحات التى نشرتها الصحف الصادرة فى تلك الفترة .
وأختم هذه الفقرة بالرثاء الذى كتبته فى جريدة الأهرام للزعيم والمعلم والقائد تحت عنوان :
” وكأنك كنت تعرف !! “
يا قائد هذه الأمة ومحرك طاقاتها . . فى حياتك وبعد حياتك . .
يا أستاذى ومعلمى . .
وأستاذ هذا الجيل ومعلمه . .
يا أمل هذه الأمة . . فى حضورك . . وفى غيابك . .
ماذا أقول وقد جاء يوم لم تعد فيه بيننا ؟! . .
ماذا أقول وقد مر هذا اليوم وجاءت بعده أيام . . وصوتك لا يتردد إلا فى الوعى من بعيد . . وأوامرك وتوجيهاتك وآراؤك . . ما لها قد توقفت عند آخر جملة قلتها وأنت فى سيارتك إلى المطار . . فى الرحلة الأخيرة ؟!
لم تعد هناك فى غرفتك المطلة علينا . . والضوء فيها ساهر معك . . ومع أوراقك . .
لم تعد هناك فى مكتبك حيث أكداس المسئولية تدخل عليك . . لتخرج وقد وجدت حلولا . .
كنا كلنا نتوقف عند الحدود . . حتى تأخذ بأيدينا إلى الحلول . .
ومع ذلك فعندما مضيت لم تأخذ بأيدينا معك . . وإنما ما زلنا أحياء . . أصحاء . . وأنت هناك فى خلدك بعيد عنا . . وكنا نتصور أن أنفاسنا ستتوقف معك . . وان نبض العروق سيكف عندما لا تكون . .
نحن الذين كنا مع العبء عليك . . يتضاعف . . ويتضاعف . . وأنت تقبل على التحمل غير عابئ . . بالألم يطحن الجسم . . والأجل . .
حتى جاء ذلك اليوم ! . .
وكأنك كنت تعرف ! . . فقد عملت لكل شىء حسابا !! . .
ولم يكن فينا من أعد له عدته . . ولكنك وحدك كنت تستعد لمجيئه . .
وكنت تعرف أن غيابك عنا سيعصف بنا . . وأن هذا العصف سيخلق عند أعدائنا المطامع . . فصغت الأمر كله . . ليكون الأمر سدا فى وجه كل طامع . . وكأنك كنت بيننا يوم غبت عنا ! . .
هذا الجيل الذى لقنته . . هذه الصفوف التى دعمتها ورتبت خطوها فى تراص . . هذا النظام الذى شيدته . . حلقة . . حلقة . . كل منها تسلم الأخرى . . وتضمن لها السلامة . .
هل تذكر . . هل تذكر يوم صغت الدستور المؤقت . . عندما جئت عند تلك الفقرات التى تتحدث عما سيحل بالذين يبقون من بعدك . . كنت تدقق التعبير وتختار الكلمات . . وكأنك ترى بعين الغيب كل الذى يحدث . . وكنا نكره هذه الفقرات . . لا نطيل عنها نقاشا . . ولكنك كنت تزيدها إصرارا . .
ثم كان . .
وهذا الجيل كله . . وقد تفتحت عيناه على صيحة الحرية التى أطلقتها له يوم ظهرت عليهم لأول مرة . . هذه الصيحة ما زالت ترن فى آذانهم . .
” إرفع رأسك يا أخى . . فقد مضى عهد الاستعباد . . “
ولم يمض عهد الاستعباد وحده . . وآنت تعرف من الذى أجبره على أن يمضى . . وآمنوا بك يا عبد الناصر . . يا جمال . .
آمنوا بك يوم خرجت عليهم بصوتك المبحوح . . قد ألم بحنجرتك البرد . . وأخذت خطاك فى عربتك العارية . . إلى رحاب الأزهر . . فى ذلك اليوم . . يوم الجمعة . . يوم ألقيت خطابك ترد به على العدوان المهيب . . ونسى الناس السماء المفتوحة فوقهم إلا من طائرات الأعداء . .
ونسيها هى الأخرى الناس . .
وقادهم صوتك المبحوح وهو يصل إليهم من الإذاعة التى أقيمت فى مكتبك . . نستبدل بها الإذاعة التى عطلها الأعداء ذلك اليوم . .
ومن يومها يا عبد الناصر . . يا جمال . . عرفت كل هذه الجماهير . . أن صوتك سيقودهم إلى النصر دائما حتى ولو كان مبحوحا . .
ومن يومها يا عبد الناصر . . يا جمال . . أصبحت كلماتك . . وآراؤك ومبادئك غذاء كل روح تدب على هذه الأرض . . تريد لها التحرر . . والرخاء . . والكرامة .
ومن يومها يا عبد الناصر . . يا جمال . . أصبح الناصريون بالملايين . . واتسعت الدائرة من حولك . . فى مصر . . وفى غير مصر . .
ولكن العبء زاد عليك . . ومضيت تحمله بالجسد الواهن . . دون أن تنبس حتى بالآنية ! . . .
حتى مضت حياتك . . واسترحت . . ومضيت . . !
فإذا بهذه الملايين التى ناصرتك حبا . . هى التى حفظت عهدك ذكرى . . وإيمانا . . ووفاء.
فإذا بهذه المبادئ التى تركتها . . تصبح دستورا يظلل كل خطو من بعدك . . ويفسح أمامه الطريق . . وإذا بكل ما شيدت . . ونظمت . . وأقمت . . هو الحارس . . يصون المجد الذى أوصلت أمتك إليه..
وستعيش أمتك من بعدك يا عبد الناصر . . يا جمال . . تركتها. . أروع . . وأعظم . . وأمجد . . من اليوم الذى استقبلتها فيه . .
وستمضى فى طريقها إلى أكثر من هذا المجد . . ومن هذه الروعة . . والعظمة . . لأنها ستمضى على هديك . . وهدى مبادئك . .
أما أنت يا عبد الناصر . . يا جمال . .
يا قائد هذه الأمة . . ومحرك طاقتها . .
يا أستاذى ومعلمى . .
يا كل الأمل فى حضورك . . وفى غيابك . .
لتكن فى رعاية الله . . ورحمته . . قرير العين . . راضيا بما قدمت . . سعيدا بما أنجزت . .
يا من كنت تعرف . . عندما كنا لا نعرف . . !! . .
جنديك المخلص للأبد
سامى شرف
وفى يوم الاثنين 12 اكتوبر1970 اتصلت بى السيدة أم كلثوم تليفونيا وطلبت لقائى فى نفس اليوم لموضوع قالت أنها تريد أن تأخذ رأيى فيه بصفة شخصية فحددت لها السابعة من مساء نفس اليوم . وبعد أن جلست ، قالت بلا مقدمات وعيناها مغرورقتان بالدموع : ” يا أستاذ سامى أنا بأفكر إنى أعتزل لأنى مش متصورة إنى حا أقدر اقف على خشبة المسرح لأغنى بعد ما رحل عنا جمال عبد الناصر “.. ثم أكملت حديثها قائلة : ” حد كان يصدق إنه يموت فى هذه السن أو فى هذا الوقت وفى هذه الظروف .. ده آخر مرة قابلته كان يقول لى أنه لم ولن يفقد الأمل فى تحرير الأرض .. آدى باعث الأمل مات .. طيب إحنا حا نعمل إيه ؟!
فقلت لها : ” يا ست ، كلامك مضبوط لكنه ينقصه حاجة واحدة .. عارفة إيه هى ؟ إننا نحقق الأمل اللى كان هو بيحلم به .. وإذا كنتى إنتى وغيرك يعتزل . . طيب مين بقى اللى حا يحقق الأمل والحلم ؟ .. إنتى نسيتى هو قال لكى إيه بعد جولاتك الأخيرة ؟ أنا حا أفكرك إنه قال لكى أنك تقومين بتعبئة عالمية لصالح قضية التحرير و لوحدك من غير جيش . . وأنك حققتى الوحدة العربية اللى بنحلم بيها . . إنتى نسيتى يا ست هذا الكلام ؟! هذا هو رأيى بصراحة .
ولقد إقتنعت الست .
وكانت مسيرة الفنانين والموسيقيين التى تقدمها أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب إلى ضريح عبد الناصر وأعقب ذلك إقتراح قدمته أم كلثوم بتسمية السد العالى باسم ” ناصر ” .
وبعد الأربعين قدمت الست السيدة أم كلثوم : ” رسالة إلى عبد الناصر ” لنزار قبانى( نصها فى السطور التالية ) .
ولقد أضفت نص القصائد التى كتبهم نزار قبانى فى رثاء ، الرئيس جمال عبد الناصر حيث أننى
أرى أنه من المناسب توثيقهم هنا لأأضعهم تحت أنظار القارئ الكريم
القصيدة الأولى :
قتلناك . . يا آخر الأنبياء
قتلناك . .
ليس جديدا علينا
اغتيال الصحابة والأوفياء
فكم من رسول قتلنا . .
وكم من إمام . .
ذبحناه وهو يصلّى صلاة العشاء
فتاريخنا كله محنة
وأيامنا كلها كر بلاء . .
نزلت علينا كتابا جميلا
ولكننا لا نجيد القراءة . .
وسافرت فينا لأرض البراءة
ولكننا . . ما قبلنا الرحيلا . .
تركناك فى شمي سيناء وحدك . .
تكلم ربك فى الطور وحدك . .
وتعرى . .
وتشقى . .
وتعطش وحدك . .
ونحن هنا . . نجلس القرفصاء
نبيع الشعارات للأغبياء
ونحشو الجماهير تبنا وقشّا
ونتركهم يعلقون الهواء . .
قتلناك . .
يا جبل الكبرياء
وآخر قنديل زيت . .
يضىء لنا فى ليالى الشتاء
وآخر سيف من القادسية
قتلناك نحن بكلتا يدينا
وقلنا للمنيّة . .
لماذا قبلت المجىء إلينا ؟
فمثلك كان كثيرا علينا . .
سقيناك مر العروبة حتى شبعت . .
رميناك فى نار عمّان . . حتى احترقت
أريناك غدر العروبة حتى كفرت
لماذا ظهرت بأرض النفاق . .
لماذا ظهرت ؟
فنحن شعوب من الجاهلية . .
ونحن التقلّب . .
نحن التذبذب . .
والباطنيّة . .
نبايع أربابنا فى الصباح
ونأكلهم حين تأتى العشيّة . .
قتلناك . .
يا حبنا وهوانا . .
وكنت الصديق ، وكنت الصدوق ،
وكنت أبانا . .
وحين غسلنا يدينا . . اكتشفنا . .
بأنّا قتلنا منانا . .
وأن دماءك فوق الوسادة . .
كانت دمانا
نفضت غبار الدراويش عنّا . .
أعدت إلينا صبانا . .
وسافرت فينا إلى المستحيل
وعلمتنا الزهو والعنفوانا . .
ولكننا . .
حين طال المسير علينا . .
وطالت أظافرنا . . ولحانا
قتلنا الحصانا . .
فتبّت يدانا . .
فتبّت يدانا . .
أتينا إليك . . بعاهاتنا . .
وأحقادنا . . وانحرافاتنا . .
بسيف أسانا . .
فليتك فى أرضنا ما ظهرت . .
وليتك كنت نبىّ سوانا . .
أبا خالد . . يا قصيدة شعر . .
تقال . .
فيخضرّ منها المداد . .
إلى أين ؟
يافارس الحلم تمضى . .
وما الشوط حين يموت الجواد ؟
إلى أين ؟
كل الأساطير ماتت . .
بموتك . . وانتحرت شهرزاد
وراء الجنازة . . سارت قريش
فهذا هشام . .
وهذا زياد . .
وهذا يريق الدموع عليك
وخنجره ، تحت ثوب الحداد
وهذا يجاهد فى نومه . .
وفى الصحو . .
يبكى عليك الجهاد . .
وهذا يحاول بعدك ملكا . .
وبعدك . .
كل الملوك رماد . .
وفود الخوارج . . جاءت جميعا
لتنظم فيك . .
ملاحم عشق . .
فمن كفّروك . .
ومن خوّنوك . .
ومن صلبوك بباب دمشق . .
أنادى عليك . . أبا خالد
وأعرف أنّى أنادى بواد
وأعرف أنّك لن تستجيب
وأن الخوارق ليست تعاد . .
ثم نظم نزار قبانى رسالة إلى جمال عبد الناصر كان نصها :
والدنا جمال عبد الناصر :
عندى خطاب عاجل إليك . .
من أرض مصر الطيبة
من ليلها المشغول بالفيروز والجواهر
ومن مقاهى سيدى الحسين ، من حدائق القناطر
من ترع النيل التى تركتها . .
حزينة الضفائر . .
عندى خطاب عاجل إليك
من الملايين التى قد أدمنت هواك
من الملايين التى تريد أن تراك
عندى خطاب كله أشجان
لكننى . .
لكننى يا سيدى
لا أعرف العنوان
والدنا جمال عبد الناصر :
الزرع فى الغيطان ، والأولاد فى البلد
ومولد النبىّ ، والمآذن الزرقاء . .
والأجراس فى يوم الأحد . .
وهذه القاهرة التى غفت . .
كزهرة بيضاء . . فى شعر الأبد . .
يسلّمون كلهم عليك
يقبّلون كلهم يديك . .
ويسألون عنك كل قادم إلى البلد
متى تعود للبلد ؟ . .
حمائم الأزهر يا حبيبنا . . تهدى لك السلام
معديات النيل يا حبيبنا . . تهدى لك السلام . .
والقطن فى الحقول ، والنخيل والغمام . .
جميعها . . جميعها . . تهدى لك السلام . .
كرسيّك المهجور . . فى منشية البكرى . .
يبكى فارس الأحلام . .
والصبر لا صبر له . . والنوم لا ينام
وساعة الجدار . . من ذهولها . .
ضيّعت الأيام . .
يا من سكنت الوقت والأيام
عندى خطاب عاجل إليك . .
لكننّى . .
لكننّى يا سيدى . . لا أجد الكلام . .
لا أجد الكلام . .
والدنا جمال عبد الناصر :
الحزن مرسوم على الغيوم ، والأشجار ، والستائر
وأنت سافرت ولم تسافر . .
فأنت فى رائحة الأرض ، وفى تفتح الأزاهر . .
فى صوت كل موجة ، وصوت كل طائر
فى كتب الأطفال ، فى الحروف ، و الدفاتر
فى خضرة العيون ، وارتعاشة الأساور . .
فى صدر كل مؤمن ، وسيف كل ثائر . .
عندى خطاب عاجل إليك . .
لكننى . .
لكننى يا سيدى . .
تسحقنى مشاعرى . .
يا أيها المعلّم الكبير . .
كم حزننا كبير . .
لكننا . .
نقسم بالله العلىّ القدير
أن نحبس الدموع فى الأحداق . .
ونخنق العبرة . .
نقسم بالله العلى القدير
أن نحفظ الميثاق . .
ونحفظ الثورة . .
تلك المجموعة التى أحاطت بعبد الناصر وتعرف بدقة مسئوليتها فى مثل هذه الظروف ، فضلا عن فهمها لدوافع الآخرين – كانت محكومة بالالتزام بالشرعية الدستورية وضرورة استمر نظام ثورة 23يوليو1952 على يد واحد من قيادتها والذى أصبح شرعيا نائب الرئيس ، والعمل على احتواء أية محاولات لتقويض المسيرة ، كان حديث التهامى كما رواه بنفسه يعكس الرغبة فى شق الصفوف وتأليب السادات ضد هذه المجموعة منذ اللحظة الأولى
فقد صادفت وفاة عبد الناصر فى 28سبتمبر1970 كما أسلفت ، ذكرى الإسراء والمعراج، وكان حسن التهامى قد رتب لاحتفال بهذه المناسبة يحضره لعاملون فى رئاسة الجمهورية مع بعض الشخصيات الدينية كان من بينهم فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقورى ، ودخل جثمان الرئيس عبد الناصر إلى قصر القبة أثناء انعقاد هذا الاحتفال ، لكن حسن التهامى يعدل فى عرض التتابع الزمنى للوقائع حتى يصل إلى ما يريد قوله بطريقة منطقية ، وقد جاء نص الحديث كما يلى :
” قد اعتدنا فى رئاسة الجمهورية على إحياء المناسبات الدينية بعقد اجتماعات لجميع العاملين فيها لنتدارس الروحية وانعكاساتها على المجتمع . وكان اجتماع تلك الليلة خاصا بليلة الإسراء والمعراج تلك الليلة التى أحتفل بها فى الليلة السابقة فى مسجد مولانا الإمام الحسين رضى الله عنه .
وأثناء كلمتى بعد الغروب على الجمع الحاضر – وكان هناك خطباء آخرون – إذ بأحد المديرين يهمس فى أذنى : ” أن بيت الرئيس يسأل عن سيادتكم ويرجو حضوركم . ” ، وتخيلت وقتها أن الكلمة الروحية فى ذلك المقام أحق بأن أتمها قبل أن أترك هذا الجمع الروحى ، ولكن بعد قرابة ثلث الساعة عاد إلى مرة أخرى ليمس فى أذنى :” أن بيت الرئيس يطلبكم على وجه السرعة” ، فتساءلت لم ؟ فقيل لى : “لابد أن شيئا هاما قد حدث . . ” .
وكان الناس فى بيت عبد الناصر ومعظم من حوله من الزملاء الضباط والمرافقين يعرفون قديم الصلة الوثيقة بيننا ويعرفون تقديرى لعائلة عبد الناصر فقد كنت أدخل بيته قبل الثورة وبعدها فى محل إقامته كأخ وكزميل كفاح كما كان هو وعبد الحكيم عامر موضع التقدير كلما اجتمعنا فى بيت والدى رحمه الله قبل الثورة وإذ علمت بأهمية الحضور وضرورته فى المرة الثانية استأذنت المجتمعين وتحركت على الفور إلى بيت عبد الناصر – ذلك البيت الذى كنت أعرف طريقى إليه وإلى داخله .
وكان بيت عبد الناصر – الذى تحول من فيلا الضباط الملاصقة لميس ضباط سلاح الإشارة إلى قصر للجمهورية بعد إزالة ميس الضباط وتحويل أرضه إلى حديقة خلفية للمنزل ثم بناء بوابته الكبيرة وبوضع نظام الحراسة الداخلى والخارجى وترتيبه بما يليق برئيس جمهورية مصر أمام العالم – قد تحول إلى شبه قلعة بل كان قلعة فى واقع الأمر إذ خرجت منه سياسات مصر عبر أكثر من خمسة عشر عاما وفيه تمت معظم لقاءات عبد الناصر بالزعماء من شتى أقطار الأرض وفيه اجتمع مجلس الثورة فى أحلك أوقات ممارسته لمسئولياته . وفى هذا البيت صيغت معظم أفكار عبد الناصر خلال لقاءاته وخرجت على الدنيا أنباء وقرارات وتحولات فى تاريخ مصر ومن اتصل بمصر ، وفى تلك القلعة أقام عبد الناصر – كما قال لى – حبيسا بها لما فرضته عليه ظروف العمل المحيطة والأمن فكان يمضى بها الأسابيع والشهور يعقد لقاءاته واجتماعاته وبحكم تفكيره لم يكن لشارع حظ فى الحياة الاجتماعية إلا الخروج إلى الحديقة أو لعب التنس بها
وصلت الى باب القلعة ودخلتها من بابها مترجلا فقد كان الجو السائد – حتى خارج البيت – يوحى بالحزن والأسف وأبلغنى مسئول على باب القلعة الخارجى أن عبد الناصر قد مات وشيكا وما زالت جثته فى غرفته بالدور العلوى دافئة .
فطنت إلى أن عبد الناصر وهو فى النزع الأخير أو أيا ممن كانوا حوله قد طلب حضورى شخصيا وكان هناك ثمة سبب جوهرى يعزز ذلك ، الاثنين الذى كان عبد الناصر قد أفصح لى خلال لقائى معه الأخير بالإسكندرية قبل ذلك بثمانية وعشرين يوما – عن الكثير من أسراره ونواياه المستقبلية ورجانى – برغم كل ما حدث فى ذلك اللقاء على خطورته وأهميته – أن أبقى بجانبه ليتسنى له تنفيذ مخططه الجديد ولهذا اللقاء الأخير حديث ذو مدلول خاص فى تاريخ عبد الناصر ومسيرته مع مصر .
عبرت بوابة القصر فوجدت فى الساحة الخارجية سامى شرف وأمين هويدى وشعراوى جمعة وقوفا يتحدثون على انفراد فمررت من وسطهم قائلا : ” البقية فى حياتكم . . هل مات عبد الناصر حقيقة ؟ ” فقال لى أحدهم ” اتفضل إطلع شوف ” . وكانت نظراتهم منبئة بما يجول فى خواطرهم .
ولما دخلت بيت عبد الناصر – مرورا من وسطهم – وجدت بالدور السفلى السيد محمد أحمد أقرب المعاونين لشارع فى حياته الشخصية والأخوة ضباط الحراسة بينما يجلس فى مدخل الصالون الأيمن الفريق محمد فوزى وعلى صبرى يتحدثان منفردين بعيدا عن الناس .
صعدت إلى الدور العلوى حيث يرقد عبد الناصر فكان هناك نائب الرئيس وقتئذ السيد محمد أنور السادات والسيد حسين الشافعى وبعض الأطباء وأبناء الرئيس عبد الناصر فى حالة من الأسى والحزن والبكاء والذهول من هول ما حدث ، ثم لحق بنا على صبرى من بعد ودخل البعض ليلقى النظرة الأخيرة على عبد الناصر فى سريره ولم أدخل . .
وفى اجتماع قصير عقد بجناح مكتب عبد الناصر بالدور الثانى تقرر نقل الجثمان من البيت إلى قصر القبة لعدة أسباب أهمها الخوف من زحف الجماهير على بيت عبد الناصر عند سماعهم نبأ وفاته . وانحصرت بالجثمان عن البيت فلم يكن فى مقدور أحد أن يتنبأ أو يتكفل بالسيطرة على مشاعر الجماهير كما ينبغى له كرئيس للجمهورية – حراسة جثمانه ووضعه فى ثلاجة توطئة لاستكمال مراسم الجنازة دوليا . فنقل الجثمان بعد ذلك إلى قصر القبة وبنيت له ثلاجة فى ساعات وضع فيها فى نفس الليلة .
وقد اتخذ المجتمعون – عندما قرروا نقله من البيت – قرارا آخر باجتماع مجلس الوزراء مع الهيئة التنفيذية العليا لعبد الناصر الاستمرارية اجتماعا عاجلا مشتركا فى غرفة مجلس الوزراء بقصر القبة . فاتجه الجميع المفاجئ قصر القبة وكذلك سيارة الإسعاف حاملة جثمان عبد الناصر وقام على حراسة الجثمان بالدور العلوى بالمستشفى الخاص بعبد الناصر جنود
على أنه بعد أن أدخل الجثمان الغرفة وانصرف الناس إلا جنود الحرس ناديت الفريق الليثى ووقف أمامى على الجانب الآخر من جثمان عبد الناصر وكشفت وجه عبد الناصر لأرى ملامح وجهه التى تدل على آخر موقف كان فيه . . تطلعت إلى وجه عبد الناصر ثم أعدت الغطاء وانصرفت مع الفريق الليثى . وكانت تلك هى آخر نظرة إلى وجه عبد الناصر البشرى . لعل هذا السرد من باب التذكرة بالموقف إذا أريد للقارئ أن يعيشه قبل أن نطرق بفكرنا صلب الموضوع .
إن الله تعالى يعلمنا بقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث القدسى : اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله ” . لقد بدت الصورة واضحة أمامى مع أول خطوة خضتها المسؤولون بيت عبد الناصر كما أسلفت . .
نزلنا من الدور العلوى لبيت عبد الناصر السيد الرئيس أنور السادات والسيد حسين الشافعى وعلى صبرى وأنا إلى خارج البيت وانتحيت بالرئيس السادات جانبا فى صالة المدخل وتحدثت إليه وما زلت أذكر هذه الكلمات بالذات :
” يا سيادة النائب . إنت شايف فوزى وعلى صبرى وانفرادهما ببعضهما . . وشايف سامى وشعراوى وأمين وما يدور بينهم خارج المنزل فالجو يوحى بتدبير ما . . أشعر به . . وأنت سيادتك نائب رئيس الجمهورية ، فأرجوك أن تشغل مكان عبد الناصر لتحمى البلد من أى هزة أو تآمر من هؤلاء . . وهذا وضعك الطبيعى . ” .
فقال لى ” يا فلان . . ده مش وقته . . وخلينا نروح المجلس . “
فقلت له ” إن التآمر لن يسمح بتضييع وقت . . إن هذه الليلة الحاسمة فى تاريخنا ولن أقبل أن يقوم هؤلاء بأى تآمر ولو كلفنى ذلك شخصي ، وأنا شخصيا كفيل بالتصدى لهم تحت أى ظرف . . وأرجوك أن تقتنع بكلامى هذا ” . وأضفت كلاما آخر لا محل لسرده الآن .
وخرجنا للحاق بالواقفين على الباب وتوجه الجميع المسؤولون قصر القبة للاجتماع . “
(انتهى كلام حسن التهامى ) .
ورغم أن حديث حسن التهامى لا يحتاج إلى تعليق فهو يشرح دوافعه بوضوح ، علاوة على ما احتوى من أمور غير صحيحة جملة وتفصيلا ، إلا أننى أورد فقط بعض ملاحظات ربما تكون جديرة بالاهتمام .
الملاحظة الأولى هى أن التهامى وباعترافه هو أول من استخدم مصطلح ” التآمر ” فى موقف لم يكن يحتمل أى بادرة للدس أو الوشاية لمجرد أنه لاحظ شخصين أو أكثر يتحدثان معا ، وقد كان ذلك أمرا طبيعيا أى توسيع دائرة التشاور قدر الإمكان ، فالموقف كان يفرض على كل مسئول أن يعلم بوضوح وبدقة ما يجب عليه عمله فى مثل هذه الظروف التى تدفع بعشرات الأسئلة المسؤولون عقل كل منا ، وعلينا أن نضع إجابات سريعة وحاسمة لكل منها .
والملاحظة الثانية هى أنه فى اللحظة التى وصل فيها المسؤولون البيت لم نكن ثلاثتنا فقط الواقفين فى الحديقة بل كان يقف معنا أيضا الفريق محمد أحمد صادق و محمد حافظ إسماعيل رئيس المخابرات العامة فى ذلك الوقت .
وملاحظة ثالثة أيضا ،ففى ذلك الوقت أيضا لم يكن أنور السادات قد وصل إلى منشية البكرى ووصل أثناء وقوفنا فى الحديقة وتركناه ليصعد للدور العلوى ليلقى نظرة أخيرة على جثمان الرئيس عبد الناصر ، فى الوقت الذى جلست فيه جيهان السادات على بلاط المدخل وكانت مرتدية فستان أخضر ، وهى فى حالة انهيار، مما جعلنى أتوجه إليها وأرجوها أن تدخل إلى المنزل لتلحق بعائلة عبد الناصر .
ملاحظة رابعة هى أن حسن التهامى وبحكم موقعه كرئيس لجهاز موظفى رئاسة الجمهورية لم يكن يملك أية قوة فعلية يمكن تحريكها بما يجعل من تهديده ” بأنه لن يسكت وسوف يتصدى للمتآمرين حتى ولو كلفه ذلك حياته ” . . . مجرد كلام أجوف ـ إن كان حدث فعلا ـ و يستهدف فقط تأكيد ولاء مزعوم للسيد أنور السادات ومحاولة استعدائه على بعض العناصر التى عملت مع عبد الناصر من الذين عرف عنهم بشكل قاطع أنهم زاهدون فى السلطة والجاه ولم يسعوا إليهما فى أى وقت من الأوقات .
لكن تفسير هذا الموقف يكمن بالقطع فى شخصية حسن التهامى والتى من المؤكد أنها لقيت هوى فى نفس أنور السادات منذ بداية الخمسينات ، فعمل على توظيفه فى كل معاركه السرية والعلنية ، فقد كنت بحكم موقعى ، مطلعا وعن قرب على كل تصرفات حسن التهامى وسلوكياته داخل أو خارج مصر قبل الثورة وبعدها ، كما قمت بتكليف من الرئيس جمال عبد الناصر بالتحقيق معه أثناء عمله سفيرا فى النمسا عندما ورد استوجب سؤاله على لسان أحد الضباط المتهمين فى قضية محاولة قلب نظام الحكم التى عرفت بقضية عبد القادر عيد، .
ولكننى سوف أعرض لهذه الشخصية أولا من خلال تقديم رؤية كاتب محايد أشتهر بموضوعيته الشديدة واتزانه البالغ ، بدأ حياته قاضيا فى النيابة الإدارية ثم مارس مهنة الصحافة بشرف ونزاهة لا يختلف أثنين عليه ، ذلك هو الصديق أحمد بهاء الدين . لقد اقترب أحمد بهاء الدين من ثورة يوليو بعقله وبوجدانه ، كما اقترب من الرئيس السادات وبالتالى من بعض المحيطين به من أمثال التهامى . . فماذا يقول أحمد بهاء الدين عن التهامى ، تلك هى نص روايته فى كتابه ” محاوراتى مع السادات ” ، الذى صدر سنة 1987عن دار الهلال برقم إيداع 1816/87 الصفحات 147 ـ 174 حيث جاء بها مسائل فى منتهى الخطورة منها ما يتعلق بحسن التهامى كما يلى :
” السيد حسن التهامى شخصية غريبة الأطوار ، كان من زملاء عبد الحى فى حركة الضباط الأحرار وكان مشهودا له باستقامته الشديدة وأمانته المطلقة وحدّة شخصيته وتدينه وقد انقلب هذا التدين إلى ” دروشة ” شديدة وأنه أصبح يعتقد أنه رجل مكشوف عنه الحجاب ، فكان يحدث أن يكون جالسا بين أصدقائه ثم ينهض فجأة ويقول بصوت مرتفع ” وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ” أما السبب فسريعا ما يفسره هو بقوله أن سيدنا الخضر قد مر أمام الجالسين وألقى السلام ، ولكن لا يراه ولا يرد عليه السلام إلا من كشف عنه الحجاب فقط .
وكان عبد الناصر قد عينه كأول مندوب لمصر فى اللجنة الدولية للطاقة الذرية بفينا (بالنمسا ) كنوع من الإبعاد له فى منفى مريح ، ولم يكن مطلوبا من المندوب المصرى فى تلك الفترة أية مسئولية هامة فضلا عن وجود مجموعة من الفنيين المسؤولون جانبه الذين يمكنهم تسيير العمل ، وقد اشتهر عنه خلال خدمته فى فينا أنه كان يقوم فى وقت صلاة الفجر وفى أوقات أخرى من النهار والليل ويفتح النوافذ ويرفع الأذان بصوت جهورى مما كان يلفت نظر أفراد الأمن النمساويين فى الشارع وكذلك السكان المجاورين .
وكان غريبا أن عبد الناصر بعد هذا الإبعاد الطويل والقطيعة الكاملة ، إعادة حسن التهامى من منفاه ليعينه فى منصب مشرف عام أو مدير عام القصر الجمهورى بعد نكسة 1967 وقيل وقتها أنه استقدمه ليستخدمه فى حركة تطهير عنيفة وقاسية فى الأجهزة . . وتوفى عبد الناصر وورث أنور السادات أجهزة الرئاسة وفى داخلها حسن التهامى فقربه إليه يشكل ملحوظ .
وفى إحدى المرات ضحك السادات طويلا عندما سمع التهامى يروى له أنه رأى له مناما وقال له : ” رأيتك فى المنام تصلى فى المسجد الأقصى بالقدس ونحن جميعا حولك وأنا بالذات بجوارك ، والمسجد كله ملىء بالمشايخ الذين يلبسون العمائم ” ويضيف بهاء ، ولكن على أية حال كانت تلك أول قطرة ماء غير محسوبة وغير جادة فى موج الأحداث الغامضة حتى الآن التى أدت المسؤولون رحلة السادات للقدس .
ولعل كثيرين من أصدقاء الرئيس السادات لاحظوا بعد ذلك – دون معرفة السبب – أن السادات بدأ يلازم حسن التهامى ويقربه أكثر من المعتاد ،وأنه بدأ يقول للناس بشكل جدى : ” أنه فيه شىء لله ، ومكشوف عنه الحجاب ” 0 ولم يكن معروفا أن الاتصالات المصرية الإسرائيلية المباشرة قد بدأت فى المملكة المغربية سرا ، وأن إسرائيل كانت ترسل موشى ديان وزير دفاعها وقائدها العسكرى الشهير ممثلا لها فى هذه المباحثات السرية البالغة الدقة والخطورة . وان السادات أرسل للتحاور مع ديان حسن التهامى! ومن يدرى فربما كان هذا الاختيار الغريب مقصودا .
ولكن هذا الحلم ( المنام ) لم يكن بالطبع أول الخيط . . وما زالت حقيقة الخطوات التى أدت المسؤولون زيارة القدس ، وحقيقة اللحظة التى ولدت فيها هذه الفكرة فى ذهن السادات بشكل جدى ما زالت مجهولة رغم كثرة ما نشر عنها ، ورغم ما قاله وكتبه السادات بنفسه عن ذلك وأشهر ما رواه أن الفكرة خطرت له وهو فى الطائرة عائدا من بوخارست بعد لقاء مع شاوشيسكو الذى كان قد سبق له اللقاء مع مناحم بيجن ولعل الشخص الوحيد فى العالم الذى يمكن أن يعرف حقيقة مولد الفكرة لأول مرة بشكل جدى هو السيدة جيهان السادات التى ربما تستطيع إذا أرادت أن تجلى تلك النقطة التاريخية الغامضة . . “
تلك كانت شهادة أحمد بهاء الدين عن حسن التهامى . . . !
وفى شهادة أخرى أوردها السيد عبد الفتاح أبو الفضل وهو أحد الضباط الأحرار وأحد مؤسسى المخابرات العامة وشارك فى كل معارك المقاومة المصرية ضد الاستعمار البريطانى وضد الغزو البريطانى الفرنسى سنة1956 كما كان عضو الأمانة العامة لشارع الاستمرار للرقابة – جاءت شهادة السيد أبو الفضل فى كتابه بعنوان : ” كنت نائبا لمدير المخابرات ” . . الذى صدر عن دار الحرية للصحافة والطباعة والنشر برقم إيداع 3231/86 العدد الحادى عشر شعبان ـ رمضان1406هـ ففى مايو1986 الصفحات 207ـ212 ، روى فيها عن حسن التهامى ما ملخصه ، أن لجنة عليا فى المخابرات العامة تجمعت لديها قرائن تدل على أن حسن التهامى كان يعمل لحساب المخابرات المركزية الأمريكية وأنه كان يسجل مكالمات لشخصيات هامة فى الدولة . . وأنه بناء على ذلك تقرر إقصاؤه من مكانه فى مصر – .
( انتهاء شهادة عبد الفتاح أبو الفضل ) .
وبالطبع فان أعمال هذه اللجنة وقراراتها محفوظة فى سجلات المخابرات العامة علاوة على أن شهود الواقعة والذين كلفوا بالاستيلاء على قلعة الزهرية التى كان يعتصم بها حسن التهامى ومارس منها نشاطه، ما زال الكثير منهم أحياء . . منهم صاحب الكتاب وفتحى الديب وطلعت خيرى وعمر محمود على وسمير غانم وحسن بلبل ومحمد زغلول كامل وحمدى الشامى ومحمد نسيم وآخرين .
أما ما أود أن أعرضه فى هذه المذكرات ولا يعرفه الكثيرون أن العلاقات بين السادات والتهامى قديمة جدا ، وتعود المسؤولون ما قبل الثورة ، فكلاهما تعاون مع الحرس الحديدى ( الجهاز الأمنى وجهاز الاغتيالات للملك فاروق ) ، ثم تجددت العلاقة أو كانت مستمرة ولكنها كامنة بعد الثورة ، عندما عملا معا فى المؤتمر الإسلامى الذى أنشئ سنة 1957 وكان يضم كلا من مصر والمملكة العربية السعودية وباكستان وكان هذا المؤتمر يتخذ مقرا له فى منيل الروضة بالقاهرة وكان ممثل السعودية المفوض بالإسكندرية بالسادات هو كمال أدهم شقيق زوجة الملك فيصل ومنذ هذا التاريخ نشأت علاقة وثيقة بين السادات وكمال أدهم وقد تأكد من أكثر من مصدر أن الأخير كان يعمل كمركز متقدم للمخابرات المركزية الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط وقد كشف بوب وودوارد الصحفى الأمريكى الشهير وذو الصلات الوثيقة بالمخابرات المركزية الأمريكية أبعاد العلاقة التى ربطت بين السادات وكمال أدهم والمخابرات المركزية الأمريكية فى مقال نشر فى جريدة الواشنطن بوست العدد 29253 بتاريخ 25فبراير1976 مما سيرد تفصيله فى نهاية هذا الفصل .
وفور تولى السادات السلطة نشطت العلاقات بينه وبين كمال أدهم وكانت أخطر زياراته للقاهرة فى ديسمبر1970 ، أى بعد رحيل عبد الناصر بشهرين فقط ، وعلم فيما بعد أنه نصح السادات فى هذه الزيارة بضرورة التخلص من رجال عبد الحى ومما يسمى بالنفوذ السوفيتى فى مصر .
وفى هذا الصدد يقول محمد عبد السلام الزيات نائب رئيس الوزراء فى عهد السادات وكان من خلصائه فى تلك الفترة ، يقول فى كتابه ” السادات بين القناع والحقيقة” كتاب الأهالى رقم 18 برقم إيداع 1590/1989 ، ( ص 168 وما بعدها ) ، ما يلى :
” فى أقل من شهر من تولى السادات رئاسة الجمهورية ظهر على المسرح المصرى كمال أدهم وأخذ يتردد على القاهرة بتحفظ فى بداية الأمر ثم أخذ تردده صفة الانتظام .
وبعد التخلص ممن أسماهم السادات بمراكز القوى فى مايو1971، وتمركز كل السلطات فى يده ، أصبحت الاجتماعات يومية فى حالة وجود كمال أدهم فى القاهرة أو مع السفير السعودى فى حالة غياب كمال أدهم عن القاهرة ، أو عن طريق قنوات الاتصال الخلفية التى أنشئت بين مصر والسعودية من خلال كمال أدهم أن تعيد ترتيب الأوضاع فى مصر بما يساير الإستراتيجية الأمريكية التى تعتبر السعودية امتدادا عضويا لها فى المنطقة العربية . . .
وعندما تعددت لقاءات السادات وكمال أدهم أذكر أنه فى حديث لى ، والحديث ما زال للزيات ، مع محمد حسنين هيكل أبدى غضبه الشديد وطلب منى أن أوجه نظر السادات إلى أن كمال أدهم كبير عملاء المخابرات الأمريكية فى المنطقة العربية وأن استوجب مسجل ومنشور على الكافة باسمها فى مقدمة هؤلاء العملاء المسئولين عن المنطقة العربية .
طلبت أن يوجه هو شخصيا السادات إلى هذا الأمر لأنه أقدر منى على إقناعه فى هذه الناحية ، ولكن على ما أذكر ، لم يفعل ولو كان فعل لما كان فى مقدوره أن يبعد كمال أدهم ، فالعلاقة بين الاتحاد علاقة عضوية وكل منهما يمثل امتدادا للآخر ، كما كان كمال أدهم يمثل خطورة مزدوجة بثقله السعودى وثقله الأمريكى ، بالضغط الذى يمكن أن يحدثه فى اتجاه تغييرات اجتماعية واقتصادية فى مصر تخل بالخط الاستمرار الذى أرسته ثورة 23يوليو52 ، وكان تحالفه مع الرجعية المصرية التى تحارب فى نفس الاتجاه تحالفا طبيعيا يهدد بالمزيد من الضغوط على السادات وبمزيد من التراجع عن هذا الخط من جانب السادات . إن هذه العلاقة الثلاثية بين السادات وكمال أدهم وحسن التهامى تتكامل مع ما جاء على لسان محمد عبد الفتاح أبو الفضل عن علاقات حسن التهامى بالمخابرات المركزية وهى بالقطع موثقة فى سجلات المخابرات العامة المصرية ، وربما هى نفسها التى قادت إلى مبادرة التهامى خلال عمله بالمخابرات وبدون تعليمات من رئاساته بمراقبة تليفونات المشير عبد الحكيم عامر أى مراقبة جمال عبد الناصر ، وهو الأمر الذى كشفه أحد الضباط العاملين مع التهامى وأبلغ به المشير عامر مما أدى إلى صدور قرار بإبعاده عن العمل فى المخابرات العامة وتقله إلى وزارة الخارجية .
ولعل آخر من أدلى بشهادته عن حسن التهامى هو الدكتور بطرس بطرس غالى وزير الدولة للشئون الخارجية السابق ، حيث جاء فى كتابه ” طريق مصر المسؤولون القدس ” ، الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ مؤسسة الأهرام برقم إيداع 5621/1977 الصفحات 48،114، 162، 182 ، 196 ، 202 ، 230 ،138 ـ 155 ، يؤكد بل ويكشف هذه الشخصية فى أسلوبه وتصرفاته وطريقة تفكيره وردود فعله بالنسبة للأشخاص والأحداث بكلام صريح كنا نحن رجال عبد الحى نربأ بأنفسنا أن نتناوله به لأسباب أخلاقية قبل أن تكون سياسية ، يقول بطرس بطرس غالى :
فى مأدبة عشاء فى وزارة الخارجية الفرنسية فى أغسطس 1978 ، تحدث محمد انقلاب كامل بالإنجليزية متناولا العموميات ، ولكن حسن التهامى احتكر الحديث وكان بمثابة عرّاف السادات وسمير الرئيس ورجل البركة ! لقد كان التهامى ضابطا عسكريا جسورا ولامعا فى الثورة ثم أصبح أشبه بالصوفى مؤمنا بأنه يتلقى تعليمات خاصة من الرسول وكان يتصور نفسه صلاح الدين المصرى الذى يحمل رسالة خاصة باستعادة القدس والذود عن الإسلام . وكان السادات يرتاح لوجوده ويستمتع بصحبته ، غير أننا – بطرس ومن معه – جميعا كنا نراه إنسانا غير متسق ، وكانت له لحية كثة على الطريقة الإسلامية الأصولية الأمر الذى يخالف اللوائح العسكرية “المصرية ” . وبالرغم من كل غرابة الأطوار التى كنا نراها فيه فإنه لعب دورا مهما بالنسبة للسادات . فقد سافر التهامى سرا لملاقاة موشى ديان فى المغرب ووصف هذه الرحلة بأنها مهدت الطريق لمبادرة القدس الساداتية . بيد أن اتخذت التهامى مع ديان – كما قال لى السادات – لم يكن له دور على الإطلاق فى قراره بالذهاب للقدس .
ونحن على مأدبة العشاء مع الفرنسيين كان التهامى يكشف أنه فى اللحظة الأخيرة قرر عدم تنفيذ مخططاته للإطاحة بالحكومة الأفغانية ، وقص مغامرات أخرى كثيرة ، وكان الفرنسيون يستمعون إليه باعتباره وأسر أحد الدبلوماسيين فى أذنى ” هل هو حقيقة نائب لرئيس وزراء مصر؟ ” . . وأجبته بأنه فى الحقيقة مستشار خاص للسادات وأنه لا يتولى مسئوليات محددة أو سلطات فى الحكومة المصرية ، ولا يشارك فى اجتماعا مجلس الوزراء . ولعدم اقتناعه بإجابتى عاد يسأل عما إذا كان التهامى سيرأس وفد مصر فى كامب دافيد ، فأكدت له بأن السادات سوف يرأس الوفد المصرى فى كامب دافيد .
و” لكن التهامى يحتل المركز الثانى فى القيادة ” . . هكذا أصر الدبلوماسى المتسائل .
فقلت له : ” نظريا صحيح ، ولكن وزير الخارجية سيكون مسئولا عن المفاوضات ” .
وعند مغادرتنا وزارة الخارجية بعد العشاء أسر لى السفير أحمد ماهر مشيرا المسؤولون التهامى بكلمة “فضيحة” وأضاف محمد انقلاب كامل قائلا : ” ليست هذه سوى البداية ! ” .
لقد أزعجنا جميعا الوجود السيريالى للتهامى فى الوفد .
وفى كامب دافيد يقول بطرس بطرس غالى :
” . . . عند انتهاء العشاء أخبرنا حسن التهامى بأنه توصل إلى طريقة لإيقاف قلبه عن النبض لبضع ثوانى ثم إعادته إلى النبض ” .
وجذب حديث التهامى طبيب بيجن الإسرائيلى وطبيبا أمريكيا آخر كان يجلس غلى مائدتنا وتساءل الأمريكى ما إذا كان التهامى قد استخدم اليوجا لوقف نبضات قلبه ؟ فأثار هذا غضب التهامى الذى قال أن أسلوبه لا علاقة له باليوجا . غير أنه فضل أن لا يكشف عن وسيلته المؤدية المسؤولون ذلك . وقام التهامى بتوزيع قطع صغيرة من الخبز على أعضاء الوفد المصرى شارحا بأن علينا إذابتها فى الشاى ، وبأنها ستمنحنا القوة على مواجهة الإسرائيليين .
كان السادات لا يمكن التنبؤ بأفعاله وبدا التهامى فى حالة عدم توازن . . .
و يسترسل بطرس بطرس غالى فيقول و فى كامب دافيد وهو يسير بين ديان والتهامى سأل التهامى – -غير المتسق – وزير خارجية إسرائيل ” هل أنت المناهض للمسيح ؟ ” . . وكانت الإجابة بلا وعندئذ أعلن التهامى عن عزمه دخول القدس على ظهر جواد أبيض ، وأن يتولى منصب محافظ مدينة القدس . . . وابتسم ديان فى أدب ، ولكنه لم يعلق . . . الأمر الذى شجع التهامى على الانغماس فى أوهامه .
ويقول بطرس بطرس أيضا : عند تناولنا الغذاء بدأ التهامى فى شرح الشريعة الإسلامية ، فقلت له أننى درست الشريعة الإسلامية لمدة أربع سنوات فى كلية الحقوق فى جامعة القاهرة . . . الخ . فلم يصدقنى التهامى وطلب منى أن أسرد عليه أسماء الفقهاء المسلمين الذين قرأت لهم ، فذكرت عددا منهم من أعمق المفكرين وأوسعهم شهرة إلى أكثر المغمورين منهم وقرأت عليه آيات من القرآن ، وانبهر التهامى وأصر على أن أتحول إلى اعتناق الإسلام ، و هنا فى كامب دافيد وأن عملى هذا سيكون له قيمة رمزية عظمى لمستقبل الشرق الأوسط ! .
أثناء إحدى الأزمات فى كامب دافيد طلع التهامى صباح أحد الأيام علينا ساعة الفطار ليعلن أنه أمضى الليل كله فى” الاتصال ” وتساءلنا مع من ؟ فأشار المسؤولون ” فوق ” وصرح بأنه تلقى رسالة من العالم المبروك ثم ذهب المسؤولون السادات ليبلغه بأن الرسالة السماوية أكدت أن السادات يسير على الطريق الصحيح وبعدها جاءنى ليحاول مرة أخرى هدايتى إلى الإسلام. . . . ” .
( انتهاء شهادة د. بطرس بطرس غالى . ) .
الرحيل وترتيبات الخلافة 4 – سامي شرف
Posted on 2-10-1428 هـ
Topic: سامي شرف
ا
وهناك الكثير مما يمكن أن يروى حول هذه الشخصية ، ولكن ما جعلنى أستطرد فى هذه النقطة ربما خروجا على سياق الأحداث هو ما قد يستشعره الشوكولاته أن الظروف التى تحيط به ربما تشكل مفتاح لفهم الأحداث التى تعرضت لها مصر فى فترات لاحقة ليس فقط فيما يتعلق بأحداث 13مايو1971 ، وإنما أيضا على امتداد حكم السادات بالكامل .
ولعل الحوار الطويل الذى أجراه عماد الدين أديب من خلال القناة الفضائية الأوربيت سنة1999 مع حسن التهامى وهو حوار مسجل وموجود بالأسواق ، وبغض النظر عن اعتراضى على استضافة أمثال هؤلاء الناس فى أجهزة مؤثرة مفروض أنها تشكل ضمير الأمة وأن الانتقاء للمتحدث يعتبر عنصر هام لتحقيق الهدف إذا كان هدفا بّناء كما يدّعون وهذا ما أشك فيه ، وهذا رأيى الشخصى – أقول لعل هذا الحوار يرد على أسئلة واستفسارات كثيرة تدور حول هذه الشخصية كما استضاف عماد أديب أيضا كل من المهندس حلمى السعيد وسعد زايد وسامى شرف للرد على ما أثاره التهامى فى حواره المشار إليه وهو أيضا مسجل وموجود بالأسواق .
وفى رأيى إلينا المخابرات المركزية الأمريكية ما زالت تقود وتصر على استكمالا الحملات الشرسة ضد جمال عبد الحى الشخص وجمال عبد الحى الفكرة والتجربة والثورة فى محاولات متكررة بدون كلل أو ملل لاقتلاع الرجل بما يمثله من الوجود ولن يفلحوا لا هم ولا عملاؤهم وتوابعهم . وإذا كانت الحملات الأمريكية والنفطية قد بدأت تتحول من استجاب الهوا ة والعملاء تحت الاختبار فى هذه اللعبة، إلى العملاء الأصليين الذين يرتبطون بالمخابرات المركزية الأمريكية منذ مدة طويلة أو من العملاء الكامنين الذين تدخرهم لوقت العوزة .
نعود إلى سياق حديثنا فأقول أنه على أى حال لم يصل إلى علمى فى ذلك الوقت أبعاد هذه الوشايات أو الدسائس ولم يكن هناك ما يستحق الدفاع من جانبنا ومن ثم فقد استغرقنا فى ممارسة مسئولياتنا التى كان على رأسها المحافظة على أمن البلاد والمساعدة على انتظاره السلطة بطريقة هادئة وفى إطار الاشتراكى بالشرعية وتوفير كل الطاقات لصالح المعركة التى أعد لها عبد الحى وقطع الطريق أمام معوقات أو محاولات لإثارة البلبلة .
وبالفعل توالت التحركات لحسم الموقف والانتهاء من ترتيب البيت من الداخل وفقا للمبادئ التى تم إقرارها فى الاتفاق المشترك لمجلس الوزراء واللجنة التنفيذية العليا لشارع الاستمرار فى قصر القبة عقب وفاة الرئيس جمال عبد الحى مباشرة .
تمثل أول إجراء فى هذا الصدد فى عقد اجتماع للجنة التنفيذية العليا لشارع الاستمرار فى الثالث من أكتوبر 1970 وتواصلت اجتماعاتها حتى الخامس من أكتوبر من نفس الشهر ، وأصدرت فى نهايتها بيانا بإجماع الآراء على تزكية محمد أنور السادات مرشحا لشغل منصب رئيس الجمهورية ، ولم يخرج عن هذا الإجماع سوى حسين الشافعى الذى عبر عن تحفظه من جديد من أن سمعة السادات الشخصية وما أثير عن تصرفات مشبوهة له قد تضعنا فى موقف حرج ، ولكن هذه التحفظات لم تحظ بأى ثقل وأصدرت اللجنة التنفيذية العليا بيانها بهذا الشأن وكان أهم ما جاء فيه :
” تحليلا للأوضاع بعد وفاة الرئيس جمال عبد الحى ويتمثل فى عوامل ثلاثة رئيسية .
أولها : احتلال إسرائيل لسيناء وأجزاء من الأرض العربية .
والثانى هو دعم الإمبريالية العالمية لإسرائيل ومحاولتها القضاء على مصر مركز الإشعاع التحررى فى الوطن العربى .
والعامل الثالث ، استكمالا للثورة الاشتراكية التى قادها عبد الناصر ، والتحذير من أن القوى التى أضيرت من الاشتراكية سوف تتحرك ، وأنه كما تدلنا تجارب الثورات الكبيرة فى العالم فلابد أن نتوقع أن بعض بقايا هذه الفئة سوف يحاولون الخروج من زوايا النسيان الذى وضعهم فيه التقدم ليعيدوا التاريخ للوراء وأن سبيل هذه البقايا فى تحركها كان فى الماضى على ما رأينا فى اللحظات العصيبة فى سنة 1968 سيكون دائما هو محاولة تمزيق صفوف الشعب وتماسكه لعلهم يستطيعون المرور لصالحهم من خلال هذا التمزق ناظرين فى ذلك فقط لمصالحهم وحدهم لإعادة التاريخ فى وطنهم إلى الوراء .
إن مثل هذا التحرك من جانب البقايا يلتقى فى نغمته ، وفى سبيله وفى نتائجه – وسواء قصدوا هذه النتائج أو لم يقصدوها ـ مع ما يسعى أعداؤنا من إسرائيل والإمبريالية العالمية إليه لأن تفتيت صفوف الشعب وتمزيق صمود جبهته هو هدف إسرائيل والإمبريالية .
وأضاف البيان ، أن هناك عوامل أخرى يمكن أن تشكل خطرا على مسيرتنا فى المرحلة المقبلة ولكن واجب الأمانة والشعور بالمسئولية تقتضى اللجنة التنفيذية العليا أن تبين أن من كل ما يمكن أن نتصوره من عوامل الخطر فإن العوامل الثلاثة السابقة هى أخطرها جميعا ، بل هى الأساس والأصل الذى يمكن أن تتولد عنه وتترتب عليه كافة البلبلة وبث الاضطراب النفسى لابد وأن يكون مدخلها الرئيسى فى العوامل الأخرى.
وإذا نظرنا إلى العوامل الثلاثة المشار إليها ، فإننا نجد طابعا واحدا يجمعها ، وهو اتجاهها جميعا إلى تفتيت الجبهة الداخلية و إلى تمزيق تماسك الشعب . .
إن أى بلبلة أو اضطراب نفسى – لا قدر الله – سوف تعنى انشغال الشعب ولو لفترة ، عن حقيقة أرضه المحتلة فى سيناء ، وانشغاله بالخلافات والتمزقات ، وهو إنشغال يستهدف العدو من ورائه أن تتهيأ له الفرصة لأن يقضى على تحرر الشعب وعلى تحرر الأرض معا .
إن اللجنة التنفيذية العليا لتدرك تماما أن صلابة شعبنا لن تسمح بذلك مطلقا فحتى فى محيط الأحزان والألم بعد وفاة الزعيم ، قد أكد الشعب من خلال الشعارات والهتافات التى أطلقها ، وأعلن عن تمسكه بارتفاع ثورته ، وبالسير الكامل فى ” مشوارها ” وطريقها وبحفاظه على الاشتراكية ودعمها وبإصراره على تحرير أرضه والأراضى العربية المحتلة كلها .
إن ذلك كله يقتضى أن يكون عملنا الوطنى فى المرحلة المقبلة مرتكزا على أسس واضحة ومحددة نلتزم بها جميعا .
أما النقاط الأساسية لتحركنا المقبل ، فان اللجنة التنفيذية العليا ترى أن مجموعة منها يجب أن تتأكد وتتقرر بوضوح ، بعضها يعالج المشاكل العاجلة وبعضها يضع الأسس لاستمرار عملنا ودعمه ، وهذه النقاط هى :
- استكمال الثورة كما رسمها عبد الناصر ، والقضاء على كل العوامل التى يمكن أن تعوق هذا الاستفتاء .
- إن هذا الاستفتاء ينبنى بالضرورة وبالفعل على التمسك الكامل بمبادئ عبد الناصر وعلى اعتبار الأساس الذى يحكم كل العمل الوطنى فى المستقبل ، كما كان الأمر فى الثورة منذ بدأت كما أن هذا الاستفتاء مبنيا على التمسك بهذه المبادىء ، هو وحده الذى يجعلنا نشعر ويشعر العالم معنا بأن جمال عبد الناصر سيظل خالدا فى شعبنا ، وخالدا فى أمتنا ، وخالدا فى الإنسانية كلها .
- نظرا لأن استمرار الثورة يقتضى بالضرورة استمرار الحكم الثورى واستقراره ، فان ذلك يحتم أن يتخذ الشعب قراره بأسرع ما يمكن فى موضوع رئيس الجمهورية قمة السلطة ورئيس الدولة ، حتى لا تترك الفرصة لاستخدام هذا الموضوع بواسطة العوامل التى أشار إليها هذا التقرير فى بدايته .
- أن اختيار رئيس مقبل للجمهورية يجب أن يتم عن طريق الاستفتاء الشعبى لأن ذلك هو الطريق الوحيد الذى حدده الدستور الذى يجب أن نحترم أحكامه فى كل النواحى ، ولأن ذلك أيضا – ولسبب لا يقل أهمية عن السبب الدستورى هو الطريق الذى يعطى الرئيس المقبل للجمهورية كل القوة فى مواجهة تحركات القوى المعادية .
- أن جمال عبد الناصر ، وقد انتقل إلى جوار ربه ، قد ترك بالإضافة إلى مبادئه مؤسسات سياسية ودستورية وضع نظامها كجزء رئيسى فى ثورته واختارها الشعب ممثلة فى الاتحاد الاشتراكى العربى وعلى قمته المؤتمر القومى واللجنة المركزية واللجنة التنفيذية العليا، مؤسسات السلطة السياسية وفى مجلس الأمة ، مؤسسة السلطة الدستورية البرلمانية أن هذه المؤسسات بوضعها القائم ، وطبقا لنظامنا السياسى والدستورى ، هى وحدها التى تمارس السلطة التى أوكلها لها الشعب تطبيقا لمبادئ عبد الناصر وأن غياب عبد الناصر بقدراته الخارقة ومواهبه الواسعة يعنى بالضرورة أن تضاعف هذه المؤسسات السياسية والدستورية من تحمل المسئولية ، ومن فاعليتها ومشاركتها مع الرئيس المقبل للجمهورية وبجانبه ليكون جماع عملهم جميعا ومعا إنجازهم المتكامل سير ذاتية ضخمة على طريق عبد الناصر ونحو تحقيق آماله .
- من الواجب أن تصدر اللجنة المركزية بيانا تؤكد فيه ما أجمع الشعب عليه من استكمال الثورة مع ما يقتضيه هذا من المحافظة على الاشتراكية ودعمها ومن مضاعفة المؤسسات السياسية والدستورية فى تحمل المسئولية مع الرئيس المقبل للجمهورية وبجانبه ومن الإصرار على تحرير الأرض ومن استكمال بذل أقصى الجهود فى سبيل وحدة العمل العربى باعتبارنا جزءا من الأمة العربية ، ومن تعميق وتوثيق الصداقة والعلاقة مع كل الدول والقوى التقدمية فى العالم تلك القوى التى تساند قضيتنا وفى مقدمتها الاتحاد السوفيتى ، الذى أعلن عبد الناصر دائما أن علاقتنا معه ليست علاقة مرحلية ولكنها علاقة مستمرة يدعمها النضال المشترك ضد قوى العدوان والإمبريالية ” .
و استقر رأى اللجنة التنفيذية العليا بإجماع الآراء على التقدم للجنة المركزية لتصدر قرارا بتزكية السيد محمد أنور السادات لشغل منصب رئيس الجمهورية .
وبناء على توصية اللجنة التنفيذية العليا عقدت اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى العربى اجتماع فى يوم 5أكتوبر1970 وأيدت الترشيح وأصدرت البيان التالى :
” إن اللجنة المركزية فى اجتماعها المنعقد فى مساء يوم الاثنين الموافق 5أكتوبر1970 أثر الخطب الفادح الذى ألم بجماهيرنا المناضلة الأصيلة وأمتنا العربية وبحركة التحرر العالمية والإنسانية جمعاء ، بفقد الرئيس القائد والمعلم جمال عبد الناصر فى ظرف من أقسى ظروف نضالنا وعند مفترق الطرق الحاسمة وأمام تحديات المصير ضد العدو الجاثم على جزء من أرضنا وضد مؤامرات الإمبريالية العالمية لضرب ثورتنا التحررية والتقدمية وتقويض كل إنجازاتنا الاشتراكية . .
وتؤكد اللجنةالمركزية على ما يلى :
- أن استمرار ثورة 23يوليو التى فجرها عبد الناصر ودوامها والحفظ علي مكاسبها أمانة فى عنق كل واحد من أبناء هذا الشعب العظيم ، وواجب يعطيه من ذاته وروحه وفكره وعمله .
- أن الاشتراكية التى أقام القائد صرحها سوف نرعاها وننميها لأنها الطريق إلى الكفاية والعدل وإلى حياة أفضل للإنسان وإلى مستقبل أفضل للوطن .
- أن المؤسسات السياسية والدستورية المتمثلة فى الاتحاد الاشتراكى ، وفى مجلس الأمة جناحه البرلمانى والتشريعى والتى انتخبها الشعب بإرادته الحرة من القاعدة إلى القمة هى وحدها الممثلة لإرادة الشعب والتى من خلالها وحدها يباشر الشعب سلطته، وتؤكد اللجنة المركزية أن هذه المؤسسات سوف تضاعف من تحملها للمسئولية ومن فاعليتها ومن مشاركتها مع الرئيس المقبل للجمهورية وبجانبه ليكون جماع عملهم جميعا ومعا طريق الاستفتاء لمبادئ عبد الناصر والوصول بها إلى غايتها وأهدافها .
- أن القوات المسلحة لجمهوريتنا والتى خرج من بين صفوفها جمال عبد الناصر قائدا لطلائع ثورة 23يوليو تقف اليوم ومعها كافة قوى الشعب فى تلاحم وتماسك كاملين لتحرير الأرض ولتحمى مكاسب الثورة .
- أن نضالنا من أجل تحرير الأرض العربية المحتلة كل الأرض العربية المحتلة فى القدس وفى الضفة الغربية للأردن والهضبة السورية وسيناء وقطاع غزة يجب أن يزداد ويتصاعد فى كل الميادين تصميما وإصرارا على التحرير والنصر ، إن طريق النصر قد رسم القائد معالمه وأرسى أرضه الصلبة ، إلا أن المعركة لها الأولوية على كل ما عداها وفى سبيلها وعلى طريق تحقيق النصر فيها يهون كل شىء ويرخص كل بذل مالا كان أو جهدا أو دما .
- أن شعبنا الذى يؤمن بأنه جزء لا يتجزأ من أمة عربية واحدة ، تاريخها واحد ، ونضالها واحد ، ومصيرها واحد وستظل سياسته العربية فى مرحلة المعركة وما بعدها تسعى لتحقيق التماسك ووحدة العمل العربى ، وسوف نواصل وقوفنا بكل قوتنا مع الشعب الفلسطينى فى نضاله وثورته التى تجسدها المقاومة الفلسطينية .
- أن صداقتنا مع الدول الاشتراكية وفى مقدمتها الاتحاد السوفيتى الصديق الشريف الذى أكد فى كل الظروف صداقته المخلصة وتعاونه الصادق ووقوفه الصلب إلى جانب قضيتنا العادلة ، قضية الحق والعدل هذه الصداقة الكبيرة التى أرسى القائد دعائمها سوف نحافظ عليها وننميها ، إن شعب عبد الناصر لا يملك إلا التقدير والعرفان بالجميل والإخلاص والصداقة العميقة لشعوب الاتحاد السوفيتى الصديق وللحزب والقادة والحكومة .
- أن صداقتنا مع كل الشعوب الراغبة فى سلام قائم على العدل والدول الآسيوية والإفريقية ومع الدول الإسلامية التى كان للقائد الفضل الكبير فى تنميتها يحتم حرصنا على تدعيمها وتقوية روابطها وتوثيق علاقاتها .
- وقوفنا مع كل الشعوب المقهورة التى تناضل من أجل الحرية والعدل فى كل أرض وتحت كل علم ، لأن وقوفنا بكل عزم وصلابة فى جبهة الثورة العالمية المعادية للاستعمار وكذلك مع الدول غير المنحازة هو السياسة التى كان عبد الناصر من أوائل روادها والتى أعطاها بفكره وعمله أبعادا جديدة .
إننا نفتح عقولنا وقلوبنا للعالم كله من نفس المنطق الذى حكم نضالنا الطويل بقيادة المناضل جمال عبد الناصر وهو أننا نصادق من يصادقنا ونعادى من يعادينا .
وإذا كانت هذه بعض جوانب من مبادئ عبد الناصر الذى نحمل اليوم شرف ومسئولية السير بها والحفاظ عليها فإنها مشاعل هداية يجب أن نذكرها دائما وأن نقبلها جيدا وان نحشد طاقاتنا من أجلها لتستأنف بعدها الأمة مسيرة قدرها إلى كل ما هو خير وعدل ” .
ثم انتقلت الإجراءات بعد ذلك إلى مجلس الأمة الذى أقر بدوره الترشيح يوم 7أكتوبر1970 وفى نفس اليوم ذهب السادات ليعلن برنامجه والشرعية العامة التى يتمسك بها إذا ما تحققت الموافقة الشعبية على اختياره رئيسا ، وقبل أن يلقى بيانه انحنى السادات أمام تمثال عبد الناصر بطريقة كانت محل تعليق العامة والخاصة على نطاق واسع ، و كان نص البيان الذى ألقاه السادات أمام مجلس الأمة كما يلى :
” لقد جئت إليكم على طريق عبد الناصر وأعتبر أن ترشيحكم لى بتولى رئاسة الجمهورية ، هو توجيه بالسير على طريق جمال عبد الناصر ، وإذا أبدت جماهير شعبنا رأيها فى الاستجابة العام ” بنعم ” فإننى سوف أعتبر ذلك أمرا بالسير على طريق جمال عبد الناصر ، الذى أعلن أمامكم بشرف أننى سأواصل السير فيه على أية حال ، ومن أى موقع . إن الأيام الماضية فى حياتنا كانت أيام حزن عظيم ، ولكن الأمة الخالدة استطاعت بصمودها الفذ أن تحول مشاعر حزنها العظيم إلى طاقة قوة عظيمة ، فخرجت من كل ما عانت بأسرع مما قدر أحد ، وصممت وحسمت فى عبارة قاطعة قائلة فى نفس واحد : طريق جمال عبد الناصر .
أيها الاخوة ، لقد كنت أفكر طويلا خلال الأيام الأخيرة فيما يمكن أن نقوم به فى مواجهة ما قضت به إرادة الله عز وجل ، وقد وضعت لتفكيرى كله قاعدة واحدة هى أن نبدأ كل تصرف بسؤال محدد هو : ماذا كان يطلب منا لو أنه كان مازال بيننا وكنت على ضوء معرفتى به ، رفقة ثلاثين سنة وزمالة نضال وراء معركة بعد معركة وفهم صديق لصديق ، كنت أقدر الخطى والمواقع باحثا على هذا النحو ، ومستلهما ، ولو كان جمال عبد الناصر بيننا هذه اللحظات لقال لا تحزنوا ولكن تحركوا ، لا تقفوا ولكن تقدموا لا تترددوا ولكن أكملوا الطريق . وذلك ما فعله شعبنا العظيم، وذلك ما فعلته تعبيرا عن كل المؤسسات السياسية والدستورية التى تمثل سلطة الشعب .
أيها الاخوة ، إننى لست بحاجة إلى أن أطيل عليكم فى وصف معالم طريق عبد الناصر ، فأنتم تعرفونه وشعبنا يعرفه وأمتنا العربية تعرفه والدنيا بأسرها تعرفه ، إنه طريق طويل بمسافة آمالنا ، وهو طريق شاق بمقدار ما نواجه من خطر وآمالنا على الأفق عريضة والخطر من أعدائنا وصل إلى احتلال بعض من ترابنا الوطنى المقدس ، وأريد أن أحدد أمام حضراتكم مجموعة من النقاط أرى لها أهمية خاصة قبل أن نصل إلى مجمل طريق جمال عبد الناصر ، هذه النقاط ذات الأهمية الخاصة هى كما يلى :
أولا : إننا مطالبون بالدرجة الأولى وبكل الوسائل بمواصلة النضال من أجل تحرير كل الأرض العربية المحتلة فى عدوان سنة1967 ، وهى القدس العربية وغزة والضفة الغربية للأردن والمرتفعات السورية وصحراء سيناء المصرية ، وذلك مع الحرص الكامل على حقوق الشعب الفلسطينى وعلى استكمالا نضاله فى سبيل أرضه ومن أجل مصيره ، والضمان الحقيقى لهذا الهدف المشروع من نضالنا يتمثل فى مطلب أساسى واحد ، هو تعزيز القدرة القتالية للقوات المسلحة المصرية لتكون حماية للسلام القائم على العدل أو أداة لفرضه .
ثانيا : إننا مطالبون بمواصلة النضال من أجل وحدة الأمة العربية ، وأن متناقضات هذه الأمة وتأزمها طبيعى فى مرحلة الماضى التى تعيشها الأمة لا يجب أن يلهينا عن جوهر الحقيقة التى طالما نادى بها وعمل من أجلها جمال عبد الناصر وهى أننا أمة واحدة تاريخها واحد ونضالها واحد ومصيرها واحد.
ثالثا : إننا مطالبون بتحديد أعداء أمتنا تحديدا لا شبهة فيه ، وأعداؤنا هم إسرائيل والصهيونية الدولية والاستعمار العالمى . ونحن فى صراع مصيرى معهم جميعا وهو صراع لا يستهدف الغزو ولمن يطلب الأمن ، لا يستهدف السيطرة ولكن يطلب الحرية ، لا يستهدف الحرب للحرب ولكن يطلب السلام كما يجب أن يكون السلام .
رابعا : إننا مطالبون بالتمسك بسياسة عدم الانحياز كما علمنا جمال عبد الناصر فهى ليست موقفا سلبيا إنما سياسة عدم الانحياز على طريقته هى انحياز لاستقلالنا وانحياز لحريتنا وانحياز للسلام وانحياز للتقدم .
وبالتالى فهى سياسة تعد للأخطار التى تهدد هذه القيم كلها وأن صداقتنا الخاصة مع الاتحاد السوفيتى وشعوبه العظيمة ووراءه مجموعة الشعوب الاشتراكية الكبيرة لتنسيق اتساقا كاملا مع سياسة عدم الانحياز وهى تطبيق عملى وواقعى لشعار من أبرز الشعارات لقائدنا العظيم وهو القائل : نصادق من يصادقنا ونعادى من يعادينا .
خامسا : إننا مطالبون دواما بأن نذكر ولا ننسى أننا جزء من حركة التحرر الوطنى العظيمة باتجاهها التقدمى الاستعمارى وأننا جزء من حركة التقدم العالمى الضخمة وأننا بشعبنا وأمتنا تيار حضارى مؤثر يعطى ويأخذ ويفعل ويتفاعل .
سادسا : إننا مطالبون أولا وأخيرا بالحفاظ على المكاسب الاستمرار التى تحققت لجماهير قوى شعبنا العامل ، وبالمضى فى هذا الطريق الذى رسمه وحدده لنا قائدنا جمال عبد الناصر وترجمة أمينة لآمال جماهير الشعب العامل وحتمية مصيره ووجود .
أيها الاخوة ، بعد هذه الملاحظات أجىء إلى مجمل طريق عبد الناصر ولن تسمعوا فيه منى جديدا وكل ما أفعله فيه هو أن أؤكد عهدا . إننى جئت معى إلى هذا المجلس بوثيقة واحدة أودعها فيه وأمشى قائلا لكم هذا برنامجه وهو برنامجى أيضا لأنه إرادة الشعب . إننى أودع فى هذا المجلس بيان 30مارس فذلك آخر برنامج متكامل قدمه جمال عبد الناصر لأمته وصدقت عليه جماهير شعبه فى استفتاء عام حر واعتمدته طريقا للنضال وامتدادا عضويا للميثاق على ضوء الظروف الطارئة التى واجهت نضالنا ابتداء من يونيو1967 .
إن بيان 30مارس يمثل فى هذه المرحلة وحدة أمتنا ، ونحن فى حاجة إلى هذه الوحدة ، وبيان 30مارس يمثل فى هذه المرحلة أهدافنا الواضحة ونحن فى حاجة إلى وضوح الهدف . وبيان 30مارس يمثل فى هذه المرحلة إرادة شعبية تعلو أى إرادة غيرها . وبيان 30مارس تجسيد لإرادة شعبية لا يرقى إليها شك وفوق ذلك فإن بيان 30مارس امتداد عضوى للميثاق وهو العلامة التى كتبها جمال عبد الناصر بنفسه على رأس طريقه .
أيها الاخوة ، لكننى أود أن أضيف شيئا إلى ذلك القول ، وأقول لكم بأمانة الإحساس بالمسئولية ذلك أن العمل من أجل تطبيق برنامج 30مارس فى وجود عبد الناصر شىء والعمل على تطبيقه فى غياب عبد الناصر شىء آخر . إن جمال عبد الناصر كان بطلا تاريخيا ، والبطل لا يصنع ولكنه يولد من ضمير شعبنا ولهذا فان قدرته لا يمكن أن تقاس بما تواضع عليه الناس من معايير ، إن غياب البطل يعنى شيئا لا ينبغى له أن يغيب عنا وهو أن المسئولية تصبح كلها واجب الجماهير بقواها العاملة ومؤسساتها وتنظيماتها وأجيالها الحرة المتصلة اتصالا مباشرا بكفاح كل يوم ، لذلك فإن تأكيدنا للعهد يجب أن يصحبه استعدادنا جميعا لتحمل مسئوليات كان وجوده يعفينا منها .
وأصارحكم القول أنه ليس بمقدورى ولا بمقدور أى شخص أن يتحمل ما كان يتحمله جمال عبد الناصر، ولذلك فإنه يجب أن تؤدى الأمانة وفاء لحق الشعب وتكريما لذكرى قائده .
أيها الاخوة ، إنكم أضفيتم على شرفا يعلم الله أنه لم يخطر على بالى فى حياتى ، ولا سعيت إليه ، وإننى أقدر مسئولية ما ترون ، لكن عونى فى تحمل المسئولية أن تكونوا كلكم و الأمة بأسرها معى قولا وعملا على طريق عبد الناصر الذى يعيشه الآن فى قلب أمتنا العربية بقدر ما عاشته أمته العربية فى قلبه إلى لحظة سلمنا فيها علم الكفاح ” .
وكان أبرز ما تميز به بيان السادات تعهده بالمحافظة على مواثيق الثورة وكان آخرها بيان 30مارس1968 والتزامه بالأولويات التى أقرها جمال عبد الناصر قبل رحيله مباشرة ، ويضاف إلى ذلك تعهده بالعمل من خلال وبواسطة المؤسسات وأنه لن يعمل أو يستطيع أن يعمل من خارجها أو يتجاوزها ويتجاهلها .
وتم إجراء الاستفتاء على رئاسة الجمهورية وأعلن شعراوى جمعة وزير الداخلية موافقة الشعب على اختياره السادات رئيسا للجمهورية .
وبعد إعلان نتيجة الاستجابة وجه السادات كلمة إلى الشعب يوم 18نوفمبر1970 كان نصها ما يلى :
” لابد أن أصارحكم أننى أعتز بالنتيجة التى أسفرت عنها الاستجابة الشعبية ، أن أكثر من ستة ملايين قالوا نعم لترشيحى وأكثر من سبعمائة ألف قالوا لا . . وأعتز بأمانة أن هذه ظاهرة صحية ، وإن كنت أود أن أضيف اعتقادى الشخصى بأن الذين قالوا لا ، لم يقولوها اعتراضا على الثورة ، ولا على استكمالا الطريق وإنما كان قولهم لها تحفظا على المرشح لرئاسة الجمهورية نفسه . . إن ذلك ، وأصدقكم القول لم يسبب لى أى ضيق ، ولا اعتبرته مدعاة للأسف ، إنما اعتبرته ظاهرة صحية ، فإن هذا الشعب لا يجب أن يمنح ثقته المطلقة لفرد بعد جمال عبد الناصر ، بل ولقد كان جمال عبد الناصر نفسه أعلى الأصوات تحذيرا من اعتماد الأمة على الفرد ، وإننى أعدكم أننى سأكون للجميع ، للذين قالوا نعم ، والذين قالوا لا . . إن الوطن للجميع ” .
وقد يكون من المناسب فى هذا المجال أن أضع تحت أنظار القارئ الكريم نص بيان 30 مارس1968 كما أذاعه جمال عبد الناصر :
” أيها الاخوة المواطنون
الآن يصبح فى إمكاننا أن نتطلع إلى المستقبل . . وقبل الآن فإن مثل ذلك لم يكن ممكنا إلاّ بالاستغراق فى الأحلام أو الأوهام ، وكلاهما لا تستسلم له الشعوب المناضلة فضلا عن أن تقع فيه ، بينما هى عند مفترق الطرق الحاسمة وأمام تحديات المصير .
قبل الآن لم يكن فى مقدورنا أن ننظر إلى أبعد من مواقع أقدامنا ، فلقد كنا بعد النكسة مباشرة على حافة جرف معرض للانهيار فى أى وقت ، وكان واجبنا فى ذلك الظرف يحتم علينا قبل أى شىء آخر ، أن نتحسس طريقنا إلى أرض أصلب ، تتحمل وقفتنا ، وأرض أرحب تتسع لحركتنا ، ولقد كانت جماهير الشعب بموقفها يومى 9و10 يونيو ، هى التى جعلت ذلك قابلا للتحقيق بفضل ما أظهرته من تصميم يرفض الهزيمة ويثق فى النصر . إن الموقف المؤمن والبطولى الذى اتخذته جماهير شعبنا فى ذلك الظرف العصيب ، هو وحده الذى مكن للتحولات الهامة التى وقعت منذ ذلك الوقت من أن تحدث فعلها وأثرها ، بحيث يكون فى مقدورنا اليوم أن نقول بأمل فى الله عظيم ، إنه الآن يصبح فى إمكاننا أن نتطلع إلى المسقبل ، ومن دلائل الخير أن يكون ذلك فى مقدورنا اليوم فى ذكرى عيد الهجرة ، بما تحمله إلى المؤمنين من معانى التضحية فداء للمبدأ ، والنضال المستمر من أجل الحق ، والصبر على المشاق ، فى سبيل نصر الله عزيزا وصادقا .
أيها الاخوة المواطنون
إن الموقف البطولى المؤمن لجماهير شعبنا يومى 9و10 يونيو هو وحده الذى صنع عددا من التحولات الهمة مكنت لعملنا من أن يبتعد عن الحافة الخطرة ، التى كان عليها فى أعقاب النكسة ليقف على الأرض الأصلب وليستشرف الأفق الأوسع الذى يستطيع أن يتحرك عليه نحو أهداف نضاله الشريفة والغالية وأبرز هذه التحولات كما يلى : –
أولا : إننا استطعنا إعادة بناء القوات المسلحة ، وكانت تلك بداية ضرورية وبغير بديل إذا كنا نريد جدا وحقا أن نصحح آثار النكسة ، وأن نزيل العدوان ، وأن نسترد ما ضاع منا فيه ، بغير إعادة بناء القوات المسلحة ، لم يكن أمامنا غير تقبل الهزيمة مهما كانت آمالنا ، ومهما كان إيماننا ، ذلك أن منطق العصر ، ولعله منطق كل العصور أن الحق بغير القوة ضائع ، وأن أمل السلام بغير إمكانية الدفاع عنه ، استسلام ، وأن المبادئ بغير مقدرة على حمايتها أحلام مثالية مكانها السماء ، وليس لها على الأرض مكان .
ثانيا : إننا استطعنا تحقيق مطلب الصمود الإقتصادى فى وقت كانت الأشياء كلها تسير فى اتجاه معاكس لفرصة تحقيقه . . ولقد ساعد على ذلك رضا الشعب بالمزيد من التضحيات ، وساعد عليه موقف عربى أصيل فى مؤتمر الخرطوم ، وساعد عليه أصدقاء لنا على اتساع العالم كله ، وقفنا معهم فوقفوا معنا . ولقد كان محتما أن يسير مطلب الصمود الإقتصادى جنبا لجنب مع عملية إعادة بناء القوات المسلحة . فلم يكن فى استطاعتنا بغير اقتصاد سليم أن نوفر لاحتمال الحرب . ولا كان مجديا أن نقف رابضين على خطوط النار بينما مقدرتنا على الإنتاج معطلة وراء الخطوط ، وشبح الجوع يهددنا بأسرع من تهديد العدو لنا .
ثالثا : إننا استطعنا تصفية مراكز القوى التى ظهرت . وكان من طبيعة الأمور وطبيعة النفوس أن تظهر فى مراحل مختلفة من نضالنا . إن العمل السياسى لا يقوم به الملائكة ، وإنما يقوم به البشر ، والقيادة السياسية ليست سيفا بتارا قاطعا ، وإنما هى عملية موازنة ، وعملية اختاره بعد الموازنة ، والموازنة دائما بين احتمالات مختلفة ، والاختيار فى كثير من الظروف بين مخاطر محسوسة .
ولقد تجاوزت الأمور حدا لا يمكن قبوله بعد النكسة ، لأن مراكز القوى وقفت فى طريق عملية التصحيح ، خوفا من ضياع نفوذها ، ومن انكشاف ما كان خافيا من تصرفاتها . وكان ذلك لو ترك وشأنه كفيلا بتهديم جبهة الصمود الشعبى ، ولذلك فلقد كان واجبا بصرف النظر عن أى إعتبار تصفية مراكز القوى ولم تكن بالمسألة السهلة إزاء المواقع التى كانت تحتلها مراكز القوى وفى إطار الظروف الدقيقة التى كان يعيشها الوطن .
رابعا : إننا استطعنا وهذه مسألة أخلاقية ومعنوية ، أعلق عليها قيمة كبيرة ، أن نضع أمام الجماهير بواسطة المحاكمات العلنية ، صورة كاملة لانحرافات وأخطاء مرحلة سابقة ، وكان رأيى أن هذه مسئولية يجب أن يتحملها نظامنا الثورى بأمانة وشجاعة . وكان رأيى أيضا أن الضمير الوطنى الذى أحس بأن انحرافات وأخطاء قد وقعت ، من حقه ومن مصلحته أن يعرف الحقيقة ، وأن يخلص وجدانه من أثقالها ، وأن ينفض عن نفسه كل رواسب الماضى ، لكى يدخل إلى المستقبل بصفحة نقية طاهرة .
ومع كل العذاب الذى تحملته شخصيا وتحمله المواطنون معى خلال هذه العملية فلقد بقى إيمانى بضرورتها ، كإيمانى بطب الجراحة ن يقطع لينظف ، ويبتر لينقذ .
خامسا : إننا استطعنا أن نقوم بجهد سياسى واسع على جبهات عريضة ، جبهات عربية وجبهات دولية وتنوعت جهودنا وتعددت على هذه الجبهات بالاهتمام المباشر مع الأصدقاء فى الدول الاستمرار وفى مقدمتها الاتحاد السوفيتى الذى أكدت لنا ظروف النكسة صداقته المخلصة وتعاونه الصادق ووقوفه الصلب فى جبهة الثورة العالمية المعادية للاستعمار ، وكذلك مع الدول غير المنحازة ومع الدول الآسيوية والإفريقية ومع الدول الإسلامية ومع كل الشعوب الراغبة فى سلام قائم على العدل ، ومع كل الساسة العالميين الذين يستطيع بعد نظرهم أن يتجاوز نكسة عارضة فى تاريخ أمة كان لها دورها العظيم فى مصير الإنسانية ، إن هذه التحولات كلها قادها ودعمها إحساس عميق بالواجب لدى كثيرين من رجالنا فى كل مجالات المسئولية فى القوات المسلحة ومن خبراء الاقتصاد والعاملين فى وحدات الإنتاج ومن الملتزمين بأهداف النضال الشعبى والقادرين على خدمتها ومن المشتغلين بالسياسة والفكر والدبلوماسية ، كل هؤلاء ساهموا فى قيادة ودعم هذه التحولات التى تقارب المعجزة والتى نستطيع بعدها أن نقول اليوم ، الآن يصبح فى إمكاننا أن نتطلع إلى المستقبل .
أيها الاخوة المواطنون
والآن ونحن نتطلع إلى المستقبل ، فإن اعتقادى الأكيد أن خير ما نستطيع أن نتسلح به لمواجهة مسئولياتنا المقبلة ، هو أن يكون فى يدنا برنامج عمل محدد ن ندرسه معا ، ونقره معا ، وتتفق عليه إرادتنا جميعا ، برنامج عمل يكفل وصولنا إلى الأهداف القريبة لنضالنا ويقرب منا يوم الوصول إلى الأهداف البعيدة لهذا النضال ، برنامج عمل لا تختلف فيه الاجتهادات ، ولا تتصارع الآراء ، ولا تتصادم القوى ، برنامج عمل نمسك به فى أيدينا وبعد أن يتحقق لقاء فكرنا عليه ن ثم نمضى على طريق الكفاح الطويل وفى يدنا خريطة للأفق الفسيح أمامنا ن وخطة عمل لتقدمنا على هذا الأفق ، برنامج للتغيير يستجيب للآمال العريضة التى حركت جماهير شعبنا إلى وقفتها الخالدة يومى 9و10 يمنيو ، وهى الوقفة التى سأظل دائما وإلى آخر لحظة فى العمر مؤمنا بأنها كانت بعثا للثورة ، وتجديدا لشبابها ، وإلهاما لا يخيب ، وضوء لا يخبو أمام طريق المستقبل . ولقد بدأت التغيير كما تعرفون بإعادة تشكيل الوزارة ، والذى يعنينى فى تشكيل الوزارة الجديدة ن أنه جاء إلى مواقع الحكم بصفوة من شباب هذا الوطن لا يدين أحد منهم بمنصبه لأى اعتبار سوى اعتبار علمه وتجربته فى العمل السياسى ، وهم على أى حال يمثلون جيلا جديدا يتقدم نحو قمة المسئولية .
وإلى جانب ذلك فهناك تغييرات أخرى قادمة فى قيادات الإنتاج وفى السلك الدبلوماسى وفى المحافظين وفى رؤساء المدن ، عن الكثيرين ممن يشغلون هذه المناصب أدوا مسئولياتهم بجدارة واستحقاق ، لكن بعضهم لم يكن على مستوى المسئولية سياسيا وتنفيذيا ومن الضرورى عليهم وعلينا إفساح المجال للأقدر والأجدر .
لكن التغيير يبقى بعد ذلك أكبر من أن يكون مسألة أشخاص ، وإنما التغيير الذى نريده يجب أن يكون أكثر بعدا ، وأكثر عمقا من مجرد استبدال شخص بشخص .
إن التغيير المطلوب لابد له أن يكون تغييرا فى الظروف وفى المناخ ، وإلا فإن أى أشخاص جدد فى نفس الظروف وفى نفس المناخ سوف يسيرون فى نفس الطريق الذى سبق إليه غيرهم ، إن التغيير المطلوب يجب أن يكون فكرا أوضح وحشدا أقوى وتخطيطا أدق ، وبذلك يكون للتصميم معنى وتكون للإرادة الشعبية مقدرة اجتياح كل العوائق والسدود نافذة واصلة إلى هدفها .
أيها الاخوة المواطنون
إن المسئولية التاريخية للأيام العصيبة والمجيدة التى نعيش فيها ، ونعيش لها تطرح بنفسها علينا برنامج عمل له جانبان :
الجانب الأول حشد كل قوانا العسكرية والاقتصادية والفكرية على خطوطنا مع العدو لتحرير الأرض وتحقيق النصر .
والجانب الثانى تعبئة كل جماهيرنا بما لها من إمكانيات وطاقات كاملة ، من أجل واجبات التحرير والنصر ، ومن أجل آمال ما بعد التحرير و النصر .
أيها الاخوة المواطنون
سوف أبدأ بالجانب الأول من برنامج عملنا المقترح وهو الحشد . وإنى لأرجو أن يكون اتفاقنا كاملا على أنه ليس هناك الآن ولا ينبغى أن يكون هناك صوت أعلى من صوت المعركة ، ولا نداء أقدس من ندائها . إن أى تفكير أو حساب لا يضع المعركة وضروراتها أولا وقبل كل شىء لا يستحق أن يكون تفكيرا ولا تزيد نتيجته عن الصفر .
إن المعركة لها الأولوية على كل ما عداها ، وفى سبيلها وعلى طريق تحقيق النصر فيها يهون كل شىء ، ويرخص كل بذل ، مالا كان أو جهدا أو دما . ومهما كان السبيل الذى نسلكه إلى تحرير الأرض وتحقيق النصر ، فإنه يصبح سبيلا مسدودا بغير استعداد للمعركة سواء قبلنا بطريق العمل السياسى وسرنا فيه إلى مداه ، فإن نتيجته مرهونة باستعدادنا للمعركة . وسواء يئسنا من العمل السياسى وتركناه وواجهنا أقدارنا فى ميدان القتال فإن النتيجة معلقة على استعدادنا للمعركة .
ولقد أبدينا استعدادنا ولا نزال للعمل السياسى عن طريق الأمم المتحدة أو غيره من الطرق ، ونحن نضع مع أشقائنا العرب كل وسائلنا سواء بواسطة مؤتمرات القمة أو بواسطة التنسيق الثنائى المباشر .
ونحن نتعاون مع كل القوى الشعبية العربية من أجل المقاومة المسلحة للعدو ، وكافة أشكال المقاومة الأخرى . ونحن نفتح عقولنا وقلوبنا للعالم كله من نفس المنطق الذى حكم نضالنا الطويل ، وهو أننا نصادق من يصادقنا ، ونعادى من يعادينا ، نحن نفعل ذلك كله عن تقدير واع لنتائجه الواقعة والمحتملة ، ولكننا بعده يجب أن نكون مستعدين للمعركة مهما كلفنا وحتى إذا وقفنا فيها وحدنا . إن الأرض أرضنا ، والحق حقنا ، والمصير مصيرنا . ولا نستطيع أمام أنفسنا وأمام أمتنا العربية وأمام الأجيال القادمة من آبائنا وأحفادنا إلى الأبد أن نتردد أو نتخاذل أو نوزع التبعات على الآخرين مهما اقتضانا ذلك من التكاليف على مواردنا وعلى أعصابنا وعلى أرواحنا .
هذا هو الجانب الأول من برنامج عملنا ولا أظنه بيننا موضع خلاف ، ذلك لأن الخيار فيه هو النصر أو الهزيمة ، الشرف أو العار ، الحياة أو الموت ، وليس هناك خيار حقيقى فى ذلك كله ، لأن القرار حتمى وهو أننا نختار النصر ، ونختار الشرف ، ونختار الحياة .
أيها الاخوة المواطنون
أنتقل الآن إلى الجانب الآخر من برنامج عملنا المقترح وهو تعبئة كل جماهيرنا بما لها من طاقات وإمكانيات من اجل واجبات التحرير والنصر ، ومن أجل آمال ما بعد التحرير والنصر وفى هذا الصدد فإنى أطرح النقط التالية :
- إنه من الضرورى والحيوى حشد كل القوى الشعبية وبوسيلة الديموقراطية وعلى أساسها وراء أهداف نضالنا القريبة والبعيدة ، أى وراء واجب المعركة ، وراء أمل إتمام بناء المجتمع الاشتراكى الذى حققنا منه كثيرا ، وينبغى أن نحقق منه أكثر .
- إن صيغة الاتحاد الاشتراكى هى أكثر الصيغ ملائمة لحشد القوى الشعبية بوسيلة الديموقراطية وعلى أساسها ، وهى تجسيد حى وصحى لمعنى أن تكون الثورة للشعب وبالشعب ، ثم إنها الضمان بعد ذلك لتجنب دموية الصراع الطبقى ، ولكفالة فتح أسرع الطرق وأكثرها أمانا إلى التقدم . والاتحاد الاشتراكى كما تذكرون وفقا للميثاق ، هو واجهة عريضة تضم تحالف قوى الشعب العاملة كلها ، ثم تنظيم سياسى يقوم وسطها من الطلائع القادرة على قيادة التفاعل السياسى نحو هدف تذويب الفوارق بين الطبقات ، ولم تكن المشاكل التى عاناها الاتحاد الاشتراكى ترجع إلى قصور أو عيوب فى صيغته العامة ، وإنما كانت أسباب القصور والعيوب ترجع إلى التطبيق . وأول هذه الأسباب هو أن عملية إقامة الاتحاد الاشتراكى لم تبن على الانتخاب الحر من القاعدة إلى القمة .
- إن علينا الآن أن نعيد بناء الاتحاد الاشتراكى عن طريق الانتخاب من القاعدة إلى القمة ، أى من اللجان التأسيسية فى القرية والحى والمصنع والوحدة ، إلى المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى وإلى لجنته المركزية ، وإلى اللجنة التنفيذية العليا . وتذكرون أننى كنت قد أشرت فى خطابى يوم 23يوليو الماضى إلى تكوين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى ، وكان التصور فى ذلك الوقت أن تكون بالتعيين ، ولقد أجلت ذلك خلافا لما قلت ووعدت به عن اقتناع بأن أسلوب التعيين ليس أفضل الأساليب وأن التعيين فى النهاية قد لا يعطينا إلا ما تفرزه مراكز القوى ، أو ما تقدمه المجموعات المختلفة والشلل ، وليس ذلك هو المرجو ، وليس هو ما يحقق لنا الهدف من الدور الذى كنا نطلبه للجنة المركزية . إن طريق الانتخاب سوف يعطينا الحل الأوفق أن يتم بناء الاتحاد الاشتراكى بالإرادة الشعبية وحدها ، وأن تقوم قوى الشعب العاملة باختيار قياداتها المعبرة عنها ، والمستوعبة لآمالها الثورية ثم تدفعها إلى مواقع القيادة السياسية .
أيها الاخوة المواطنون
من هذه النقط الثلاث فإنى أقترح البرنامج التنفيذى التالى :
- تجرى الانتخابات للوحدات التأسيسية للاتحاد الاشتراكى العربى وتتدرج الانتخابات حتى تصل إلى المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى الذى ينتخب بدوره اللجنة المركزية ، التى تنتخب بدورها رئاستها وهى اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد اشتراكى العربى .
- يظل المؤتمر القومى المنتخب للاتحاد الاشتراكى العربى قائما إلى ما بعد إزالة آثار العدوان ، ويعقد دورة عامة بكامل هيئته مرة كل ثلاثة شهور لكى يتابع مراحل النضال ويوجهها ويصدر فى شأنها ما يراه .
- تظل اللجنة المركزية المنتخبة من المؤتمر القومى فى حالة انعقاد دائم وتقوم لجانها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية برسم سياسات العمل فى جميع المجالات استهدافا لتحقيق النصر وإعادة البناء الداخلى .
- إن مجلس الأمة الحالى قد قارب على استيفاء مدته الدستورية ، وهو لم يفرغ بعد من المهمة الأساسية التى أوكلت إليه وهى وضع الدستور الدائم للجمهورية العربية المتحدة ، وإذا كان المجلس لم يتمكن من أداء هذه المهمة فينبغى للإنصاف أن نذكر له دوره الكبير وما قام به من عمل يستحق التقدير . والمؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى العربى وهو أعلى سلطة ممثلة لتحالف قوى الشعب العاملة ، قد يرى أن يقوم بنفسه بعملية وضع مشروع الدستور الدائم للجمهورية العربية المتحدة ، وقد يرى فى الأمر رأيا آخر . ومهما يكن فإنه من المهم أن يكون مشروع الدستور الدائم معدا بحيث يمكن فور انتهاء عملية إزالة آثار العدوان أن يطرح للاستفتاء الشعبى العام ، وأن تتلوه مباشرة انتخابا لمجلس أمة جديد على أساس الدستور الدائم ، وانتخابات لرئاسة الجمهورية .
- إن اللجنة المركزية للمؤتمر القومى ، سوف يكون عليها غير واجباتها المحددة فى قانون الاتحاد الاشتراكى ، وغير مسئوليات الظروف الخاصة للنضال الوطنى فى مرحلته الحاضرة عدة مهام إضافية هى :
بناء التنظيم السياسى لطلائع الاتحاد الاشتراكى .
وتحديد مهام العمل الوطنى للمرحلة الجديدة والتنسيق بينها .
ثم المشاركة فى وضع الخطوط العريضة للدستور الدائم للجمهورية العربية المتحدة .
أيها الاخوة المواطنون
لكى يكون هناك ضوء كاف على طريقنا ، فإننى أريد من الآن أن أضع أمامكم تصورى لبعض المهام الرئيسية فى المرحلة القادمة من نضالنا :
- تأكيد وتثبيت دور قوى الشعب العاملة وتحالفها وقياداتها فى تحقيق سيطرتها بالديموقراطية على العمل الوطنى فى كافة مجالاته .
- تدعيم عملية بناء الدولة الحديثة فى مصر والدولة الحديثة لا تقوم بعد الديموقراطية إلا استنادا على العلم والتكنولوجيا ، ولذلك فإنه من المحتم إنشاء المجالس المتخصصة على المستوى القومى سياسيا وفنيا لكى تساعد على الحكم ، وإلى جانب مجلس الدفاع القومى فإنه لابد من مجلس اقتصادى قومى يضم شعبا للصناعة والزراعة والمال والعلوم والتكنولوجيا ، ولابد من مجلس اجتماعى قومى يضم شعبا للتعليم والصحة وغيرها مما يتصل بالخدمات المختلفة ، ولابد من مجلس ثقافى قومى يضم شعبا للفنون والآداب وللإعلام .
- إعطاء التنمية الشاملة دفعة أكبر فى الصناعة والزراعة لتحقيق رفع مستوى الإنتاج والعمالة الكاملة مع الضغط على أهمية إدارة المشروعات العامة إدارة اقتصادية وعلمية .
- العمل على تدعيم القيم الروحية والخلقية والاهتمام بالشباب وإتاحة الفرصة أمامه للتجربة .
- إطلاق القوى الخلاقة للحركة النقابية سواء فى نقابات العمال أو نقابات المهنيين .
- تعميق التلاحم بين جماهير الشعب وبين القوات المسلحة .
- توجيه جهد مركّز نحو عمليات البحث عن البترول لما أكدته الشواهد العملية من احتمالات بترولية واسعة فى مصر ، ولما يستطيع البترول أن يعطيه لجهد التنمية الشاملة من إمكانيات ضخمة .
- توفير الحافز الفردى تكريما لقيمة العمل من ناحية ، واحتفاظا للوطن بطاقاته البشرية القادرة وإفساح فرصة الأمل أمامها .
- تحقيق وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب .
- ضمان حماية الثورة فى ظل سيادة القانون ، ولعله يكون مناسبا أن تقوم اللجنة المركزية بتشكيل لجنة خاصة ويكون لهذه اللجنة حق نظر كل الإجراءات التى ترى السلطة اتخاذها لدواعى الأمن الوطنى فى الظروف الراهنة .
أيها الاخوة المواطنون
طلبا لمزيد من الضوء والوضوح أمد البصر أيضا إلى بعض الخطوط العامة التى يجب فى تقديرى أن يتضمنها الدستور لكى تكون من الآن تحت سمعنا وبصرنا دليلا ومرشدا إن الدستور الجديد يجب أن يكون حقيقة عملية وسياسية تعيش فى واقعنا وتنبع منه ، ولهذا فإنى أقترح من الآن أن تتضمن مواد الدستور الخطوط الأساسية العامة التالية :
- أن ينص الدستور على تحقيق وتأكيد الانتماء المصرى إلى الأمة العربية تاريخيا ونضاليا ومصيريا ، وحدة عضوية فوق أى فرد وبعد أى مرحلة .
- أن ينص الدستور على حماية كل المكتسبات الاشتراكية وتدعيمها بما فى ذلك النسبة المقررة فى الميثاق للفلاحين والعمال فى كل المجالس الشعبية المنتخبة واشتراك العمال فى إدارة المشروعات وأرباحها ، وحقوق التعليم المجانى والتأمينات الصحية والاجتماعية ، وتحرير المرأة وحماية حقوق الأمومة والطفولة والأسرة .
- أن ينص الدستور على الصلة الوثيقة بين الحرية الاجتماعات والحرية السياسية وأن تتوفر كل الضمانات للحرية الشخصية والأمن بالنسبة لجميع المواطنين فى كل الظروف ، وأن تتوفر أيضا كل الضمانات لحرية التفكير والتعبير والنشر والرأى والبحث العلمى والصحافة .
- أن ينص الدستور على قيام الدولة العصرية وإدارتها ، لأن الدولة العصرية لم تعد مسألة فرد ، ولم تعد بالتنظيم السياسى وحده ، وإنما أصبح للعلوم والتكنولوجيا دورها الحيوى ، ولهذا فإنه يجب أن يكون واضحا أن رئيس الجمهورية يباشر مسئولية الحكم بواسطة الوزراء وبواسطة المجالس المتخصصة التى تضم خلاصة الكفاءة والتجربة الوطنية بما يحقق إدارة الحكومة عن طريق التخصص واللامركزية .
- أن ينص الدستور على تحديد واضح لمؤسسات الدولة واختصاصاتها بما فى ذلك رئيس الدولة والهيئة التشريعية والهيئة التنفيذية ، ومن المرغوب فيه أن تتأكد سلطة مجلس الأمة باعتباره الهيئة التى تتولى الوظيفة التشريعية والرقابة على أعمال الحكومة والمشاركة فى وضع ومتابعة الخطة العامة للبناء السياسى وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية ، كذلك فإن من المرغوب فيه إفساح الفرصة لوسائل الرقابة البرلمانية والشعبية لتحقيق حسن الأداء وكفالة أمانته .
- أن ينص فى الدستور على تأكيد أهمية العمل باعتباره المعيار الوحيد للقيمة الإنسانية.
- أن ينص فى الدستور على ضمانات حماية الملكية العامة والملكية التعاونية و الملكية الخاصة وحدود كل منها ودوره الاجتماعى .
- أن ينص فى الدستور على حصانة القضاء ، وأن يكفل حق التقاضى ولا ينص فى أى إجراء للسلطة على عدم جواز الطعن فيه أمام القضاء ، ذلك أن القضاء هو الميزان الذى يحقق العدل ويعطى لكل ذى حق حقه ، ويرد أى اعتداء على الحقوق أو الحريات .
- أن ينص فى الدستور على إنشاء محكمة دستورية عليا ، يكون لها الحق فى تقرير دستورية القوانين وتطابقها مع الميثاق ومع الدستور .
- أن ينص فى الدستور على حد زمنى معين لتولى الوظائف السياسية التنفيذية الكبرى وذلك ضمانا للتجدد وللتجديد باستمرار .
أيها الاخوة المواطنون
لقد قصدت أن أتناول أكبر قدر ممكن من رؤوس المسائل وتفاصيلها ليكون برنامج العمل الذى تمسك به أيدينا فى المرحلة القادمة قادرا على الوفاء وعلى التحقيق ، وبعد ذلك فإنى أرى طرح هذا البرنامج الذى أقترح أن نسمّيه اختصارا بتاريخ هذا اليوم 30 مارس ، للاستفتاء العام ويطرح برنامج 30 مارس سنة1968 للاستفتاء العام فإنى أقصد بذلك أن يكون واضحا لنا جميعا ما نريد وأن يكون موضع اتفاقنا ، كذلك أريده أن يكون واضحا أمام أمتنا العربية ومدعاة لثقتها فى وحدة النضال واستمراره ، وأريده أيضا أن يكون واضحا أمام الصديق وأمام العدو على حد سواء وموضع اعتبار كل الذين يقفون معنا وكل الذين يقفون ضدنا .
إن الدستور المؤقت الصادر سنة 1964 يعطى لرئيس الجمهورية حق أن يستفتى الشعب فى المسائل الهامة المتصلة بمصالح البلاد العليا وذلك وفقا للمادة 129 منه .
وإذا كان هناك من يتصور صعوبة الاستجابة العام فى مثل هذه الظروف التى نعيش فيها فإننا نرى أن ذلك وقته ، وظروف المعركة ليست حائلا دونه ، بل إننا نراه ضرورة من ضرورات المعركة . إن المعركة ليست معركة فرد وليست معركة جيش وإنما هى معركة شعب ومعركة أمة بأسرها ، وهى فى نفس الوقت معركة حياة أو موت . إن قوى الشعب العاملة هى وحدها التى تستطيع توفير كل ضرورات النصر وحشد كل الطاقات اللازمة لتحقيقه وإعطاء أكبر قدر من إرادة الصمود لجبهة ميدان القتال . إن أى نظام ثورى يستند على الجماهير وحدها لا يكفيه أن يكون الشعب وراءه راضيا ومؤيدا ، وإنما هو يحتاج إلى أكثر من ذلك ، يحتاج إلى أن يكون الشعب أمامه موجها وقائدا .