الإثنين 8 ديسمبر 2014 – 8:25 ص | آخر تحديث : الإثنين 8 ديسمبر 2014 – 8:25 ص
رغم أن هذا المقال استوحى موضوعه من تأمل ما ورد بمقال نشره الصديق جلال أمين فى «المصرى اليوم» بتاريخ 26/11/2014 تحت عنوان «متى بدأ الظلم فى حياتنا الثقافية؟»، إلا أنه يمثل مواصلة لمقالات تناولت الملابسات التى أحاطت بعملية التخطيط التى استحدثتها ثورة 23 يوليو، وصلت فيها إلى بيان أنه بحكم طبيعة الثورات لابد من تغيير جذرى فى بناء المجتمع وتثبيت أركان التنظيم المجتمعى البديل لتصبح أهداف الثورة سياقا طبيعيا لتوجهاته، وتشكل العلاقات المجتمعية الجديدة سياجا حاميا لحرية تحركه، يقيه مما يضمره الأشرار المعادون، ومما قد ينزلق إليه من يدرجون فى قائمة الأصدقاء، سواء خلصت نواياهم أو كانت لهم مآرب أخرى. وبناء عليه كان بديهيا أن يؤكد عبدالناصر أن الضباط الأحرار ثاروا من أجل تغيير النظم الاجتماعية وليس مجرد إقصاء الملك، ومن ثم وجوب تصويب القاعدة الثقافية التى يبنى عليها المجتمع الجديد. فإذا صح اتهام الثورة بأنها أطلقت العنان للظلم ليدمر «حياتنا الثقافية» فإن الأمر يقتضى وقفة للتدقيق فى مضامين ألفاظ تتداول جزافا، منها «مفهوم الثقافة»، ومعنى «حياتنا الثقافية» والصفات التى يعتبر من يمتلكها جديرا بتسميته «مثقَّفا»، خاصة فى ظل الهجوم المتواصل على من يسمون «المثقفين» وتحميلهم أوزار ما نعيشه اليوم من بلبلة فكرية.
•••
اتخذ د. جلال معيارا لتعريف الظلم قوامه انتقاء أحداث فردية للحكم على العهد الذى جرت فيه. فبدأ باعتبار أن غضب جلالة الفاروق على طه حسين بسب «المعذبون فى الأرض» ثم تسامح جلالته باختياره وزيرا للمعارف فى وزارة 1950 الوفدية ليحقق دعواه الشهيرة «التعليم كالماء والهواء»، التى واصلها ثوار يوليو لتصبح ركنا أساسيا من أركان الدستور، يهوّن من الظلم ــ بوجه عم! ــ فى ظل العهد الذى ثار عليه الضباط الأحرار وقفز بذلك فوق سنة 1928 التى استقال فيها طه من عمادة كلية الآداب بعد يوم واحد من تعيينه بسبب هجوم الوفد(!!) عليه لانتمائه للأحرار الدستوريين (حزب الإقطاعيين). تجاهل جلال هذا بينما أخذ على عبدالناصر تغيير موقفه من مفكرين يساريين وفق متطلبات السياسة العليا. وعقب إعادة طه للعمادة فى 1930 صدر مرسوم بنقله إلى وزارة المعارف (فى عهد إسماعيل صدقى ذى القبضة الحديدية) لاعتراضه على منح الدكتوراه الفخرية لسياسيين موالين للملك: الباشاوات عبدالعزيز فهمى، توفيق رفعت، على ماهر، ولما لم يتسلم عمله فيها أحيل إلى التقاعد فى 1932، وعمره 43 سنة.
•••
تغاضى جلال عن الهجوم الذى شنه فى 1914 علماء الدين ونواب فى البرلمان (الذى يجرى تأليهه كرمز لديمقراطية أجهضتها الثورة) على رسالته للدكتوراه بعنوان «ذكرى أبى العلاء» متهمين إياه بالزندقة. تجاهل الهبّة العارمة فى 1926 عندما نشر «فى الشعر الجاهلي» وحوكم بسببه ولكنه بُرّئ بعد أن حذف منه مقاطع أربعة أخذت عليه. واستهجن جلال اختيار «الضابط» يوسف السباعى «رئيسا» أو «أمينا عاما» للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية» الذى أنشأته الثورة فى 1956، (ولو دقق لذكر أنه عيّن «سكرتيرا عاما»)، ولم يشر إلى أعماله الأدبية التى تحولت إلى أفلام ما زالت تعطينا صورا صادقة عن ماضينا، مدعيا أن عمالقة الأدب شعروا أن اختياره مثل استهانة بأمرهم.
إن هذا العرض يكشف عن أمرين يشوبان الحديث حول الثقافة والحياة الثقافية. فهو يكشف عن نظرة استعلائية لا مكان فيها للغالبية المتهمة بالإسفاف فى التذوق، وبالعجز عن إقامة نظام ديمقراطى لها فيه مكان الصدارة وعلبها الابتعاد عن «اللعب مع الكبار»، وهى نظرة تضع المثقفين فى موقف أسوأ من النظم الشمولية، وردت صراحة فى انتقاده المفكرين اليساريين. فالمجد كل المجد لمن نشأ فى رحاب سلطة مستبدة وكان حرا فى مدحها وتخدير الشعب بالتغنى «ما احلاها عيشة الفلاح، متطمن قلبه ومرتاح، يتمرغ على أرض براح، والخيمة الزرجا ساتراه» ممنيا إياه بجنة رضوان!! لعل الثورة أجرمت بمحاولة التدخل بينه وبين السماء. كما أنه أسلوب يتجاهل الفارق بين واجبات المسئولين عن إدارة شئون مجتمع يمر بمرحلة تحول ثورى تتضمن إعادة بناء التنظيم المجتمعى ذاته، وبين مسئولياتهم فى مجتمع استقرت أوضاعه.
وفى هذا الأخير فارق كبير بين كون هذه الأوضاع تحصر الأمور بيد قلة تغتصب حقوقا مقدسة، وبين كون قوى الشعب العاملة قد حظيت بمعيشة تحترم إنسانيتها وكرامتها. أحيل د. جلال إلى كتاب الدكتور ثروت عكاشة (دكتوراه فى الآداب من السوربون فى 1960) المعنون «مذكراتى فى السياسة والثقافة» ليتبين أنه رأس تحرير مجلة التحرير للسنتين الأوليين للثورة لتعريف الشعب بأهدافها ومتطلبات إنجاحها، ثم اختار عبدالناصر له فى 1958 كأول وزير للثقافة والإرشاد القومى لما لمسه فيه من أصالة فكرية أثناء مناقشاتهما حول الثقافة خلال فترة الإعداد للثورة، وما عايشه كسفير، خاصة فى روما، من حياة ثقافية وفنية متطورة. فبدأ عمله بعقد مؤتمر فى مارس 1959 لمدة أسبوع حُشدت فيه كافة العقول المعنية بمختلف دروب الثقافة، أوضح متطلبات بناء ثقافة تغير مجرى الحياة والرد على تحديات العصر ودفع الأحداث فى اتجاه تحقيق أحلام البشرية، وإزالة الاستسلام لوهم اتساع الفجوة بين المثقفين وغير المثقفين، وضرورة استعداد المسئول عن رعاية التطوير الثقافى للتضحية بمتابعة أنشطته الثقافية الخاصة، فى سبيل تحقيق صالح عام يفتح أمام الآخرين مجالات تمكنهم من مضاعفة العطاء لإزالة الحواجز الثقافية بين فئات الأمة. فبدأ فى 1959 بإنشاء القصور الثقافية التى أوقفت الحرمان الذى عانت منه الأقاليم التى خضعت للاستغلالين الاقتصادى والوجدانى الذى مارسه الإقطاع، استيفاء لمتطلبات العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات بمعناهما الدقيق. وأنشئت المعاهد التى تعهدت العقول والمشاعر الفتية لتخرّج جيلا قادرا على إيضاح الملامح الجمالية المطمورة بالأتربة والرمال والمغمورة بأكوام الجهل.
•••
واستوردت الأدوات والمعدات الحديثة لتغذى فى هذا الجيل قدرة الإبداع، ليس ليثرى بيئته المحدودة فحسب، بل وليطلع العالم بأسره على إبهار الكنوز التى كانت تعامل كآثار حضارة طوتها آلاف السنين، فإذا بالأدوات الحديثة كالصوت والضوء تجعلها تعايش العصر الحديث، مع بقائها معبرة عن المخزون المصرى الحضارى، ووضع أسس متاحف عديدة. ونبّه اليونسكو إلى المحافظة على التراث العالمى بدعوته لحثّ كل المعنيين على المشاركة فى إنقاذ آثار أبو سمبل التى عرض السفير الأمريكى حفنة دولارات لتتزين بها دولة لا تاريخ لها. وتجاوز الاهتمام بالكتاب مجرد حفظ فى دار للكتب إلى العناية بالمخطوطات القيمة والوثائق وإقامة الهيئة العامة للكتاب، وتمكين ذوى الدخل المحدود من انتهال الثقافة فى كتب زهيدة السعر فى سلسة اقرأ واخترنا لك والمكتبة الثقافية التى انبثقت منها مكتبة الأسرة، وموسوعات فنية. وإلى جانب إنشاء المعاهد والمؤسسات السينمائية والمسرحية التى تدفقت فيها عروض رفيعة المستوى انتهالا لإنتاج غزير هيئت له الإمكانات المادية والإيحاءات الوجدانية، أسعد مسرح العرائس النشء الجديد، وساهم التليفزيون إلى جانب الإذاعة فى إيصال المنتجات الأدبية والفنية إلى كل طبقات الشعب. وبينما حرم النظام المعتبر أقل ظلما للثقافة العبقرى صاروخان من الجنسية المصرية لأنه كشف مفاسده، منحه إياها عبدالناصر، وتابع مسيرته صلاح جاهين بإبداعاته الفكرية ولوحاته المعبرة وليلته الكبيرة التى جمعت حفنة من الفنون.
عندما قابل عبدالناصر عكاشة عند تكليفه بوزارة الثقافة قال: «مهمتك هى تمهيد المناخ الثقافى لإعادة صياغة الوجدان المصرى.. وتذكر أن بناء المصانع سهل.. ولكن بناء الإنسان صعب جدا!».
تذكروا يا أولى الألباب!!
محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق