الجمعة 25 من ربيع الثاني 1439 هــ 12 يناير 2018
بقلم : صلاح سالم
الرئيس يشرب من «القله» ويجلس على الحصيرة
ميزة عبد الناصر الكبرى عن محمد على هى ثقته فى شعبه وإيمانه بالوطنية المصرية
تبنى نمطا شموليا للتحديث إذ اعتبر نفسه رد فعل على الإخفاق الاجتماعى للحقبة الليبرالية
تتكاثف دعوات التغيير وتتسارع عوامل النهوض فقط فى لحظتى: الوحى، عندما ينبثق دين جديد. أو الثورة، عندما يولد وعى جديد، فلا يمكن لواقع مغاير أن يولد على جثة السائد والمألوف إلا بواسطة شخصية استثنائية، سواء من حاملي الرؤي المبشرين بما فوق عالمنا «الأنبياء»، أو من حاملى السيف المبشرين بمستقبل أيامنا «الأبطال»؛ فالوحى والسيف وحدهما قادران على كسر المعتاد والمألوف، والخروج من أسر الكهوف. وقد كان جمال عبد الناصر، مهما اختلف الناس عليه أو معه، واحد امن أولئك الذين اقتحموا التاريخ، ليخرج بمصر من كهف الاحتلال والرعوية إلى آفاق الاستقلال والتحديث ولو كان فى صيغة سلطوية.
كانت مصر قد تقلبت كثيرا على سطح التاريخ بين دولة شبه إمبراطورية «فرعونية» ومستعمرة محتلة فارسيا ويونانيا ورومانيا قبل الفتح العربي. وبعده لعبت مصر دور الإمارة الكبرى والولاية المكتفية، قبل أن تتمرغ في وحل «السلطة الرعوية» مع الانهيار العباسى والاجتياح التترى، وهى المعادل العربى لنموذج الإقطاع الأوروبى. ففى ظله أخذت السلطة السياسية تنفصل تدريجيا عن المجتمع العربي المتمدين وترتبط بالعناصر التركية التي شكلت تدريجيا نخبة عسكرية اضطلعت بالوظيفة الأمنية وحالت بين المجتمع العربي وبين الدور العسكري / الجهادي الذي بدأ به تاريخه الإسلامي، وفي المقابل تحكمت في سلطته السياسية وموارده الاقتصادية على نحو ولد لديه شعورا متناميا بالاغتراب، ترسخ في العصرين المملوكي والعثماني واستمر في ظل السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية، وفى سياقه عاش المصريون أسرى الفقر والقمع، حتى كانت الحقبة الحديثة التى عاشت مصر خلالها مشروعين نهضويين شديدى الأهمية على الرغم من تباينهما:
المشروع الأول (العلوى) جسده الباشا الألبانى محمد على، الذى انتقل بمصر من بنية العصور الوسطى «الرعوية» إلى فضاء العصر الحديث على أصعدة التعليم والزراعة والتصنيع خصوصا العسكرى حتى شهد مؤرخ غربى بحجم توماس لوتسكى بأن ترسانة الإسكندرية البحرية تفوقت على نظيرتها الفرنسية بطولون، نهاية الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، فى تصنيع بعض أنواع البوارج البخارية. كما تفوق الأسطول المصرى آنذاك على نظيره الفرنسى فى نسبة السفن البخارية قياسا إلى السفن الشراعية. حينذاك حاولت مصر استعادة الوظيفة الأمنية والسياسية لمجتمعها المتمدين من أنياب السلطة الرعوية خصوصا عندما بدأ محمد على فى تجنيد «الفلاحين» السودانيين ثم المصريين تحت قيادة ضباط تنوعت أجناسهم ما بين أتراك، وأرمن، وشركس، وفرنسيين، حتى أخذت مدرسة أسوان الحربية ثم المدرسة الحربية للمشاة وأخيرا مدرسة أركان الحرب بالخانكة فى تخريج ضباط مصريين بعد 1920م ناهيك عن الضباط الذين تعلموا فن العسكرية ضمن البعثات إلى الخارج خصوصا فى فرنسا، الأمر الذى جعل من مصر رقما صعبا يكاد يرث الحضور التركى فى المعادلة الدولية، ويدق بوابة المشروع العربى خصوصا عندما حاول داود باشا فى العراق تقليد خطا محمد على والسير على نهجه، وهو عين ما فعله الأمير بشير الشهابى فى لبنان محتميا بدعم محمد على وابنه إبراهيم باشا، وما حاوله أيضا الباى أحمد فى تونس، وهو ما كان له الأثر فى تحفيز المقاومة الجزائرية ضد الفرنسيين بقيادة أحمد بك فى مدينة ططرى بعد استسلام حسين باشا داى فى العاصمة.
غير أن مشروع محمد على عانى انكسارا حادا أمام الضغط الأوروبى بتوقيع معاهدة لندن عام 1840م التى قلصت الحيش المصرى من 250 ألفا إلى 18 ألف جندى، وحاصرت الحيوية المصرية، دون ممانعة كبيرة سواء من خلفاء محمد على، أو حتى من المجتمع المصرى القاعدى الذى لم تصل إليه عوائد الإصلاح فلم يجد لديه من الدوافع، ولا القدرات ما يمكنه من مقاومة الانكسار، وهو أمر يرجع إلى أن مشروع محمد على قد أخذ إلهامه الحقيقى من السلطنة العثمانية رغم محاولة تحديثها، ولذا كان تحديثه هشا متمحورا حول قطاع رئيسي واحد هو الجيش الذى لعب دور الحامل التاريخى الحقيقى لهذه التجربة، الأمر الذى حال بين الثقافة السياسية وبين تشكيل كتلة تاريخية حديثة ذات قاعدة مجتمعية، ورؤية ثقافية، وأنماط تنظيمية، وطرائق فى الحياة تميزها وتكفل لها نوعاً من الاستمرارية تدفعها للقتال من أجل الحفاظ عليها مثلما فعلت الطبقة البرجوازية عبر التركيبة الرأسمالية ورموزها كالدولة القومية، واقتصاد السوق، ثم الديمقراطية، أو حتى الطبقة الإصلاحية اليابانية فى العصر الميجى نهاية القرن التاسع عشر. ولذا فعندما تم تفكيك الجيش، انهار المشروع كله قبل أن ينجز استنارة مجتمعية عميقة أو يرسخ تحديثا واسعا وإن وضع فى التربة بذورا أزهرت بعد حين، خصوصا فى الثورة العرابية، التى عبرت عن ميلاد طبقة وسطى مصرية بيروقراطية وعسكرية باتت تتمرد على الإقطاع الرعوى، ونزعة وطنية خافتة أخذت تتبلور فى مواجهة الهجوم البريطانى على مصر. وبالأخص فى ثورة 1919م التى شهدت مصر فى ظل دستورها الليبرالى حركة تنوير جديرة بالاهتمام حاولت عبر رموزها الكبرى أن تطرح أسئلتها على الواقع بشكل جدى، ولكنها واجهت مشكلتين أساسيتين: أولاهما استمرار افتقارها للمكون العلمى التكنولوجى الحديث كقاعدة صارت هى الأهم فى البنية التاريخية للمجتمع الحديث. وثانيتهما حالة الضعف السياسى للبلاد بعد وقوعها فريسة للاحتلال البريطانى ولذا كان الأفق السياسى لأسئلة التنوير هذه مسدوداً، فاتخذت الحركة طابعاً فوقيا على نحو لم يمكنها من المساس بالجسد الاجتماعى، حيث تم رفض مشروعين مختلفين للإصلاح الزراعى، بل واعتبار مجرد «مكافحة الحفاء » مشروعاً قومياً استمر طرحه على البرلمان لنحو العقد، الأمر الذى كشف عن انسداد الأفق الاجتماعي لهذا النظام.
أما المشروع الثانى (الناصرى) فجسدته ثورة يوليو 1952م التى تبدو لى تكرارا ناجحا لثورة عرابى نهاية القرن التاسع عشر، أدى إلى خروج البريطانيين بعد الأسرة العلوية من مصر، قام به الجيل الأول من شباب الضباط المصريين أبناء الفلاحين فى الأغلب والطبقة الوسطى المحدودة إجمالا الذين دخلوا الكلية الحربية بعد معاهدة 1936، ولم يكن تكوينهم الشخصى عسكريا محضا، بل كانوا أقرب إلى «إنتليجنسيا عسكرية»، أى نخبة عسكرية تنطوى على وعى سياسى يأخذ إلهامه من حركة التحرر الوطنى المصرية، حيث انتمى أغلبهم إلى تيارات سياسية راوحت بين اليسار واليمين، ومارس بعضهم دورا سياسيا قاده إلى الفصل من الخدمة العسكرية. ومن ثم تبرز أهمية السمات النفسية لقائد الضباط الأحرار «جمال عبد الناصر» الذى كان قارئا واعيا للتاريخ، مدركا لمنطق سيره ولطبيعة القوى المتحكمة فيه والصانعة له، غاضبا من هيمنة الغرب على شرقنا العربى، تواقا إلى الخلاص منها. يشى بذلك موقفه فى حرب فلسطين وإدراكه المبكر لجوهر الصراع فى المنطقة والوظيفة الحضارية لإسرائيل. ويشى بذلك أيضا وعيه العميق بدور قناة السويس ليس على المستور الإستراتيجي أو الاقتصادي فحسب بل على المستوى الرمزى كمعنى ومغزى، ومن ثم تلهفه الشديد على تأميمها رغم المخاطر المحدقة؛ لأن فعل التأميم لم يكن يمثل له مجرد تحقيق عائد مادي أو سياسي، بل كان فعل تحرر كامل من ذلك النوع الوجودى الذى يؤسس للذات القومية / الحضارية إذ يخلقها خلقا أو يصهرها صهرا على طريق إعادة اكتشاف نفسها، وهو أمر صدق تماما فيما بعد، حيث غير قرار التأميم وما تبعه من ملابسات الحرب والدبلوماسية من طبيعة النظام الدولى القائم، وأدى ـ حسب العظيم جمال حمدان فى كتابه الرائع «استراتيجية الاستعمار والتحرير» ـ إلى توقيف موجة الاستعمار وتدشين موجة التحرير فى التاريخ السياسي العالمى.
أخذ مشروع التحديث السلطوى الناصرى إلهامه من الحداثة الأوروبية وإن كان فى صورته الاشتراكية، كما تأسس على عدة ركائز: أولها جيش وطنى أعاد للمجتمع المصرى وظيفته العسكرية، حتى إنه كان قادرا على الانتصار فى أكتوبر 1973م بعد ست سنوات فقط من هزيمته فى يونيو 1967م، ارتكازا على معماره الذاتى من عقيدة عسكرية وروح وطنية ومستوى أرقى من الجنود المتعلمين، أرباب المشروع الناصرى أساسا، ولكن مع تغيير القيادة العسكرية العليا التى كانت قد فسدت وترهلت، وشجاعة القرار السياسى للرئيس الراحل محمد أنور السادات. وثانيها التعليم النظامى (الواسع). وثالثها حركة التصنيع الشاملة، على أرضية طبقة وسطى واسعة تكاد تحتوى معظم شرائح المجتمع رغم محدودية معارفها ومهاراتها نسبياً، وتكوينها البيروقراطى غالبا. ورابعها رؤية ثقافية حديثة سعت إلى استلهام مقومات الخصوصية الوطنية والقومية، وإلى تأكيدها فى إطار نزوع إنساني وعالمى كانت له جاذبيته وفعاليته رغم جموحه، وفى سياق روح كفاحية تؤمن بالقدرة على التأثير فى حركة سير التاريخ. وخامسها تبنى إيديولوجيا راديكالية نوعاً ما، تعلى قيم التحرر والكبرياء على ما عداها، حتى لو كان «الواقعية السياسية»، كمحاولة لإشباع النرجسية الوطنية، وإحداث القطيعة مع القيم الرعوية كالاستسلام والخضوع والقدرية وربما الشعور بالدونية الذى كان قد تكرس فى الشخصية المصرية لقرون طويلة إزاء الآخر.
هنا لابد من ملاحظة مدى التشابه والاختلاف بين المشروعين: العلوى والناصرى، فالتشابه يتمثل فى أولوية بناء الجيش، ومحورية حركة التصنيع، وأهمية نشر التعليم، وفى الطموح إلى بناء دولة عربية كبرى تتجاوز موضعها لتسد الفراغ الاستراتيجى العربية فى جغرافية النظام العالمى القائم. وكذلك، بل وبسبب ذلك، فى المآل النهائى وهو انهيار الأول وانتكاسة الثانى بفعل الضغط الغربى / الإسرائيلى. أما الاختلاف الأساسى والعميق فيتعلق بعمق الحضور المجتمعى المصرى، فلدى محمد على كان الجيش هو الغاية ومصدر إلهام حركتى التعليم والتصنيع، وأما لدى عبد الناصر فكان المجتمع نفسه هو الغاية هو ما يتجلى على صعيدى الرؤية الثقافية، والأيديولوجية السياسية، فكلتاهما كانت موجهة إلى مجتمع ينبغى تحديثه وتغييره باعتباره القاعدة والغاية لأى تحديث آخر، ولذا كان مشروع عبد الناصر أكثر شمولية وعمقا على نحو مكنه من صياغة عقد اجتماعي جديد تم من خلاله صياغة كتلة مصرية حديثة وطبقى وسطى عريضة نسبيا لا تزال متماسكة حتى الآن رغم كل إحباطاتها.
ولعله صحيحا أن هذا العقد لم يبلغ الأفق الديمقراطى قط، ربما لضعف جاذبية الفكرة الديمقراطية نفسها آنذاك كأيديولوجية استعمارية تأخذ الموقف السكونى المحافظ فى بنية الصراع الدولى وتترك لنقيضها «الاشتراكية» الموقف النقيض «التقدمى». كما أنه لم ينفتح أبدا على تيارات الحركة الوطنية خصوصا المدنية والديمقراطية وعلى رأسها حزب الوفد؛ نتيجة لحال من الشك المتبادل وقع الطرفان فى أسره. ولكنه فى المقابل تبنى أكثر مطالب الحركة الوطنية نبلا وعمقا من قبيل بناء السد العالى وتحقيق الإصلاح الزراعى، وفرض التعليم النظامى الواسع الذى كان طه حسين قد اعتبره كالماء والهواء وحقق نذرا يسيرا منه على مستوى التعليم الإلزامى. ثم حركة التصنيع التى كانت حلما للعظيم طلعت حرب. وهكذا حقق المشروع الناصرى الكثير من الأهداف التحديثية العميقة التى تعد شروطا موضوعية لازمة بل وسابقة على أى تحول ديمقراطى، بل أنه أوجد مكونات وعى ليبرالى حقيقى خصوصا على مستوى إنضاج إدراك الذات الفردية للمصرى كإنسان، ولموقع وطنه فى العالم كقائد لحركة التحرر القومى، ما ولد لديه نوع من الثقة فى النفس، كما الثقة فى سلطته (الوطنية)، إلى الدرجة التى مكنت (عم عيد الترزى) فلاح قريتى الصغيرة فى دلتا النيل، من الذهاب إلى (جمال) فى بيته كى يشكو له (هيئة الإصلاح الزراعي) التى لم تسلمه أرضا كباقى أهل القرية، بينما كان جمال حريصا على العقد، صادقا مع العهد، إلى ذلك الحد الذى منعه من استعذاب شكوى الرجل، مثلما استعذب الفرعون القديم شكوى الفلاح الفصيح مطالبا إياه بتكرارها، بل أسرع إلى حلها؛ ليس لأن عم عيد قليل الفصاحة فقد كان الرجل حكاء مميزا، ولكن لأن جمال كان يدرك أنه رئيس الفلاحين والعمال قبل غيرهم، ثار على الاحتلال والقصر والإقطاع لأجلهم، ولذا فلا متعة له فى سماع أنينهم. وعندما تقدم له المخابرات الأمريكية رشوة يقبلها منهم ساخرا ليقيم بها أحد أكبر معالم القاهرة وأعلاها (برج الجزيرة) كى يبقى شاهدا على تصاغرهم وعلى عظمته، كزعيم وطني أحب المصريين العاديين حبا لم تداخله بذرة شك أو ذرة نفاق، فأخذ يحنو عليهم كما لم يفعل أحد قبله أو بعده. ولأنه كان بسيطا مثلهم، فقد أراد العيش كما يعيشون، متقشفا فى مسكنه وفى غذائه، وفى نمط حياته الذى لم يتعدى مستوى موظف ينتمى إلى الشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى، يقترض لزواج ابنته، ويستكثر على نفسه تشييد حمام سباحة فى منزله (الرئاسى). بل إنه ترك أولاده بسطاء دون ميراث يذكر كما لم يفعل حاكم آخر منذ عمر بن الخطاب، أعدل حكام التاريخ الإسلامى، ولهذا يحلو لى دوما وصفه بالقرين الحداثى للفاروق، وهو أمر يبدو صادما للإسلاميين الذين يرون الرجل معاديا للإسلام، وتفسير ذلك عندى هو أن الرجل انتصر لنمط التدين السمح لجموع المصريين، ولقيم الإسلام الحضارى بالمعنى الجوهرى الذى يجعلها فى خدمة الإنسان، فيما حاولوا هم توظيف ظاهر النصوص لصالح مشروع سياسى يمتطى الإسلام والإنسان معا. ورغم اعترافى باستبداده، إلا إننى أراه استبدادا عادلا وعظيما، أضاف إلى الوطنية المصرية آخر رقائقها وأصلب طبقاتها، وسلك مع عموم المصريين كأب حقيقى، دفع ثمن أبوته لهم قبل أن يحصل على استحقاقاتها منهم، فكان رمزا أثيرا، يستعيده الضمير الجمعي فى كل أزمة كبرى ولحظة مربكة، حتى أخذت صورته تتبدى وكأنها علم مصر، يحملها الكثيرون فتثير الحمية والحماسة كما الاطمئنان والثقة، فليرحمك الله أيها الرجل العظيم، ويجعل من مئوية ميلادك (15 يناير 1918م) بعثا جديدا للحلم المصرى.