بقلم : عبد الخالق فاروق
خطاب التنديد والعتاب القاسي (وأحياناً كثيرة الإدانة) لما سماه البعض حالة “خذلان الشعوب العربية” هو ضار سياسياً وثقافياً، علاوة عن كونه خاطئاً علمياً، لأنه يخلق حالة من التشاحن بين الشعوب العربية.
- اليوم 13:46
انتشرت طوال الأسابيع القليلة الماضية -في وسائل الإعلام والصحافة والفضائيات العربية المؤيدة لمحور المقاومة في المنطقة عموماً، والمقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية خصوصاً- نبرة غاضبة وحزينة، عاتبت في البداية، ثم انتقلت إلى حالة من الغضب والصراخ ضد ما سماه البعض “تقاعس” بعض الشعوب العربية أو جلها في الدفاع عن الشعب الفلسطيني البطل والمظلوم في فلسطين، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، وذلك عبر الخروج إلى الشوارع والقيام بالتظاهرات والاحتجاجات تأييداً لمقاومة أبطالنا هناك، إلى درجة أن أحد هؤلاء الضيوف لعن هذه الأمة واستنكر أن يكون منها، وتناهت إلى مسامعنا عبارات من قبيل “أمة لا شرف لها” أو “الشعوب الغربية هي التي تتحرك وتساند شعب غزة فيما الشعوب العربية جامدة لا تتحرك”.
وبلغ الأمر حدته إلى الدرجة التي أعلن فيها أحد الضيوف -وهو بالمناسبة باحث ومدير مركز أبحاث معروف في بلد أوروبي- أنه “لا يشرفه أن يكون عربياً أو من هذه الأمة”، فيما صرخ أستاذ أكاديمي آخر في إحدى الشاشات: “ما هذا الوطن العربي الذي نعيش فيه!”.
كما أطل باحث أول في أحد المراكز البحثية المرموقة ليقدم تفسيره لهذه الظاهرة بالتحول والتغير الذي طرأ على مفهوم العدو في العقل العربي. وبصرف النظر عن حدة الخطاب وغضب أصحابه، وكذا دوافعه الوطنية المخلصة ولغة اليأس والإحباط الخفية في حروفه وكلماته، فإن هذا النوع من الخطابات بقدر ما هو ضار سياسياً وثقافياً فهو خاطئ علمياً وتحليلياً.
لماذا هذا الخطاب خاطئ علمياً؟
لقد كشفت هذه الحرب عن مجموعة من الحقائق الفاضحة:
الأولى: ذلك الاصطفاف العلني لقوى الاستعمار الغربي مع الكيان الصهيوني بصورة غير مسبوقة. صحيح أن الغرب لطالما ساند “إسرائيل” ودعمها في كل حروبها وعدوانها ضد العرب، شعوباً كانوا أو دولاً وحكومات، بيد أن هذه هي المرة الأولى التي يسارع قادتها بلهفة وذعر للحضور إلى الكيان وإعلان تأييده بهذه الصورة الفاضحة، فلم يعد هناك كتلة عربية يخشى غضبها أو موقفها الجماعي، كما جرى في المرة الأخيرة أثناء حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
الثانية: أن العجز الحكومي العربي كشف عن نفسه بصورة غير مسبوقة في تاريخ هذه المنطقة، وانزاح الستار، فإذا ببعض الحكومات العربية متواطئة مع الكيان الصهيوني، وبعضها الآخر متآمرة ومتعاونة معه ضد المقاومة وضد الشعب الفلسطيني، وبعضها الأخير عاجز وغير قادر.
الثالثة: أن الشعوب العربية بقدر رغبتها ودعمها للمقاومة وللشعب الفلسطيني، فإنها تظل محبوسة ومعتقلة في بعض أهم الدول العربية المجاورة لفلسطين وغير المجاورة.
وقد جرى في مصر اعتقال المئات من الشباب (الذين بادروا إلى الخروج في تظاهرات مساندة ومؤيدة للشعب الفلسطيني البطل ومقاومته الجسورة في غزة يوم الجمعة الموافق 20/10/2023)، وقدموا لنيابة أمن الدولة في القضايا أرقام (2463) لسنة 2023، و(2468) لسنة 2023 في القاهرة، و(2469) لسنة 2023 في الإسكندرية، بتهم الانضمام إلى جماعة إرهابية والاشتراك في تجمهر الغرض منه الإضرار بالأمن والنظام العام وتغيير نظام الحكم بالقوة وإتلاف مال عام وخاص، وذلك تنفيذاً لغرض إرهابي، واستخدام القوة والعنف ضد موظف عام لحمله على الامتناع عن أداء عمل من أعمال وظيفته، وكان ذلك لغرض إرهابي، وما زالوا محبوسين حتى لحظة كتابة هذه السطور (20 مارس/آذار 2024).
وهكذا، فإن قراءة الناقمين والعاتبين بفعل تقاعس الشعوب العربية، سواء في مصر أو بقية الدول العربية والخليج النفطية -عدا الكويت- هي قراءة مبتورة وغير دقيقة. ولعل استطلاعات الرأي العام التي أجرتها بعض المراكز العالمية، والتي نشرت منذ عام تقريباً، تؤكد أن 90% من الشعب السعودي (شعب الحجاز ونجد والجزيرة العربية) هم ضد “إسرائيل” وضد السلام معها، وكذلك في دولة الإمارات وبقية دول الخليج، ولا يختلف الأمر كثيراً في مصر.
إذاً، ما الذي يمنع الشعوب العربية من الخروج بمئات الآلاف، وربما الملايين، في شوارع العواصم العربية؟ هل فقدت هذه الشعوب العربية حماستها للقضية الفلسطينية أو فقدت نخوتها وعزتها وإيمانها بالحق الفلسطيني أم ربما نجحت 50 عاماً من عمليات التسوية الاستسلامية (التي قامت بها معظم الحكومات العربية مع الكيان الإسرائيلي منذ زيارة السادات المشؤومة للقدس المحتلة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1977 وغيرها من اتفاقيات التسوية والاستسلام) في إحداث اختراق وترهل في موقف وتأييد الشعوب العربية لقدس أقداس العرب والمسلمين وأحرار العالم؟
الحقيقة أن التحليل الدقيق من واقع الخبرة والممارسة السياسية المباشرة في هذه البلدان العربية -ومنها مصر على سبيل المثال- تفيد بحقائق مختلفة تماماً. وهنا نشير إلى الحقائق التالية:
برغم الإدراك الواعي لحجم الجهد الذي بذل من جانب أطراف عديدة محلية ودولية وإسرائيلية لاختراق الوعي العربي والمشاعر العربية والثقافة العربية، تارة تحت عنوان “ثقافة السلام” أو ما أطلق عليه الرئيس السادات “العقدة النفسية” أو “ثقافة التسامح”… إلى آخر تلك المصطلحات والتعبيرات الملتبسة، فإن الوعي العربي العام والمشاعر العربية ظلت مؤمنة ومتمسكة بالقضية الفلسطينية والعمل المقاوم الفلسطيني. وقد عبرت عن ذلك المواقف الجياشة لهذه الشعوب العربية والمصرية أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة والضفة الغربية أعوام 2002-2006-2008-2012-2014-2018-2021-2023.
2- الجديد الذي لا ينتبه له كثير من المعلقين العرب وأصدقاء المقاومة المقيمين خارج المنطقة العربية هو إسقاط عامل القهر الأمني غير المسبوق الذي تعرضت له الشعوب العربية في كثير من الدول بعد ثورات الربيع العربي، فقد ربطت أنظمة الحكم (وأجهزة أمنها التي جاءت بعد فشل ثورات الربيع العربي) بين هذه التجمعات والتظاهرات والاحتجاجات التي كانت تجري تأييداً للمقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني والمطالب الحياتية والمعيشية المباشرة وما جرى من انتفاضات وثورات في تونس (ديسمبر/كانون الأول عام 2010 )، وفي مصر (يناير/كانون الثاني عام 2011)، ومثلها في البحرين واليمن وغيرها من الساحات العربية، وأصبحت هذه أولى الدروس التي تعلمتها هذه الأنظمة الاستبدادية وأجهزة أمنها، فأصبح أي شكل من أشكال الاحتجاج والتظاهر محظوراً وممنوعاً بالحديد والنار.
3- يضاف إلى ذلك أن هذه الأنظمة الجديدة – التي لم تكن سوى امتداد لأنظمة الحكم القديمة التي ثار عليها شعوبنا – ذهبت في تحالفاتها وتعاونها مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” إلى ما هو أبعد كثيراً مما سبقها، وتحول الدور الوظيفي لكثير من جيوشها إلى مهمة جديدة هو “محاربة الإرهاب” دون غيرها من تحدٍ أو مواجهة غطرسة القوى والعدوانية الإسرائيلية المدعومة غربياً وأميركياً، وخصوصاً أن كثيراً من هذه البلدان واجهت فعلاً حركات إرهابية متوحشة هددت كيانات هذه الدول بالتقسيم والانفصال (سيناء – السودان – سوريا – تونس – الجزائر – العراق – اليمن).
4- علاوة على ذلك، فإن أجهزة أمن هذه الأنظمة الاستبدادية العربية كانت حريصة أشد الحرص لسنوات طويلة على اختراق وتحطيم الكيانات السياسية المعارضة ومنظمات المجتمع المدني مثل: النقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية والفلاحية، بل إن أجهزة السلطة الفلسطينية نفسها ظلت طوال 30 عاماً أو يزيد تحارب وتناهض منظمات المقاومة المسلحة والسلمية، وتقمع التظاهرات التي تخرج في مدن الضفة تأييداً لفصائل المقاومة في غزة والضفة الغربية.
5- ولعل الإجابة عن السؤال التالي تعطينا مؤشرات واضحة (لا تخطئها العين) لما ذهبنا إليه: لماذا تتحرك الشعوب العربية في دول ولا تتحرك في أخرى؟
السبب أن في الدول الأولى مساحة من الحرية النسبية والقدرة على الحركة، كما أن هناك كيانات تنظيمية ما زالت متماسكة كأحزاب ومنظمات مجتمع مدني. أما في الدول الثانية، فهذه الشعوب تعاني من أنظمة حكم أكبر وأعمق من كلمة ديكتاتورية. إنها أنظمة تقوم بالتنسيق متعدد المستويات مع الكيان الإسرائيلي، وتمتلك أجهزة أمنية وحشية. وأخيراً، فإن الأحزاب والكيانات التنظيمية فيها ضعيفة أو مخترقة أمنياً. هذا هو التفسير العلمي الصحيح.
لماذا هذا الخطاب ضار سياسياً وثقافياً؟
مثلما أخطأ البعض في قراءة مشهد ثورات الربيع العربي في عدد من العواصم العربية، وخصوصاً في مصر وتونس واليمن والبحرين، وحاكم هذه الثورات النبيلة بما جرى في سوريا من جرائم وعمليات إرهابية. وبهذا، نظر إلى أحداث هامة وتاريخية في حياة شعوبنا العربية المحبوسة والمظلومة من ثقب إبرة “الحدث السوري”، فوصفه البعض ظلماً وعدواناً بأنه “الربيع الأميركي” أو استهزاء “بما يسمى الربيع العربي” أو “الربيع الأميركي”، وذهب بعض الحمقى إلى وصفه “بالربيع العبري”.
بالمثل، فإن خطاب التنديد والعتاب القاسي (وأحياناً كثيرة الإدانة) لما سماه البعض حالة “خذلان الشعوب العربية” هو ضار سياسياً وثقافياً، علاوة عن كونه خاطئاً علمياً، لأنه يخلق حالة من التشاحن بين الشعوب العربية بزعم تجاهل أو تقاعس أو تغير مشاعر وانتماءات واهتمامات هذا الشعب أو ذاك من القضية المركزية للأمة العربية والإسلامية.
ولا نبالغ إذا قلنا إنها أصبحت قضية الأحرار في جميع أنحاء العالم، متجاوزة الحدود الجغرافية والاصطفافات القومية أو الدينية والمذهبية. نحن إزاء قضية إنسانية بقدر ما هي قضية سياسية، تماماً كما كانت قضية التمييز العنصري لدى عديد من دول القارة الأفريقية.
هل تتصورون ظلماً وسوءَ فهمٍ أكثر من هذا؟