” عشرة أيام هزت العالم ” هو عنوان لكتاب أصدره الكاتب الأمريكي جون ريد عن الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 التي اسقطت حكم القياصرة ، وأسست لما سُمي بعد ذلك بالاتحاد السوفيتي . والحقيقة لم أجد في ذاكرتي أجمل من هذا العنوان لأصف به مشاهد الثورة الفلسطينية المباركة ضد العدو الصيوني في أحدث جولاتها التي انطلقت من حي الشيخ جراح بالعاصمة الفلسطينية ” القدس ” قبل عشرة أيام بالتمام والكمال.
وفق المخطط العام لسلسلة المقالات التي قصدنا بها دخول معركة ” الوعي ” لصالح أجيالنا الشابة الثائرة ، كان من المفروض أن يكون هذا المقال عن دور ومهام الطرف الثاني من المعادلة وهو الطرف العربي ، ولكن – وبسبب – وقف القتال الذي جاء قبل موعده – على غير توقعي ورغبتي – سيصبح تأجيل هذا المقال إلى مرحلة لاحقة أمرًا واجبًا ، ونكتفي في مقال اليوم برصد المؤشرات العامة لما نراه انتصارًا استراتيجيًا مرحليًا.
في المقال السابق تناولنا – بصيغة الجمع أنتم وأنا – شرح وتفسير ودحض بعض الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني ، وأهمها نظريته الأمنية ، وأوضحنا من خلال السياق حجم الزيف والضلال والخداع لجملة هذه الأُسس ، وذلك باستخدام منهج تحليل المضمون وفك وإعادة تركيب هذا المضمون من جديد لاستخرج المعنى الحقيقي المسكوت عنه في السياق ” الصهيوني ” المطروح المراوغ الكاذب . ووصلنا إلى أن هذا الكيان ليس إلّا كيان استعماري استيطاني توسعي عنصري ، والأمر كذلك ، فإن هذا النوع ” المنقرض ” من أنواع الإستعمار يُعد الأشرس والأعقد والأكثر كُلفة في مواجهته وتدميره. وانتهينا في المقال الأول إلى أن ” ثورة الشيخ جراح ” وما تلاها من تفاعلات هزت العالم قد تسببت في زلزال وتصدع في داخل البنية الأساسية للكيان الصهيوني ، وألحقت هزيمة جادة لنظريته الأمنية التي هي أُس الأُسس في وجوده واستمراره. ثم أخيرًا شرحنا معنى – ومبرر – الاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين في غزة انطلاقًا من – وتأكيدًا على – الطبيعة العنصرية للكيان الصهيوني في العدوان ثم العدوان ومزيد من العدوان ، والقتل ثم القتل ومزيد من القتل ” كرر نفسك .. كرر نفسك “.
ولسنا أبدًا بصدد حساب المكاسب والخسائر لهذه الجولة المباركة من الصراع ؛ لأن انتصار الإرادة الفلسطينية في هذه الجولة ليست في محل شك ولاتحتاج لأي إثبات ، يكفي فقط أن قادة الاحتلال قد صرحوا مساء الخميس 20 مايو وقف الحرب من طرف واحد بمعنى أنهم قد ” انتصروا ” وأنهم من موقع ” القوة ” قد أخذتهم الرأفة بالفلسطينيين ” وعفوا “عنهم. ( وهذا والله نوع من خليط الهذيان والإنكار والصدمة ؛ لأن حقيقة وجوهر مايشعرون به حقًا – ومتأكدون منه – هو أنهم في هزيمة وانكسار حاد ) وهو في صميمه يؤكد ما قلناه في المقال السابق من أن الكيان الصهيوني قد ” شاخ ” على معتقداته وأوهامه وأساطيره ، وليس بمقدوره أن يرى أبعد من ” طبيعته العنصرية ودوره الوظيفي ” فهو هنا يخاطب نفسه بنفسه فقط ، ويسمع صوته بنفسه فقط ، ويقنع نفسه بنفسه فقط داخل عقليته ” العنصرية المغلقة ” فقط ) وكأن لسان حاله يقول أنه طالما اطلق القذائف بكثافة ، وقتل المئات بمهارة فهو حتمًا منتصر ، بينما جنوده على أرض الواقع يهرولون في شوارع المدن كأنهم سكارى من هول الصدمة يعتقلون الأطفال تارة ، ويختبئون في صناديق القمامة تارة أخرى في مشهد كارثي يلخص جوهر الهزيمة المباغتة.
نعود للمؤشرات العامة لحالة الانتصار الاستراتيجي المرحلي :
أولًا: نرصد الصمود الأسطوري الفلسطيني بقيادة الطلائع الشابة الذي حطم أوهام حلم ” الوطن القومي ” للكيان الصهيوني:
أول وأهم ماحدث في هذه العشرة أيام التي هزّت العالم ، هو هذا العناق والتكامل والتناغم بين الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر في معركة الصمود الفلسطيني المُبهرة ، أما الجهاد الأصغر فهو زخات الرصاص / الصواريخ التي أفاضت على العدو بجو من الرعب اللامع في سماء المدن ، وفي الهرولة اللاهثة صوب الأقبية والملاجيء ، ولسان حالهم يتسائل : كيف يكون الرعب الأكبر إذًا ، ومتى تدق ساعته ؟ . بينما الجهاد الأكبر ، فهو يتمثل في الطوق البشري الهائل الذي خرج كما لم يخرج من قبل ثائرًا منتفضًا كالسيل العاصف في كل المدن الفلسطينية ، وتحولت أمامه قوات العدو المدججة بالسلاح كأنها – بل هي بالفعل – ” كالعصف المأكول” . وبدا المشهد على هوله وضياءه ، كأنه يلخص لحظة التحرير الكبرى أو كأنه ” بروفة / مسودّة ” لما ينبغي أن يكون في قادم الأيام. وكنت عن نفسي أتمنى أن تستمر مشاهد التآكل الداخلي للكيان أكثر وأكثر؛ لأن مقتل الكيان الصهيوني تكمن في انتفاضات تزلزل كيانه وتحرمه من متعة السيادة والغلو ، وتفضح أساليبه الدموية أمام العالم الذي ضاق ذرعًا من هذا الإستخدام الدائم ” المكرر ” والمفرط للقوة.
وقيمة هذا الخروج وفقًا للعقيدة الصهيونية أنه يمثل بداية النهاية للمشروع الصهيوني ؛ لأن العقيدة المركزية لديهم تستند على فكرة الأرض الخالية – أو التي يجب إخلاؤها – لتصبح وطنًا قوميًا خالصًا لهم ( راجع فكرة إلغاء الزمان والارتباط بالمكان التي تمثل أحد أهم أُسس العقيدة الصهيونية في المقال الأول ) ، والحال كذلك فإن فكرة الوطن – أو الوطن الدائم – لم تعد قائمة في فلسطين ، ولسوف يؤدي مرارة الإحساس بهكذا ضياع إلى استدعاء فكرة ” الخروج ” حاليًا طواعيةً ، أو ” الطرد ” في المستقبل ، وتتكرر عملية الطرد التي ميزت تاريخ الجماعت اليهودية بدءً من السبي البابلي وحتى فصولها الأخيرة في أوروبا نفسها مع بداية عصر النهضة في القرن السادس عشر حيث تم طردهم من سويسرا وألمانيا عام 1490 ، ومن أسبانيا عام 1492 ، ومن البرتغال عام 1496 ، ومن صقلية وسردينيا عام 1498 ، أما انجلترا وفرنسا فقد طردتهم في وقت أسبق من ذلك ، ولم يسمحوا لهم بالاستيطان فيهما. لماذا فعلت أوروبا ذلك ؟ ذلك لأن نمط الحياة الانعزالي ” الجيتوي ” بالإضافة إلى حقيقة كونهم ” جماعة وظيفية ” لم يعد لائقًا بقيم النهضة الحديثة ، وأصبحوا عبءً على هذه المجتمعات فحق عليهم ذلك. وهو نفس الأمر الذي يتحقق بحذافيره الآن في فلسطين العروبة والشعب العنيد.
وعلى الرغم من ذلك ، ومع التطور الفكري والثقافي والحضاري في أوروبا متضمنا القوانين والدساتير الديموقراطية ، وفي نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر سادت هناك ثقافة التسامح والمساواة وظهر مايسمى ” بقوانين الانعتاق” التي استفادت منها الجماعات اليهودية – مثلها مثل العديد من الجماعات الهامشية في المجتمعات الأوروبية – مقابل أن تتخلى عن عزلتها وخصوصيتها ، وأيضا يتخلوا عن ولائهم الغامض لما يسمى بأرض الميعاد ، ويصبحوا مواطنين لهم كل الحقوق. وهو الأمر الذي استمر لبعض الوقت ، ونجحوا أن يحققوا في أوطانهم الأصلية بعض الترقي والحراك الاجتماعي ، ثم ما لبس أن عادوا القهقري إلى سيرتهم الأولى ، وتحولوا إلى مشكلة التي اشتهرت باسم ” المشكلة اليهودية ” وكان حلها في هذا العقد الصامت ” أي غير المكتوب ” بين الحضارة الغربية العلمانية وبين الحركة الصهيونية ، وهو العقد الذي تحول إلى وعدًا ” مكتوبًا ” أثمر عن فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين . فهل تحقق الوطن القومي حقًا ؟
ثانيًا: نرصد ظاهرة تمدد فلسطين في الكون ، وانكماش الكيان الصهيوني خلف جداره الأخير:
في حين أن جوهر المشروع الصهيوني قائم على مبدأ القتال والاستيطان والتوسع ، فإذا به أمام إرادة الصمود الفلسطيني يعجز عن التقدم ويفقد ماكان قد أخذه بالتوسع ، وأن قتاله البائس ليس سوى الانتقام من الأطفال والمدنيين ، وهو الأمر الذي جر عليه غضبة الملايين من شعوب الدنيا، وفي التفاصيل نرصد مايلي :
بدا المشهد كأنه يشبه النهار الأول منذ كان الخلق ، حيث مسيرات حاشدة في الفضاء الفلسطيني تشق الطرقات والأزقة ، والميادين كأنها قد واتتها قوة مفاجئة ، وتحول هذا الطوفان البشري الذي أضاء شوارع وميادين فلسطين كل فلسطين إلى حصار خانق للكيان الصهيوني خانق بالمعنى الحرفي لا المجازي ، وخانق بمعناه النفسي والجغرافي ، وخانق بمعناه الإنساني والحضاري ، وخانق بمعناه الثوري والسياسي ، وعلى حين غرة ” اتسعت الرؤية فضاقت العبارة ” حيت امتدت شوارع وميادين القدس ويافا وحيفا ونابلس والرملة وغزة واللد وصفد ، واتحدت طواعيةً – بأحضانها الواسعة الرحبة – مع شوارع وميادين باريس وشيكاغو وامستردام ولندن وتونس وعمّان والمغرب وبيروت والجزائر وكندا وسيدني وملبورن ونيويورك وبرلين وكراتشي في وحدة أشواق إنسانية تلألأت وأفاضت على فلسطين الحبيبة نفسًا جديدًا ودعمًا مؤزرًا ، وعمقًا استراتيجيًا مهولًا لاتخطئه عين.
والمشهد في جلاله وعمقه قد تجاوز الحدود والدول والحكام ” الأرازل ” في جنبات الأرض ، وأصحاب المصالح وأصحاب السعادة ومقاولي التطبيع المجاني وغيرهم وغيرهم ، فقط الناس في عموم الدنيا بطبيعتهم وأحلامهم ونقائهم وإنسانيتهم وحناجرهم وقلوبهم المضيئة بالوعي الكامن فيها متحدة كلها من أجل فلسطين كأنهم في ” عيد البشرية الأول ” ، وفقط كان العلم الفلسطيني يحكم الكون كله ، وفقط مفردات القدس والأقصى وحي الشيخ جراح على كل لسان ، وعلى الطرف الآخر كان العدو الصهيوني محاصرًا في عجزة ويأسه وخيبة أمله وقنابله الرهيبة التي يتوسل بها أن تأتي له بخبر يقين عن استسلام ” العدو المشاغب ” وكلما تأخر الوقت وضاقت الصدور استدُعيَ الجيش العرمرم ليقف على حدود غزة استعدادًا لاقتحامها ، وفجأة شُلت يده وعجزت إرادته وعادت الحشود أدراجها ، ومع عودتها فقد الكيان الصهيوني للمرة الثانية ما كان قد فقده من قبل على الحدود اللبنانية ، وضاق عليه الحصار وانكمش في خلف الجدران الأخيرة منتظرًا لحظة الفرج بهدنة توقف الحرب .
وفي معنى ماحدث وفق النظرية الأمنية الصهيونية أن الاستيطان والتوسع والحرب الخاطفة وسحق العدو بلا رحمة واحتلال أرض الغير واستخدامها كموطأ قدم لعدوان جديد قد أصبح كله من ركام الماضي . أما المستقبل فقد بدت بشائره حاضرة في انتفاضة حي الشيخ جراح وصواريخ المقاومة المباركة . وهنا نضيف عنصر مهم ، تعرفون طبعًا أن الكيان الصهيوني قد دأب – على مدى عمر احتلاله للأرض – على تفادي ذكر كلمة الانتفاضة ( لأن مدلول الكلمة يرادف الثورة على الاحتلال ومقاومتة ) وعلى العكس من ذلك وصف انتفاضات الشعب الفلسطيني باعتبارها ” أحداث شغب ” أو ” عمليات إرهابية ” أو في الحد الأدنى ” عصيان مدني ” وبرغم كل الزيف والإنكار واللعب بالمصطلحات المراوغة تمكنت كلمة ” الانتفاضة ” من غزو المعجم الصهيوني رغمًا عنهم واستقرت كالنجم الساطع داخل الكلمات العبرية والإنجليزية .
وفي هذه المرة كرر نتنياهو وصفه البليد ” عمليات إرهابية تستهدف المدنيين الإسرائليين والغرب” وكان من الطبيعي أن يذكر الغرب للتعبير عن وحدة المصير المشترك بينهما ، والإستجداء الرخيص، وهو الأمر الذي تنادت له جل حكومات الغرب ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة عازفين نفس العبارة المكررة البليدة منذ عهد الانتفاضة الأولى ” نحن ندعم حق اسرائيل في الدفاع عن النفس” ( ولا أحد يتحدث عن حق الشعب الفلسطيني سوى الجماهير العفيّة الصادقة في كل ميادين الدنيا ، وقد حاصرت حكامها وسياسييها تماما مثلما حاصرت جماهير فلسطين قادة العدو ولكزتهم خلف الجدار الأخير إياه).
ثالثًا: نرصد فلسطين تتوحد بهويتها الوطنية الجامعة ، والكيان الصهيوني يتمزق في صلب وحداته النووية المتصادمة:
في الفترة من ديسمبر 1960 وحتى يناير 1961 عقد المؤتمر الصهيوني الخامس والعشرون في القدس ( عاصمة فلسطين المحتلة ) بقيادة ناحوم جولدمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية ، وقد شهد المؤتمر خلاف كبير بينه وبين بن جوريون رئيس وزراء الكيان الصهيوني على قاعدة ” مسألة الهجرة إلى إسرائيل ” بعد أن كادت تتوقف الهجرة اليهودية من أوروبا الغربية ، وذلك بسبب تصاعد وتيرة اندماج اليهود في بلدانهم الأصلية ، وهو الأمر الذي وجده بن جوريون نوع من الخيانة العظمى باعتبار أن الهجرة للكيان الصهيوني ” واجب ديني وقومي على كل يهود العالم ، ذلك لأن اليهودي لايكتسب كماله الخلقي ومثاليته ولا يعبر عن ايمانه بالصهيونية إلا بالوجود عل أرض الدولة اليهودية ” على حد تعبيره ( لاحظ الأسلوب الرصين المتماسك الذي يدغدغ المشاعر ) . بينما جولدمان رأى أن ” بمقدور اليهودي أن يكون صهيونيًا مخلصًا مع استمراره في الإقامة في بلده الأصلي”.
وعلى قاعدة هذا الخلاف استمرت محاولات الكيان الصهيوني في الضغط على يهود العالم للهجرة إلى ” أرض الأجداد ” دون جدوى حتى انعقاد المؤتمر السابع والعشرون في عام 1968بعد ان تمكن الكيان الصهيوني من التوسع بحسب نتيجة عدوان 1967 وبدأت عملية تشجيع الاستيطان في الأراضي المحتلة تحت شعار ” خلق واقع سكاني جديد ” في الأراضي العربية المحتلة ( ضرورة تصنيع وطن عاجل ) ومن هنا نشطت المنظمة الصهيونية العالمية نشاطًا محمومًا لتهجير اليهود من كل فج عميق ” لملء ” الفراغ السكاني وخلق واقع جديد. لكن هذا الملء خلق مشكلة اضافية للكيان الصهيوني وهي ” الفجوة الطائفية بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين ” وهي الفجوة التي ساهمت ليس فقط بانحسار الهجرة للكيان الصهيوني بل تزايدت معه معدلات النزوح منه .
ولمواجهة هذه الحالة الغريبة ” الشاذة ” ناقش أعضاء دورة المؤتمر الحادي والثلاثون 1987 مبدأين في غاية الأهمية يعكسان الأزمة العميقة التي تواجه الكيان الصهيوني في صميم وجوده : المبدأ الأول هو : ” ثنائية المركزية ” ( أي أن يكون ليهود العالم مركزان ، واحد في الكيان الصهيوني ، والآخر في الشتات ” الدياسبورا ” ). والدلالة العملية لهذا المبدأ هو الاعتراف الصريح بأن الكيان الصهيوني لم يعد مركزًا روحيًا لليهود ( بل جيب استيطاني له وظيفة محددة) والمبدأ الثاني هو ” تعريف اليهودي” وقد أصدر المؤتمر قرارًا بمنح تيارات الديانة اليهودية المختلفة ” حقوقًا متساوية ” وهو القرار الذي وصفه أعضاء المؤتمر بأنه بلا معنى ( حبر على ورق ) ؛ لأن واقع الحال يؤكد حقيقة أن المجتمع منفسم انقسامًا حادًا.
ثم تصاعدت وتعقدت مشاكل الهوية والوطن والحدود ، وبروز مفكرين من داخل الكيان الصهيوني وخارجه يتحدثون عنه باعتباره لم يعد يملك مقومات أمنه ولا مبررات وجوده بل ذهب بعضهم ” آري شبيط ” الذي كتب مؤخرًا في صحيفة ” هآرتس” بتاريخ 13 مايو 2021 ..تحت عنوان اسرائيل تلفظ انفاسها الأخيرة ، كتب يقول ” يبدو اننا اجتزنا نقطة اللاعودة ويمكن انه لم يعد بإمكان اسرائيل انهاء الاحتلال ووقف الاستيطان ونحقيق السلام ..الخ ) لمن يريد المزيد يمكنه قراءة المقال كاملًا ليعرف طبيعة المأزق الوجودي للكيان الصهيوني.
على الضفة الأخرى من النهر لم يهدأ ابدًا الكفاح الفلسطيني دفاعًا عن أرضه ومقدساته منذ عام 1948 وحتى الآن. ولكنه اكتسب زادًا جديدًا مع ظهور جمال عبد الناصر كبطلًا للتحرر القومي ورمزًا للنضال العربي ( 1952- 1970 ) وقد وضع قضية فلسطين في مركز وصلب عقيدته الوطنية . وفي دورة انعقاد أول مؤتمر قمة عربي ( يناير 1964) طرح المؤتمر ضرورة توحيد جهود المقاومة الفلسطينية المسلحة ، وهو الأمر الذي أفضى إلى تأسيس ” منظمة التحرير الفلسطينية – فتح ” في القدس في 28 مايو 1964 وانطلقت شرارتها الأولى في يناير 1965 . وفي مطلق الأحوال فإن النضال الفلسطيني بكل مكوناته قد تراكمت خبراته – وتطورت أساليبه – عبر السنين ، وقدم نموذجًا عظيمًا في الدفاع عن قضية فلسطين ، وهي – أي المقاومة – كما قال عنها جمال عب الناصر ” إن المقاومة الفلسطينية هي أنبل ظواهر الوجود العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ، وقد وجدت لتبقى ، وسوف تبقى ، وسوف تنتصر” .
وهاهي تنتصر ، وملمح انتصارها الرائع في هذه المرحلة من النضال هو وحدتها التي وحدت خلفها كل الشعب الفلسطيني والعربي وكل شعوب العالم ، وملمح آخر من انتصارها هو بداية تفكك وتآكل مكونات المجتمع الصهيوني الذي بدت شاخصة مؤكدة خلال هذه العشرة أيام التي هزّت العالم.
رابعًا: نرصد فلسطين متجذرةُ في التاريخ والحضارة ، والكيان الصهيوني ليس سوى ” شَتلْة ” موسمية عابرة :
يمكن القول أن الكيان الصهيوني عانى منذ تاسيسه – كأي جماعة وظيفية – من العجز والعزلة والغربة ، فقد تم زرعه كالجزيرة المُعادية في قلب محيط عربي هائل ، لهذا احتاج دائما للرعاية والدعم الخارجي ( مثله مثل الشتلات المحمية ) وحتى الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا تمثل القاعدة المركزية للنشاط الصهيوني ، وقامت انجلترا بمهام التأسيس الأول لهذا للكيان ، ثم مالبث أن تولت الولايات المتحدة قيادة المعسكر الغربي ، وانتقل لها دور الرعاية والدعم والتمكين للكيان الصهيوني . وقد أدت المساعدات الأمريكية الضخمة إلى اعتماد الكيان الصهيوني ” كدولة وظيفية ” بشكل كامل على هذه المساعدات ، وأصبح دخلهم مرتبطًا بالدور الاستراتيجي الذي يقومون به ، وبالدولار الذي يدفع ثمنًا له. واستمر الكيان الصهيوني منذ نشأته في ممارسة هذا الدور في ” التوسع والاستيطان وارتكاب المذابح ” مما فاقم من إحساسه بالعزلة والاغتراب ، ومع اقتران العزلة والإغتراب بممارسة القتل والتوحش فيه ، أدى إلى عجز الكيان الصهيوني من أن يتجذّر ” فأصبح كأنه ” شتلة ” موسمية بلا جذور لايمكن لها أن تصمد أمام عواصف الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة ( أو بتعبير جمال حمدان : جملة اعتراضية في التاريخ الفلسطيني الحضاري) ، وكما ترون لم يُجدِ نفعًا – ولن يجدي أبدًا – حجم المساعدات والدعم الخارجي السخي في بناء ” وطن قومي ” فالأوطان لاتُبنَى بنظرية ” عنصرية ” ، ولا تُصَنّع ” بمؤامرة خارجية ” ، ولا تُخلق ” من عدم.”
وبالنظر لموقف الدول الداعمة للكيان الصهيوني ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية نجد أنهم ومنذ الوهلة الأولى رفعوا شعارهم الأعمى والخارج من حفريات التاريخ ” نحن ندعم حق اسرائيل في الدفاع نفسها ” لاحظ أن الموقف الغربي والشعار المعبر عنه اكتفى بالحديث عن حق الدفاع تماشيًا مع ما طلبه نتانياهو ، وانتظارًا لتمكينه من القضاء على غزة بمن فيها. وعندما اكتشف الجميع حقيقة الموقف بدأ الحديث عن الهدنة . لكن وبالرغم من ذلك اكتشفنا في ثنايا الموقف الأمريكي خاصة بعض العناصر المهمة :
1- لغة الخطاب الأمريكي في هذه الأزمة بدا خاليًا من أي حماسة واكتفى الرئيس بالاتصال هنا وهناك واطلاق تصريحات ” مكررة ” ، وكأنه أخذ على حين غرة. أو ربما رأى أن مايحدث لايستحق الاهتمام الكبير ، فالكيان لم يتعرض لعدوان خارجي.
2- مع تطور الموقف خرجت تصريحات ذات دلالة مغايرة مثل عدم المساس بالوضع الحالي للقدس ( بما يؤشر لرفضهم ممارسات اسرائيل الرامية لتهويد المدينة واخراج العرب منها) وأيضًا اعتماد حل الدولتين ( بالرغم من رفضنا لهذه الصيغة الاستعمارية الكريهة) إلا أنها في مضمونها تنطوي على اعتراف – ناقص – بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة .
3- بروز تيار مهم في الحزب الديموقراطي الحاكم بقيادة بيرني ساندرز مؤيدًا للحق الفلسطيني ، ليس فقط بل قاد حملة في مجلس الشيوخ ترفض إرسال صفقة اسلحة عاجلة لإسرائيل ، وحاز على تصويت معتبر. وهو بنفسه ” ساندرز” صرح قائلًا ” نتنياهو مستبد وبائس وعنصري” واستخدم في مقالة له في النيويورك تايمز عبارة ” حياة الفلسطينيين مهمة ” اقتباسًا من حركة ” حياة السود مهمة ” وطالب بفرض شروط على المساعدات العسكرية الأمريكية لأسرائيل. وفي ذات السياق قالت النائبة كوري بوش ” نحن ضد الحرب وضد الاحتلال وضذ الفصل العنصري. ”
هذه الأصوات المناصرة للحق الفلسطيني – على قلتها – تمثل أهمية قصوى من حيث تأثيرها السلبي العميق على الكيان الصهيوني ؛ لأنها أولًا : خارجة من الولايات المتحدة بكل ماتمثله من ثقل داعم للكيان الصهيوي ، وثانيًا : لأنها مؤشر قد يتسع تأثيره في المستقبل ويصبح تيار معادي يحرم الكيان الصهيوني من تبرعات وهبات ومساعدات. فإذا اضفنا إلى كل ذلك التراجع الحاد منذ منتصف التسعينيات حتى الآن في تدفق المعونات والتبرعات الأمريكية للكيان الصهيوني ، فإن هذا معناه انهيار مؤكد – مع الوقت – لمفهوم وحقيقة ” الدولة الوظيفية ” فكيف تستمر هذه ” الشتلة ” الضعيفة في إذا قٌطعت عنها إمدادات الحياة من الخارج.
4- لا ينبغي التقليل أبدًا من حجم ونوعية الشعارات التي صاحبت المظاهرات الضخمة التي خرجت من مدن أمريكية ( شيجاغو ونيويورك وغيرها ) بمئات الألاف والتي نراها بهذه الكثافة لأول مرة تقريبًا ، ومحصلة هذا كله أن الحق الفلسطيني – كما قلنا سابقا- اصبح اقوى من أوهام القوة والغطرسة الصهيونية ، وبما أن رقعة الصراع المركزية – حتى الآن – هي أرض فلسطين المحتلة ، فإن كل ماينقص من قوة العدو المادية والمعنوية يضاف مباشرة إلى قوة الحق الفلسطيني انتظارًا لدورة قادمة وفرحة قادمة ونصر قادم أكيد.
في نهاية المطاف نؤكد على أن ماتم خلال هذه العشرة أيام التي هزت العالم هو شيء عظيم الأثر ويحتاج إلى تنصر وتوعية وبناء على أُسسه خطة عمل طموحة وهذه مهمتنا جميعًا بل هي المهمة المقدسة التي سوف تحقق شروط النصر ومقدماته . قد يقول لنا بعض المترددين المنبطحين المستسلمين – دون صوت أو طلقة رصاص – إنكم تحلمون فما تفكرون فيه لا طاقة لكم به ، وكلمتنا الأخيرة هي درس التاريخ الإنساني في كل عصوره وشواهده ” أنه لا يسقط حق وراءه مطالب” وأن الغيث يبدأ بقطرة وان الثورات تبدأ بصرخة ، وأن كل أشكال الاستعمار سقطت ، وصُفيت بإرادة الشعوب وطلائعها الثورية.
واتذكر في هذا المقام أحد دروس جمال عبد الناصر ” إن إرادة التغيير لدى أصحاب المثل العليا أقوى من الأمر الواقع مهما بدا راسيًا راسخًا كالجبال ” .
المقال القادم : مابعد العنصرية والدولة الوظيفية
3- خطة العمل الوطني القومي من أجل فلسطين
د. مجدي زعبل