هذا مقال افتتاحي ضمن سلسلة مقالات تهتم بمستقبل الصراع العربي الصهيوني، وهذه المقالات موجهة بالأساس لشباب الأمة من كان منهم ثائرًا لحقها في تحرير فلسطين ، أوباحثًا عن حقه في إدراك الحقيقة التي قد تُسلِحُه يومًا بالمعرفة ، والوعي ، والبصيرة ، ليثور بدوره مع من ثاروا وناضلوا وثأروا واستشهدوا.
1- الشرارة المقدسية
سيكتب التاريخ قريبًا أن زاوية مباركة من أرض فلسطين المقدّسة اسمها حي الشيخ جرّاح قد وضعت الكيان الصهيوني (مايسمى بدولة إسرائيل ) على طريق اللاعودة المحتوم.
ونحن وغيرنا نؤمن إيمانًا لايخالطه أدنى شك في حتمية زوال إسرائيل ؛ ذلك لأننا نعرف تفاصيل المؤامرة الكونية الاستعمارية المنحطة التي حطّت على رقاب امتنا وضميرها قبل مائة عام ويزيد ( وعد بلفور ) وزرعت هذا الكيان الاستيطاني المجرم الذي خُطط له أن يكون دولة ” وظيفية ” وقاعدة عسكرية متقدمة لخدمة مخططات الاستعمار الغربي (1948).
والأمر كذلك فنحن نرى ونقيم مايحدث في فلسطين المحتلة هذه الأيام على أنها جولة من جولات الصراع الطويل مع المحتل الصهيوني ، وهو بطبيعته صراع وجودي لن ينتهي إلّا بنهاية أحد طرفيه قولّا واحدًا ، ولهذا يجب أن يتمهل البعض من إصدار أحكام متسرعة ، فالنهاية لاتزال بعيدة ، ولكن قيمة المرحلة الحالية أنها كشفت إلى غير رجعة – وإن تأخر طويلًا- عن حقيقة الطبيعة الزائفة للنظريات والأساطير التي تأسست على هديها هذا الكيان الصهيوني ، وهذا أمر جلل في مسيرة الصراع الطويلة. لقد ذهب البعض إلى استخلاص أن هذه الدولة الصهيونية لايمكن لها أن تعيش أكثر مما عاشت ، ولربما لا تتمكن من اللحاق بالذكرى المائة لميلادها المشئوم كما عبّر أحد قادتها، ونحن في تقدير حتمية زوال الدولة لا نتكأ على منطلقات عاطفية أو إنساية أو نخدع أنفسنا بالرجاء والتمني ، وإنما ننطلق من حقائق النشأة والتكوين والتطور لهذا الكيان الغاصب الإستعماري الإستيطاني الذي زُرِعَ في قلب أمتنا زرعًا واسْتُوطِنَ استيطانًا ، وتجذر وتوحش في العدوان مستخدمًا كل أسلحة الإبادة التي وجهت لشعبنا الفلسطيني العظيم الذي قدم في سبيل حريته مالم يقدمه شعب آخر في تاريخ البشرية من صمود أسطوري ، وتلقين أجياله المضيئة – جيلًا بعد جيل – سِرهُ المقدس. وهو السر الذي لم يكن سوى التمسك بالأرض والمقاومة والقبول طوعًا وترحيبًا بدفع ثمن الحرية والكرامة ، حتى اصبح السر المقدس درسًا في الوعي وضوءًا في الضمير تراكم عبر الأجيال وانفجر – كومضات النور المباركة – من هذه الزاوية المنسية في حي الشيخ جراح.
ولهذا سوف تكون مادة المقال عبارة عن استعراض سريع – بنظرة طائر- لعناصر النشأة والتكوين للدولة الصهيونية مع تفكيك منطلقاتها الأساسية لنفهم كيف وصلنا إلى ماوصلنا إليه ، وفي مقال لاحق سنطرح خطة عمل وطني شاملة.
2- عود على بدء:
المضمون العنصري والدور الوظيفي للكيان الصهيوني.
منذ سقوط دولة الفصل العنصري في جنوب افريقيا ( 1990/1993) لم يعد في عالمنا اليوم جماعة عنصرية في شكل دولة سوى هذ الكيان الصهيوني (إسرائيل) ، وكأي ظاهرة عنصرية – تتمحور حول ذاتها وأوهامها- ظلت إسرائيل منذ نشأتها حبيسة طبيعتها “ العنصرية ” وحبيسة دورها ” كجماعة وظيفية ” لم تخرج من طبيعتها – ولن تخرج – ولم تنحرف عن دورها الوظيفي أبدًا ، واصبح التفاعل بين طبيعتها العنصرية ودورها الوظيفي حائلًا دون أن تدرك أن جملة الأكاذيب والأساطير الوهمية ” المغلقة ” – التي أسسوا عليها مشروعهم الاستعماري- سوف يأتي عليها وقت لتنهار وتتعرى أمام حقائق التاريخ والواقع وهو مايحدث أمامنا تمامًا الآن.
لقد أفضى جدل العلاقة بين هذه الطبيعة وهذا الدور إلى كمون الدولة الصهيونية وكأنها ” جيتو ” انعزالي على سطح الكون غير قابل للذوبان في محيطه ، فهي تعيش في المجتمع الدولي عضوًا ” زورًا ” فيه لأنها ليست منه ، ولا تعترف بقوانينه وترى في نفسها قوم من ” الأطهار ” في مواجهة أقوام من ” الأغيار ” وقد سلّحت نفسها بعقيدة أو اسطورة إضافية هي ” الشعب المختار ” على أساس فلسفة ” الثالوث الإحلالي ” أي أن الإله يحل في الأرض لتصبح مقدسة ومركز الكون، ثم يحل الإله في الشعب فيصبح مختارًا ومقدسًا وأزليًا ، وفي الحقيقة كل من حاول أن يفهم أصل وفصل هذه الأسطورة لم يهتد إلى حل أو فهم أو يقين ، وتكون الإجابة لديهم دائما ” أنها أمر رباني وسر من الأسرار. وهذه الأسطورة برغم غرابتها إلّا أنها عززت الإحساس الزائف لدى أعضاء الجماعات اليهودية بأنهم خارج التاريخ ولا تسري عليهم قوانينه.
انطلاقًا من كل هذه الأساطير تفرغت الدولة الصهيونية لممارسة عنصريتها ودورها الوظيفي بمنتهى الكفاءة على حياة الفلسطينيين والعرب أجمعين ، ومارست العدوان تلو العدوان في نسق متصاعد ولانهائي من السلوك المفرط في القوة ، وهي في ذلك تتصرف وكأنها استعارت من الطبيعة نظرية ” الجين الأناني ” وهو الجين الذي يحمل شفرة وراثية حاكمة تقول له ” كرر نفسك .. كرر نفسك ” .. ” اقتل غيرك ..اقتل غيرك” ” الموت للعرب ..الموت للعرب” ويظل الكائن الحامل لهذا الجين ” الأعمى ” يكرر نفسه وهو لايعرف أن هذا التكرار يؤدي إلى فناءه في نهاية الأمر، ويمكن اعتبار فيروس كورونا واحدًا من هذه الكائنات المؤذية فهو يكرر نفسه بطريقة هستيرية في الخلايا التي يهاجمها طمعًا في الحياة وطول العمر ، لكنه ينتحر تماما حين يقضي على ضحيته ، ولا يوقفه إلّا الجهاز المناعي القوي الذي يكتشف حِيلهُ ويعطل تكاثره الهيستيري ويقضي عليه. والمعنى الفلسفي المطابق لفكرة الجين الأناني البيولوجية هي أن إسرائيل ” العنصرية ” تحمل بداخلها بذرة فنائها ” العنصرية ” وهي البذرة التي ورّثتها لأجيال بعد أجيال وخلقت منهم جماعات مثل ( لاهفاه – لافاميليا – زعران التلال وغيرها) وهي منظمات غاية في التطرف والعنصرية ويطلقون عليها في اسرائيل النازية الجديدة .
لقد ظلت اسرائيل أمينة تماما مع عنصريتها ، تحارب وتحرق وتعتدي وتبيد أطفال فلسطين والعرب دون أن يهدأ لها بال ، ومع توحشها اليومي راحت تتراكم في أعماق الوعي الفلسطيني والعربي المعنى النقيض ( الأجسام المضادة) ، ومع كل روح شهيدة تصعد سعيدة إلى بارئها تولد أرواح جديدة نقيضة تختزن في طبقات وعيها روح المقاومة والصبر والتحفز ” الجهاز المناعي ” للوطن الفلسطيني ولسان حاله يقول ” سيأتي يوم نقتل مثلما قتلوا ونحرق مثلما حرقوا ونسترد ماسلبوا” ويوما بعد آخر وعامًا بعد عام وعقدًا بعد عقد أصبح صوت الحق الفلسطيني – وصدق تضحياته النبيلة – أكبر من حقائق القوة الصهيونية واكاذيبها واساطيرها الخرافية التي أسست عليها دولتها ، وأهمها نظرية الأمن الإسرائيلية التي تهاوت بكل عناصرها في هذه الموجة الثورية للشعب الفلسطيني التي انطلقت من حي الشيخ جراح عبر صرخة إمرأة مقدسية ملتاعة ” واقدساه ..وا أقصاه ” فانتفض الكون كله داعمًا ومؤيدًا ، وعادت قوة الحقائق تأخذ مجراها وتزيل في زحفها المقدس كل أوهام الأمن والقوة والأساطير .
3- نظرية الأمن وأوهامها :
من أهم الأساطير الصهيونية هي مايسمى بنظرية الأمن الإسرائيلية ، وهي تقوم على جملة دعائم صلبة تلعب فيها الصياغة المحكمة دورًا هائلًا بصرف النظر عن مضامينها المتهافتة ، وظلت هذه النظرية تحكم تطورها منذ نشأتها حتى الآن نذكر منها على سيبل المثال:
أرض بلا شعب لشعب بلا أرض / الحرب الخاطفة التوسعية / الحدود الآمنة / نقل الصراع / الفلسطيني الجيد هو : القتيل أو السجين أو الطريد. وبصرف النظر عن بلاهة هذه الأفكار وتهافتها إلّا أنها احتاجت منا ومن العالم حولنا عمرًا كاملًا ، وأجيالًا من شعبنا الفلسطيني العظيم نزفت عمرها ودمائها الزكية لكشف زيف وبهتان ماتخرصوا به طوال مايزيد عن سبعين عامًا من الاحتلال. ومن المفيد أن تعرف الأجيال العربية الجديدة حقيقة وأصل مقولة ” أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” : هذا الشعار الصهيوني نتاج صياغة علمانية للرؤية الإنجيلية القائلة بأن ” فلسطين أرض الميعاد والأرض المقدسة ، وأن اليهود هم الشعب المقدس ، ومن ثم على الشعب المقدس أن يعود للأرض المقدسة لأنه صاحبها ” وأول من قام بصياغة هذا الشعار هو اللورد شافتسبري في القرن التاسع عشر، ثم اكتملت الصياغة بشكلها النهائي على يد إسرائيل زانجويل. هذا الشعار السوقي الساذج هو أحد نتائج الحضارة الغربية التي حولت بعلمانيتها الرؤى الإنجيلية من صياغات مجازية سوف تتحقق في نهاية الأمر بمشيئة الله إلى شعارات استيطانية حرفية تتحقق بقوة السلاح . وجوهر الشعار كما فهمه وصاغه رواد الصهيونية هو :” أن اليهود شعب عضوي منبوذ غير نافع يجب نقله خارج أوروبا ليصبح شعب عضوي نافع ” انظر إلى النزعة التجريدية الدونية عديمة الإنسانية في الصياغة ” / ثم استقر الأمر على أن البقعة الجغرافية المرشحة هي فلسطين لأهميتها الاستراتيجية ” المادية النفعية البحتة ” / وهناك يحل الشعب اليهودي محل سكانها الأصليين الذين لابد أن تتم ابادتهم أو طردهم كما هو الحال مع التجارب الاستعمارية الاستيطانية المماثلة ( امريكا مثلا ) . هذه الصيغة العلمانية نظرت لليهود باعتبارهم ” مجرد ماة تنقل ليس أكثر” كما تنظر للمكان الذي سينقلون إليه باعتباره ” مجرد حيز، وليس وطن فلسطيني ” و تنظر لسكانه الأصليين باعتبارهم ” فائض بشري غير نافع مصيرهم الإبادة أو الطرد.
هل رأيتم كيف اختصروا المعادلة الإجرامية في شعار حلو متماسك لايوجد به حرف زائد ولا توجد كلمة ليست في مكانها بحيث تصبح الصيغة ( الشعار ) مرجعية في حد ذاتها ومكتفية بذاتها كالأيقونة المقدسة ، بينما جوهر الأمر أوله وآخره يعني إبادة العرب وفي طليعتهم الفلسطينيين ” . والآن ماذا حدث هل نجحوا في إبادة شعبنا في فلسطين ، بل هل استطاعوا هزيمة الإرادة لديه ولدى أجياله المتعاقبة التي ظلت حافظة وقابضة على سرها المقدس ودافعت عنه بالدم والحجارة والأغنية والكوفية والسكين ومسيرة الشهداء المنتصرة الطويلة حتى حين.
واستكمالًا للمعنى نسأل ونجيب لأجيالنا الجديدة لماذا فشلت مدرسة الحاخامات في فرنسا إبان الثورة الفرنسية في فرض الاعتراف لليهود بأنهم ” اقلية قومية ” في الدستور الفرنسي حيث جاءت الفقرة الخاصة بهم ” على أنهم مثلهم مثل الكاثوليك والبروستانت طائفة دينية وليست اقلية قومية ” ولماذا فشلت تجربة إقامة وطن قومي لليهود في بيروبيدجان في روسيا بعد نجاح الثورة البلشفية ، ولماذا فشلت وستفشل كل محاولة – وأي محاولة – لبناء وطن على أساس ديني ولماذا تهاوت في غمضة عين محاولتهم البائسة في تهويد القدس كمقدمة لبناء الدولة اليهودية الخالصة على أرض فلسطينية محتلة ارتوت بدماء ابناءها عبر سبعون عاما من الاحتلال وتأبى إلا أن تكون خالصة لأبناءها.
4- هل هناك ثمة مضمون ديني “يهودي ” للصهيونية:
قصة المضمون الديني للصهيونية هي قصة كاذبة أصلًا وفصلًا ، ذلك لأن الحركة الصهيونية قد أعلنت عن هويتها منذ البداية على أنها ” حركة علمانية شاملة ترفض العقيدة اليهودية وترفض الإيمان بأي مطلقات دينية أو أخلاقية متجاوزة لعالم المادة “. وجاء كتاب هرتزل ” دولة اليهود” كمحاولة لحل عصري للمشكلة اليهودية مثله في ذلك مثل غلاة المفكرين العنصريين الغربيين مثل ولهلم مارو وايوجين دوهرنج ، وكذلك مؤسسي الحركة الصهيونية الذين جاءوا من وسط أوروبا . كل هؤلاء لم يعيروا اليهودية أي انتباه ، بل أن بعضهم اعتبر العقيدة اليهودية هي مشكلة اليهود الحقيقية ، وقد ذهب بعضهم إلى اعتبار كتاب هرتزل ” دولة اليهود” يجب أن يحل محل التوارة باعتبارها كتاب اليهود المقدس. بل أن تيودور هرتزل عندما زار الكنيس اليهودي في صوفيا لإعلان كتابه ، وبمجرد أن بدأ حديثه مستقبلًا المحراب صاح فيه الجمع: أدر ظهرك للمحراب ، فأنك أقدس من التوارة ، وهكذا اتخذت الصهيونية موقفًا لا دينيا من الكثير من المفاهيم المحورية في العقيدة اليهودية على النحو التالي :
– أن فلسطين ( صهيون) هي أرض ليس لها أي قداسة ولكنها مجرد أرض ينقل إليها اليهود لأسباب علمانية بحتة ” مجرد أرض للاستيطان”.
– رفض مفاهيم الشعب المختار أو الشعب المقدس ، بل اليهود مجرد جماعة عرقية إثنية يتم نقلهم وتوظيفهم لصالح دور وظيفي مدفوع الثمن.
– وجّه الصهاينة نقدهم لعقيدة ” الماشيح والعودة ” ووصفها هرتزل بأنها رؤية متخلفة ، ووصفها بن جوريون بالسلبية وطرح بديلًا عنها فكرة العودة بقوة السلاح.
4- الخصائص والشذوذ البنيوي للكيان الصهيونية ( محاولة تصنيع وطن ):
من هذه الزاوية الضيقة قد يكون مفيدًا للأجيال الجديدة أن تعرف كيف قامت القوى الاستعمارية بالتخطيط والمبادرة لترحيل هذه الجماعات اليهودية إلى فلسطين: وكانت الأسباب كالتالي:
أولًأ: لأن هذه الجماعات اليهودية اصبحت من وجهة نظر الحضارة الغربية فائض بشري غير نافع فقدت دورها الوظيفي في أوروبا ( أعمال المال والأنشطة الربوية) وهي أعمال لم تعد متسقة مع النهضة الأوروبية الحديثة.
ثانيًا: حاجة الحركة الصهيونية لبناء وتأسيس وطن لليهود( حل المشكلة اليهودية)
وكانت الخطة كالتالي:
قامت هذه القوى الاستعمارية الممثلة للحضارة الغربية بأكبر وأحط عملية تزوير ومراوغة في صياغة هذا ” الدور الوظيفي ” للكيان الصهيوني ، إذ اصبحت هذه الجماعة المنبوذة والمطرودة أوروبيا يجب أن تتمثل في ” دولة قومية مستقلة ” ، كما أمكنهم تسويغ وجودها وحقها في الحياة باستخدام ديباجة مراوغة تحول الاستعمار الاستيطاني إلى “ حركة تحرر وطني ” وبالتالي تتحول عملية اغتصاب فلسطين إلى ” إعلان استقلال الدولة ” ، ويصبح الدور القتالي الوظيفي لهذه الجماعات ” دفاع مشروع عن النفس ” ، وتصبح قوات الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية ” جيش الدفاع الإسرائيلي ” وتصبح العزلة هي ” الهوية “. وحكاية جيش الدفاع الإسرائيلي تنطوي على كذبة كبرى ، فالعقيدة العسكرية الصهيونية لايوجد في قاموسها فكرة ” الدفاع ” وإنما الهجوم والهجوم فقط بكل قوة وقسوة بغرض إذلال العدو واحتلال أرضه وتحقيق التوسع والاستيطان كما سيأتي ذكره في السطور التالية.
هل رأيتم كيف خططوا وصاغوا وكذبوا وتمادوا في العدوان على شعبنا العظيم ومقدساتنا الأعظم وأطفالنا الأبرياء العزل ، بهذا البهتان السافر ، ثم يتحدثون في ادبياتهم عن الديموقراطية وحقوق الإنسان. واستمر هذا الكيان – بقوة الأمر الواقع- في أداء دوره المخطط له بكفاءة ( القتال والاستيطان) إلى أن وصلنا إلى نقطة التوازن الحرجة التي تطل علينا في مشاهد الدورة الحالية من الصراع والتي تضرب بقوة عند الجذور التي أسست لهذا الكيان.
ولعل الكابوس المرعب الذي يحاصر الكيان الصهيوني الآن ليس فقط في تهاوي نظرية الأمن في كل أو جل عناصرها ، لكنه التصدع في أهم ماتملك وأخشى ما تخشى عليه وهو بنيان الدولة نفسها ، فالكيان الصهيوني ( الحاضن للمشروع والفكرة والحلم ) عبارة عن تجمع غير متجانس من بقاع شتى – ويعاني معاناة مُرة من سؤال الهوية والمصيرفي سنواته الأخيرة – ففيهم اليهود اليديشية من الأشكيناز ومنهم السفارديم ومنهم اليهود المستعربة ومنهم القراءون ومنهم الحاخاميون الذين ينقسمون إلى ارثوذكس ومحافظين واصلاحيين ، هذا غير عشرات الانقسامات الدينية والإثنية والعرقية وكل جماعة من هذه الجماعات تمثل ” جيتو ” مستقل خاص بها . والكيان الصهيوني بهذا المعنى ليس سوى تجمع استيطاني عنصري متصادم في أدق مكوناته النووية ، وهو الذي يفسر حالة الإنكشاف الحاصلة الآن ، وهو أيضا السبب المباشر الذي لم يتمكن معه هذا الكيان من أن يصبح ” دولة “مواطنين أبدًا.
يضاف لذلك مايمكن تسميته التشوه البنيوي الذي يكشف عن مهازل تاريخية لاتخضع لأي منطق ، فهذه الدولة لديها قانون ” العودة ” الذي يعطي ليهود العالم الحق في أن يعودوا لأرض الأجداد التي تركوها قبل ألفي عام ، وينكر هذا الحق على الفلسطيني الذي تم طرده أو اضطر للمغادرة قبل عدة سنوات ، ومن مجمل الشذوذ البنيوي أيضأ أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تتمتع بعضوية مشروطة بهيئة الأمم المتحدة وشرط قبولها في المنظمة الدولية هوقبولها بإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في وطنهم الفلسطيني الذي طردوا منه ( المسمى بحق العودة). وواقع الحال أن الدولة الصهيونية لم تقم بما تعهدت عليه للمنظمة الدولية ، ولا المنظمة الدولية أنهت عضويتها وطردتها لأنها خالفت وأسقطت شرط الالتحاق في مشهد يعكس التواطؤ والخبل عند مستوى منظمة دولية بهذا الحجم. ناهيك عن أن المنظمة للدولية لم تتمكن- بحكم الفيتو- من إدانة كافة المذابح الرهيبة والمستمرة حتى يومنا هذا في حق الشعب الفلسطيني ومعه الأمة العربية بإجمال.
ليس عبثًا إذًا ما قلناه حول خشية إسرائيل من انهيار بنيانها الهش الذي انفجرت تناقضاته الحادة – ليس على الحدود بل تحت الأقدام تمامًا – لأن اسرائيل من المنظور الصهيوني مجرد حيز ضيق محشور حشرًا ” كمنطقة حدودية منبوذة ” ومن ثم لايمكن السماح مطلقًا بأن تدور الحرب داخلها ، ولهذا السبب لايوجد في الفكر العسكري الصهيوني ” عقيدة دفاعية ” – كما نوهنا من قبل – نظرًا لأن أي فشل في العقيدة الدفاعية سيؤدي حتمًا إلى اختراق اسرائيل ، وإيذانًا بخطر وجودي كامل وهو مايحدث تمامًا الآن. وأمام هذا الاحتمال لا الشرطة ولا الجيش ولا المستوطنين انفسهم بقادرين على النجاة من هذا المصير المحتوم الذي هلّت بشائره منذ عشرة أيام – ولاتزال فصوله ومشاهده حاضرة – مع انتفاضة عفوية مباركة في حي الشيخ جراح الحبيب.
5- هل هو مشهد ختام
بكل تأكيد ليس مشهد الختام ، ليس فقط لأن ” إسرائيل ” قاعدة عسكرية متقدمة ، ولا لأنها لاتزال تتمتع بحماية الغرب الاستعماري ، ولكن لأن الأمر كما ذكرنا مرتبط بصراع طويل وليس قاصرًا- وغير مطلب قصره أبدًا – على الشعب الفلسطيني بل هو صراع الأمة كلها ضد عدوها الاستراتيجي ، ولكن أهم ماهو مطلوب من الشعب الفلسطيني هو” أن يطلق رصاصة كل يوم ليذكّر العالم أنه صاحب قضية عادلة وأنه لن يستسلم للإحتلال ” وهو مطلب جمال عبد الناصر القديم الذي ظل يتجلّى في الأرض المحتلة المباركة حتى عظم شأنه وزادت بركته ببركة الشيخ جراح وشباب الأمة داخل فلسطين.
نعم هو ليس مشهد ختام ، ولكنه بكل تأكيد مشهد “ التحول العظيم ” بلغة الثورات التحررية ، وقواعد هذا التحول النوعي الاستراتيجي هي :
أولا: انهيار نظرية الأمن الإسرائيلي كما ذكرنا من قبل .
وثانيًا : عودة الوعي واحتضان وتوحيد وانصهار الهوية الوطنية الفلسطينية على كامل تراب الوطن .
وثالثًا: أن القوى المحركة للطاقة الثورية الفلسطينية منذ انتفاضة الأولى عام 1987 مرورًا بانتفاضة الأقصى ( عام 2000) وحتى الآن هم الشباب
وأمام هذا التحول – وبسببه – فإن أطراف الصراع ليس أمامها إلّا أن تعمل بمقتضاه :
1 – كما هو واضح من سير الأحداث الجارية ، فإن الكيان الصهيوني يبدو أنه غير قادرة على استيعاب الدرس ، ولا بأس من تذكيره بما حدث في عام 2006 حيث فقدت قدرته على القيام بأي حرب اقليمية خشية من معادلة الردع الصاروخي للمقاومة اللبنانية ، والآن خرجت عليه الصواريخ من قلب الدار وليس عبر الحدود، واصابت المستوطنين بالهلع الأعظم واصبحت نظرية الأمن في خبر كان ، ولا بأس من أن نذكرها بما تعرفه هي عن نفسها ، وبما نعرفه نحن عنها ، هم موقنون في قرارة أنفسهم أن الأرض التي يسيرون فوقها ، ويدّعون ملكيتها منذ الآف السنين ليست ملكهم ، وأنها ليست أرض بلاشعب كما قالوا لهم ذات يوم بعيد، وأن أهلها لم يستسلموا كما توقعوا ، ولم تتم إبادتهم كما كان من المفروض أن يحدث. وعليه فإن الشعب الفلسطيني لايهدد حدود الكيان الصهيوني ، وإنما يهدد وجوده كله ، وقد بات الأمر قطعيًا – كفلق الصبح- بانخراط أهل الضفة وعرب 48 في معادلة الهدم باسترداد الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة . إن هواجس الأمن وعقلية الحصار والعزلة التي تحكم سيطرتها على الذهنية الصهيونية هي التي تدفعها إلى حالة إنكار دوائر الحصار الذي تعيش فيه الآن وتدفعها دفعًا – كما دفعتها دوما- إلى الإفراط في زيادة القوة العسكرية والدعم الاقتصادي والتفوق التكنولوجي والعدوانية في القتل الوحشي للمدنيين ( انظروا حجم العدوان والدمار على غزة في مشهد مكرر بائس تطورت معه المقاومة ، وبقي الكيان الصهيوني على حاله البائس يككر ويكرر ..يقتل ويقتل مستكينا للجين الأناني الذي يقوده من رأسة حتى الفناء ).
ولا بأس ونحن نقترب من نهاية المقال أن نقدم سطرًا مهمًا آخر من شأنه أن يغلق القوس الناقص فيما يسمى بنظرية الأمن.
علينا أن ندرك أن ركيزة الركائز في جوهر نظرية الأمن الصهيونية تقوم على فكرة ” إلغاء الزمان وتأكيد الارتباط بالمكان” ( أي تعتمد البعد المكاني الجغرافي اللازماني اللاتاريخي ، ودحض البعد التاريخي الزماني الإنساني ” الواقعي الطبيعي “) وبالتالي فهي تعتمد فكرة الأمن السرمدي أي أن أمن اسرائيل مهدد دائما بالحرب وأن الحرب مع العرب/ الفلسطينيين حالة شبه أزلية ، وعلى المستوطنين أن يستمروا في الحرب إلى ما لا نهاية واسطورة ( ماساداه الشمشمونية تعبر عن هذه الرؤية الظلامية الكابوسية) هل هناك عقل بشري سليم يمكن أن يصدق هذه الهلاوس الخيالية عن حرب أزلية لا نهائية في الوقت الذي لا يستطيع فيه الكيان الصهيوني من الاستمرار في حرب لمدة شهر واحد أمام طرف واحد. وإذا استمر الكيان الصهيوني على خطه وطبيعته وعدوانيته – وهو سوف يستمر حتمًا – في هذا فنحن أمام سيناريوأقرب مايكون لمنطق الانتحار حين يخرج الأمر من عقاله ويتحول إلى حرب اقليمية شاملة. والمعنى أنه لا حل ممكن أبدًا من داخل العقلية العنصرية الصهيونية . فهم يدركون الآن أكثر من أي وقت مضى أن ماأُسس بالسيف يمكن أن يسقط به ، وبلغتنا الثورية تعني أن ” ما أخذ بالقوة لايسترد إلّا بالقوة ” وكما قلنا ونؤكد القول أن معيار القوة لم يعد بالقنابل والصواريخ ، وإنما بإرادة القتال الشريف من أجل الحق في مواجهة هذه الجماعات العنصرية الاستيطانية التي بنت جدرانها على كمية من الأساطير والخرافات والمكائد والمؤمرات التي تهالكت جميعها وبدت مثالًا للتندر والسخرية أمام هبة شباب القدس المرابطون على الحق والوطن والعقيدة. فما بالك عندما يجد الجد.
وفي مطلق الأحوال حين يجد الجد ويحل النصر سنجعل حي الشيخ جراح المبارك في قلب القدس عاصمة فلسطين الأبدية ( وعاصمة العروبة الرمزية ) مزارًا للإلهام الوطني يحتضن صور الشهداء والسجل الحافل ببطولاتهم ،وتستخدم عوائده الحلال لإعادة بناء الوطن الفلسطيني الأجمل والأبهى ونعيد له وجهه الحضاري الساكن في ترابه وتاريخه ورائحة الدماء الزكية العطرة التي روته جيلًا بعد جيل. ونتكلم معه بلغة الشهادة البليغة الذُلِقة التي هي أغلى وأجمل من كل لغات الدنيا.
2- الطرف الآخر من المعادلة وهو أمتنا العربية وطلائعها الثورية في كل أقطار الأمة ، وبالطبع في القلب منها الشعب الفلسطيني صاحب المجد والكرامة والهمة والنصر فلنا معهم برنامج عمل طويل في مقال لاحق.
ملحوظة: بعض المعاني الواردة في المقال مصدرها موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري – العالم المصري الفذ – عليه رحمه الله ورضوانه. وكنتُ أول منسق لهذه الموسوعة لمدة عامين 1983- 1985
د. مجدي زعبل
أكاديمي مصري- عضو المؤتمر القومي العربي
منسق اللجنة القومية لمئوية جمال عبد الناصر
شكرا للدكتور مجدي زعبل على هذا المقال الرائع
عتح الله عليك يادكتور مجدى أثريت الذاكرة العالمية والعربية بما يجب معرفته عن الصهيونية المتمثلة فى دولة أسرائيل وطريقة قيامها ومحاولاتها المستمرة لحفظ أمنها الوهمى وكيفية المقاومة المستمرة للفلسطنيين وأستمرار تلك المقاومة الى ان تنتهى أسرائيل من الوجود وهو أمر نؤمن به جميعا
مقال اكثر من رائع ومفصل تفصيل يجب نشره على اوسع نقاط ويحوي معلومات مهمة وقيمة.
تحياتي لشخصكم المحترم