عدنان بدر حلو
لا يمكن تقدير مجريات الحرب الأخيرة في فلسطين من مجرد قراءتها عسكريا.. إنما يحتاج الأمر لقراءة المعطيات متشعبة الاتجاهات التي كانت قائمة قبل اندلاعها وما يمكن أن يكون قد طرأ عليها بعد صمت مدافعها وصواريخها.
بالأمس:
بالأمس كانت إسرائيل تناطح الدول العظمي في مجال المنافسة على التأثير في مجريات أحداث المنطقة ورسم خرائطها، فتعامل نفسها من موقع الند للند في مواجهة روسيا والولايات المتحدة، قبل أن تنظر من فوق إلى الدول الإقليمية الكبيرة كإيران وتركيا (ومجموع الدول العربية التي لم يبق لها من التجمع والعروبة سوى خيال التسميات).
كانت تعلن بفوقية كبيرة عن وجودها في شمال العراق وشمال شرق سورية كشريك في المحاصصة على تركة “الجبهة الشرقية”.. كما كانت تتصرف كأستاذ مدرسة ابتدائية بهراوتها العسكرية ضد ما تصفه بالوجود العسكري الإيراني في مختلف أنحاء سورية، بل تهدد إيران (وقامت فعلا بعمليات تنفيذ) في عقر دارها. وتصل في ذلك إلى تهديد أمريكا لمنعها من العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران!
كانت تتحدث عن دول الخليج والجزيرة العربية وتتعامل مع أنظمتها كمجرد حاملي مناشف أو بوابين أو شهود زور على عملية اغتصابها لهم ولثرواتهم (تحقيقا لنبوءة الشاعر مظفر النواب).
كانت تتعامل مع أفريقيا كغازٍ استعماري جديد لا يسيطر على الثروات والمقدرات في بلدانها وحسب، بل يدير سياساتها ويرسم أدوارها كما يفعل في أثيوبيا (دور إسرائيل في بناء سد النهضة للإمساك بشريان حياة السودان ومصر).
أما فلسطين:
أما فلسطين فكان كثيرون قد يلغ بهم الفجور أن غالوا كثيرا في نكرانها.. حتى بات شيوخ الصدفة الجغرافية يتطوعون لإقامة عرش “أبراهام” فوق ما ظنوه مقبرة لها ولقضيتها.
وحتى صغار جدا كطبيب من بلدي يعمل في الولايات المتحدة علق يوما على مقال لي بالتساؤل الكريه: “وهل هناك من ما يزال يذكر فلسطين؟”!!
وبلغ الأمر داخل الأرض المحتلة أن سكر الصهاينة بانتصاراتهم التطبيعية فراحوا يضربون عرض الحائط حتى بما تبقى من نفايات القرارات الدولية فيعلنون مبدأ “السلام مقابل السلام” بديلا عن مبدأ “الأرض مقابل السلام”. ويعلن نتنياهو تحت مظلة ما سمي “صفقة القن” عن عزمه على ضم معظم ما تبقى من أراضي الضفة الغربية بدءا من منطقة الأغوار. فيما يقوم قطعان المستوطنين برحلات نزهة في الأراضي الفلسطينية يلهون فيها بتجريف كروم الزيتون أو حرقها والتعدي الوحشي على أصحابها والعاملين فيها وهم يقهقهون وينتشون كالسكارى بما يفعلون.. حتى ما يسمى القضاء في دولة إسرائيل لم يكن ليختلف كثيرا عن مستوى أولئك المستوطنين في تعامله مع قضايا البيوت والعقارات الفلسطينية التي يلتهمها التهويد.
أما عن العرب والوضع العربي بعد تدمير العراق وسورية وليبيا واليمن ولبنان… فلا حاجة للتوقف عندهم أبدا!!!
هذا ما كانت عليه صورة الوضع عشية حرب “سيف القدس” ولعل أدق تلخيص له هو دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي ليهود فرنسا الذين لم يعودوا يعيشون في أمان للهجرة إلى “إسرائيل” حيث الأمن المطلق!!
ماذا جرى بعد ذلك؟
أولا: الحرب الأخيرة لم تكن لا بين إيران وإسرائيل، ولا بين العرب وإسرائيل، ولا حتى بين لبنان وإسرائيل،
بل بين 360 كيلومترا مربعا من فلسطين محاصرا من جميع الجهات بما فيها الجهة “المتصلة” ببلد عربي، وبين إسرائيل.. وفيما كانت الأخيرة مدعومة كليا من الدولة الأمريكية العظمى ومؤيدة (بشكل لا مثيل سابقا له) من قبل الحكام في أوروبا الذين خضعوا للضغط الأمريكي والصهيوني وأخافهم التعاطف الشعبي المتجدد والمتعاظم لدى شعوبهم مع القضية الفلسطينية، بدلا من أن يؤثر على مواقفهم! كانت المقاومة في غزة مدعومة من انتفاضة الشعب الفلسطيني في القدس والضفة وأراضي ال 48 وبلدان الشتات في وحدة لم يسبق لها مثيل. وكانت تحظى بالتفاف شعبي عربي متجدد (كان فيه الكثير من التعبير عن الشعور بالذنب تجاه هذا الشعب الشقيق الذي مر بفترة مريرة من الشعور باليتم بين أخوته).
في هذه المواجهة أبدى الشعب العربي الفلسطيني تلاحما وبسالة واستعدادا للتضحية لا مثيل له في التاريخ. وسطر من الملاحم ما سيخلده الزمان وتتداوله الأجيال. كرواية ذلك الأب الذي نهض من بين أنقاض منزله وهو يحضن أصغر أطفاله الذي نجا معه ليزف أبناءه الشهداء الستة الآخرين، أو كرواية الشقيقين اللذين تبادلا أثنين من أيناء كل منهما حتى إذا دمر بيت أحدهما واستشهد قاطنوه لا تكون العائلة قد استشهدت كلها بل بقي منها ولدان في بيت عمهما. كل ذلك فيما امتدت ساحات هذه المنازلة إلى كل مدينة وبلدة وقرية في فلسطين التاريخية.
في مقابل هذه البسالة كانت إسرائيل كلها بقضها وقضيضها تنام ليلا ونهارا في الملاجئ على امتداد الأيام الأحد عشر التي استغرقتها الحرب. باقتصادها المعطل كليا تقريبا وهو لم يكن قد خرج بعد من ركود جائحة الكورونا. وبمجتمعها المتفسخ ما بين متعصبين دينيا ومستوطنين يحمّلهم جزء لا بأس به من الآخرين مسؤولية توريطهم في هذه الحرب التي لم يعرفوا مثيلا لها من قبل، وكذلك هويات وطنية متنافرة لم يعد يوحدها ذلك الشعور بالخطر أيام مواجهة جبهات عربية مهددة، وفي ظل طبقة سياسية حاكمة ممزقة ومتصارعة وعاجزة حتى عن تشكيل حكومة على امتداد ثلاث سنوات وأربعة انتخابات. وجيش متقدم تقانة وتسليحا لكنه في أسوأ حالاته معنويا بعد أن افتقد أجيال النخب الطلائعية التي كانت تحمل “رسالة” إنشاء الدولة لتحل محلها أجيال المتطلعين إلى تأسيس شركات التقنيات المتقدمة وتحقيق الأرباح والمغادرة إلى العواصم الكبرى في الغرب، فيما يعزف الكثيرون من أبناء الكيان عن التجنيد في الوحدات القتالية، كما يعفى أبناء المتدينين (وهم كثيرون) من الخدمة الإلزامية.
كل ذلك والعالم يشهد هذه المنازلة بشكل مباشر (لا من خلال أجهزة الإعلام التقليدية التي كان مسيطرا عليها في الماضي من قبل طغمة صهيونية عالمية). ما أظهر تعاطفا شعبيا إنسانيا سياسيا مع الشعب الفلسطيني على الصعيد العالمي لا سابق له.
لجأت إسرائيل إلى أقصى درجات الوحشية بتدمير الأبراج والمنازل على مرأى من العالم كله. وقدمت لها الولايات المتحدة كل أشكال الدعم بالسلاح المتطور وبالوقت، حيث عملت جاهدة على تعطيل مجلس الأمن عن القيام بأي دور لوقف الحرب. لكنها فشلت في كسر إرادة الشعب العربي الفلسطيني. ما زاد في أزمة العدوان وتعاظم الشكوى والتذمر في صفوف شعبه وازدياد مساحات معارضته وشجبه والتنديد به على الصعيد العالمي بما في ذلك قطاعات واسعة ومهمة من الإعلام الدولي وحتى الإسرائيلي نفسه، وحتى قطاعات يهودية لا يستهان بها في الولايات المتحدة، فلم يعد حتى الرئيس الأمريكي بايدن قادرا على الاستمرار في موقف المتواطئ مع العدوان على مرأى من نواب وشيوخ عارضوا الموقف الإسرائيلي بصورة جريئة وعلنية كما لم يحدث من قبل وبمواجهة تظاهرات عمت المدن الأمريكية من أقصى الولايات المتحدة إلى أقصاها ما راح يذكر بمعارضة الشعب الأمريكي لحرب فيتنام. فكان لذلك أثره على إحداث تعديل في موقف الإدارة الأمريكية، وبالتالي لجم العدوانية “النتنياهية” التي باتت عاجزة عن إنجاز المزيد من المجازر فيما هي عاجزة أيضا عن التسليم بالموازين التي طورتها المنازلة.
وكان اختراع ذلك الاسم المستعار للهزيمة: “وقف إطلاق النار من طرف واحد” أي بمعنى أن نتنياهو قد عمد “تطوعا” من تلقاء نفسه إلى وقف القتال!
لا وألف لا.. لقد هزم نتنياهو وهزمت معه إسرائيل بل هزمت أيضا الإدارة الأمريكية.
وكان بن غوريون نفسه يقول: إن العرب ببلادهم الواسعة وعددهم الكبير يمكن أن يتحملوا العديد من الهزائم لكن إسرائيل لا تتحمل حتى هزيمة واحدة.
ما بعد “سيف القدس” لا يمكن أن يكون كما قبله.
لقد بدأت مسيرة تآكل الكيان الإسرائيلي: ستزداد التناحرات والانقسامات وتراشق التهم والمسؤوليات في الطبقة السياسية الإسرائيلية. وحتى في النخب العسكرية التي ستواجه لجان تحقيق متعددة حول أسباب الهزيمة. وستتهاوى ثقة الإسرائيليين بقوة كيانهم ومستقبله، وستتضاءل حجوم الهجرات إلى فلسطين المحتلة اعتبارا من اليوم الأول من العام الرابع والسبعين لقيام إسرائيل. وستتصاعد أعداد الهجرة المعاكسة.
مقابل ذلك استعاد الشعب الفلسطيني وحدته المعمدة بالدم وتجددت ثقته التاريخية بالانتصار الذي (كانوا يرونه بعيدا بعيد وأراه قريبا قريبا) كما كان يقول القائد الراحل ياسر عرفات. واستعاد حضوره العربي الشعبي الذي كاد يبدو غائبا بصورة شبه كلية في المرحلة الماضية تحت ركام النكسات والهزائم. بل استعادت الأمة العربية كلها نوعا متجددا من الحضور لمواجهة تبعات تلك النكسات والهزائم السابقة وآثارها على ضوء هذا الجديد الذي أيقظه انتصار فلسطين. وفي ظل معطيات دولية مختلفة جدا شعبيا ورسميا مع أفول السيطرة الأمريكية على العالم وتعاظم الوعي الشعبي العالمي بحقائق الصراع في المنطقة.
نعم إنه الانتصار وما هو خاف بعد من معطياته أكبر بكثييييسر مما هو ظاهر.