حين نتأمل تجربة بلدنا منذ يوليو 1952 وحتى الآن، ينبغي أن ننتبه وأن نؤكد دائماً على مسألة جوهرية لا تنال في النقاش العام اهتماماً يًذكر رغم اهميتها البالغة، وهي مآلات الساداتية.
حين جاء أنور السادات إلى السلطة وبدأ تحولاته الجذرية المعادية لمسار عبد الناصر، وبالذات منذ عام 1974 ــ ذلك العام المشئوم في تاريخنا ــ ارتكزت تحولاته جميعاً على فكرة بسيطة خاطب بها الناس بمنتهى الإلحاح والتركيز: لقد قادتكم سياسات عبد الناصر ومغامراته وعروبته ومناطحته الكبار أسياد العالم إلى التورط في نزاعات لا تخصنا وإلى الحروب والدمار والتخلف الاقتصادي والتكنولوجي، وهذا كله أوقع مصر في أزمات متتالية ومنع عنها ما كانت تستحقه من التنمية والرخاء، ولذلك فالواجب علينا هو التراجع عن هذه السياسات و”المغامرات” ونبذ العروبة والنضال والتنمية المستقلة التي قادتنا إلى “اشتراكية الفقر”، ورفض”شعارات” الاستقلال الوطني والكرامة والعدل الاجتماعي، والتحول عنها فوراً إلى “السلام” مع إسرائيل التي لا يفصلنا عنها سوى “حاجز نفسي” تافه، وإلى التحالف مع الولايات المتحدة والوقوف على أبواب مشيخات الخليج النفطية المحافظة، وبهذا وحده نصبح أصحاب الحظوة وموضع الرضا لدى الأمريكان سادة العالم فتتدفق علينا الأموال من كل حدب وصوب وننال ما نريده من التنمية والرخاء العميم!!!.
كانت هذه الأفكار السياسية العميقة!!!، هي لب الساداتية وجوهر وعد السادات لشعبه، وعلى أساسها دارت بمنتهى العنف اكبر ماكينة لترويج الأوهام في التاريخ، فمن مانشيتات الصحف البراقة إلى مضابط البرلمان إلى خطب الرئيس المنتصر “بطل العبور” أصبح لا حديث سوى الاستثمارات والمشاريع والأموال القادمة بآلاف ملايين الدولارات من أمريكا والخليج، ولا هم للكثيرين سوى اقتناص الفرصة التي تبدو قريبة ودانية بلا جهد، سواء بانتظارها في مصر أو بالذهاب الواسع إليها في الخليج نفسه سعياً وراء خيرات البترو دولار، وهو أمر وجدت فيه السلطة حلاً سحرياً لأزمات الطبقة الوسطى فشجعته بقوة واعتمدته جزءأ من سياستها الاقتصادية!!!.
وبشكل ما، لا يمكن إنكار أن قطاعات واسعة من الشعب المصري قد استجابت للوعد الساداتي واستسلمت لخدر الأحلام التي أغدقتها السلطة آنذاك بلا حساب، خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن شعبنا قد خرج بعد أكتوبر 1973 مجهداً ومحملاً بضغوط قاسية فرضتها عليه سنوات الصراع بعد 1967 لاسترداد الأرض وإزالة آثار العدوان، بالإضافة إلى غياب الوعي السياسي وضعف النخب والتنظيمات الوطنية التي كان يمكن أن تقاوم التيار الجارف وتبصر الناس بالحقيقة وتمنعهم من الانزلاق في عالم الأوهام.
والآن، بعد 50 سنة من حكم الساداتية المتواصل بلا انقطاع، وبعد أن نبذنا العروبة وتعلمنا بدلاً منها الاستعلاء والعنصرية، وبعد أن تبرأنا من كل النضالات وكل “الشعارات القديمة”، وبعد أن ارتمينا في أحضان أعدائنا وابتعدنا لما يقرب من نصف قرن عن الصراعات والحروب التي قيل لنا ــ زوراً وبهتاناً ــ انها لا تخصنا، هل تحقق شئ من وعد الساداتية، هل أصبحنا أفضل حالاً، هل حافظنا على استقلالنا الوطني، هل حفظنا كرامتنا ومكانتنا العربية والدولية من التآكل والانهيار، هل طورنا سياستنا الإفريقية وحافظنا على ماء النيل، هل طورنا مشروعنا الثقافي والفكري والفني نحو آفاق ارحب من أفق الستينات أم انهارت ثقافتنا وفنوننا ــ في ظل الساداتية ــ بين التدين الشكلي الزائف وفتاوى الإرهاب من ناحية وأغاني المهرجانات وثقافة متحرشي الشوارع من ناحية أخرى، هل تدفقت فوق رؤوسنا الأموال والاستثمارات الأمريكية وجاءنا الرخاء العميم، ذلك الرخاء الذي قال السادات عام 1977 أنه سيأتي بعد عامين ونصف؟!!!، هل حتى حققنا أو قاربنا مستويات التنمية التي حققتها دولة عبد الناصر المغضوب عليها في ظل الصراعات والحروب، أم استمر البعض ــ كما كان يفعل السادات نفسه بالمناسبة ــ في تبرير الفشل والانهيار الدائم بأننا لا نزال نعاني من آثار الحروب وتبعات اشتراكية الستينات؟!!!!!!!.
أسئلة أطرحها ولا أجيب عليها، لأن الواقع نفسه قدم منذ زمن أوضح الإجابات عنها جميعاً لمن يريد أن يفهم ويتدبر ويتعظ.