الهبة المقدسية، وما تبعها من حراك نوعي غير مسبوق في الصراع العربي الصهيوني؛ بعد قرابة أربعة عقود من نصر اكتوبر العسكري العظيم، وهذا الحراك غير موازين قوى وطنية وإقليمية وعالمية، فهل يتغير الواقع الوطني والإقليمي إلى ما هو أفضل؟
سؤال نطرحه على بعضنا البعض، والحراك الذي انطلق من القدس شمل كل فلسطين المغتصبة والمحتلة، وحدث في ظروف غير مواتية للمصهينين والمطبعين العرب والمسلمين، وأصاب نظم حكمهم المتكلسة في مقتل، وأغراهم انحرافهم، فحادوا عن جادة الصواب، فتسابقوا وتباروا في تأكيد عنصريتهم، وبدوا أكثر تجاوزا من مؤسسي الحركة الصهيونية أنفسهم، وجاء الحراك ليجد الموقف الرسمي المصري على حاله من التخبط والارتباك، والرضوخ للتعنت الإثيوبي، بعد ورطة التوقيع على «اتفاق المبادئ» (مارس 2015) فأعطى إثيوبيا حقا ليس لها، ومنحها رخصة للعبث بأقدار السودان ومصر، وسمح لها بالاستيلاء على مجرى النيل الأزرق وخصخصته، وهو الرافد الأهم لنهر النيل بالنسبة لدولتي المصب.
والتهاون كان واضحا من البداية؛ رجاء واستجداء المحرضين والمتواطئين والممولين، والواقفين خلف المشروع، وعبر ذلك عن رخاوة ومراوغة متأصلة في بنية السلطة المصرية، وبناء عليها خرج وزير الخارجية سامح شكري بتصريح يسلم فيه بالأمر الواقع، ويقر بهزيمة كانت متوقعة أمام رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد، ورأى شكري «أن الملء الثاني للسد لن يكون مؤثرا على مصالح مصر المائية»(!!) وبدا ذلك مقصودا ضمن حلقات التواطؤ المتلاحقة، وكانت إثيوبيا تفوز فيها بالنقط، وتنتهي بالضربة القاضية.
واعتادت السياسة الرسمية المصرية على ممارسة التعمية، وتُصَوِّر لبسطاء الناس قدرتها على «إصطياد الذئب من ذيله» وتبالغ فرق الإعلام في التطبيل والتزمير في تأكيد ذلك، وأوردوا مصر موارد التهلكة، وقضوا على ما تبقى لها من دور، وهكذا كان تعاملهم في التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، ومع الالتحاق بالركب الأمريكي، وخدمة بنيامين نتنياهو، وتمكين إثيوبيا من أعناق 150 مليون مواطن سوداني ومصري، ولا أريد للكوارث الرسمية المصرية أن تشدنا بعيدا عن فلسطين، فاندلاع شرارة الحراك خرجت من المسجد الأقصى وحي «الشيخ جراح» القريب، وكانت بمثابة وهج أضاء غزة وسائر المدن؛ من رام الله والضفة الغربية، وفلسطين 1948 والأراضي المحتلة عام 1967، وامتدت إلى الجوار العربي؛ لبنان والعراق والأردن.
ورغم الغارات العدوانية الصهيونية المفرطة، واستشهاد وإصابة أعداد كبيرة من المدنيين والأطفال والنساء وكبار السن؛ بدت خسائر المستوطنين والشرطة فادحة، ورغم تركيز الغارات الكثيف على قطاع غزة؛ بالإبادة والتدمير المتواصل، استطاعت صواريخ المقاومة تلقين نتنياهو وزمرته درسا لن ينسوه، فتغيرت اللغة، واعترفت الصحف الصهيونية بوطأة ما يجرى وعَلَت الأصوات باستحالة العيش في بلد ليس لهم.
وهكذا بدأ البنيان الصهيوني يتهاوى، ولاحت إمكانية التحرير والعودة، وهذا أشعر المستوطنين وأركان الدولة الصهيونية، بالانكسار، وكانوا قد أدمنوا التفاوض والتطبيع وغسل الأدمغة؛ انطلاقا من نظرية «العربي الجيد هو العربي الميت» واعتماد استمرار بقائهم، وأبدية وجودهم على فناء آخر فلسطيني وآخر عربي، وهل يتم التعامل مع أولئك الوحوش بنفس طريقتهم، والرد لا، وعلى الفلسطينيين والعرب إثبات جدارتهم بالحياة، وامتلاك القدرة على الدفاع عنها، وممارسة دورهم البناء، وتفادي الوقوع في شراك التعصب والعنصرية والطائفية والمذهبية والانعزالية، والسؤال كيف؟.
لتكن الهبة المقدسية ولادة جديدة، تعيد العرب للتاريخ؛ بكرامة وعزة، وليس بابتذال وخنوع. والولادة الجديدة ترتكن على شرعية المقاومة والعمل الوطني الجامع
المعضلة بدأت مع زيارة السادات للقدس المحتلة واستسلامه، وبدأت طرائق وأساليب تعامل العرب بين بعضهم البعض في التغير، والعرب الآن في حاجة ماسة لإعادة النظر فيما جرى؛ ليعودوا متماسكين ومتعاونين ومتوافقين، وبعد المنازلة الفلسطينية فالعرب في حاجة للتقارب والعمل المشترك، كي يعودوا على مستوى المسؤولية، ويستعيدوا تأثيرهم، وستردوا حقوقهم، التي أضحت ممكنة، وما انتزع بالقوة يسترد بالقوة، وعليهم إعادة اكتشاف مواطن قوتهم، ولن يتحقق ذلك إلا بطلاق الفتن، وتجاوز الاقتتال البيني، وعدم تعليق أي أمل على الأعداء في استرداد هذه الحقوق.
وحين نغوص فيما أنجزت الهبة المقدسية، ليكتشف العرب مواطن قوتهم، وتجلت في قيام جزء صغير العدد ومحدود الاتساع، وهؤلاء وقفوا أندادا وأمكنهم تغيير معادلات وموازين مستقرة، فماذا لو كان العدد أكبر والمساحة أوسع؟ وماذا لو تم الاعتماد على الذات وعلى إمكانيات العرب اللامحدودة؟ وإذا ما جعلوا واقعهم صالحا لعودة الطيور المهاجرة والعلماء والمتميزين والخبراء المنتشرين في العالم. وإذا ما تحققت الكفاية في الغذاء والدواء والكساء والتشييد والتصنيع والخدمات؟، وإذا ما رفضوا الإذعان لقرارات حصار النفس والأشقاء ولجيران والأصدقاء والمسالمين، وإذا ما رفضوا القيود المفروضة عليهم بلا سند دولي وقانوني، ويقيموا علاقتهم على قاعدة المعاملة بالمثل؛ كما تفعل روسيا والصين حاليا.
أمامنا حاليا كوريتان؛ شمالية وجنوبية، الأولى فرضت وجودها بالتفوق في الصناعات الثقيلة والعسكرية والصاروخية، وعلى العرب رؤيتها بعيونهم لا بعيون صهيو غربية، ويعلموا أنها تحتل المرتبة الثانية عالميا في ملكية الدبابات، وتبلغ 6 آلاف دبابة، وترتيبها يلي روسيا الاتحادية، وترسانتها النووية أعجزت ترامب عن تهديدها أو ابتزازها، وتملك ترسانة صناعية متقدمة تحققت بعدد سكان يساوي ربع سكان مصر، وهي جزء من «قارة عربية» يسكنها 400 مليون نسمة، وإجمالي مساحتها 14 مليون كيلو متر مربع!!، أما سكان كوريا الجنوبية فيبلغون نحو 52 مليون نسمة؛ أي نصف سكان مصر، وتعمل على تخفيضهم إلى أقل من 40 مليون نسمة قبل نهاية ستينيات القرن الحالي، وهي بلد رائد في الزراعة والصناعات الثقيلة والمتوسطة والخفيفة والرقمية، وخبراؤها وعمالها المهرة ينفذون مشروعات عملاقة حول العالم.
ولماذا نذهب بعيدا، ولا نرى إيران البلد الجار بعيون عربية، وغالبيتها تدين بنفس دين العرب، وصامدة على مدى أربعين عاما ضد حصار جائر فرضه الغرب، وشارك العرب فيه، ولم يتعاملوا معها على «قاعدة الشفعة» مع الجيران، وعادوها (من العداء) وصادقوا الدولة الصهيونية؛ عدو إيران والعرب الحقيقي، وقد استراح «العرب الجدد» لإضعاف النفس وتدمير الذات، ومن يقبل عليهم يجد الصد والرفض!!.
وبعد ثورة يناير في مصر أقبلت روسيا، وخلع بوتين معطفه على «المشير السيسي» الذي لم يستوعب رسالته، وكانت تُذكِّره بصداقة ربطت القاهرة بموسكو في السابق، رغم الخلاف الأيديولوجي، الذي استثار حفيظة دول شيوعية عدة، بسبب الاهتمام الزائد بمصر والعرب في ذلك الزمن، ورضي «المشير» بالانكفاء، وفضل التبعية الأمريكية، والتعلق بنتنياهو على علاقة ندية بدولة عظمى كروسيا، وحسب خبرتي من زيارة للاتحاد السوفييتي السابق، حيث يشعر المرء وهو بين الشعب الروسي أن هواه شرقي وعربي وإسلامي، وكنيسته شرقية؛ مثل كنائس الأردن وفلسطين ومصر والعراق وليبيا، ولقد شعر المصريون والعرب بالحرج مرتين؛ الأولى عند زيارة دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية، وإغداقهم عليه، الإهانة الثانية عندما قَبِل «المشير» بوصف ترامب له بـ«دكتاتوري المفضل» وحين عبر عن سعادته الغامرة مع بنيامين نتنياهو؛ بضحكة عريضة باتساع الفم المفتوح.
ولتكن الهبة المقدسية ولادة جديدة، تعيد العرب للتاريخ؛ بكرامة وعزة، وليس بابتذال وخنوع. والولادة الجديدة ترتكن على شرعية المقاومة والعمل الوطني الجامع، وعدم الرهان المبالغ فيه على «الشرعية الدولية» ذات التأثير المحدود، وقصرها حق النقض (الفيتو) على خمس دول كبرى، وللتذكرة، أليست هذه شرعية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وافتتحت أعمالها بقرار تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب في 1947، واعترافها بالدولة الصهيونية في 1948، وما زالت القرارات التي تدين وتشجب عدوان تل أبيب المتكرر، حبيسة أدراجها، واعتادت الكيل بأكثر من مكيال، فللعرب، ومن يعيشون حالات مشابهة لهم في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؛ مكيالهم بالسالب، ومع الدولة الصهيونية فالمكيال بالإيجاب، مع أنها لا تقبل قراراتها. والشرعية الدولية، منذ نشأة الأمم المتحدة تقف مع ما يشيع الفرقة والفتن والاقتتال، وتغض الطرف عما تمارسه الدولة الصهيونية، وعن ضربها بقرارات الأمم المتحدة عرض الحائط، وتُغَلِّيب شرعية العدوان والغزو والاحتلال في أفغانستان والعراق وسوريا، وشرعية الاستيطان والتمييز العنصري في فلسطين، وتقف ضد شرعية التحرير والسلام القائم على العدل، وهو سلام مغيب للأسف الشديد.