أخبار عاجلة
الرئيسية / تقارير وملفات / تونس: “حروب” الشوارع..

تونس: “حروب” الشوارع..

قد يكون الحراك الشبابي الذي أعقب “هبة يناير” مطلع العام، وجرى على مدى ثلاثة أسابيع، وانتهى بمسيرة ضخمة في 6 شباط/فبراير، في ذكرى اغتيال المناضل بلعيد، “فشل” في تحقيق المطالب أو توسيع نطاق التحركات، لكنه كان لافتاً للنظر من حيث مكوناته وأشكاله النضالية.
2021-03-23

محمد رامي عبد المولى

كاتب صحافي من تونس


جدارية مرسومة على أعمدة جسر “قورش الأكبر”، تونس.

هدأت “هبة يناير” الليلية التي عرفتها عدة أحياء شعبية ومناطق من تونس، وانجلى دخان العجلات المحروقة والمتاريس والقنابل المسيلة للدموع. “اختفى” شباب الهامش، بعضهم عاد إلى بؤسه اليومي، وبعض آخر ما زال موقوفاً على خلفية تلك الأحداث، ينال صنوفاً شتى من سوء المعاملة التي تصل إلى حد التعذيب الصريح، حسب شهادات متقاطعة وبيانات من منظمات وطنية تنشط في مجال مناهضة التعذيب.

لكن الشوارع لم تهدأ، وقد تواصل صخبها طيلة شهر شباط/فبراير وحتى بعده، لأسباب وغايات مختلفة. وهذه المرة، حلت القوى السياسية والمدنية المنظمة مكان “الكتل” البشرية الهامشية والمهمشة. شوارع متضادة ومتوازية أحياناً ومتقاطعة أحياناً أخرى، تعبّر – على الرغم من تباين اتجاهاتها – عن أزمة سياسية عميقة تعيشها البلاد.

شوارع الغضب..

قبل اندلاع هبة الأحياء الشعبية في كانون الثاني/ يناير 2021، كانت هناك حالة من “القلق” في الشارع: احتجاجات ذات طابع اجتماعي في عدة مناطق من البلاد، تحركات حقوقية ضد مشاريع قوانين تمنح حصانةً إضافية لقوات الأمن، أو تهدد حرية واستقلالية الصحافة، اعتصام جرحى الثورة وأهالي شهدائها، ضغوط لتحريك ملفات الاغتيالات السياسية، الخ. وكانت عدة مجموعات – شبابية يسارية أساساً – تدعو منذ بداية السنة إلى النزول إلى الشارع في 14كانون الثاني / يناير، في الذكرى العاشرة للثورة، للتعبير عن الغضب والإحباط من الانحراف بها، وإدخالها في زواريب “انتقال ديمقراطي” ممسوخ، وصراع هوياتي مصطنع، ومحاور إقليمية لا يأتي منها خير.

 استبقت حكومة هشام المشيشي المظاهرات المحتملة، فأعلنت يوم 13 كانون الثاني/ يناير حجراً صحياً شاملاً حتى تقطع الطريق أمام هذه الدعوات. لكن بعد ساعات قليلة من هذا الإعلان، تحركت عدة مناطق في البلاد (خاصة الأحياء الشعبية المتاخمة للعاصمة تونس)، بدون دعوات ولا تنسيق مسبق. هذه الهبة أعادت الأمل للناشطين الشباب، وجعلتهم يدعون مرة أخرى إلى النزول إلى الشارع في محاولة لتوسيع دائرة الاحتجاج، وكذلك لإسناد شباب الأحياء الشعبية وفك الحصار عنهم، خاصةً مع تصاعد القمع البوليسي والتحريض الحكومي والتشويه الإعلامي. جوبهت هذه التحركات النهارية، والتي تركز أغلبها في العاصمة تونس وبعض المدن الكبرى، بالقمع والحصار. لكنها كانت منظمةً، واستمرت بشكل متقطع لأكثر من 3 أسابيع، وانتهت فعلياً يوم 6 شباط/فبراير بعد تنظيم مسيرة ضخمة بمناسبة الذكرى الثامنة لاغتيال المناضل اليساري شكري بلعيد. وهي المسيرة التي حاولت قوات الأمن إضعافها وتقطيع أوصالها بشتى الوسائل: تعزيزات أمنية كبيرة من حيث شكل العتاد وعدد عناصر الشرطة، إغلاق شوارع العاصمة الرئيسية، منع قدوم متظاهرين من مدن أخرى، الخ. أعقبت هذه التحركات موجة اعتقالات للناشطين وتهديدات صريحة من “النقابات الأمنية” بالانتقام منهم والتنكيل بهم، نظراً لـ”إهانتهم” أعوان الشرطة، بالسباب والشتم والحركات “البذيئة” وإلقاء الطلاء (بألوان مختلفة) عليهم. وما زال بعض هؤلاء النشطاء موقوفاً ينتظر المحاكمة.

قد يكون هذا الحراك الشبابي “فشل” في تحقيق مطالب أو توسيع نطاق التحركات، لكنه كان لافتاً للنظر من حيث مكوناته وأشكاله النضالية.

شباب “النهار” يختلفون عن شباب “الليل”، فهم أساساً طلبة وناشطون سياسيون ومدنيون يحسنون الكلام وصياغة الشعارات بعدة لغات.. وفيهم المخضرمون الذين كانوا في الواجهة قبل عشر سنوات، ومعهم جيل جديد تشكل وعيه السياسي بعد الثورة.

هم أساساً من أبناء الطبقات الوسطى أو “الناجين” من جحيم الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية. ورغم التحركات المشتركة فهناك فروق بين الجيلين الأساسيين في الحراك. الأجيال الجديدة ترفع الأصبع الوسطى أكثر من شارة النصر التي يحبذها الأكبر سناً، تفضل الإنجليزية والعامية التونسية على العربية الفصحى والتونسية الملطفة والفرنسية، وهي “فوتوجينيك” ومحبّة للصور، وتميل إلى خلق أجواء استعراضية خلال المظاهرات، في حين يبدو “الأخوة الكبار” الثلاثينيون أكثر تحفظاً، ربما بسبب تجاربهم القديمة مع البوليس السياسي والمخبرين ومصوري الشرطة الفنية.

في مظاهرات العاصمة تتنوع الهويات السياسية والاجتماعية للمشاركين، وترتفع عدة أعلام ورايات: تونس، فلسطين، الراية الحمراء الشيوعية، رايات الأناركية/اللاسلطوية وحركة مناهضة الفاشية..

شباب “النهار” يختلفون عن شباب “الليل”، فهم أساساً طلبة وناشطون سياسيون ومدنيون يحسنون الكلام وصياغة الشعارات بعدة لغات.. فيهم المخضرمون الذين كانوا في الواجهة قبل عشر سنوات، ومعهم جيل جديد تشكل وعيه السياسي بعد الثورة. هم أساساً من أبناء الطبقات الوسطى، أو “الناجين” من جحيم الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية.

 وتتعدد أيضاً الهويّات الجنسية الجندرية، فيحضر “مجتمع الميم” بقوة ويعبّر عن نفسه.. يرى البعض أن هذا “موش وقته” وقد يضر بصورة الحراك لدى “الرأي العام”، فيجيب آخرون “فلتتفتح مئة وردة”..

شوارع “الماضي” المظلم تزحف نحو “المستقبل” المبهم..

الثورات غير المكتملة والمجهضة تلد في أغلب الأحيان مسوخاً وتنتج أوضاعاً غرائبية. كيف تحولت انتفاضة شعبية مطالبة بالخبز والشغل والكرامة إلى استقطاب زائف بين رجعيتين يمينيّتين واحدة تتاجر بالدين والأخرى بالحداثة؟ كيف أصبحت سيدة، كانت أمينة عامة مساعدة في حزب الديكتاتور “بن علي” إلى “زعيمة” المعارضة، تقود حزباً ترشحه “استطلاعات” الرأي إلى اكتساح البرلمان في حال تنظيم انتخابات مبكرة؟ نتحدث هنا عن عبير موسي، رئيسة “الحزب الدستوري الحر” التي ارتفعت أسهمها السياسية بشكل جنوني، وهذا حوّلها من شبه “نكرة” إلى إحدى أكثر الوجوه السياسية ظهوراً.. وصخباً. عرفها التونسيون بعد الثورة بأنها المحامية التي دافعت عن حزب بن علي عندما رفع محامون آخرون قضيةً تطالب بحله (وهو ما تمّ في آذار/مارس 2011)، ويتذكرون كيف استعملت الغاز المسيل للدموع ضد زملائها في قاعة المحكمة.

 في السنوات الأولى بعد الثورة كانت موسي تثير سخرية وغضب أغلب الناس بدفاعها المستميت عن فترة الديكتاتورية و”إنجازاتها”، وعندما أسست حزباً في 2013 لم يأخذ أحد تقريباً الأمر على محمل الجد. لكن تتالي الخيبات، وإحباط جلّ التونسيين من الوضع السياسي والاقتصادي المتأزم، جعل الحنين إلى زمن الديكتاتورية يتنامى كل يوم أكثر، وصار كلام عبير موسي وأمثالها يجد مقبوليّةً وتفاعلاً متزايدين. لكي نفهم الصورة أكثر: حاز حزب عبير موسي 3 مقاعد فقط في الانتخابات التشريعية 2014، وحصد 17 مقعداً في 2019، وترشحه استطلاعات الرأي في الأشهر الثلاث الأخيرة لنيل أكثر من 70 مقعداً في البرلمان لو تقرر تنظيم انتخابات مبكرة في الفترة القادمة.

استراتيجية عبير موسي بسيطة وفعالة: خطاب راديكالي ضد الإسلاميين، وتمجيد صريح للديكتاتورية (مع ترذيل الثورة بشكل مستمر)، وصناعة يومية للـ”حدث” حتى تضمن تغطية إعلامية مستمرة وتحشد الأنصار. مع وصولها إلى “مجلس نواب الشعب” في أواخر 2019 كنائبة تترأس كتلة متوسطة الحجم، فهمت عبير موسي أنها إزاء فرصة ذهبية لبناء “مجدها” السياسي، فحولت البرلمان إلى منصة إطلاق “صواريخ”، وجعلت من وجودها فيه عرضاً يومياً مستمراً أمام عدسات المصورين، وكذلك من هاتفها الذي لا يتوقف عن بث “اللايف”: اعتصام رفقة كتلتها في قاعات البرلمان، استفزاز مستمر لرئيس المجلس راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، مناكفات يومية مع كتلة “ائتلاف الكرامة” (تجمع”شعبوي” أغلب أعضائه من مرجعيات إسلامية، ويعتبره الكثيرون ملحقاً لحركة النهضة تستعمله كـ”مصّد” صدمات وكمكلّف بالأعمال “القذرة”)، احتفال بذكرى وصول بن علي إلى الحكم، الخ.

كل هذا الظهور لم يشبع عطش عبير موسي وحزبها للسلطة، فاختارت أيضاً الخروج إلى الشارع.. وهي لم تنتظر كانون الثاني/ يناير 2021، فمنذ خريف 2020 بدأت موسي – التي لا يُخفى على أحد الدعم الإماراتي الذي تحظى به – في تكثيف أنشطتها “الميدانية”. كانت البداية بتنظيم اعتصام مفتوح أمام فرع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتونس للمطالبة بحلّه باعتباره تابعاً للإخوان المسلمين و”منظمة إرهابية” تهدد أمن تونس. وفي 19 كانون الأول/ ديسمبر 2020 أعلنت في اجتماع شعبي حاشد نظمته في “المنستير” – مسقط رأس الحبيب بورقيبة ومعقل “الدساترة”، جمهور الحزب الذي حكم تونس أكثر من 55 عاماً – “اعتصام الغضب” ضد الحكومة “الداعمة للإرهاب”، وانطلاق “ثورة التنوير” للخروج بالبلاد من أزمتها.

الثورات غير المكتملة والمجهَضة تلد في أغلب الأحيان مسوخاً وتنتج أوضاعاً غرائبية. كيف تحولت انتفاضة شعبية مطالبة بالخبز والشغل والكرامة إلى استقطاب زائف بين رجعيتين يمينيّتين. واحدة تتاجر بالدين والأخرى بالحداثة؟ كيف أصبحت سيدة كانت أمينة عامة مساعدة في حزب الديكتاتور “بن علي” إلى “زعيمة” المعارضة، تقود حزباً ترشحه “استطلاعات” الرأي إلى اكتساح البرلمان في صورة تنظيم انتخابات مبكرة؟

تعاملت عبير موسي ببراغماتية (بالأحرى بانتهازية) مع هبة كانون الثاني/ يناير 2021. فمن جهة نددت بما أسمته “أعمال شغب وتخريب”، ومن جهة أخرى عبرت عن تفهمها للأسباب، محمّلةً حركة النهضة مسؤولية تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وبعد هدوء الأوضاع، عادت موسي وحزبها إلى مواصلة الاجتماعات الشعبية وهذه المرة اختارت، في 21 شباط/فبراير الفائت، “سوسة” مسقط رأس بن علي، والمدينة المؤثرة بشدة سياسياً واقتصادياً في البلاد، لتخطب وسط الحشود عن “ثورة التنوير” وعزم حزبها تنظيم احتجاجات في مختلف مناطق البلاد.

لا تكتفي موسي بالاجتماعات الشعبية، بل تحاول “إلهاب” الشارع وفتح معركة حادة ومباشرة مع الإخوان المسلمين. ففي يوم 9 آذار/مارس اقتحمت رفقة ناشطين في حزبها ومناصرين لها مقر “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” (فرع تونس) فأحدثت ضجةً كبرى، واستدرجت نواباً من “ائتلاف الكرامة” و”حركة النهضة” إلى التحرك لنصرة المنظمة الإخوانية والذود عن مقرها. كما اضطرت قوات الأمن إلى التدخل لـ”تحرير” المقر، وفض الاعتصام بالقوة.. خرجت عبير موسي منتصرةً من هذه المعركة وارتفعت أسهمها أكثر، وثبتت نفسها في موقع “البطلة الخارقة” التي لا يقدر سواها على التصدي للإسلاميين و”الدفاع” عن مدنية الدولة.. هذا الموقع شغله في 2014 الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ومكّنه من الوصول إلى رئاسة الجمهورية وتمكين حزبه – “نداء تونس” – من اكتساح البرلمان..

شوارع “الشرعية” المشروخة..

لم تتأخر “حركة النهضة” في التفاعل مع مختلف هذه “الشوارع”.. ولم يكن هذا عبر الإصغاء لـ”نبض الشارع”، وتعديل البوصلة، وتقديم تنازلات للخروج من الأزمة. تتحكم الحركة الفائزة في الانتخابات التشريعية الفائتة (2019) ، بربع مقاعد البرلمان، وسُبع أصوات الناخبين، في السلطتين التشريعية والتنفيذية، إذ يترأس زعيمها راشد الغنوشي مجلس نواب الشعب، وهي القادرة – بحكم تحالفها مع “ائتلاف الكرامة وحزب “قلب تونس” الذي يقوده نبيل القروي المسجون حالياً بتهم تهرّب ضريبي وفساد – على الإطاحة برئيس الحكومة الحالي، هشام المشيشي، أو تثبيته في مكانه، حسب ولائه ومتغيرات الوضع السياسي.

ولقد جرّمت حركة النهضة “هبة يناير 2021” التي قادها أبناء الأحياء الشعبية، وصورتها كانتفاضة لصوص وشباب مغرر بهم من أطراف مشبوهة (الإماراتيين تارة واليساريين تارة أخرى)، ولم يتردد بعض قادتها في المناداة بتشكيل ميليشيات شعبية لقمع الحراك الشبابي، فضلاً عن دعمها حكومة المشيشي التي حركت آلة القمع البوليسي، والاعتقالات لاستهداف شباب الأحياء الشعبية ليلاً ونشطاء الحركات السياسية والمدنية نهاراً.

ردت النهضة على الشوارع الأخرى عبر تحشيد قواعدها وقواعد حلفائها للخروج إلى الشارع، في 27 شباط/فبراير، لتنظيم “مليونية” (ثلاثين ألف متظاهر في آخر الأمر) حملت شعار “الثبات والدفاع عن المؤسسات” دفاعاً عن “الشرعية”. شرعية نصف مليون صوت تتحكم في رقاب 11 مليون تونسي في ظل ديمقراطية هشّة، ونظام سياسي هجين شبه برلماني وتشظي المعارضة الديمقراطية التقدمية.

وكما تفعل عادةً الأحزاب الحاكمة في ربوعنا، سخّرت حركة النهضة إمكانات مادية كبيرة لاستجلاب المواطنين من مختلف أرجاء البلاد من حافلات ولجان تنظيم حتى إنها أرادت اكتراء قطار يقل أنصارها من جنوب البلاد إلى العاصمة شمالاً. وروجت فروعها المحلية إلى أن المسيرة نصرةٌ للإسلام، وحماية للديمقراطية من انقلاب تدبره قوًى محلية مدعومة من قبل محاور إقليمية. وتحدث القادة عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي عن المسيرة وكأنها “أم المعارك” أو منعرج في تاريخ البلاد. وفي أبرز تجليات الحياد والتحلي بحس “رجل الدولة”، حضر المرشد الأعلى لإسلاميي تونس، ورئيس مجلس النواب راشد الغنوشي المسيرة.

مظاهرة دعم “الشرعية” هذه تذكرنا بمظاهرات مشابهة كانت الحركة تنظمها بشكل علني، أو عبر وكلاء لدعم حكومة “الترويكا”، التي كانت تقودها بين 2011 و2013، وللضغط على الإعلام العمومي والتضييق على النقابيين، ومهاجمة مقرات “الاتحاد العام التونسي للشغل”، والاعتداء على الفنانين والمثقفين، وضرب المتظاهرين والمحتجين، وتحشيد القواعد لفك “اعتصام الرحيل” الذي نظمته المعارضة في صيف 2013 للمطالبة بإسقاط الحكومة، وحل “المجلس التأسيسي” إثر اغتيال المناضلين السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية.

جرّمت حركة النهضة “هبة يناير 2021” التي قادها أبناء الأحياء الشعبية، وصورتها كانتفاضة لصوص وشباب مغرر بهم من أطراف مشبوهة (الإماراتيين تارة، واليساريين تارة أخرى)، ولم يتردد بعض قادتها في المناداة بتشكيل ميليشيات شعبية لقمع الحراك الشبابي، فضلاً عن دعمها حكومة المشيشي التي حركت آلة القمع البوليسي، والاعتقالات لاستهداف شباب الأحياء الشعبية ليلاً ونشطاء الحركات السياسية والمدنية نهاراً.

خلال المظاهرة التي نظمت بشوارع وسط العاصمة تونس، احتفى أنصار حركة النهضة بقوات البوليس وأهدوا لهم الورود حتى يعيدوا لتلك القوات “اعتبارها” و”هيبتها” بعد مواجهاتها مع الشباب “الطائش” و”المخرب” و”غير المهذب”. لا نعرف إن كان الإسلاميون قد نسوا فعلاً تاريخهم مع البوليس والتعذيب والتنكيل، أم إنها شماتة بالخصوم و”تكبير دماغ” لاستمالة مؤسسة ما زالت قوية وفعالة ونافعة لكل من يريد بسط سلطته على المجتمع.

أريد من خلال هذه المظاهرة “الحاشدة” توجيه رسائل للخصوم وللرأي العام حول قوة الحركة وقدرتها على التحشيد، لكن هناك أيضاً رسائل “داخلية”. فحركة النهضة شهدت عدة استقالات وتصدعات في السنوات الأخيرة، وهناك بوادر انشقاق من قبل قيادات مؤثرة وأجنحة غاضبة من سيطرة راشد الغنوشي والمقربين منه على الحركة، وخاصةً من سياساته القائمة على التحالف مع رجال النظام القديم، ورجال أعمال معروفين بمافيوزيتهم وبالفساد الذي تزكم رائحته الأنوف، فضلاً عن التنازلات “العقائدية” وتبرؤ الحركة من هويتها “الإسلامية” الإخوانية. حضور الغنوشي بمظهر الملك المتوج في المظاهرة وسط هتافات مناصريه وتدافعهم لتحيته كانت رسالة واضحة: ما زلت الزعيم والرجل الأقوى في الحركة..

تُواصل حركة النهضة الدفاع عن “شرعية” مشروخة ومتآكلة، فهي من جهة خسرت ثلثي ناخبيها والمتعاطفين معها ( من مليون ونصف مليون صوت في 2011 إلى نصف مليون صوت في 2019) ومن جهة أخرى دخلت في سرداب التنازلات والتحالفات المشبوهة مع أطراف فاسدة حتى تضمن بقاءها في السلطة، وزالت عنها هالة الإسلاميين المعارضين الذين نكلت بهم السلطة، لتصبح مجرد حزب سياسي حاكم انتهازي، يوزع غنائم السلطة بين أبنائه وحلفائه، ويواصل السير على درب سياسات بن علي الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الرغم من التحشيد واستعراض القوة البشرية والمادية، فلا يبدو أن حركة النهضة مطمئنة، فخصومها المحليين كثر – وإن كانوا ضعفاء- والرعاة الإقليميون قد تتغير أولوياتهم وتتقاطع مصالحهم فيضحّون بهذا الكومبارس أو ذاك.

عبير موسي هي الأمل المتبقي لحركة النهضة حتى تضمن عدم انهيارها في الانتخابات القادمة. قد يبدو هذا الأمر غير منطقي، لكن حركة النهضة التي ليس لها ما تقدمه للتونسيين تقتات على الاستقطابات الزائفة وصراعات الهوية الوهمية والخوف والتخويف. ستتوجه إلى أنصارها، وتحفّزهم على الالتفاف حول الحركة ونصرة الإسلام والتصدي لإمكانية عودة الديكتاتورية، وستحاول أن تصور نفسها على أنها الحزب الوحيد القادر على التصدي لعودة “التجمع الدستوري” (حزب بن علي). طبعاً ستعوّل على “ضعف ذاكرة” من ينسى ويتجاهل كون زعيم الإسلاميين ورئيس مجلس النواب، عيّن في الأشهر الفائتة مستشاراً سياسياً اسمه محمد الغرياني، هذا الأخير كان آخر من تولى رئاسة التجمع الدستوري الديمقراطي”..

الرئيس على ناصية الشارع..

حتى رئيس الجمهورية، قيس سعيد، دخل في لعبة الشوارع، وإن كان بشكل غير صريح أو مباشر. الرئيس الذي يصارع منذ أشهر لفك الحصار الذي تحاول رئاستا البرلمان والحكومة فرضه عليه، أكثر من خروجه إلى الشارع في الأسابيع الأخيرة. وكان قيس سعيد قد أضاع فرصة ذهبية للعب دور مركزي في المشهد السياسي – على الرغم من صلاحياته الدستورية المحدودة – عندما أساء اختيار الشخص المكلف بتشكيل الحكومة. ينص الدستور على أن الحزب الفائز هو من يختار رئيس الحكومة، لكن إذا لم ينل ثقة البرلمان، أو تم سحب هذه الثقة أو استقالت الحكومة، فإن مبادرة التكليف تنتقل إلى رئيس الجمهورية، وهذا ما حدث في الصيف الفائت بعد استقالة رئيس الحكومة الياس الفخفاخ. أي شخص كان سيختاره رئيس الجمهورية كان ليحظى بثقة البرلمان لا حباً بقيس سعيد، بل لأن رفض المصادقة على التشكيلة الحكومية يعني عملياً الذهاب إلى انتخابات مبكرة، وهذا ما ترفضه أغلب القوى البرلمانية. انتظر الجميع أن يكلف قيس سعيد شخصيةً تشبهه ومقربة منه تعطيه هامش تأثير سياسي أكبر.

ما حصل فيما بعد أظهر العكس. فبعد أسابيع قليلة من المصادقة على حكومة مرشح قيس سعيد، هشام المشيشي، انقلب هذا الأخير على رئاسة الجمهورية، وارتمى في أحضان حركة النهضة وحلفائها، وسعى إلى “تطهير” الحكومة والإدارة من الشخصيات المقربة من قيس سعيد، ودخل في معارك وخصومات ساخنة وباردة معه. وانقلاب رؤساء الحكومات على رؤساء الجمهورية هي تقاليد راسخة في السياسة التونسية، بدأها الحبيب بورقيبة عندما شغل المنصب بعد الاستقلال سنة 1956، ثم “انقلب” على الباي بعد سنة، وأعلن الجمهورية التي سيترأسها لمدة 30 عاماً قبل أن ينقلب عليه وزيره الأول زين العابدين بن علي في 1987. وفعلها أيضاً رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد مع راعيه و”أبيه الروحي” الباجي قايد السبسي، إذ عزله سياسياً وضايق عائلته في الأشهر الأخيرة من العهدة الرئاسية.

تفيض السياسة من المؤسسات التقليدية، وتسيل نحو الشوارع تحشيداً “للشعب” واستنجاداً به وتأثيراً فيه وحتى ترهيباً له. “شعب” كره أغلبه السياسة ومناوراتها، وفقد الثقة في أغلب أهلها، حتى صار لا يكاد يفرّق بينهم، ويحسبهم كلهم في خندق واحد: الطبقة السياسية، النخبة، أعيان البلد. “شعب” أغلبه منهك من جراء السياسات الاقتصادية السابقة للثورة واللاحقة لها، وزاد الوباء طينه بلّة.

رئيس الجمهورية الذي يحظى بشعبية كبيرة جداً في تونس، والذي أظهرت الأشهر الفائتة أنه لا يُكنُّ وداً خاصاً لحركة النهضة، ليست لديه مصالح يخاف عليها أو ملفات مخجلة يخاف منها، مما يصعّب الضغط عليه وابتزازه. وهذا أمر يزعج كثيراً حركة النهضة التي تبذل كل جهدها لإقصاء قيس سعيد وتحجيم دوره في الساحة السياسية، حتى تحول الأمر إلى عداوة صريحة بين الطرفين تتسبب حالياً بأزمة دستورية. فعلى مدى الشهرين الفائتين، تمسك قيس سعيد برفض استقبال وزراء جدد عينهم المشيشي، في تعديل وزاري فرضته حركة النهضة وحلفاؤها. ودون أداء اليمين أمام رئيس الجمهورية، لا يمكن للوزراء الجدد مباشرة مهامهم. يعتبر الرئيس أن هذا التعديل الموسع غير دستوري، وأن على بعض الوزراء المقترحين شبهات فساد قوية.

تزامنت أزمة التعديل الحكومي، وأداء اليمين مع انطلاق “هبة يناير” واشتعال عدة أحياء وضواحٍ شعبية، وفي حين كان أغلب المسؤولين يهاجمون الاحتجاجات أو يتجاهلونها، لم يتردد قيس سعيد في التوجه إلى منطقة شعبية يوم 18 كانون الثاني/ يناير 2021 والتحاور مع سكانها حول ما يحدث. بعدها بأيام نزل إلى شارع “الحبيب بورقيبة” في قلب العاصمة، في فترة كانت مليئةً بالمظاهرات، وتجمهر حوله الناس وتحدث معهم وعبّر عن تفهمه للغضب الشعبي، كما اختار في بداية شباط/فبراير أن يصلي صلاة الجمعة في “حي التضامن”، وهي منطقة شعبية شهدت أعنف المواجهات بين الشباب والبوليس.

لم يحرض رئيس الجمهورية مباشرةً على التظاهر، ولم يدعُ المواطنين إلى النزول إلى الشارع، لكن خروجه المتكرر في فترة قصيرة إلى أماكن تشهد احتجاجات مشتعلة فُهم أنه دعم ضمني للحراك أو على الأقل عدم معاداته.

لا يقف رئيس الجمهورية على مسافة واحدة بين مختلف “الشوارع” السياسية التي تحركت في المدة الفائتة، ويمكنه هو أيضاً أن يحشد بسهولة مناصريه للنزول إلى الشارع إذا ما اشتد عليه الحصار. يذكر هنا أن قيس سعيد حاز على أكثر من ثلاثة ملايين صوت في الدور الثاني من رئاسيات 2019، أي سبعة أضعاف الأصوات التي حصلت عليها حركة النهضة في التشريعيات.

خاتمة

تفيض السياسة من المؤسسات التقليدية وتسيل نحو الشوارع تحشيداً “للشعب” واستنجاداً به وتأثيراً فيه وحتى ترهيباً له. “شعب” كره أغلبه السياسة ومناوراتها، وفقد الثقة في أغلب أهلها، حتى صار لا يكاد يفرق بينهم ويحسبهم كلهم – وإن كان في ذلك ظلم شديد لبعضهم – في خندق واحد: الطبقة السياسية، النخبة، أعيان البلد. “شعب” أغلبه منهك من جراء السياسات الاقتصادية السابقة للثورة واللاحقة لها، وزاد الوباء طينه بلة.

حروب الشوارع التي تحدثنا عنها قد تتحول إلى صدام مباشر يستثمره شعبويون في صناديق انتخابية، غير آبهين بالأحقاد الذي تُزرع في القلوب، وبتنامي مشاعر الإحباط والقهر لدى فئات واسعة من التونسيين.. ويوماً ما، إذا ما تواصلت الأمور على هذا الشكل، سيفيض الشارع، ولن تقدر القوى السياسية بمختلف توجهاتها، والمؤسسات بمختلف أشكالها، على احتوائه ولا توجيه دُفقاته التي قد تجرف الجميع..

 من موقع السفير العربي

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات هاتفية باحتلال العراق للكويت

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *