حوارات ناصرية 1 – رياض الصيداوي حوارات ناصرية رياض الصيداوي
مركز الوطن العربي للأبحاث والنشر حوارات ناصرية / كتاب سياسي رياض الصيداوي / باحث وكاتب تونسي الترقيم الدولي: ISBN : 9973-763-009
مركز الوطن العربي للأبحاث والنشر جنيف / سويسرا هاتف / فاكس 41.22.797.07.05 هاتف جوال 41.76.387.90.08 البريد الإلكتروني riadh3@freesurf.ch
الموزع دار الكنوز الأدبية ص.ب. 11-7226 بيروت- لبنان هاتف / فاكس 009611739696
الطبعة العربية الأولى، تونس، سبتمبر 1992. الطبعة العربية الثانية، بيروت، يناير 2003.
©جميع الحقوق محفوظة لمركز الوطن العربي للأبحاث والنشر بما فيها الترجمة إلى لغات أخرى. لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل من الأشكال، دون إذن خطي مسبق من الناشر.
الإهداء
إلى روح الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وكل السائرين في دربه…
مدخل في الفكر الناصري
مضت 50 سنة على اندلاع ثورة 23 يوليو 1952 في مصر. ورغم نصف القرن هذا الذي مضى ورغم وفاة قائدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر منذ حوالي 32 سنة، فإن الجدل السياسي والفكري عن عبد الناصر، وعن مشروعه الناصرية لم ينته بعد في الوطن العربي. أقدم في هذا المدخل محاولة لفهم الناصرية فكرا وممارسة. قبل وفاة عبد الناصر لم يكن هناك مفهوم أو مصطلح اسمه الناصرية. كان أعداؤه يطلقون على أنصاره في لبنان لقب الناصريين. وكانوا بذلك يربطون الحركة السياسية بشخص، حتى إذا ما انسحب الشخص من الساحة، تنتهي الحركة. وكان عبد الناصر في حياته، يرفض هذا التعبير ويستهجنه. ولكن بعد رحيله، تغيرت أشياء كثيرة في المنطقة، ووجد مساعدوه وأنصار أفكاره أنفسهم خارج السلطة في مصر.. وفي بقية الوطن العربي، وجدت الحركات الجماهيرية المتشيعة له نفسها بدون قائدها الكاريزمي.. وبدأ تعبير الناصرية يروج بقوة في أرجاء الوطن العربي. وبدأ الحديث عاليا حول ضرورة بلورة المشروع الناصري فكريا ونظريا.. وكانت ردود الأفعال متميزة بظاهرتين: الظاهرة الأولى: ظاهرة الناصريين الذين انغمسوا في العمل الحزبي السياسي اليومي، مدركين أن الحركة الناصرية هي حركة عمل قبل أي شيء آخر، وأن المشكلة على الأرض وليس بين رفوف المكتبات رغم أهمية ما يكتب. الظاهرة الثانية، هي مجموع الكتاب والمفكرين الذين حاولوا، كل من موقعه، صياغة المشروع الناصري والحديث عنه والتفلسف فيه، مؤكدين على المسألة النظرية، حتى وصلت عند بعضهم إلى اعتبارها القضية الجوهرية. هيكل، سيف الدولة، والبيطار فمحمد حسنين هيكل، مثلا، ذكر أن لا وجود لناصرية وإنما يوجد ناصريون، بمعنى أن عبد الناصر ليس بلورة نظرية وإنما حركة سياسية ما زالت ممتدة عبر الذين عملوا معه أو انتصروا له. أما المفكر القومي الراحل الدكتور عصمت سيف الدولة، فقد كتب كتابه “نظرية الثورة العربية” وقال عنها “إنني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن الناصرية هي نظرية الثورة العربية وأن الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما انقضى من سنين الردة ولكن طبقاً لمنهجها ومن منطلقاتها إلى غاياتها بأسلوبها. وأن من يناقضها منهجاً أو منطلقاً أو غاية أو أسلوبا لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب إلى الناصرية ولن تثبت نسبته إليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصيا”( ). في حين أن المفكر الوحدوي الناصري، الدكتور نديم البيطار، أكد أن الفكر الوحدوي كان فكرا تبشيرياً غير علمي، وهو ما أضر بالعمل القومي وتأخر به، ويقدم ما يسميه “بالنظرية الوحدوية العلمية الجامعة” كحل لأزمة الفكر الوحدوي، بعد أن يشكك في اجتهادات من سبقوه. وكتب عشرات آخرون في تعريف الناصرية وبلورتها نظريا. وكادت المكتبة العربية تفيض بما كتب عن عبد الناصر والناصرية، فنشرت آلاف العناوين.. كما نوقشت أطروحات دكتوراه وماجستير كثيرة في الوطن العربي.. أذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر: دكتوراه محمد السيد سليم “التحليل السياسي الناصري: دراسة في العقائد والسياسة الخارجية”( )، وقد ناقشها الباحث باللغة الإنكليزية في كندا. وكذلك دكتوراه مارلين نصر، “التصور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر : 1952-1970 دراسة في علم المفردات والدلالات”( ).. وغيرها من الأطروحات والرسائل الجامعية فضلا عن الدراسات والمقالات العلمية المحكمة في الدوريات العربية والأجنبية بلغات كثيرة ومختلفة..
محاولة تعريف الناصرية وفي خضم هذا التفاوت والتنوع الفكري، فإنني رصدت من خلال حوارات كثيرة مع قادة الأحزاب الناصرية، إجماعهم حول أن الناصرية كمرجعية فكرية ونظرية تكمن في مواثيق الثورة وهي على التوالي: فلسفة الثورة، ميثاق العمل الوطني، بيان مارس 1968، وخطب عبد الناصر ومواقفه. كما تكمن الناصرية في الإضافات المبدعة للكتاب والمفكرين الناصريين، مع الحرص الدائم على الاهتمام بالجانب العملي اليومي، وعدم السقوط في متاهات الصراعات النظرية، مع الاستعداد الكامل لبلورة مشروع ميثاق قومي للناصريين يقول فيه الدكتور أسامة سعد، أحد القيادات الناصرية اللبنانية: “ونؤكد أن الناصرية ليست نظرية جامدة، وعلينا أن نطور خطوطها، لأنها نظرية يجوز الاجتهاد فيها والإضافة إليها، رغم أن الاجتهاد له مخاطره، إذ يجب أن يكون إفرازاً لقوى ناصرية مخلصة وفاعلة ومتحركة على الأرض، وألا يصبح الاجتهاد مجرد ترف فكري بعيد عن الواقع. لذلك نحن مع أي جهد يبذل من أجل الوصول إلى ميثاق قومي. وليس هناك أي عوائق في وجه هذا الميثاق.. ونحن نوجه الدعوة إلى كافة الفصائل العربية لدراسة هذا الموضوع. وأؤكد على أنه ليس من حق شخص أو شخصين أو أكثر أن يحددوا هذ! ا الميثاق. فإنجازه هو من مهام قوى ناصرية فاعلة ومتحركة في ساحة العمل السياسي”( ). أما منير الصياد، أمين عام الاتحاد الاشتراكي العربي ـ التنظيم الناصري بلبنان فيقول: “.. وعلينا أن ندرك أن فكرنا جماهيري، وبالتالي، فإن تطوير الفكر الناصري لا يكون فاعلاً إلا إذا كان إفرازاً لنضالات الجماهير العربية.. ولست مع أي شخص مهما كبر، إنه منظر الناصرية. فقد سقطت كل النظريات المتحجرة وانتهت”( ). القضية تصبح، إذن، مع العاملين في الحقل السياسي قضية عمل بدرجة أولى، ثم إبداع جماعي بدرجة ثانية، تكون فيه الجماهير هي المسؤولة عن بلورة نظرية للمشروع الناصري. وحقيقة، كانت الناصرية مع عبد الناصر تتميز بالديناميكية والعملية والابتعاد عن التيه النظري والفلسفي والاقتراب من الجماهير، ملتحمة بالواقع، وملتزمة بمبادئ الثورة، حتى أن بعض الدارسين أطلقوا على عبد الناصر صفة البراغماتي.. كما أنني أتعجب شخصياً من القول الذي يشير إلى أن هزيمة عبد الناصر سنة 1967، كانت بسبب عدم امتلاكه منهجاً علمياً، وبسبب انتهاجه منهج التجربة، فالخطأ فالصواب. أتعجب لأن التجربة ليست منهجاً يختاره الإنسان بوعي، وإنما هي صفة بشرية إنسانية. فمن منا لا يخطئ؟! وهل أن هزيمة الفرنسيين في فيتنام في “ديان بيان فو” سنة 1954 كانت بسبب عدم امتلاكهم لمنهج علمي؟! وهل هزمت أمريكا في نفس البلد أيضا لعدم امتلاكها منهجاً علمياً؟! وهل كانت إسرائيل تمتلك منهجاً علمياً حينما انتصرت على العرب سنة 1967.. وإن كانت تمتلك هذا المنهج، فما هو؟! لقد عبد الناصر طوال حياته منهجياً وعلمياً، من أسلوب بنائه لتنظيم الضباط الأحرار إلى رحيله سنة 1970، وهو يؤكد لمراقبيه في كل معركة يخوضها مدى علميته (!) كان لا يتخذ قراراً معيناً مثلاً، إلا بعد أن يطلع على مذكرات عديدة تصله من جهات مختلفة، وأولها الجهة الخبيرة. وكان أيضا يطلع على مذكرة تصله باستمرار عنوانها ماذا يريد المواطنون؟.. ولا يمكن للرجل الذي بني في عهده مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أن يكون غير علمي. لقد كانت حقبة متفوقة في الإنتاج الصناعي، وفي الإعلام والثقافة، وفي القدرات العسكرية وحتى في الإبداعات الفنية والأدبية.. فعن أي منهج يتحدثون؟! طبيعة المشروع الناصري المشروع الناصري هو مشروع وطني مصري أشع قومياً عربياً بفضل وطنيته، حتى أن كثيرا من الدارسين ومنهم غير عرب يعتبرون أن قوى عبد الناصر الأساسية، وبالتالي قوة الناصرية وقوة تأثيرها وانتشارها عربيا ودوليا تكمن في أن عبد الناصر كان وطنياً مصرياً، يعرف سيكولوجية الشعب المصري. ويفهم الفلاح المصري جيداً كما قال عنه السوفيت في دراسة جاء فيها أن طرافة عبد الناصر تكمن في أنه قائد فهم قوة الفلاح المصري والمجتمع العربي الذي هو مجتمع زراعي فلاحي في غالبيته.. ولم يكن عبد الناصر ضد الوطنية إطلاقا. فهو يقول في “الميثاق” بضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية للشعب العربي في ظروف العمل من أجل الوحدة القومية للأمة العربية كما يقول أن أي حكومة وطنية في الوطن العربي تمثل إرادة شعبها ونضاله في إطار الاستقلال الوطني هي خطوة نحو الوحدة من حيث أنها ترفع كل سبب للتناقض بينها وبين الآمال النهائية في الوحدة. إن الناصرية وناصرا نفسه، رغم هذا الإشعاع والبعد العربي القومي لحركته، كان مرتبطاً بخصوصية محلية، استطاع بفضلها وبالتعمق فيها أن يتجاوز الخاص إلى العام. وهذا ما يعني أن العلاقة التقليدية أو المعادلة التقليدية أو الجدلية المشوهة بين ما هو قطري وطني وما هو قومي يجب إعادة النظر فيها( ). “فالفكر الناصري بعيد عن العصبة المذهبية والطائفية، وحريص على الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي.. وقد أكد على ذلك عبد الناصر في أكثر من مناسبة، وفي “الميثاق” وفي مواقف عملية اتخذها”( ). إن جدل الوطني ـ القومي ليس دائماً كما يبدو للوهلة الأولى جدلا تناقضياً متصارعاً. فالوطني قد يصب في القومي ويدعمه. بل يجب أن يفعل ذلك. فالانطلاق يكون من الخاص إلى العام، من الوطني إلى القومي، وليس العكس، حتى لا تتحول القطيعة مع الوطني إلى ثابت، وبالتالي يصبح النضال “يتوبيا” أو تحليقاً في الفضاء، يخسر فيه القوميون الوطني والقومي معا. لقد تميزت الناصرية، كنموذج مصر عبد الناصر، بعدة خصائص متطورة في سياق النضال العربي المعاصر. فقد بلور عبد الناصر في الميثاق مجموعة من الثوابت المتطورة، أهمها : الديموقراطية “إن الديموقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بين الاثنين، إنهما جناحا الحرية الحقيقية، وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب”( ). كذلك “إنه لا معنى للديموقراطية السياسية أو للحرية في صورتها السياسية من غير الديموقراطية الاقتصادية أو الحرية في صورتها الاجتماعية”( ). تحالف قوى الشعب العامل “لا بد أن يتفسح المجال بعد ذلك ديموقراطيا للتفاعل الديموقراطي بين قوى الشعب العاملة وهي: الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية. إن تحالف هذه القوى الممثلة للشعب العامل هي البديل الشرعي لتحالف الإقطاع ورأس المال المستغل، وهو القادر على إحلال الديموقراطية السلمية محل الديموقراطية الرجعية”( ). تذويب الفوارق بين الطبقات “إن الديموقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق في ظل سيطرة طبقة من الطبقات. إن الديموقراطية حتى بمعناها الحرفي هي سلطة الشعب، سلطة مجموع الشعب وسيادته. والصراع الحتمي والطبيعي بين الطبقات لا يمكن تجاهله وإنكاره وإنما ينبغي أن يكون حله سلمياً في إطار الوحدة الوطنية وعن طريق تذويب الفوارق بين الطبقات”( ). الانتصار للأمة العربية لعلهم قليلون الذين يذكرون أن من أهم أسباب نكسة 1967 هو انحياز عبد الناصر إلى سوريا وإعلانه أن أمن دمشق هو من أمن القاهرة. “ففي 10 مايو كانت على مكتبه أربعة تقارير من أربع مصالح سرية مختلفة للاستعلامات تحوم كلها حول حشد القوى المسلحة الإسرائيلية على حدود سوريا، أحدها صادر عن مصالحه الخاصة، وثان عن السوفيت وثالث وارد من سوريا، وأخيرا تقرير من لبنان. وهكذا كان مقتنعا في 10 مايو عن خطأ أو عن صواب أن إسرائيل تتأهب لشن عملية حربية متسعة لقلب النظام السوري حليفه وصديقه..”( ). فعلى ضوء هذه المعلومات تحرك عبد الناصر لحماية سوريا، وقبلها تحركت قواته لحماية ثورة اليمن. وكانت عمليات المجاهدين الجزائريين تدار بإشراف مصر وبمساعدتها المباشرة. ثم كانت طوال الفترة قضية فلسطين في القلب. كانت جوهر الصراع العربي الصهيوني.. فكانت الناصرية تجسيداً لنصرة القضايا القومية العربية. الانتصار للعالم الإسلامي أشار عبد الناصر مبكراً للدائرة الإسلامية في نضاله التحرري منذ صدور كتابه “فلسفة الثورة” حيث اعتبرها الدائرة الثالثة، ومن ثمة عمل دؤوباً على نشر الإسلام ونصرة قضاياه وتمتين علاقاته مع الشعوب الإسلامية. الانتصار لقضايا التحرر في العالم لم يكن الأمر مبالغاً فيه، حينما ظهرت في أعقاب العدوان الثلاثي سنة 1956 أحزاب وحركات ناصرية في أمريكا اللاتينية، وبعدها جاء “تشي غيفارا” إلى القاهرة ليقول لعبد الناصر “أنت قائدنا ومعلمنا. لقد استلهمنا ثورتنا في كوبا من تصديك البطولي للعدوان الثلاثي في قنال السويس، وقلنا كيف تتصدى مصر لثلاث دول كبرى ونعجز نحن أمام باتيستا”. وبعد صراعات عنيفة مع زعيم الاتحاد السوفيتي خروتشوف، أقرت موسكو بظاهرة عبد الناصر الاشتراكية التقدمية. ونظرت لها، واعتبرتها إبداعاً من إبداعات دول العالم الثالث.. وبمساهمته في تشكيل منظمة دول عدم الانحياز، بلور عبد الناصر تياراً دولياً يرفض التبعية لأي من المعسكرين. وروج لمفهوم “الحياد الإيجابي” انتصاراً لضرورة التنمية المستقلة.. الناصرية والإسلام قبل الحديث عن الناصرية والإسلام، قد يكون مفيدا الحديث عن عبد الناصر والإخوان المسلمين الذين حاولوا أن يبرزوا للعالم أن صدامهم مع عبد الناصر هو صدام بين الناصرية والإسلام. وفي هذا الموضع قد يكون أكثر إفادة اقتباس هذه الفقرة للدكتور عبد الله أبو عزة، المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين الفلسطينية يقول فيها “لم أكن متعاطفا مع جمال عبد الناصر في يوم من الأيام منذ توليه الحكم عام 1954 وحتى وفاته. ولقد شعرت، كما شعر بقية الإخوان، بالقهر والظلم، وأدركت القساوات التي مارسها نظامه ضد جميع معارضيه، خاصة ضد الإخوان المسلمين. ومع ذلك فإنني لم أغل في الخصومة مثل أولئك الذين صوروه ألعوبة، مجرد ألعوبة، في أيدي الدول الاستعمارية، أو أولئك الذين أقنعهم شعورهم المعادي له أنه يهودي. والواقع أن الأثر الفوري الذي تركه نبأ وفاة عبد الناصر في نفسي ونفوس كثيرين من الإخوان كان مزيجا من الارتياح والحزن معا. لقد جاء الارتياح من التوقع العقلي لأن يتلو ذلك وقف محنة الإخوان أو تطامنها على الأقل. أما الحزن فجاء من عدة روافد: أولها أن المتوفى إنسان كان في ذروة السلطان والعز والقوة، بغض النظر عن هزيمة 1967، ثم ذوى فجأة وأفل نجمه بعد أن كان يملأ الدنيا صخباً وضجيجاً ويحرك الأحداث الكبار. أما الرافد الثاني، فقد تمثل في التأثر بجو الحزن العام الذي خيم على العالم العربي، والذي زاده الندب والنحيب الذي طغى على الإذاعات والصحف ووسائل الإعلام. وأما الثالث، فكان شعوراً بيتم هذه الأمة التي فقدت قائدها الأوحد، رغم جبروته وتسلطه أثناء حياته. لقد قضى عبد الناصر على جميع الزعامات في داخل مصر وفي العالم العربي، لم يبق في الساحة السياسية من يخلفه ويملأ الفراغ الذي تركه. لقد حرص طوال حياته على أن يكون عملاقاً بين أقزام، وكان له ما أراد ـ إلى حد كبير ـ فلما رحل كان لا بد أن تشعر أسرته الكبيرة باليتم. وقد انتقل هذا الشعور حتى إلى بعض خصومه، ومهما قيل، أو قلت فيه، فقد كان أكبر من الزعماء العرب الذين حاربوه وعاركوه، وهذه حقيقة يجب أن يعترف بها الإخوان ويقدروا أثرها”( ). هذه الشهادة تلخص رأي الإخوان المسلمون في عبد الناصر. فرغم أنه خصمهم السياسي العنيد إلا أنهم لم يستطيعوا أن يتجاهلوا تأثيره في الساحتين العربية والعالمية، وإشعاعه “وتحريكه للأحداث الكبار”.. وهي تلخص صراعاً مريراً ليس بين الإسلام والناصرية كما يدعي بعضهم، ولكن بين مشروع الحركة القومية العربية والتقدم الاجتماعي مجسدا في الاشتراكية كخيار استراتيجي من جهة والمشروع السلفي الأصولي المحافظ من جهة ثانية. كان صراعا بين “التوفيقي الفعال”( ) و”الموروث الجامد”( ). بين الماضي والمستقبل التيار الأول انطلق من الماضي نحو المستقبل وجمع في حركيته “التراث” مع الوافد الجديد من الغرب، ليخرج بتركيب جديد لا يضيع فيه الأنا فيذوب في الآخر، ولا ينفي الآخر فيعزل الأنا جهلاً وغروراً. ويجد التوفيقي الفعال مرجعيته في محاولات ابن رشد الفكرية، وفي سعي محمد علي نحو نهضة حديثة في مصر، كما يستمد مشروعيته من كتابات جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا.. يكرر نموذج ضرورة استيعاب الغرب وعدم القطيعة معه، وفي الآن نفسه قراءة التراث قراءة ابستمولوجية متأنية. أما التيار الثاني، فقد اكتفى بالموروث. وجمد هناك عن الحركة نحو المستقبل. وقسم العالم إلى “ديار حرب” و”ديار إسلام”. وطرح شعارات براقة، تعكس مدى اختزال وتسطيح الإشكال، مثل “الإسلام هو الحل” و”القرآن دستورنا”.. دون أن يدرك أنصار هذا التيار أن الاجتهاد الذي كان الإسلام من خلاله يواكب العصر قد توقف منذ نجحت قوات المغول في دخول بغداد سنة 1258 وألقت بمكتبة بيت الحكمة في نهر دجلة.. وبداية الانهيار الذي تفاقم مع هيمنة الإمبراطورية العثمانية على المنطقة العربية. حركة القومية العربية وحينما أطلت حركة القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وبدأت تصحح حركة التاريخ اتهموها بالاغتراب، وبأنها مجرد فكر غربي ملحد ليست له جذور في أرضنا. ويرد عليهم المفكر الإسلامي التجديدي احمد كمال أبو المجد “إن موقف هؤلاء القوميين كان موقفاً إسلامياً مستنيراً في مواجهة موقف متخلف عقيم تصور أن اللافتات التي ترفعها الدولة العثمانية المتداعية قادرة وحدها على صنع المعجزات لحساب الإسلام والمسلمين”. ويضيف “إن هؤلاء شعروا بالمفارقة الهائلة بين تحدي الحضارة الغربية الزاحفة بأسلحة العقل والتنظيم والقوة العسكرية وبين ضآلة ما أعدته الدولة العثمانية لمقاومة الزحف، بعد أن تدثرت بالجمود والتزمت بالانغلاق، وبعدت عن الاجتهاد والنظر وفقدت مقومات الحركة الفعالة التي لا يصلح غيرها لمقاومة الزحف الغربي.. أما حركة القومية العربية المعاصرة منذ الخمسينات فلا يمكن أن توصف بأنها حركة تمزيق للوحدة الإسلامية لأن الواقع القائم ليس واقع تجمع إسلامي سياسي، وإنما رفع القوميون دعوتهم في وجه واقع التجزئة والإقليمية والانحصار داخل حدود الدول والكيانات العربية المجزأة، والتي يعكس أكثرها ! ثمرات جهد واع أو صراعات حكام تنازعوا أسلاب شعوبهم في مرحلة من مراحل التاريخ”( ). وقد تأثرت جماعات الإسلام السياسي في هذا السياق بفكرة الباكستاني أبو الأعلى المودودي عن القومية حيث يقول عنها “إن القوميات جرت بلاءاً عظيماً على الإنسانية، ووزعت العالم الإنساني إلى مئات وآلاف الأجزاء، وهي على الدوام متحاربة بينها لأجل ما في نفوس أهلها من العصبية” ويضيف “القومية تنشئ العصبية الأهلية في الإنسانية، فكل أمة تريد اجتثاث غيرها ومعاداتها والنفرة منها لا لشيء إلا لكونها أمة غيرها”( ). الوحدة الإسلامية ورغم ذلك، فإن عبد الناصر لم يضع الوحدة الإسلامية في موضع الاتهام أو الشك، وإنما سعى مبكرا إلى بلورة مثل هذا الاتجاه. فقال في كتابه “فلسفة الثورة” “يجب أن تكون للحج قوة سياسية ضخمة.. ويجب أن يتحول إلى مؤتمر سياسي دوري يجمع القادة ورجال الرأي في الدول الإسلامية والعلماء في كافة أنحاء المعرفة والكتاب والصناع والتجار والشباب ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطا عريضة لسياسة بلادهم وتعاونها معا، وحتى يحين موعد اجتماعهم من جديد”( ). والبرلمان الإسلامي الذي حلم به عبد الناصر ليس صيغة متواضعة، إنها أكثر تقدما من صيغ محدودة طرحها إسلاميون من طراز حسن البنا “عصبة الأمم”، بل ونتائجها الممكنة تفوق صيغة مالك بن نبي “الكومنولث الإسلامي”، تلك هي الصيغ الفقيرة التي طرحها أصحاب شعار الخلافة ويناهضون الناصرية بها، أما الناصرية فتطرح صيغة شعبية أوسع شمولا وأفعل تأثيرا، ونظن أن شرط النجاح لصيغة الناصرية يظل كما كان: وحدة عربية تامة في القلب، وتضامنا فعالا في المحيط الإسلامي..”( ).
الناصرية في عالم متغير إن الخيار الديموقراطي عند عبد الناصر لم يكن خياراً تكتيكياً، وإنما كان يعمل من أجل توطيده. واهتم بالمسألة الاجتماعية الاقتصادية حتى يتحرر الناس من شبح الجوع والفقر، ويتمكنون من الاشتراك الإيجابي في العمل السياسي. وكان عبد الناصر واعياً بضرورة تطوير البلاد سياسياً من أجل ديموقراطية متميزة. وكان يمتلك المرونة الكافية للعمل النقدي ولتجاوز الأخطاء. ولقد ترجم ذلك عمليا من خلال تطور الأداة السياسية الحاكمة من “هيئة تحرير” إلى “الاتحاد القومي” إلى “الاتحاد الاشتراكي”. وبعد نكسة حزيران (يونيو) 1967 فكر جدياً في مسألة التعددية السياسية الحزبية، وتحويل الاتحاد الاشتراكي إلى حزب، وإتاحة الفرصة لبروز حزب معارض ومن ثمة تتطور العملية إلى تعددية حزبية تتبلور سنة 1975. عبد الناصر والديموقراطية وأقدم كشهادة على ذلك هذا المقطع من حوار طويل أجريته( ) مع سامي شرف، مدير مكتب جمال عبد الناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة يقول فيه “كان عبد الناصر يقدر أنه في سنة 1975 سيقوم بتعددية سياسية في مصر. وبدأ التفكير في ذلك منذ شهر أغسطس 1967 حيث طرح على اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي فكرة إنشاء حزبين: حزب للاتحاد الاشتراكي وحزب آخر معارض. ولما سألت سامي شرف: ما هي ملامح هذا الحزب المعارض؟ أجاب “يجب أن يكون هناك اتفاق على الخط الاستراتيجي العام، ولكن معارض في أسلوب العمل والتنفيذ”. ولما سألته: هل هناك تسمية أولية لهذا الحزب؟ أجابني “كلا لم تكن هناك أية تسمية أولية. وأن قيادة هذا الحزب ستكون من خارج الاتحاد الاشتراكي. حتى لا تصبح المسألة مجرد تمثيل. وفي الحقيقة انشغلنا جميعا منذ حرب 1967 بهدف تحرير الأرض. ولكن أؤكد أن سنة 1975 كانت ستكون سنة التعددية الحزبية وليس حزبين فقط”. فالناصرية، إذن، وكما يفهم من هذا الحديث ملتزمة بالمسألة الديموقراطية والشعارات التي ترفعها الأحزاب الناصرية العربية اليوم حول ضرورة دمقرطة المجتمعات العربية ليست شعارات تكتيكية تخفي إيماناً ناصرياً بالشمولية والكليانية في الحكم. وإنما هي إحدى ثوابت الناصرية ولئن لم تتحقق التجربة في عهد عبد الناصر لأسباب موضوعية فإن القوى الناصرية الحية اليوم يجب أن تنادي بها وتعمل من أجلها بتفاني وإخلاص. آفاق الناصرية ويبقى أن الناصرية فكر متجدد خلاق. يقطع مع “الموروث الجامد” ويسعى نحو “التوفيق الفعال”. وأكيد أن ما يحدث اليوم في العالم تجاوز أو انقلب على مفاهيم تقليدية عديدة سادت العلاقات البشرية. فانهيار المعسكر الاشتراكي والانتصار الظرفي الذي حققته المفاهيم الليبرالية في الحياة، واتجاهه العالم نحو مقولة مركز واحد تمثله الولايات المتحدة الأمريكية ومحيطات تابعة تمثلها بقية الدول.. أحدث ارتباكاً هائلاً لدى قوى التحرر العالمية، ومنها قوى التحرر العربية. ويبدو واضحاً أن طبيعة الصراع القادم، هذا إذا تأكدنا من أن الصراع هو محرك التاريخ، ستتميز بميزات جديدة، لعل أهمها على الإطلاق هو ضرورة الاعتماد على النفس والبناء الذاتي لكياناتنا حتى تجد الأمة العربية لنفسها مكاناً تحت الشمس في القرن الواحد والعشرين.. وإذا أراد الناصريون أن يكونوا طلائع التغيير في الوطن العربي.. فيجب عليهم التأكيد على ضرورة الديموقراطية كمنهج وحيد ودائم ومستقر لأي بناء اجتماعي كان أو وحدوي. فالديموقراطية أولا.. والديموقراطية أخيرا.
حوارات ناصرية 2 – رياض الصيداوي ضياء الدين داوود (رئيس الحزب العربي الديمقراطي الناصري)
* نحن وحزب فريد عبد الكريم واحد * نحن ضد الشمولية، ومع التعددية * تناقضاتنا حول المواقف وليست حول الأهداف
ضياء الدين داوود، وزير الشؤون الاجتماعية ووزير الدولة لمجلس الأمة، وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في عهد عبد الناصر، سجن في عهد السادات في انقلاب مايو 1971، اليوم هو رئيس الحزب العربي الديمقراطي الناصري، وعضو مجلس الشعب. هذا الحديث أجري معه سنة 1991، أي قبل الترخيص القانوني للحزب، وهذا أهم ما دار فيه:
* اليوم في مصر يتميز التيار الناصري بوجود تفاعل سلبي تارة وإيجابي تارة أخرى بين رجال مايو 1971، والتيار الشبابي الجديد الذي لم يعش فترة عبد الناصر، فإلى أي مدى يمكن أن يحدث هذا الاحتكاك تطوراً سلبياً أو إيجابياً لصالح التيار الناصري في مصر؟ ** الشباب بصفة عامة الذي لم يعش فترة عبد الناصر، نشأ مضطرباً، خاصة من خلال برامج الدراسة التي تحتوي كثيراً من الزيف والأخطاء، وسحبت منها الحقائق. أو قلل من حجمها.. كل ذلك أثر على الشباب.. لكن رغم ذلك كان هذا التأثير محدوداً، فقد كان لأغلبهم شهداء في أسرهم، أو أفراداً شاركوا في إحدى الحروب.. بالنسبة للتناقض بين الأجيال، فحقيقةً هناك جيل الثورة الذي عمل مع عبد الناصر، وهناك أيضاً جيل جديد، ظهر بعد وفاة عبد الناصر يمثله شباب نوادي الفكر الناصري، والقيادات العمالية والنقابية الشابة، لكن أود أن أؤكد بأنه لا وجود لأي تناقض فكري بين هذه الأجيال، فقط قد يكون هناك تناقض في تقييم بعض المواقف. أما من ناحية الأهداف السياسية، وحتى من المحاولات الحزبية، فهناك اتفاق عام، رغم بعض الأصوات الشاذة، مثل أبو عيطة الذي قال أن الخطوة التي اتخذها ضياء الدين داوود في تأسيس الحزب العربي الديمقراطي الناصري لم يستشر فيها أي أحد، وأنا أقول له، فرضاً، أنك لم تُستشر، فهل أنت متناقض معها؟ فجميع الفصائل، يوم يصير لها حزب واحد، سوف تجتمع فيه جميعاً بدون خلاف. ونحن اليوم، نقوم بحزب تحت التأسيس، وفي نفس الوقت عن طريق الانتخابات، وقد يبدو ذلك غريباً لحزب تحت التأسيس. فليس لنا حساسيات من هذا النوع، والخلاف محصور في إطاره ولن ينتهي إلى تمزق، لأن مجموعة مايو حريصة على الوحدة، ولا تهتم بمواقع قيادية، بقدر اهتمامها بضرورة أن يكون للناصرين حزب.
* الحزب العربي الديمقراطي الناصري، فيما يتميز عن الحزب العربي الاشتراكي الناصري ووكيله فريد عبد الكريم؟ ** لما فوجئنا برفض لجنة الأحزاب للمحاولة الأولى، وذهبنا إلى المحكمة التي رفضت بدورها، لتأويلها المتعسف لبعض الألفاظ التي استخدمت في برنامج الحزب الأول. اقترحت إجراء محاولة ثانية، والتقدم بطلب ترخيص لحزب جديد، ونستخدم تعبيرات بسيطة، فقالوا لنا أنتم من أنصار النظام الشمولي، فأجبتهم، كلا، نحن مع التعددية الحزبية وهي لم تغب عن عبد الناصر، ولا عن مناقشات الاتحاد الاشتراكي أبداً، بل أن فكرة “التنظيم الطليعي” كانت تهدف إلى بناء حزب قوي للثورة، حتى يتمكن من الصمود مع الأحزاب الأخرى حين ننجز التعددية الحزبية.. ففكرة التعددية لم تكن مستبعدة أبداً، فقط كانت تجمد في بعض الأحيان نظراً لمتطلبات التحول الاشتراكي التي كانت تحدث. ولذلك، وضعنا، في عنوان الحزب “العربي” على أساس أن الفكرة المحورية للحزب هي القومية والوحدة العربية، الأمن العربي.. ثم “الديمقراطي” من أجل أن ندفع تهمة الشمولية عنا والتي حرمتنا من الحزب الأول، ثم “الناصري” ليس انحيازاً لشخص وإنما انحيازاً لحقبة، كان قائدها عبد الناصر، وتميزت بالتطور الاجتماعي، واعتبرنا أن “الميثاق” هو بلورة للفكر الناصري. كذلك نرى بأن طبيعة القضية الفلسطينية هي قضية وجود وليست قضية حدود، وأيضاً يجب أن تلعب مجموعة عدم الانحياز دوراً كبيراً في ظل سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.. وتطرق برنامجنا أيضاً لسياسة التعليم والثقافة وكل نواحي الحياة.
* وهل قبلت لجنة الأحزاب الترخيص لكم؟ ** كلا لجنة الأحزاب رفضت، وقالوا، لأنني كنت أحد مؤسسيه وأنني من مجموعة مايو، وسبق أن حوكمت.. فرفعنا المسألة إلى المحكمة الدستورية، كما واجهونا مرة أخرى بقضية الشمولية عند الناصرين… القضية سيبت فيها في شهر أغسطس الحالي (سنة 1991).
* علاقتكم بالحزب العربي الاشتراكي الناصري؟ ** نحن تيار واحد، وكل هذه التشكيلات تخدم هدفاً واحداً، إلى أن يكون لنا حزب وهو الذي سيذوب الجميع فيه، وأنا أيضاً عضو الأمانة العامة للحزب العربي الاشتراكي الناصري.
القاهرة ـ يوليو (جويلية) 1991
ملاحظة: تم بعد هذا الحديث وبشكل فاجأ الجميع الترخيص القانوني للحزب العربي الديمقراطي الناصري، عن طريق المحكمة الدستورية، وبدأ الناصريون الآخرون في الانضمام إلى الحزب الذي يرأسه السيد ضياء الدين داوود
حوارات ناصرية 3 – رياض الصيداوي فريد عبد الكريم (وكيل مؤسسي الحزب العربي الاشتراكي الناصري)
* نسعى لتنظيم حزب ناصري على الساحة العربية * محمود نور الدين لم يطلق سراحه ويعامل معاملة سيئة في السجن * التيار السلفي يقف ضد ضرورة الثأر من عبد الناصر
فريد عبد الكريم، وكيل مؤسسي الحزب العربي الاشتراكي الناصري حضر إلى تونس بمناسبة انعقاد المؤتمر القومي العربي الأول. التقيناه وأجرينا معه الحوار التالي الذي تمحور أساساً حول أوضاع الناصريين في مصر ومسألة الحركة العربية الواحدة والزعامة ودور خالد عبد الناصر فيها… * قال د. رفعت السعيد أن الناصريين في مصر عددهم متواضع فهل هذا صحيح؟ ** الأغلبية الساحقة في مصر هي قوى ناصرية متكونة من عمال وفلاحين ومثقفين ثوريين. وهذه حقيقة أساسية، وبلغ عدد مؤسسي الحزب حتى الآن 150 ألفاً. والقانون في مصر لا يطالب إلا بـ 50 شخصاً لكي يؤسسوا حزباً. وليس هذا عددنا النهائي لأن الدعوة لم تصل إلى كل الناس، وليس هناك بطاقات لنعرف عددنا الجملي، إنما نحن موجودون في كل المحافظات ولدينا كل يوم طلبات بالمئات للانضمام. ونحن ليس لدينا سلاح لمواجهة أعدائنا الداخليين والخارجيين المتمثل في الثالوث الشرير المتمثل في أمريكا التي لا تحب الناصرية وعبد الناصر فهي ما زالت تعتبره عدواً وهو ميت أقوى منه وهو حي، وإسرائيل التي نعتقد بأن صراعنا معها صراع وجود وليس صراع حدود، والثالث المتمثل في القوى الرجعية التي تعرف من نحن وبالتالي فهي ضدنا. وقوتنا وسلاحنا الوحيدان هم الناس والمبادئ. نحن نتحدى ولا نطلب إلا تحكيم الناس. ففي مصر أعطوا لجميع القوى أحزاباً واستثنونا نحن، حتى الإخوان المسلمين لهم أحزابهم أما نحن الناصرين فمحرومون لأن أمريكا وإسرائيل والقوى الرجعية تخشى وجودنا، وهو دليل على قوتنا. فالأيام ستبرز ذلك ونحن نفرض حزبنا بالواقع: فلنا مقرات ولن! ا هياكل ولنا تنظيم، ونفرض شرعيتنا التي نستمدها من كل بيت في مصر.
* من أين يستمد “الحزب العربي الاشتراكي الناصري” مرجعيته الفكرية؟ ** هذا السؤال كبير جداً، ولكني أؤكد على وجود ثوابت في الناصرية نعتمد عليها ولا يمكن إطلاقاً أن نفرط فيها أو نتنازل عنها وهي ثوابت على المستوى العملي الداخلي وأخرى على المستوى العربي وأخرى في العلاقات الدولية. طبعاً هناك متغيرات كثيرة ونحن نحتكم فيها إلى الثوابت التي نستمدها من خلاصة التجربة مجردة من أخطائها. والتجربة الناصرية قامت بغير حزب ثوري وارتكبت أخطاء في التطبيق، لكنها أخطاء هامشية وثانوية لا يمكن أن تؤثر في عظمة التجربة وهي مستمدة من ميثاق العمل الوطني وبيان 30 مارس وخطب جمال عبد الناصر ومن أسس التجربة الموجودة داخل الوطن العربي. ومن المعروف أن عبد الناصر لم يخض أي تجربة إلا بوجهها القومي وحتى في أدنى درجات الهزيمة كانت إرادتنا عالية، وكنا أكثر تمسكاً بالتجربة.
* في الستينات رفع عبد الناصر شعار “الحركة العربية الواحدة”، إلى أي حد انضبطتم لهذا الشعار في حزبكم؟ ** حزبنا رفع شعار الحركة العربية الواحدة ولا يمكن أن يتحول إلى حزب إقليمي تحت أي مبرر. ونحن نحاول أن نضع الفكر الناصري في إطاره المتجدد ونعالج المتغيرات الكثيرة ثم نعرضه على الأمة العربية باعتباره مشروع المشروعات. وعلى المستوى الفعلي نحن نبني حزباً ثورياً حقيقياً غير مرتبط بأي نظام من الأنظمة. وهو حزب مفتوح لكل الناصريين العرب. وسيجري التنسيق مع الحركات الناصرية العربية لإنشاء الحزب ـ الحلم للأمة العربية.
* هل معنى ذلك أن الحركات الناصرية يجب أن تنصهر في الحزب العربي الاشتراكي الناصري؟ ** بدأنا هذه السنة في حوار كامل مع التنظيمات الناصرية خارج الإقليم المصري لكي نحدد حجم هذه التنظيمات وعناصر القوى والضعف فيها حتى نكون معها حزباً واحداً على الساحة العربية بدون وصاية عليها. ولأننا نؤمن بالوحدة العربية فإننا نعتقد أنها يجب أن تقوم على أسس علمية وأولها الحركة السياسية الواحدة والجيش الواحد كنتيجة لهذه الحركة. فنحن نأخذ من تجربة الوحدة بين مصر وسوريا ما يجعلنا نتفادى أخطاء الماضي.
* بعد تراجع الفكر الماركسي عن الساحة العربية هل ترى أن الصراع سينحصر بين الناصريين من جهة والتيار السلفي الديني من جهة أخرى؟ ** هذان هما التياران الحقيقيان اللذان سيكونان فاعلين على الساحة العربية في المستقبل القريب أو البعيد.
* هل يهدد التيار السلفي الناصريين في مصر؟ ** للأسف الشديد، التيار الديني السلفي في مصر يتصور أن عليه أن يصفي حساباته مع الناصرية ويقف عند ضرورة الثأر من عبد الناصر، فأي حركة سياسية يمكن أن تقوم على حسابات الثأر؟ أعتقد أن مثل هذه الحركة فؤادها هواء وأعماقها خواء ولا يمكن أن تستمر. فأية حركة لا بد أن تستشرف المستقبل: لا بد وأن تدرك ماذا تفعل وما هو برنامجها؟ لكن أن تقوم حركة مثل “الإخوان” أو “الوفد” من أجل تصفية حسابات سابقة حول قضايا مغلوطة.. فهذا يبشر بنهاية هذه الحركات. نحن نريد أن نقتحم المستقبل على ضوء التجربة التي قيمناها بكل أمانة وعرفنا فيها الجوانب القوية والأخطاء المعيقة، وبالتالي فنحن لا نبدأ من موقع فراغ وإنما من تجربة عاشها الجميع.
* خالد عبد الناصر طغى اسمه أخيراً على الساحة العربية خصوصاً بعد تفجر قضية تنظيم ثورة مصر الناصرية فهل يمكن له أن يكون زعيماً للناصريين؟ ** مع تقديري لأسرة عبد الناصر ولخالد الذي أقدره وأحترمه وأحبه، لكن نحن في مصر لا نتخذ إطلاقاً من الوراثة سبيلاً للزعامة. على كل إنسان أن يبني نفسه سياسياً وأن يقود الحركة بعلم وكفاءة وبتأثير في الجماهير، وإذا استطاع خالد عبد الناصر أن يلعب هذا الدور فنحن نرحب بذلك ترحيباً شديداً. وإذا لم يفعل ذلك واعتمد فقط على اسم أبيه فسترفضه الجماهير. وخالد لا بد أن يبني نفسه لأن جمال عبد الناصر بالذات ـ لفهم حقيقي لطبيعة المجتمع المصري ـ لم يقحم أبناءه في السياسة، وإنما هم مواطنون ناصريون بالضرورة وعلى كل منهم أن يدفع الضريبة وأن يستعد فكرياً وسياسياً لكسب الجماهير وقيادتها.
* ما هي الأسباب التي دفعت الرئيس حسني مبارك إلى إطلاق سراح محمود نور الدين في هذا الظرف بالذات؟ ** وهل أطلق سراحه؟ من أين أتيتم بهذا الخبر؟ إنه يعامل معاملة سيئة في السجن. هذه الشخصية الأسطورية المناضلة المضحية ما زالت في السجن وتجري محاكمته الآن وأنا محاميه.
* مواقف هذه الأحزاب من تنظيم “ثورة مصر”؟ ** الحزب العربي الاشتراكي الناصري: يتبنى القضية ويدافع عنها وهو مؤسسة يشعر الناصريون في كل الوطن العربي بأنه الحامي والمدافع عن حقوقهم. ـ التجمع الوطني التقدمي الوحدوي: هناك لجنة قومية للدفاع عن “ثورة مصر الناصرية” ونحن الذين طالبنا بعقدها واخترنا إبراهيم شكري رئيساً لها واعتذر فتقدم خالد محي الدين لكي يتولى هذه اللجنة ولكنها لم تؤد عملاً إيجابياً إلى حد الآن. ـ الإخوان المسلمون: إنهم يرفضون على أساس أن مواجهة الإسرائيليين أمر مقبول وأما مواجهة الأمريكان فلا يوافقون عليها. ـ حزب العمل : هو حزب الإخوان المسلمين. ـ حزب الأحرار: “لا إحنا عايزين أحزاب”. ـ حزب الوفد : ليس مشاركاً في ذلك ولا يريد فهو حزب ليبرالي يريد تجميع القوى الرأسمالية في البلد. وهو لا يؤمن لا بالكفاح المسلح ولا بالنضال، وبالتالي فقد توقف عن المشاركة في الدفاع عن “ثورة مصر”.
تونس ـ 15 مارس 1990.
حوارات ناصرية 4 – رياض الصيداوي صلاح مغيث (عضو قيادة الحزب العربي الاشتراكي الناصري)
* ساعون لإنجاز الحركة العربية الواحدة * مرجعيتنا نستمدها من وثائق الثورة واجتهادات المفكرين القوميين * الإخوان يرون في الناصريين منافساً قوياً لهم
صلاح مغيث، محامي مصري، انخرط سنة 1956 في منظمة الشباب التي شكلها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وتدرج في المنظمة من موجه سياسي إلى مسؤول سياسي إلى مسؤول تثقيف محافظة ثم مسؤول تثقيف الجمهورية ثم مسؤول إعداد الكادر في منظمة الشباب ثم مسؤولاً عن العلاقات العربية. بدأ مسؤولاً في الحزب العربي الاشتراكي عن إعداد برنامج للحزب والآن فهو المسؤول عن إعداد كوادر الحزب التقينا بالأستاذ صلاح مغيث في طرابلس وأدلى لنا بحديث شامل عن وضع الناصريين في مصر وعن حزبهم وعلاقته بالحكومة وبقية الأحزاب الأخرى وخاصة الإخوان المسلمين والماركسيين والوفد.. كما تطرق الحديث إلى المرجعية الفكرية والنظرية للحزب وفهمه لمسألة “الحركة العربية الواحدة”.
* هل يمكن تحديد الأسباب التي تدفع بالحكومة المصرية إلى رفض إعطاء تأشيرة العمل القانوني للناصريين؟ ** كما هو معروف، تعتبر سياسة الرئيس أنور السادات ردة بالمعنى الكامل عن الخط والمنهج الناصري في علاج القضايا المصيرية والقومية. وأسفرت هذه الردة عن نتائج ما زالت مقيدة للحكومة الحالية وهي حكومة الرئيس حسني مبارك. ومنها كامب ديفيد ومنها آثار الانفتاح الاقتصادي. ونعتقد أن موافقة الحكومة على حزب ناصري من الممكن أن تحدث بلبلة أو هزة أو عدم ثقة في الاتجاهات الحالية للحكومة المصرية. خصوصاً من بعض الدول العربية والولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا، فالعداء كان تاريخياً بين العهد الناصري والرجعيات العربية. وبالتالي فنحن نفهم أن الحكومة المصرية لديها مبررات في هذا المعنى في عدم إعلان حزب ناصري وإلا فسوف يؤدي ذلك إلى حجب الثقة عنها من هذه الجهات. لكننا نقول في نفس الوقت أنه إذا حرصت الحكومة المصرية على أن تكسب ود الرجعية العربية والولايات المتحدة الأمريكية فإنها ستخسر قطاعاً كبيراً من الشعب المصري. وحتى الآن الجماهير العربية في مصر ما زالت تمجد العهد الناصري وإن كانت لا تجد الإطار التنظيمي الصحيح ليجعل من هذا الإحساس والانتماء قوة فعالة في الساحة السياسية. * الحزب العربي الاشتراكي الناصري، هل يتكون من الجيل السابق الذي شارك عبد الناصر في الحكم أم من شباب جديد لم يعش هذه الفترة، أم هو خليط بين هذا وذاك؟ ** الحزب الاشتراكي العربي الناصري يجمع هذه التيارات جميعاً حيث توجد قاعدة أساسية لدى الناصريين تقول بأنه يجب أن يكون لكل الناصريين في مصر حزب واحد. والجميع يعبر عن هذه الرغبة بأشكال شتى، لكننا في نفس الوقت نحن نسلم بوجود فوارق في النظرة إلى الأجيال المختلفة. فبيننا جيل قادة العهد الناصري وبيننا جيل الشباب الذي كافح في السبعينات ولم يتلق أي تدريب في العهد الناصري واعتمد على نفسه في الكفاح وفي الثقافة وفي الالتزام بالخط الناصري، وبيننا جيل وسط. وبالتالي فهذه الأجيال الثلاثة تحاول أن تجمع نفسها في إطار الحزب الاشتراكي العربي الناصري بحيث تتاح لكل جيل أن يعبر عن ذاته وقضاياه ومشاكله بكل حرية. وأحياناً تتجاوز هذه الرغبة في التعبير عن الذات لتصل إلى حد الخلافات لكننا في النهاية نحل هذه الخلافات في إطار الحزب.
* هل لكم تصور لحزب ناصري قومي واحد في الوطن العربي؟ ** نحن نأمل تحقيق ذلك، لكن لا يمكن أن نقوم بهذه الخطوة قبل حل مجموعة من المشاكل التي تواجه بناء الحزب الناصري في مصر. ونحن الآن بصدد بناء كادر حزبي ومؤسسات حزبية، وقبل إتمام ذلك يكون من العبث أن نفكر في وحدة الأحزاب الناصرية العربية.
* لو نتحدث عن المرجعية الفكرية والنظرية للحزب الاشتراكي العربي الناصري، فمن أين يستمد حزبكم مرجعيته؟ ** الحزب العربي الاشتراكي الناصري يستمد مرجعيته من وثائق الثورة الأساسية ممثلة في الميثاق وخطب وأحاديث الرئيس جمال عبد الناصر. ونفتح الباب أيضاً لكافة الاجتهادات التي تعالج لنا مجموعة من المتغيرات. ولدينا في هذا الجانب مفكرين كبار مثل الدكتور محمد محمود الإمام والدكتور حسام عيسى والدكتور عصمت سيف الدولة ونحن بذلك نستفيد من كل الاجتهادات.
* علاقة الحزب العربي الاشتراكي الناصري بالإخوان المسلمين، كيف تبدو الآن خاصة وأن العداء بين الإخوان والناصريين عداء تاريخي؟ ** للأسف، إن الصراع يكاد يكون تقليدياً وحاداً بين الإخوان المسلمين والناصريين قبل أن يكون صراعاً حاداً بين الإخوان وغيرهم من القوى السياسية. وهذا يعود لسببين: السبب الأول إرث تاريخي ضيق الأفق باعتبار أن الإخوان المسلمين يرون أن التجربة الناصرية قد قضت عليهم. والسبب الثاني أن الإخوان المسلمين يعرفون جيداً أن البنية التحتية للشارع المصري تتكون من اتجاهين أو تيارين اثنين لا ثالث لهما هما التيار الديني والتيار الناصري. وبالتالي فالإخوان يعتقدون أن التيار الناصري هو المنافس القوي لهم في الشارع المصري ومن هنا يشتد العداء.
* بقية الأحزاب، رغم صغر حجمها وانعدام فعاليتها على الساحة، هل تضايقكم عملياً مثال حملة “الوفد” على الناصريين؟ ** نحن لا يقلقنا هجوم “الوفد” على التجربة الناصرية، “فالوفد” الجديد هو حزب يختلف جذرياً عن “الوفد” القديم الذي كان قبل الثورة حزباً وطنياً ويشهد له بالكفاح ضد الاستعمار. لكن الحزب الجديد مختلف تماماً عن القديم. هو بقايا الإقطاع والرأسمالية المضروبة في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ويحارب التجربة الناصرية، فمثلاً ينظر إلى الفترة من سنة 1952 حتى الآن على أنها بين قوسين يجب تجاهلها من التاريخ المصري ويجب العودة إلى ما قبل 1952، ليست العودة إلى التراث الوطني والنضال ضد الاستعمار، ولكن العودة إلى البنى الأساسية آنذاك أي الإقطاع والرأسمال المستغل والباشوات والطرابيش وبالتالي فنحن ندرك أن هذا الحزب محكوم بالفشل لأنه سواء رضي الوفد أم لم يرض فإن ثورة 23 يوليو أحدثت متغيرات جذرية عميقة لا يمكن الرجوع عنها حتى ولو تسلم حزب الوفد الحكم في لحظة ما. فالشعب المصري تجاوز أوهام هذا الحزب في إمكانية العودة إلى الوراء.
* الآن صرنا نسمع عن أكثر من حزب ناصري في مصر، والناصرية نسق فكري وسياسي واحد، فكيف يمكن فهم ظاهرة وجود أكثر من حزب ناصري في مصر؟ ** يتفق كل الناصريين في مصر أن الوجود الحزبي يجب أن يستمد شرعيته من الشارع لا من الحكومة. وكانت النية في أن يبدأ الحزب الناصري نشاطه داخل الجماهير وتبقي مسألة الاعتراف بالحزب من التحصيل الحاصل. ذلك أنه في صورة عدم اعتراف السلطة به يكون الحزب موجوداً رغم أنفها. لكن السيد كمال استبق هذا التخطيط وسارع بتقديم أوراق اعتماده إلى لجنة الأحزاب وقدم برنامجاً هزيلا لعله يحظى برضا الحكومة وصارت قضية حزبه في المحاكم المختلفة بعد رفض الحكومة إعلان هذا الحزب. وكنا بحق منـزعجين من هذه الانتهازية للحكومة على أساس أن ما صرح به كمال أحمد لم يكن خطاً ناصرياً ولكنه نوع من مغازلة الحكومة. لكن في نهاية الأمر فإن السلطة رفضت هذا الحزب رغم لغته وصيغته المشوهة للناصرية. استمر بعد ذلك تخطيطنا وهو أن نحصل على شرعيتنا من الشارع وليس من غيره. وبعد الرفض تقدم السيد ضياء الدين داوود لتكوين الحزب العربي الديمقراطي الناصري وكان هذا بتنسيق مع الحزب العربي الاشتراكي الناصري، تنسيق على أساس أن طرح قضية الحزب الناصري على الحكومة والمحاكم من شأنه أن يكشف الطبيعة المزيفة للديموقراطية التي تدعيها السلطة. ويجعل كذلك الجماهير المصرية واعية بأن الحكومة ترفض مسألة حزب ناصري، وعلى هذا الأساس كلف السيد ضياء الدين داوود بتشكيل هذا الحزب لكن الحزب الاشتراكي العربي الناصري هو الوعاء الكبير الذي يجمع كل الناصريين.
* أعتقد بأن الناصرية تقوم أساساً على مقولة “الحركة العربية الواحدة” هذا الشعار الذي رفعه جمال عبد الناصر في بداية الستينات، إلى أي مدى عمل الحزب العربي الاشتراكي الناصري على تنفيذ هذه المقولة؟ ** من أهم نقاط حزبنا نجد مسألة بناء “الحركة العربية الواحدة” ونعتقد بأنها المدخل الصحيح لخلق تيار قومي فعال يحمل على أكتافه عبء قيام الوحدة العربية مستفيداً من التجارب السابقة. فنحن درسنا بإمعان تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في إطار الجمهورية العربية المتحدة ودرسنا أيضاً كافة التجارب الوحدوية السابقة. وعلى هذا الأساس نحاول أن نستخلص مجموعة من الدروس والعبر التي على أساسها يتم تشكيل “الحركة العربية الواحدة” ولذلك نلتقي ونشارك بحماس في كل المؤتمرات القومية لعلها خطوة تجمعنا ببقية أشقائنا القوميين لإنجاز “الحركة العربية الواحدة” وكانت لنا لقاءات عديدة مع كل القوميين في الوطن العربي. * اليوم ليس لكم منبر إعلامي في مصر؟ ** نعم. *صحيفة “صوت العرب” ألا يمكن إعادتها إلى مصر؟ ** نحن نحاول أن تعود “صوت العرب” إلى مصر، لكن وزارة الداخلية تمنع صدورها لأنها في النهاية لا تريد أن تكثر صحف المعارضة وتتمنى أن لا توجد إلا المعارضة المستأنسة. * تنظيم “ثورة مصر الناصرية” بتصديه لعناصر الموساد الصهيوني أعاد للناصريين إشعاعهم النضالي فكيف تفاعلتم مع “ثورة مصر الناصرية”؟ ** ما قامت به “ثورة مصر” هو انعكاس صادق للمعتقدات السياسية التي يعتقدها الناصريون، هذه المعتقدات تقوم على أن الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني هو صراع وجود وليس بصراع حدود وبالتالي لا يمكن التعايش مع العدو الصهيوني بأي حال وتحت أي مظلة. والعدو الصهيوني يعتقد ذلك أيضاً. وقضية “ثورة مصر” في المحكمة تتنازعها وجهتا نظر، الأولى تقول بأن القضية سياسية ويجب أن تستغل كفرصة لفضح الوجود الصهيوني والتآمر على الشعب العربي والمتهمون يقبلون ذلك ويطرحون أنفسهم على أساس أن قضيتهم سياسية. ووجهة النظر الأخرى تقول بأن القضية فنية كأية قضية أخرى. ولحسن الحظ فإن الدكتور عصمت سيف الدولة والأستاذ فريد عبد الكريم ومجموعة أخرى من المحامين الشبان يبذلون جهوداً كبيرة لإبراز الوجه السياسي للقضية. وسنعمل على طبع هذه المرافعة في كتاب لتنشر وتوزع على الجماهير. والشارع المصري تعاطف كثيراً مع القضية خاصة وأن من بين المتهمين ابن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الدكتور خالد.
طرابلس ـ يونيو (جوان) 1990. حوارات ناصرية 5 – رياض الصيداوي حمدين الصباحي (قيادي ناصري شاب)
* نوادي الفكر الناصري جمعت بين الخطاب السياسي والحاجات اليومية * لم نخلق نظرية ناصرية، ولكننا ساهمنا في بلورتها * علينا أن نبدأ من حيث انتهى عبد الناصر * إننا نؤمن بضرورة التنظير الجماعي للناصرية * مازال “الميثاق” يحتوي على ما هو صالح للمرحلة * اليسار الرئيسي في الأمة العربية هم الناصريون * الحركة الإسلامية ليست شكلاً واحداً
حمدين الصباحي، قيادي ناصري شاب و”الأب الروحي” لنوادي الفكر الناصري التي ظهرت في السبعينات بمصر، ولعبت دوراً كبيراً في الصراع مع الطرح الساداتي، وبلورة الفكر الناصري نظرياً. وكانت من أول المؤسسات الناصرية التي تبنى خارج جهاز الدولة، بل وفي صدام معه.
* تجربة نوادي الفكر الناصري بمصر تبلورت بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، وفي ذلك الوقت كان رجال الدولة الناصريون في السجن بعد أحداث مايو 1971، وظهرت نوادي الفكر الناصري مصطدمة مع التوجه الساداتي، وفي غياب رجال عبد الناصر المتواجدين في السجن. فكيف انطلقت هذه التجربة رغم صعوبة الظروف المحيطة بها؟ ** إننا نعتبر تجربة نوادي الفكر الناصري بالجامعات المصرية تجربة للتأطير التنظيمي والبلورة الفكرية للتيار الناصري في مواجهة سلطة الردة على نهج عبد الناصر ولا زالت هذه التجربة قائمة إلى الآن. وفي سياق التحول من الثورة إلى الثورة المضادة بقيادة السادات، شهدت مصر جدلاً سياسياً وفكرياً واجتماعياً عنيفاً. ولقد ظهرت تجربتنا في هذا الظرف، وكان الجدل يدور حول المقولات الرئيسية للثورة والمقولات الرئيسية للردة. فمن جهة موقف الصراع ضد الاستعمار الغربي الصهيوني، والردة التي تقول بمسالمة العدو الصهيوني والدخول في فلك أمريكا، كذلك بين مقولة الاشتراكية وبين مقولة الانفتاح، بين أن تلعب مصر دوراً عربياً، وبين الانكفاء على الذات بدعوى الهوية المصرية الفرعونية.. وكانت الجامعة نقطة متقدمة في هذا الحوار بين الأفق العام لمبادئ جمال عبد الناصر والأفق العام للردة على هذه المبادئ. وفي هذه الفترة برز عدد من الشبان الناصريين من أبناء العمال والفلاحين، من الذين ولدوا في عهد عبد الناصر، وكان من الطبيعي أن ينتصروا لوعيهم الاجتماعي وحسهم القومي.. وشعروا بالحاجة إلى التنظيم حتى يستطيعوا المواجهة.. فطرح هذا الواقع جدول أعمال، وكانت الأولوية للتنظيم، ومن هنا ولدت تجربة نوادي الفكر الناصري، وكان أول نادي تأسس في سنة 1974 بجامعة القاهرة. وفي نفس السنة تأسس النادي في كل جامعات مصر. ولكن علينا أن نذكر أن نادي “عين شمس” كان اسمه النادي السياسي الاجتماعي. وقد لعبت هذه الجامعة دوراً أساسياً في العمل الناصري. وكانت تعقد لقاء ناصر الفكري في كل سنة من شهر سبتمبر، وكان إشعاعه يتجاوز المدى الطلابي. وقد أسس أول نادي مجموعة من الكوادر بالجامعة، الذين لم يكونوا من موظفي دولة عبد الناصر، وقد تأسس فيما بعد اتحاد الأندية للفكر الناصري.
* هل كانت لهم أدوار معينة؟ ** أعتقد بأن نوادي الفكر الناصري لعبت ثلاثة أدوار رئيسية. فهي سمحت بظهور خبرة ذات طابع تنظيمي في وضع معاد للسلطة، ودفعت بالناصريين خارج الجامعات إلى الاعتصام بهذه التجربة. كما ساهمت في بلورة وعي ناصري عام متفق عليه في هذا الجيل على مفهوم للناصرية يتجاوز مجرد الارتباط العاطفي بعبد الناصر ومجرد الوقوف على الشعار السياسي الذي رفعته دولة عبد الناصر. وبتجاوز مجرد تمجيد الإنجازات. فيستخلص من التجربة معنى أقوى وأبقى من التجربة، تشكل صياغة نظرية متكاملة، متماسكة، منسقة ومنفتحة للإثراء والتعديل، فكانت الخطوط العريضة للناصرية. وأعتقد أن نوادي الفكر الناصري أفرزت مجموعة من الكوادر الذين لعبوا دوراً في الحياة النضالية، فكان همهم الوطن ككل وليس فقط المسألة الطلابية.. وعلى مستوى الطلاب نجحت الأندية في الربط بين الوعي النظري وبين الانشغال بالمشاكل النقابية للطلاب، واستخدمت ذلك للسيطرة على المؤسسة الطلابية ممثلة في اتحادات الطلاب. وهنا جمع الناصريون بين الخطاب السياسي والخطاب اليومي المعيشي، مثل مسألة الإسكان، وديمقراطية التعليم.. فكانت اهتماماتنا إذن تخص، وعياً بأهمية التنظيم، ووعياً بأهمية التنظير المستقل للناصرية، ووعياً بأهمية حركة جماهيرية تستطيع أن تربط بين الجامعة والمجتمع.. ومن هنا نجح الطلاب الناصريون في السبعينات في احتلال مواقع بارزة في انتخابات اتحادات الطلاب، وعلى سبيل المثال في جامعة القاهرة نجح مرشح الناصريين في رئاسة الاتحاد ضد ممثل الحكومة الذي يدعمه رئيس الجامعة وأجهزة الدولة، وكنت أنا هذا المرشح الذي نجح. كما كنت رئيس اتحاد طلاب كلية الإعلام. كذلك لعبت الأندية دوراً في صحافة الجامعة بأن وجهتها في خدمة العمال والفلاحين، وخاصة صحيفة “الطلاب” التي أغلقت في أحداث 17، 18، 19 يناير 1977، وكانت الصوت الوحيد تقريباً الذي واجه السادات وخط مصطفى أمين وجلال الدين الحمامصي.
* خلال سنوات نشاطكم، هل توصلتم إلى ما يمكن تسميته بنظرية ناصرية؟ ** أعتقد بأننا لم نخلق نظرية ناصرية، لكن نحن ساهمنا في بلورة هذه النظرية، وقد كانت موجودة بالفعل في الخطاب الناصري على لسان عبد الناصر وفي الموقف الناصري على مستوى أفعال جمال عبد الناصر.. ونحن نعتقد بأن الناصرية كنظرية، كانت ملامحها موجودة، حيث أوجدها عبد الناصر، فكان المطلوب إبداع بعض الملامح المضافة. والذي قمنا به هو استخلاص الجذور الجوهرية لمبادئ عبد الناصر وصياغتها في نسق فكري.. وقد قدمنا ذلك في جريدة “الطلاب” ثم في أدبيات تبناها الحزب العربي الاشتراكي الناصري، وأعتقد أننا نجحنا في بلورة الفكر الناصري بعد أن حاكمنا التراث الناصري، وسألنا أنفسنا هل يوجد في هذا التراث بوادر نظرية أم لا، ووصلنا إلى الإجابة بنعم، وأوضح أكثر فأقول: لقد وقفنا على أرض للتعريف لماهية النظرية الثورية، فهي نسق فكري منسق ومتكامل ومتنام، يقدم رؤية لواقع محدد في مرحلة الخيار. وهذه الرؤية تشتمل على: تحديد لمشكلات هذا الواقع، وحل جوهري لهذا الواقع، وتحديد قوى التغيير، وتحديد أداة التغيير، ثم تحديد أسلوب التغيير. وهذا التعريف معتمد على علم الاجتماع بشكل عام وليس بشكل خاص.. وقلنا هل تملك الناصرية الإجابة على هذه النقاط الخمسة حتى نصفها بالنظرية الثورية أم لا ؟ وحاولنا الحصول على هذه الإجابة في ظل هجوم ماركسي وإسلامي ويميني علينا باعتبار أن الناصرية لا يربطها نسق نظري. ومن ثمة رأينا بأن نبحث بطريقة متجردة عن الإجابة على هذا السؤال. وقد وجدنا أن عبد الناصر القائد التطبيقي والنظري لهذه التجربة، وينبغي لنا في أية حالة تنظير أن نبدأ من حيث انتهى هذا القائد لا من حيث بدأ، ويجب أن نضيف إلى ذلك كتابات المفكرين القوميين الناصريين الذين أسهموا في شرح متون الناصرية.
* لو تقدم لنا بعض الأمثلة من الكتابات؟ ** على سبيل المثال وليس الحصر، عبد الله الريماوي الذي نعتقد أنه قدم مساهمات هامة في مجال التجربة الناصرية، من موقع الانتماء المعلن لها مضموناً وشعاراً. كذلك مثل الدكتور عصمت سيف الدولة، الذين نعتبر أنه يقع في نفس الدائرة على مستوى المضمون، لكنه لم ينجح في أن يكون أكثر التصاقا بالشعار الناصري.
* هل تعتقدون أن ما كتبه د. عصمت سيف الدولة بلورة للمشروع النظري الناصري؟ ** نحن نعتبر أن “نظرية الثورة العربية” من المحاولات التي قدمت التنظير للمشروع الناصري، وننظر لعصمت سيف الدولة بشكل عام كمفكر من الذين نبتوا على ضفاف نهر الناصرية. ولو لم يكن هذا النهر موجوداً لما كان لمثل عبد الله الريماوي أو مطاع الصفدي أو عصمت سيف الدولة أو نديم البيطار، وكلها أسماء نحترمها، أن ينبتوا أو يترعرعوا.. وبعضهم كان منصفاً في أن يتسق مع مبدأ تكوينه النظري، فيصف نفسه بالناصري، وبعضهم كان أقل إنصافاً فلم يصف نفسه بالناصري، ولكن جميعهم نعتبرهم كمصدر ثان بعد المرجع الرئيسي وهو جمال عبد الناصر. ويبقى المصدر الثالث وهو اجتهادات المناضلين الناصريين على الأرض، من خلال أحزابهم وتنظيماتهم وأطرهم النضالية.. فنحن نرى أن هؤلاء عليهم أيضاً أن يضيفوا ويجددوا فكرياً، مع الالتصاق بالمصدر الرئيسي، والاستفادة من المصادر الثانوية التي ذكرناها. في ظل هذا الوعي بمصادر التنظير الناصري، نعتقد أن هذا التنظير حتى يكتمل لا بد أن يعتمده التنظيم الناصري، وطبعاً التنظيم الناصري لم يوجد ـ كما نريده ـ حتى هذه اللحظة. فما قدمناه نحن في أندية الفكر الناصري، كان اجتهاداً للإجابة على المتاح في تلك الفترة. إننا نؤمن بضرورة التنظير الجماعي للناصرية الذي تقوم به مجموعة منظمة في تنظيمها الناصري. هنا نكون أكثر اتساقاً مع العلم، أكثر اتساقاً مع طبيعة الإنسان المتطورة، أكثر اتساقاً مع الدين باعتباره تعبيراً عن معتقد يحدد أساسنا الفلسفي في خلق الإنسان.. وباعتباره صالح لكل زمان ومكان.. أما الناصرية فهي صالحة لطبيعة المرحلة التي نمر بها. إننا نؤمن بأن الواقع العربي يجابه مشكلة عربية واحدة، هذه المشكلة لها أبعاد متمثلة في الاستعمار والصهيونية، التخلف والطبقية، التجزئة وغياب تميز الشخصية الحضارية العربية.. وتؤمن أيضاً بمفهوم “تحالف قوى الشعب العامل” صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير والتي يتحدد موقعها من نصيبها في الثروة على أساس إنتاجها.
* “ميثاق العمل الوطني” بعد حوالي 30 سنة من صدوره، هل تعتقدون اليوم أنه مازال صالحاً للعمل الناصري في الوطن العربي؟ ** مازال ميثاق العمل الوطني يحتوي الكثير مما هو صالح. ليس بمعنى أن كل فقرة فيه صالحة للتطبيق الآن، ولكن بمعنى أن رؤيته الرئيسية هي بالفعل رؤية صحيحة وصالحة إلى اليوم، لكن في الاحتكاك بالواقع يمكننا أن نلتزم بالأساس ونتحرر من التفصيلي، ذلك أن بعض مقولاته تكاد تكون غير متلائمة الآن.
* كناصريين، هل تعتبرون أنفسكم يساراً؟ ** في الحقيقة إذا كان جوهر اليسار هو الانتماء إلى الجماهير والتقدم، فإن اليسار الرئيسي في الأمة العربية هم الناصريون.
* هل يمكن أن تحدد مفهوم الناصريين لليسار؟ ** اليسار مفهوم شائع في التعبيرات السياسية. لقد بدأ كموقع للنواب الفرنسيين المضادين للحكم في البرلمان، ثم اتسع فيما بعد.. وأنا في الحقيقة لست شديد الحماس لهذا التعبير، وأنا أعتقد أننا في أمتنا العربية لسنا ملزمين في استعارة هذا التعبير والكثير من التعبيرات الأخرى. فنحن كناصرين تعبير عن الانتماء إلى الجماهير، وعلى مشكلاتها الحقيقية، وتعبير عن حلمها في مجتمع الحرية والاشتراكية والوحدة.. لهذا فنحن ناصريون قبل أن نكون وأهم من أن نكون وفوق أن نكون يساراً(!)
* الناصريون في بداية السبعينات اصطدموا فكرياً وسياسياً بالتيار الماركسي، اليوم تقلص أو كاد يندثر التيار الماركسي، في حين أن التيار القوي اليوم في ساحة الوطن العربي هو التيار الديني الإسلامي، وطرح نفسه باعتباره البديل عن فشل القومية العربية ورائدها جمال عبد الناصر.. لقد كانت أدبيات التيار الناصري نشيطة ضد الفكر الماركسي، اليوم ألم يسعوا نحو الرد على الأصولية الدينية ؟ ** أنا معك في أن الماركسية لم تعد منافساً فكرياً لتحولات عديدة، لقد أخذت نصيبها من الرد، اليوم نعتقد أن صراعنا الرئيسي ـ بالتأكيد ـ ليس مع الإسلام، فهو مكون أساسي من فكرنا. لكن صراعنا هو مع محاولة إدماج الأمة العربية فيما يسمى بالنظام العالمي الجديد، تكون فيه تابعة للنسق الغربي الرأسمالي، وكذلك صراعنا مع بعض الأطروحات الإسلامية في أساليب تنظيم المجتمع، وليس على مستوى العقيدة، وهنا لا أريد النظر إلى الحركة الإسلامية باعتبارها شكلاً واحداً، حيث توجد فيها تنوعات كثيرة.. فهناك آراء فيها تلتقي معنا كناصريين إلى درجة التطابق، وهناك آراء داخل هذه الساحة تتناقض معنا تماماً.. إننا نرى أنه فيما يتعلق بما هو عقيدي في الإسلام، فنحن نتبناه كما يتبناه أي مسلم، وأما فيما يتعلق بالتنظيم الاجتماعي فهو يحيل إلى الإسلام كمرجع، نحن نرى بأن الناصرية هي أفضل تنظيم اجتماعي يستند إلى جذر الإسلام.. ونتناقض مع أي طروح ضد الناصرية، ونقبل الاحتكام إلى الواقع وجماهيره ودينه في إبراز صحة ما نؤمن به.
* لقد شهد العالم مؤخراً مداً كبيراً لمفاهيم التعددية السياسية وحقوق الإنسان.. والناصرية تميزت تاريخياً بتجربة التنظيم الواحد.. ** أود أن أنبه أولاً أن عبد الناصر تبنى فكرة تحالف قوى الشعب العامل، ولم يتبن فكرة الحزب الواحد. لقد اعتبر عبد الناصر أن التنظيم ـ أداة التغيير ـ هو وعاء يضم قوى وشرائح اجتماعية متعددة، يمكن أن تتوحد مصالحها على تحقيق أهداف الحرية والاشتراكية والوحدة. سيبقى الثابت النظري في الناصرية في أن أي تنظيم يقوم على فكرة التحالف، أما المتغير الذي لا يلزمنا كناصريين، ولكن اختاره عبد الناصر من موقع السلطة، فهو أن يكون التنظيم المعبر عن هذا التحالف هو التنظيم الوحيد المسموح به في ساحة العمل السياسي، فنحن نرى أن هذا الاختيار غير صالح للأسباب التالية: السبب الأول: هو خبرة التجربة الناصرية نفسها، ذلك أن كعب أخيل في تجربة عبد الناصر نفذ منه أعداء هذه التجربة هو عجز عبد الناصر عن بناء تنظيم سياسي قومي، وهو عجز لم يكن في تصورنا مفر منه، لأن عبد الناصر بنى التنظيم من موقع السلطة، وأدى ذلك إلى تسرب كثير من الانتهازيين والوصوليين ومتملقي السلطة إليه. طبعاً مع احترامنا الكامل للتجربة وللكادر المخلص الذي تكون في عهده، ولكن نعتقد كناصريين أنه ليس بالتنظيم الذي نريده ونحلم به.. ومن هنا سقطت الدولة بعد رحيل القائد، لأنه لم يكن هناك تنظيم قوي يحمي السلطة الناصرية ومكاسب التجربة.. ونرى أن جزءاً مهماً لهذا الفشل هو قصر حق الأداء السياسي على هذا التنظيم وحده. وقسر الجميع على أن يعملوا من خلال هذا التنظيم، هذه الأحادية في العمل السياسي لم تكن في صالح الثورة، ولو كان هناك تعدد يسمح بالنقد وتصويب الأخطاء، لاختلف الأمر، لأننا نرى أن سلطة الثورة ليست معزولة عن الخطأ. فحتى عبد الناصر كزعيم تاريخي لا نراه معصوماً عن الخطأ.. فكشف الخطأ رهن بالقدرة الحقيقية على ممارسة النقد العلني، وبحرية التعدد التنظيمي وحرية الصحافة، واستقلال القضاء وحصانته في ظل قانون يعبر عن مصالح الأغلبية.. هذه الضمانات لم تقدم في تجربة عبد الناصر. ومن هنا فنحن اليوم، من دعاة التعددية السياسية، وقبل موجة التعددية العالمية. فرأينا كان يقول أن أحادية التنظيم ليس من الثوابت، فنحن مع التعدد، مع حرية الصحافة، مع حرية إنشاء النقابات والاتحادات مع ما نسميه بمؤسسات المجتمع ا! لمدني، أؤكد أن هذا الرأي ليس تكتيكاً لأننا خارج السلطة، ولكنه استراتيجية نلتزمها ونؤمن بها، ونثق أن الجماهير العربية لو اختارت فستختار المشروع الناصري الحضاري.
القاهرة ـ أغسطس (أوت) 1991.
حوارات ناصرية 6 – رياض الصيداوي د. عصمت سيف الدولة (مفكر قومي)
* الصيغة الناصرية في المنهج والنظرية والأسلوب ليست مهمة فرد * اجتهاداتي الفكرية لم تكن أبداً “نظرية” * لا يمكن للدولة أن تكون إقليمية وديمقراطية في نفس الوقت. * ميشال عفلق صالح ما بين القومية والإسلام * عندما تطاول بعض الأصوليين على العروبة مارست هواية الكتابة * دعوت رموز الإسلاميين إلى التصحيح أو المناظرة.
في الساعة الحادية عشرة صباحاً كنت أبحث عن شاليه الدكتور عصمت سيف الدولة في قرية “البلاح” الساحلية الجميلة الهادئة والملتحمة بالبحر، حتى وجدته. وكان في استقبالنا أنا ومرافقي الصحفي المصري، وعلى عكس ما عرف عنه من حدية، فقد كان بشوشاً هادئاً .. ومنذ اللحظات الأولى، وقبل أن ننهي شرب قهوتنا الأولى، دخلنا في حوار متشعب طويل، هو مزيج من الجدل والنقاش والاختلاف حيناً والاتفاق أحياناً.. قبل أن نسجل أو نكتب شيئاً، انطلق الدكتور في حديث طويل عن ذكرياته مع معمر القذافي ومع ليبيا في بداية الثورة، وعن ذكرياته مع وزير الداخلية المصري السابق، المرحوم شعراوي جمعة، وعن علاقاته بالعراق والعراقيين وبحزب البعث والخصومة بين سوريا والعراق.. كان حديثاً طويلاً متشعباً، غلبت عليه نزعة الماضي وأحداث أصبحت في عداد التاريخ.. حتى وصلنا موضوع الحوار، وقدمت مجموعة من الأسئلة بلغت حوالي الثمانية عشر سؤالاً، تخص أغلبها المسألة الناصرية. ولقد رفض الدكتور الإجابة على حوالي خمسة عشر سؤال منها، وشرح أسباب رفضه في مقدمة الحديث الذي أدلى به، وحتى تتضح المسألة أكثر، وتبرز كل جوانب هذا الحوار ـ الجدل ـ كان لا بد أن نقدم بعض نماذج من هذه الأسئلة التي لم يجب عنها، وقبل ذلك لا بد من التنويه بكرم الدكتور وحسن استقباله وضيافته.. وهذه بعض الأسئلة: * تعتبر أن منهج جمال عبد الناصر هو منهج التجربة ـ الخطأ ـ فالتصحيح، ولم يكن له منهجاً علمياً، في حين أن الأسلوب الذي اتخذه عبد الناصر كان علمياً، وأهم سماته: إنشاء المؤسسات ومراكز الأبحاث والاستعانة بأهم الخبراء والأدمغة، واستخدامه التخطيط.. ولقد أنجزت أطروحات في هذا المجال بينت كيف كان عبد الناصر يتخذ القرار السياسي، إضافة إلى أن مسألة الخطأ هي ظاهرة إنسانية وليست منهجاً مختاراً. ولقد اكتشفت منهج جدل الإنسان سنة 1965، ورغم ذلك لم ينتبه له عبد الناصر، فلو اطلع عليه مثلاً هل كان يمكن أن يتفادى هزيمة 1967؟ * الأحزاب الناصرية في الوطن العربي لم تأخذ بنظرية الثورة العربية، رغم قولك أن منَ لم يتبعها منطلقاً وأسلوباً وغاية، ليس بالناصري، حتى لو جاءني بورقة موقعة من عبد الناصر نفسه؟ * الشباب القومي آخرون.عليه كثرة النظريات والمناهج، فالدكتور عصمت سيف الدولة يطرح “نظرية الثورة العربية” والدكتور نديم البيطار يطرح “النظرية الوحدوية العلمية الجامعة” والدكتور عبد الله الريماوي يطرح “الحركية الحياتية..” وكتاب ومفكرون آخرون .. فأين الصحيح في كل هذه الاختزالات الشخصية؟ * “النظرية” تأتي كتطور طبيعي للفكر، بينما نظرية الثورة العربية جاءت بطلب من قيادات سياسية عربية، أفلا ترى نوعاً من رد الفعل أكثر من الفعل المباشر؟
وهذه إجابات الدكتور: أشكر الأخ رياض الصيداوي على زيارته واهتمامه بأن ينقل عني إجابات على 18 سؤالاً. وأريد أن أعتذر عن عدم الإجابة على كثير منها لأسباب مختلفة. فمثلاً السؤال الأول عن المنهج، لا يصلح حديث عابر للإجابة عليه، إضافة إلى أن الإجابة الوافية مطروحة في كتبي، وبشكل خاص، في الصيغة النهائية للمنهج كما جاء في كتاب “نظرية الثورة العربية”. وكمثل ثان الأسئلة المتصلة بوقائع تاريخية خاصة مثل: السؤال الخاص بكيف جاءت فكرة النظرية، ومع من دار الحوار، حيث لا أعتقد أن هذا له أهمية. بالإضافة إلى أني تعرضت إليه في آخر ما كتبت “حديث عن الناصريين وإليهم”. وأخيراً وأهم الأسئلة التي اعتذر عن الإجابة عليها هو ما يتعلق بالناصرية والناصريين. وأرجو أن يؤجل الشباب العربي الناصري محاولة الإجابة على هذه الأسئلة إجابة نهائية إلى أن يتوحدوا فيتحولوا من ناصريين إلى قوة ناصرية منظمة تجيب على كل الأسئلة الخاصة بالتراث الفكري، والاجتهادات الفكرية اجتهادات العلاقة مع الناصريين، عندئذ ستكون إجابة القوى الناصرية الموحدة هي الجواب الصحيح الملزم للناصريين المميز لهم عن القوى الأخرى أو الأفراد الآخرين حتى لو ادعوا أنهم ناصريون. ذلك لأنني لاحظت من خبرتي واتصالاتي الواسعة بالشباب الناصري، أن التركيز على المضامين أو الصيغ الفكرية للناصريين بقصد الوصول إلى تحديد لها، كان من أسباب الخلاف بينهم وما يزال، ولا يوجد ناصري شاب ممن قابلتهم، وهم كثيرون، لم يسمع قولي بأن الصيغة الناصرية في المنهج والنظرية والأسلوب ليست مهمة فرد ولا مجموعة أفراد، ولكنها مهمة التنظيم الناصري الموحد، لهذا فإن إجاباتي على هذه الأسئلة قد تعمق خلافات موجودة. وأعتقد أن لا أحد من المفكرين ولا أحد من الناصريين قادر على ذلك. ومع أن أحداً لم يسأل الفلاحين والعمال والفقراء والمقهورين عن ما هي الناصرية فكراً، فإن الناصرية التي ينتمي إليها هؤلاء الذين أسميهم جماهير عبد ا! لناصر هي الناصرية الحقيقية ولا ينقصهم إلا مؤسسة تجمع كل أولئك الذين عرفوا عبد الناصر وآمنوا بالناصرية وما يزالون يتطلعون إليها نتيجة مكاسب عينية، وليس نتيجة حوارات فكرية، أقول جميعهم في مؤسسة منظمة يعبرون فيها عن إجاباتهم عن السؤال ما هي الناصرية؟ ليتولى المثقفون في الحزب صياغتها، إذن هي الناصرية في الواقع وليست في أذهان المثقفين. ولعل الناصريين يركزون على الوحدة التنظيمية ولو من أجل اكتشاف الناصرية في أذهان جماهير عبد الناصر. وأنا واثق تماماً أنه عندما يحدث هذا سأكون أول من يتبنى نظرية الناصريين، ومنهجها أيضاً وأسلوبها وغايتها، والاعتراف بأنها هي فعلاً الناصرية، وبصرف النظر عما اجتهدت في أن أصوغه في كتب وكتابات قبل ذلك، وذلك لأنه الواقع بالنسبة لاجتهاداتي الفكرية أيضاً لم تكن أبداً نظرية بل كانت محاولة لصياغة ما أعتقد أنه آلام وآمال الشعب العربي وكذلك يجب على كل من يزعم أنه قومي أن يتلقى من الشعب العربي، لا من الدول ولا من مفكريها ولا من جامعاتها ولا حتى من مثقفيها الذين يحاولون صياغة أفكارهم بعيداً عن الناس ومعاناتهم الحقيقية، وإذا كان لا بد من مزيد التحديد، ولأدلل على أن! الاجتهادات الفكرية من الناصريين كثيراً ما تكون هروباً من متاعب إكمال حوار عبد الناصر. وإنني لم أكف أبداً عن اقتراح أن يبدأ الناصريون وحدتهم التنظيمية على أساس وثيقة جيدة الصياغة عميقة المضمون متقدمة فكرياً، وضعها عبد الناصر شخصياً، وأعني الميثاق، وأن يكمل التنظيم من خلال الممارسة ما قد يكون في الميثاق من قصور. والميثاق لم يغط مرحلتين تاريخيتين خطرتين لم يتوقعهما، أولهما: مرحلة هزيمة 1967 وثانيهما مرحلة الردة الساداتية. وما زلت أتمنى التوحد الناصري بدءاً من الميثاق، وتولي التنظيم بنفسه ما كان عبد الناصر قد وعد بتغييبه حسبما جاء في الميثاق للتطبيق. وقد يكون من الإنصاف، وليس من التباهي أن أقول أنه عندما اتفق أقطاب الناصريين معي بعد وفاة عبد الناصر أن أصيغ مشروعاً وأن أضع ثلاثة خطوط تحت مشروع وثيقة فكرية للبدء في تأسيس الحركة العربية الواحدة في أوائل سنة 1971. وكان الميثاق خاصة في أبوابه الفكرية الأولى هو النواة التي استنبت لها جذوراً سميتها المنهج، وأصولاً سميتها المنطلقات وفروعاً سميتها الأسلوب وثماراً أسميتها الغايات. ويستطيع آخرون على سبيل القطع أن ينموا الميثاق ويستنبتوا منه غير ما استنبت. ولا تثريب ولا خطأ في هذا ما دام الميثاق قد أدى وظيفته التي كان يريدها ناصر، وهي أن تتوحد عليه القوى الناصرية.
أما الأسئلة التي من الممكن أن أجيب عليها فهي:
* هل يحتاج القوميون إلى نظرية في المعرفة لتوحيد الوطن العربي؟ ** نظرية المعرفة أو المنهج لازمة لوحدة المعرفة بمعنى أنه عندما تكون ثمة نظرية أياً كان موضوعها يعتنقها آخرون، سيواجهون دائماً بسؤال: كيف عرفتم أن هذه النظرية صحيحة، عندئذ يصبح المنهج لازماً للإجابة على هذا السؤال. وهذا ينطبق على كل النظريات وكل الأفكار، والبديل عنه نظرية المعرفة. وهو يأخذ عدة أشكال مثل: التجربة، الخطأ، البراغماتية، الحدسية .. ولكن منهج المعرفة أكثر إحكاماً من التوحيد النظري، ولا ننسى أيضاً أن له مخاطره، فقد يتوحد الناس على نظريات محكمة قائمة على منهج محكم الصياغة ثم يضعون الحياة طولاً وعرضاً تطبيقاً لنظريتهم وإذا بهم يكتشفون في فترة النهاية حقيقة أن كل شيء انهار، ثم يتساءلون هل الخطأ منهم أم الخطأ من النظرية أم الخطأ من المنهج؟ والجواب أن الملتزمين بنظرية يطبقونها لا ينسب إليهم خطأ، فيكون الخطأ في النظرية، فإن كانت نظرية قائمة على خطأ منهجي فلا بد أن يكون الخطأ في المنهج والمثل التاريخي الصارخ على هذا هو ما حدث للماركسية في أوروبا الشرقية، فالنظرية الماركسية نظرية محكمة وقد طبقوها 70 عاماً ثم اكتشفوا أنها فشلت في التطبيق في موضوع الديمقراطية، وموضوع القومية، فانهار البناء كله، ومرد ذلك إلى أن منهج المعرفة الماركسي الذي هو المادية الجدلية لا يعترف للإنسان بأنه قائد التطور في نطاق تأثيره وتأثره بالواقع المادي، فلم تلتفت النظرية ولا التطبيق لدور ما هو إنساني في التطور إلى الاشتراكية فتجاهلوا حرية الإنسان، وما يتبعها من ديمقراطية، وأنكروا واستنكروا الانتماء الإنساني إلى مجموعة من البشر التي هي القومية، إلى أن تبينوا أن البناء الاشتراكي والصناعي والثقافي والأدبي غير مكتمل الأسس ينقصه الإنسان، ولما جاءت أول فرصة ليواجه الإنسان المنهج الذي تجاهل وجوده، انهار المعسكر الاشتراكي، وطبيعي أنه كان يمكن ألا ينهار لو أن هناك قوى معادية أصلاً للاشتراكية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية لتقطع على ا! لدول الاشتراكية الطريق إلى مسألة تصحيح المنهج ثم النظرية ثم النظام وتصل إلى منهج جدل إنساني، نظرية قومية في إطار التوحيد ونظرية اشتراكية. وهذه أحد مخاطر المنهج أردنا أن ننبه إليها حتى لا نتصور أنه مجرد فهم تصوغه عقول فوق المكاتب. لكن حتى هذا المنهج، وهو تأصيل النظرية، يمكن استخلاصه حتى لو لم يكن مصاغاً من النظرية الناتجة عن مجرد التجربة والخطأ والتصحيح، ومن هنا استطعت بدون تردد أن أجد العلاقة بين منهج جدل الإنسان وكل ما هو إيجابي في الممارسة الناصرية خطأ وتصحيحاً. كل هذا لا علاقة مباشرة له بوحدة الوطن العربي، وحدة الوطن العربي غاية، الغاية طبقاً لمنهج جدل الإنسان لا تأتي تلقائياً، بل يحققها البشر. فالمنهج وضع لنا التنظيم القومي أسلوباً وحيداً لتحقيق الوحدة العربية، وعندما توصلنا في فترة من الفترات إلى نوع من الوحدة الجزئية نتيجة التجربة والخطأ بدا كما لو كانت أن الوحدة قد تحققت بدون منهج. ولكن توقف الوحدة عند القطرين مصر وسوريا، وعدم قبول وحدة العراق ثم ما بعدها من أقطار، بما قيل حينئذ أن التوحيد المتسرع مع العراق خطأ، قد أثبت أن المنهج الإنساني الذي يعترف بالقومية كانتماء فيحدد الوحدة كهدف لا يقبل التصالح مع الإقليمية المعادية للقومية. وهكذا نرى أن منهج المعرفة أيضاً ضروري بالرغم من وحدة النظرية في تحديد الأسلوب الأمثل لتحقيق الغايات.
* في مسألة الأسلوب، رصدنا ظهور أحزاب ناصرية في الوطن العربي، ساهمت سياسياً في العمل والتفاعل مع التعددية وهامش الديمقراطية المتاح في أوطانها، فكيف تقيم هذه الأحزاب ومشاركاتها؟ ** مع إصراري على عدم التعرض الآن على الأقل للسمات الناصرية للأفكار والحركات، لا يمكن أن أتجاهل الإشارة إلى التناقض الذي تضمنه السؤال. فتعدد الأحزاب الناصرية في الوطن العربي يعني في نظري أنه إما أن يكون من بينها حزب ناصري قومي واحد، أو ألا تكون كلها ناصرية، لأن التعدد ينفي الوحدة على المستوى النظري بصرف النظر عن المستوى المنهجي والأحزاب المتعددة في الوطن العربي حتى ولو كانت وحدوية لا يمكن أن تكون قومية. القومية لا تقسم الأمة إلى وحدات اجتماعية مستقلة بعضها عن بعض، تمثلها قوى مستقلة بعضها عن بعض. وعندما يكون هذا التعدد والاستقلال تابعاً للتقسيم الإقليمي للوطن العربي، فإنها لا تكون غير قومية فقط، بل تكون إقليمية، أن يجسد كل حزب فيها إقليما يمثل شعبه ويطمح إلى حكمه وإن نجح يتحول هو ذاته إلى دولة إقليمية كما حدث لحزب البعث في سوريا والعراق واليمن الجنوبي وفي أي مكان. وستكون وظيفة أي حزب في هذا الوقت أو من ضمن وظائفه، الوظائف التي قام بها “البعث” العراقي والسوري، والتي انتهت إلى عداء إقليمي لا يقيم وزناً لانتماء الشعب في القطرين وإنما يتنازعون على الحكم فيه. وطبيعي أن ليس هناك في الوطن العربي الآن حزب ناصري قومي يستطيع وحده، وليس أحد غيره، أن ينكر ادعاء أي حزب آخر أنه ناصري. ولكن عندما يقوم هذا الحزب يستطيع أن يجرد 99.99% من الأحزاب التي تقول أنها ناصرية من هذا الادعاء، إذ يكون هو مرجع الاعتراف بمن هو الناصري وغير الناصري. أما عما جاء في السؤال حول مشاركتهم في لعبة الديمقراطية فلا أستطيع أن أحكم على سلوك كل واحد منهم لأني غير محيط بنشاط هذه الأحزاب. ولكني أقول قد ينطبق عليهم تعميم تقييمي وهو أن ما يجري في الوطن العربي الآن ليس لعبة ديمقراطية وإنما هو لعب بالديمقراطية. فالقومي المنتمي أصلاً إلى الجماهير، وليس إلى الدول، المتسلح بالنظرية القومية، ومنهج جدل الإنسان لا يمكن أن يتجاهل الجدل الاجتماعي الذي هو وحدة قانون التطور، والذي يسمونه الديمقراطية. فالديمقراطية لازمة كضرورة قومية لتطور الأمة العربية من التجزئة إلى الوحدة، ومن الاستعمار إلى التحرر، ومن فوضى الاقتصاد الذي يسمونه رأسمالية إلى الاشتراكية. ولكن لا نفهم الديمقراطية في الوطن العربي في محاولة تسخير الناس في تبرير اغتصاب الأرض العربية والاحتلال، ولو أخذت صيغة ما يقبله الفلسطينيون نقبله نحن، ولو أخذت صيغ أممية أخرى، إذن تنحصر قضية الديمقراطية قومياً كالآتي: أولاً: لا ديمقراطية بالنسبة للإنسان العربي دون أن تقود خطاه إلى عمل قومي، والتي نسميها دائماً التنظيم القومي، إن أهمية الديمقراطية طبقاً لمنهج المعرفة القومي جدل الإنسان وتطبيقه. أعني الجدل الاجتماعي تحتم، أقول تحتم، لأن لا بديل عما سأقول أن ينشأ التنظيم القومي ديمقراطيا. تنشئه القاعدة الجماهيرية وتنظمه داخلياً وتختار قيادته وتفصلها وأن يبقى دائماً ديمقراطياً في الداخل وأن يكون دوره بالنسبة للشعب العربي في كل قطر، الدفاع عن حرية الشعب العربي وديمقراطيته في مواجهة الدولة الإقليمية المستبدة. ولا أقول استبداد الدولة الإقليمية إن كل دولة إقليمية من حيث هي سجن كبير أو صغير لجزء من الأمة العربية تفصله عن بقية الشعب وتمارس عليه التحكم مرجعها بمرجع استبدادي ويصبح من العبث توقع أن تكون دولة إقليمية وديمقراطية في نفس الوقت.
* تواجد التنظيمات القطرية – القومية ألا يدفع في هذه المرحلة بالعمل القومي إيجاباً؟ ** هذا السؤال يواجهه كل الشباب القومي في الوطن العربي، كيف يكونوا منتظمين في قطر ومطهرين من الإقليمية وغير متناقضين. وأنا أعرف على مدى 30 سنة الماضية مجموعات شباب في بعض الأقطار نشأت متطلعة إلى أن تلتحق بالتنظيم القومي، حتى طال الوقت ولم تجد التنظيم، فمارست العمل السياسي قطرياً فتحولت إلى مجموعات قطرية ولا أقول إقليمية، والإجابة على هذا السؤال تطول وإن كانت رؤية فردية أياً كانت الدراسات التي وراءها. أريد أن أقول باختصار أن ما توصلت إليه حلاً يتلخص في التنظيم القومي الديمقراطي الذي ينشأ من القاعدة لا بد أن يمر بمرحلتين تاريخيتين. المرحلة الأولى تتم بالتجهيز والإعداد لتأسيسه. وفي هذه المرحلة لا يملك الشباب العربي في كل قطر إلا أن يعدّوا أنفسهم فكرياً، نضالياً، تنظيمياً في حدود القطر الذي هم فيه ولهذا شروط تبقى على سماتهم القومية ولا تخرج بهم إلى المصير الإقليمي وهي: أن لا يكون التنظيم مغلقاً دون أي عربي يقيم في كل قطر. فكل تنظيم مهما قيل أنه قومي، تقوم عضويته على تصور إقليمي، إذا كانت عضويته غير مباحة للعرب الذي يتواجدون في قطره بصرف النظر أنه مشروع قومي ينمو ليصبح قومياً. أما المستوى الفكري فهو ألا يقبل الاهتزاز أو الشك أو التردد في الموقف القومي من مشكلات الحياة في القطر، مهمة الحزب القطري أنه يدرب نفسه على كراهية وعداء كل ما هو إقليمي.. فمهمته الكبرى هي تسهيل عملية الوحدة عندما يأتي أوانها، وعليهم إذابته. أما الشرط الثالث الخاص بالتنظيم فهو أن يكون على علاقة منظمة بالقوى القومية التي تنشط في نطاق المرحلة التاريخية الأولى، مرحلة الإعداد حتى تنطبق هذه المرحلة في أكثر من قطر معاً، إنما بمثابة الإعداد تحت الالتزام وخاتم مرحلتها هو اللقاء في مؤتمر تأسيسي للتنظيم القومي تمثل فيه القوى التي مرت بهذه المرحلة، ولكن ليس بالضرورة أن يكونوا ممثلين من جميع الأقطار، لأن التمثيل القطري هو تمثيل إقليمي، فلا يقبل المؤتمر التأسيسي صياغة نهائية للفكر القومي على ضوء كل ما طرح وكل ما هو مطروح. ثم أهم من هذا أن يبدع ويبتكر الأطر الداخلية للتنظيم التي تحقق ثلاثة أمور: ـ الأول: أن تبقي قواعد التنظيم القومي فوق قيادة التنظيم، ولهذا من الممكن أن تكون القيادة محدودة في فترة زمنية وهذه هي الديمقراطية الداخلية. ـ الثانية: الرجوع إلى القواعد في تطبيق الأفكار والتزامهم باستراتيجية لقيادة التنظيم، مع ترك النشاط التكتيكي في الأقطار لكل قطر. ـ الثالث: وهذا قد يبدو شكلياً ولكن منتهى الضرورة أن يطبق هذا داخل الأقطار نفسها، يمكن أن يقوم فرع للتنظيم في كل محافظة في كل قطر. ولكن لا يجوز أن يكون حزباً موحداً في كل قطر، فمثلاً فرع الحزب في سوريا يشمل اللاذقية ولبنان، فرع آخر يشمل الصحراء الغربية وبنغازي حتى لا نترك لأي فرع فرصة التمرد عليه للاستيلاء على السلطة في قطر إقليميا من قبل. إذا استطاع الشباب القومي أن يتحمل الصعوبات والمعاناة وقوة إلزام أنفسهم لكل هذا، فسيكون لدينا تنظيم قومي. أما إذا لم يستطيعوا فإن الشعب العربي لا يكون مؤهلاً موضوعياً لموضوع الوحدة فينتظم في قطره، فتفقده الحركة القومية كما فقدت الكثير من الشباب القومي.
* هناك صراع فكري جذري بين التيار الأصولي الديني من جهة والتيار القومي العربي من جهة أخرى، وأكثر النقاط في هذا الصراع هي مسألة العروبة والإسلام، ولقد كان لك في هذا الموضوع كتاب حمل عنوان “عن العروبة والإسلام” فكيف تقارب أبعاد هذا الصراع؟ ** هناك صراع فكري، وفي بعض الأوقات نشيط بين التيار القومي والتيار الإسلامي في الوطن العربي، أسبابه الفكرية أن التيار الإسلامي وريث لمن يسمون الأصوليين، وهي مرحلة لم تنته في القرن الماضي. فمنذ الرسالة إلى سقوط وحدة الدولة العثمانية، كانت الأصولية على المستوى السياسي تمثل وحدة الأمة العربية لا في الدين فقط، وإنما في الدولة، والغاية السياسية للتيار الإسلامي هي وحدة الأمة الإسلامية التي تشمل كل الدول الإسلامية. ثم نشأ الفكر القومي، متأثراً بالطغيان التركي. واستئثار حركة الاتحاد والترقي بالدولة العثمانية التي كانت مشتركة بين شعوب كثيرة.. لقد حولتها الحركة إلى دولة الأتراك. وبدأت في ممارسة القهر الاستعماري. فكان رد الفعل نشوء حركة قومية عربية. .. إن العلاقة بين القومية والإسلام من التيار الإسلامي في التدليل على التناقض والصدام بين المفهومين، وعجز القومي قبل حزب البعث على أن يجد علاقة بين القومية والإسلام، فلما جاء “البعث” خاصة مع ميشال عفلق صالح ما بين القومية والإسلام واتخذ من رسول الإسلام رمزاً للإشادة بهذه العلاقة، وكان هذا موقفاً فكرياً ناقصاً لأنه ذو طابع شخصي، إعجاب أشخاص بالرسول وصحبه وهم أشخاص.. وبقيت هذه المسألة الصغيرة، فينفذ منها التيار الإسلامي للطعن في موقف القومية من الإسلام، وقد اقتضى غلق هذه الثغرة مجهوداً دراسياً استمر أكثر من ربع قرن.. وأزعم ـ ومن حقي أن أزعم ـ أنني أول من التفت إلى هذه القضية، وأراد أن يحدد موقفاً فيها لا بخصوص إنشاء لقاء بين الإسلام والقومية، إذ لم يكن ثمة تناقض بينهما، ولم أكن مستعداً لتفضيل القومية على الإسلام بحكم أنني مسلم، ولكن الحل جاء في سياق دراسة الأمة، فقد كانت كل الأسئلة، ما هي مواصفات الأمة ومميزاتها، وكانت الإشكالية قد طرحت سؤالاً، لماذا تكونت الأمة، وكان الماركسيون يقولون بسبب النظام البرجوازي. وقد تذكر كتابي الأول كان معركة مع الفكر الماركسي، فالتفتت إلى خطورة وج! دية السؤال الذي طرحه لينين وأيد صحة مقولة ستالين حول أن السوق الاقتصادي الموحد يشكل الأمة، ورفض هذه الفكرة لسبب بسيط هو أن الوحدة البرجوازية تمت في كل أمة على حدة بما يعني أن وجود الأمة سابق. لقد طرحت هذا السؤال (كيف توحدت الأمة) على نفسي بالنسبة للأمة العربية، فبدأنا سنين طويلة في دراسة الجنس السامي ثم العربي وأصل تطوره إلى أن انتهينا إلى الهجرة إلى المدينة، وأصبحت لنا وجهة نظر في لماذا تتطور المجتمعات من الأسر إلى العشائر إلى الشعوب إلى الأمم .. إن جوهر التطور يتم من أجل حياة أفضل ولو من خلال الصراع.. وتطبيق هذا على الأمة العربية يؤدي بنا إلى أنه قبل الهجرة، كان العرب في شمال الجزيرة أو جنوبها، مجتمعات قبلية، حتى جاءت الرسالة الإسلامية ووحدت بين المسلمين فكرياً وانتماءاً إلى الدين، ولكنها في مرحلتها الأولى المكية، لم تدخل عنصر الوطن الواحد كعامل انتماء للمسلمين لدرجة أن الرسول طلب من المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة، ثم جاءت الهجرة، فما أن ذهب المسلمون إلى المدينة حتى وضعوا بينهم وبين اليهود والنصارى دستوراً يحكم المدينة اسمه “الصحيفة” ومن المدينة انطلق الفتح العربي في جميع الأقطار، وأصبحت دار الإسلام أي دخلت الأرض المشتركة عنصراً في الإسلام بالتفاعل ما بين البشر في نظام مشترك (الإسلام) مع أرض محددة.. فنشأت الحضارة العربية مصاغة طبقاً للصفة الإسلامية، عندئذ اكتملت الأمة العربية تكويناً من بشر معينين وأرض محددة، تفاعلاً بينهما.. وبعد عشرين سنة من كتابة هذا الكلام لم أكف ولم أتوقف عندما تطاول بعض الأصوليين على العروبة، فمارست هواية الكتابة، وهواية الكتابة عندي هي الإسهام بالكلمة في معركة قائمة، وليس قبل ذلك، فأخرجت كتابي “عن العروبة والإسلام” وطرحت فيه ما سبق أن كتب وهاجمت فيه من يتخذون من الإسلام حجة لتأييد معاداتهم للقومية، وحاورتهم على أسس إسلامية وتجرأت، فقلت أن الأمة العربية، هي أمة الإسلام، لأنها لم تكن أمة قبل الإسلام. وهاجمت العلمانية، لأن العلمانية حركة فكرية غريبة، وأن أصولها واردة في الإنجيل، لأنها وزعت السلطة بين رجال الدين والدولة.. ولقد ووجه هذا الكتاب بالتعتيم الذي أحيط به، مع أنني قبل أن أقدمه للمطبعة، أرسلت ستين نسخة إلى رموز التيار الإسلامي في مصر، ودعوت من يريد التصحيح أو المناظرة، فنشرته. وكما هي العادة، لم أتتبع ما أنشره، وأستطيع أن أقول أنه منذ سنة 1952، وهذا الكتاب يصحح بهدوء الأفكار الأصولية فيما يتعلق بموقفها من القومية.. وأعتقد أنه في العقد القادم ! ستتغير وجهة النظر الإسلامية في هذه المسألة، أو سيستوعبون أن توحيد الأمة العربية خطوة أولى وسابقة على توحيد الأمة الإسلامية..
البلاح ـ الاسكندرية ـ يوليو ـ (جويلية) 1991.
حوارات ناصرية 7 – رياض الصيداوي أحمد سالم (ناصري يمني)
* لا يحب أن تسقط الناصرية في دوائر مغلقة
أحمد سالم ناصري عضو اللجنة التحضيرية التي تعمل على توحيد كل الناصريين تحت لواء “التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري”. التقيناه في طرابلس وأجرينا معه حديثاً تناول التطور التاريخي للناصرين في اليمن والمرجعية الفكرية لناصريي اليمن ومدى عملهم من أجل تأسيس “الحركة العربية الوحدة” وكيف يتفاعلون مع بقية القوى السياسية ماركسية وإسلامية وتعريفهم للناصرية..
* ما هي العوامل التي ساعدت التيار الناصري في اليمن على الظهور بقوة في الساحة السياسية؟ ** لقد كان للمد الثوري القومي لثورة يوليو المجيدة – بقيادة جمال عبد الناصر والذي برز على السطح بعد معركة السويس ثم بعد الوحدة المصرية السورية _ دور أساسي في تفاعل الجماهير العربية مع القيادة الشابة في مصر. واليمن كجزء من هذا الوطن العربي، تبلور فيه التيار الناصري شيئاً فشيئاً وإن لم يتخذ منذ البداية الشكل التنظيمي لكنه اتخذ من الأندية والجمعيات إطاراً لنشاطه ونشر أفكاره. وكان تنظيم الضباط الأحرار بقيادة الشهيد الناصري علي عبد الغني، أول إطار تنظيمي يشترك فيه الناصريون داخل الجيش ويتحملون فيه مسؤولية تفجير الثورة يوم 26 سبتمبر 1962. وفي الشطر الجنوبي من الوطن كان للناصريين شرف تفجير الثورة من خلال الشهيد غالب بن راجع دبوزه وغيره من الوطنيين. وتأطر الناصريون في التنظيم الشعبي للقوى الثورية الذي كان الأداة التي حشدت الجماهير في المعركة ضد الاستعمار البريطاني.
* تنظيمياً ألم يتطوروا في شكل آخر؟ ** نعم، الناصريون في اليمن تميزوا بتطورهم التنظيمي الدائم. فبمجيء 1964 تطور أداؤهم من خلال صيغة تنظيمية متكاملة اتخذت اسم “تنظيم القوى الثورية العربية” وهو تنظيم اختار أسلوب العمل السري في نشاطه. ولم تمض سوى سنة ونصف حتى تدخل التجربة التنظيمية منعطفاً جديداً هاماً فيشكل الناصريون “الطليعة العربية” ثم بعد ذلك كان التيار الناصري يأخذ في كل مرحلة الملائم له حتى استقر على صيغة “الطلائع الوحدوية اليمنية” التي تحملت مسؤولية حركة 15 أكتوبر 1978 حيث دخل الناصريون بعدها مرحلة جديدة من نضالهم، تميزت بالتشتت والتمزق وتفرعوا ثلاث تنظيمات وهي: الحركة الشعبية الناصرية، التنظيم الوحدوي الناصري، التنظيم الناصري الوحدوي. وتحت ضغط التيار الناصري اليمني من جهة وضغط المتغيرات الدولية والعربية من جهة أخرى، دخلت هذه التنظيمات في حوارات جادة وصلت في 22 فبراير 1990 الماضي إلى الاتفاق على إلغاء وحل كل تلك التنظيمات وتشكيل لجنة تحضيرية للإعداد لعقد مؤتمر تأسيسي وتوحيد كل الناصريين تحت لواء “التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري”. * الناصريون في اليمن من أين يستمدون مرجعيتهم الفكرية والنظرية؟ ** في اليمن كبقية البلاد العربية نستمد مرجعيتنا من الفكر القومي الذي صاغه جمال عبد الناصر في ميثاق العمل الوطني وفلسفة الثورة وفي بيان 30 مارس ومن مجمل خطبه، كذلك نستفيد من خبرة الممارسة العملية طيلة 18 عاماً لعبد الناصر. ثم تأتي بعد ذلك حصيلة ما يبدعه المفكرون العرب الملتزمون بأهداف الثورة العربية والساعون إلى تحقيق وحدة العرب على الأسس الديمقراطية والاشتراكية الواضحة. * جمال عبد الناصر أطلق في بداية الستينات شعاراً استراتيجياً وهو بناء الحركة العربية الواحدة، أنتم كناصريين في اليمن، كيف تـتـفاعلون مع هذا النداء التاريخي؟ ** علاقتنا بالناصريين في الوطن العربي جيدة جداً ونحن ننسق مواقفنا معهم في كثير من المناسبات ونطمح أن نصل بالحوار معهم وبالتفاعل اليومي المستمر إلى بناء التنظيم القومي الواحد أو إلى ما سماه ودعا إليه القائد المعلم جمال عبد الناصر منذ عام 1964 “الحركة العربية الواحدة”. إن دورنا على المستوى القومي غير عادي ونرجو أن يصل هذا الدور إلى ذروته بقيام التنظيم القومي الواحد، سبيلنا في تحقيق وحدة الأمة العربية الشاملة. * هل تتفاعلون في اليمن مع بقية القوى السياسية ماركسية أو إسلامية؟ ** نحن لسنا معزولين عما يجري حولنا في الواقع، فالقوى الوطنية والتقدمية من ماركسية وديمقراطية وإسلامية موجودة في ساحة العمل السياسي ولا يعقل أن لا يكون بيننا وبينهم أية علاقة حول القواسم المشتركة العامة.. لنا علاقات مع العديد من الأحزاب الماركسية الشيوعية والإسلامية. * كيف تعرفون الناصرية؟ ** الناصرية هي نظرية للثورة العربية تستهدف حرية الوطن والمواطن العربي وتقدمه ووحدته. وترتكز الناصرية على المنهج القومي التقدمي الذي ينطلق من الإنسان كوسيلة وغاية، لذلك فهي صاحبة المستقبل في الأرض العربية. وما يجري اليوم من تفاعلات فكرية وسياسية ونضالية في الوطن العربي دليل على حيوية الناصرية خاصة بعد الفشل الذريع الذي لقيه المنهج الإقليمي المسؤول عن كل مآسينا وبعد فشل المنهج المادي الذي يقوم على المادية التاريخية والذي يقفز فوق الواقع القومي إلى واقع أممي طوباوي والذي جاءت المتغيرات التي شهدتها أوروبا الشرقية ولا سيما الاتحاد السوفيتي لتؤكد سقوط معظم مقولاته.. كل ذلك وغيره يؤكد صحة موقف الناصرية. لذلك لا نخاف من المستقبل والمهم أن نعمل من أجله بوعي وإدراك لحقائق الحاضر ومتغيرات العصر ولا نحب للحركة الناصرية أن تسقط كغيرها في دوائر مغلقة تجاوزتها المرحلة.
طرابلس- يونيو (جوان) 1990. حوارات ناصرية 8 – رياض الصيداوي الصياد (أمين عام الاتحاد الاشتراكي العربي ـ التنظيم الناصري)
* أنا ضد كل من يقول أنه منظر الناصرية * كان عندنا ثلاثة وثلاثون تنظيماً ناصرياً * نرفض جمهورية إسلامية تحكم لبنان * ليس من الضروري أن يتوحد الناصريون دفعة واحدة * أي تعرض للمقاومة الفلسطينية، هو تعرض للناصريين
منير الصياد، أمين عام الاتحاد الاشتراكي العربي – التنظيم الناصري، التقيناه في حديث طويل متنوع، ليحلل ويشرح الوضع الناصري في لبنان.. فبين في حديثه كيف بدأ العمل في بلده بثلاث وثلاثين تنظيماً ناصرياً، ليصبحوا اليوم خمس تنظيمات فقط. وأبرز أنه ليس من الضروري أن يتوحد الناصريون دفعة واحدة، كما لا توجد أية خلافات بين الناصريين من ناحية المنطلقات.. وأكد أن قضية فلسطين هي قضية ناصرية، وأن أي تعرض للمقاومة الفلسطينية هو تعرض للناصريين.. وأضاف نحن ضد بعض آراء منظمة التحرير الفلسطينية ولكن نرفض كلية أي صدام دموي معها.. بل نحن في صراع ديمقراطي معها.. وعلى المنظمة أن تعرف طبيعة العدو الصهيوني وتتخلص من الحلول الوهمية.. وفي محور آخر ذكر منير الصياد أنه يرفض أن تكون هناك جمهورية إسلامية تحكم لبنان.. مشيراً إلى أن برنامج الناصرية الجدي، هو إلغاء الطائفية.. وأن المارونية السياسية روجت لفكرة العروبة تساوي الإسلام حتى تعادي الاثنين معاً.. وفي مسألة النظرية، قال أن عبد الناصر أعلن أنه لا يملك نظرية، وأعجب بهذا الحديث كثير من الناس.. وأنا ضد كل من يقول أنه منظر الناصرية.. وأخيراً، تبين أن الحركة العربية الواحدة ليست هدفاً وإنما هي أداة.. كما فعلت القطرية فعلها في الواقع العربي.. وهذه تفاصيل الحوار..
* أستاذ منير الصياد، أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو أن الناصرية نسق واحد ورؤية موحدة، في حين نجد في لبنان أكثر من تنظيم ناصري، وهو ما يمثل مفارقة، نرجو أن توضح لنا أسبابها؟ ** المشكلة في لبنان، أن الجماهير الناصرية في هذا البلد كان لها قبل وفاة الزعيم جمال عبد الناصر ملامح تنظيمات كانت تحميها انسحبت من الساحة، فكان عليها أن تتحمل مسؤوليتها، وتقوم بدورها، فأنشأت لنفسها تنظيمات، يعني أن الجماهير خلقت تنظيماتها لا كما هو معروف عادة عند الأحزاب حينما تبحث القمة عن قاعدة.. فالتيار الناصري الشعبي هو الذي أنشأ تنظيماته في لبنان.. ومن هنا فالتعدد التنظيمي أمر طبيعي جداً، أما استمرار هذا التعدد فهو ضد طبيعة الأشياء. ولقد كان عددهم في البداية ما يقارب الثلاث وثلاثين تنظيماً في لبنان، والسبب هو أنه لم يكن هناك تنظيم ناصري جدي قادر على استيعاب هذه الحركة الشعبية القومية التقدمية.. والنتيجة أن بعض هذه التنظيمات تلاشت وبعضها الآخر بقي واقفاً على قدميه، وتمت محاولات عديدة لتوحيد هذا الشتات الناصري.. وحقيقة أن التنظيم الشعبي الناصري، وهو امتداد للقائد الشهيد معروف سعد استمر في مسألة التوحيد.. بقية التنظيمات فيها من استمر في الوجود مثل تنظيم “وحدة القوى الناصرية” الذي أنتمي إليه، وتوحد مع بعض التنظيمات الأخرى وشكلوا “الاتحاد الاشتراكي العربي – التنظيم الناصري” وبعضها الآخر تلاشى. السؤال الموضوعي الآخر، هو لماذا لا يتوحد الناصريون؟ أعتقد أن هذا السؤال جدي، يجب النقاش في الايجابية عليه بعمق.. إن الاستمرار في التعدد يصبح خطأ القائمين على العمل الناصري، وهناك في لبنان مشروعات لتوحيد العمل الناصري، ومن التجربة أقول أنه ليس بالضرورة أن تطرح مسألة الوحدة دفعة واحدة، ويكون البديل طرح خطوات على طريق التوحيد المرحلي، أي أن نبدأ بالتنسيق ومن ثم الجبهة، حتى نصل إلى الوحدة الكاملة.. ولا ندعو لقيام الوحدة المباشرة لأن الساحة اللبنانية تشهد ظرفاً خاصاً وصراعات كبيرة وموازين قوى غير عادية، فكل دول العالم تتصارع في لبنان.. هذه التناقضات تجعل عملية التوحيد عملية صعبة كثيراً. وأود أن أؤكد أن المنطلقات الأساسية للناصريين، هي منطلقات واحدة، والرؤية الفكرية متحدة فيما بينهم.. ليس بينهم أي خلاف في هذه الناحية. وأؤكد أيضاً أن ما يقال عن أن القضية هي قضية صراع أفراد وزعامات، مسألة مبالغ فيها. أنا شخصياً خضت أكثر من ثلاثة تجارب جدية توحيدية.. واستخلصت منها بعض النتائج، أهمها أن لا تتم عملية التوحيد دفعة واحدة. ذلك أن قواعدنا يجب أن تلتزم بالبرنامج السياسي، ولا يمكن أن يتم ذلك بقرار تنظيمي وفي مرة واحدة.. وقبل أن يتم، على الناصريين أن ينشئوا مؤسساتهم المشتركة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية.. وأكرر أنني لست من الذين لا يتمنون الوحدة الفورية.. ولكن هناك ظروف موضوعية يخضع لها الجميع. وباختصار، أقول إذا كنا غير قادرين على الوحدة الفورية فلتمر بمراحل… لقد خلقت الجماهير تنظيماتها، ولا يمكن أن تستمر على هذا الحال. * في لبنان اليوم، كمَ يوجد من تنظيم ناصري؟ ** هناك خمس تنظيمات ناصرية هي: ـ التنظيم الشعبي الناصري. ـ الاتحاد الاشتراكي العربي ـ التنظيم الناصري. ـ الاتحاد الاشتراكي العربي. ـ المرابطون. ـ حركة الناصريين المستقلين. * المقاومة الفلسطينية كانت وربما ما زالت جزءاً هاماً من معادلة الصراع في لبنان، كخط ناصري، كيف تفاعلتم معها؟ ** إن قضية فلسطين، هي قضية الناصرية من موقع قومي، ومن موقع آمال الشعب العربي، لذلك فإن تبنيها كان في رحب الأرض الناصرية في لبنان، وبالتالي فإن أي تعرض للمقاومة الفلسطينية هو تعرض للناصريين. فالمقاومة الفلسطينية بعد مجزرة سبتمبر 1970، أسكنت في أرض ناصرية سواء في البقاع أو في الشمال أو الجنوب. وهذا أمر طبيعي، فقد أسكنها عبد الناصر وضغط في اتجاه أن يسمح لها بالنضال من خلال اتفاقية القاهرة.. إذن المسألة ليست مسألة ظرفية، وإنما المقاومة الفلسطينية في القلب الناصري، وهي أنبل ظاهرة بعد هزيمة 1967. ونحن دافعنا عن المقاومة وساهمنا في بنائها ونضالها، وتعلمنا منها الكثير، رغم الأخطاء الجسيمة التي قامت بها في الممارسة، ومنها ما حدث مع الناصريين، فهي لم تكبر تماماً الواقع الناصري ومنطلقاته القومية، فعملت بدون وعي منها ـ وكما عملت بعض الأنظمة ـ على شرذمة الناصريين، وكانت مخطئة في ذلك، وهذا لا يعني أننا نسمح لأنفسنا بمقاتلة الفلسطينيين، إذ لا يمكن أن نصل إلى هذا الحد، بل على العكس، كنا نحاورهم بشدة وبعدم تبعية. وكنا، كل يوم تتعرض فيه المقاومة الفلسطينية إلى مؤامرة إلا ونقف بجانبها. فليس مسموح لأي ناصري أن يقاتل فصائل الثورة الفلسطينية.. ومن هنا لا بد من القول أننا ضد بعض آراء منظمة التحرير الفلسطينية ـ وهي الممثل الشرعي والوحيد ـ خاصة فيما يتعلق بمسألة الأرض مقابل السلام، فهذه ضد المبادئ الناصرية.. وهذا الرفض هو صراع فيما بيننا لا يمكن أن يصل إلى درجة التقاتل، نحن في صراع ديمقراطي معهم.. فنحن نقدرها تقديراً عالياً، إذا ما استمرت في الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني، واستمرت على علاقة طبيعية بالوضع الوطني في لبنان، وإذا حافظت على وحدة الصف الفلسطيني، لأن العدو يعمل على تشتيته. ومهماتنا الراهنة هي تمتين علاقاتنا بالثورة الفلسطينية وتثبيت النهج الناصري الذي يقول أن لا تفاوض ولا اعتراف ولا تفريط بحقوق الشعب الفلسطيني، ومن هنا كانت علاقتنا مع المقاومة حادة في بعض الأحيان ومتجانسة ومتطابقة في أحيان أخرى. اليوم، هناك بعد جدي بين آراء منظمة التحرير التي قاتلنا معها قتالاً شريفاً وشرساً ضد العدو الصهيوني، وآراءنا كناصريين.. وعلى منظمة التحرير أن تتخلص من الحلول الوهمية، وتعرف أن عدونا فاشي، عنصري، زرع في المنطقة العربية لتقسيمها، وطموحاته تمتد من النيل إلى الفرات.
* من المعروف أن الأحزاب والتنظيمات في لبنان، تعكس بنية مجتمعية ضيقة، فإلى أي حد خضع الاتحاد الاشتراكي العربي ـ التنظيم الناصري، إلى أو تجاوز البعد الطائفي؟ ** في الحقيقة نحن الناصريون في لبنان نمثل الفكر العروبي، وهذا الفكر موحد وليس بمشتت، فالعروبة توحد ولا تفرق. ومن المفترض أن يلعب الناصريون دور الموحدين، لأن دورهم أكبر من أدوار الطوائف. وهم مثلاً لا يقبلون أن تكون هناك جمهورية إسلامية تحكم لبنان، ولكن عندما يتساوى الجميع تحت راية العروبة فإن ذلك يصبح مقبولاً في حين يرفض الحكم الديني. وأود أن أشير إلى أن عبد الناصر صاحب مشروع قومي يريد أن يوحد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وقام بمشروع الوحدة مع سوريا سنة 1958، أي طرق باب لبنان، فما كان من المارونية المسيحية ـ وهناك بعض المسلمين الملتزمين بالمارونية السياسية كمفهوم ـ إلا أن تصدت لعبد الناصر، نظراً لارتباطها بالغرب الأوروبي وبالأهداف الأمريكية.. وقاومته من موقعها الطائفي وبالتالي روجت للطائفية.. ومن هنا كان الصراع بين الرجعية العربية والناصريين، وفي لبنان كان الصراع مع المارونية السياسية، وبالتحديد كميل شمعون وحزب الأحرار وبيار الجميّل وحزب الكتائب، وصراعنا معهم لم يكن بسبب كونهم مسيحيين، ولكن لأنهم رجعيون كغيرهم في الوطن العربي، أي أن الصراع الطائفي في لبنان هو صراع غير طائفي، وإنما هو صراع بين التقدمي والرجعي. وأنا أؤكد أن الناصرية ليست معادية للأديان وإنما تؤمن بالأديان، وبرنامجنا السياسي الجدي هو إلغاء الطائفية. كذلك، عملت المارونية السياسية على اعتبار أن العروبة هي الإسلام، حتى تعادي العروبة والإسلام معاً، وبالتالي أغلقت على نفسها كل الأبواب، وعاشت في “جيتو” حقيقي.. ورفض بعض المسيحيين هذا الجيتو وانضموا إلى الناصريين، ولم يختاروا الشيوعيين أو غيرهم من القوى الأخرى كالقوميين السوريين أو البعثيين، وأنا أذكر أن الاتحاد الاشتراكي العربي ـ التنظيم الناصري حينما قام بمعركة “عين المريسة الفنادق” لم يصب أي مسيحي بأذى، بينما كان بشير الجمّيل يخوض معركة قتل على الهوية، وكان المسؤول الناصري على هذه المعركة شاب مسيحي اسمه طوني الحلبي.
* مسألة أخرى نود طرحها معك، وهي المرجعية الفكرية النظرية للاتحاد الاشتراكي العربي ـ التنظيم الناصري، فكيف تتفاعلون مع مواثيق ثورة عبد الناصر: فلسفة الثورة، ميثاق العمل الوطني، بيان مارس، وإبداعات مفكرين آخرين مثل الدكتور نديم البيطار والدكتور عصمت سيف الدولة..؟ ** ليس هناك خلاف بين الناصريين فيما يتعلق بمصادر الفكر الناصري، وهي مواثيق الثورة، والتجربة وما نتج عنها. وعبد الناصر واضح في قوله، فليست مشكلتنا، امتلاكنا لنظرية أو عدم امتلاكنا لها، بل قال: إنني لا أملك نظرية، وأعجب بهذا الكلام كثير من الناس.. وعندما عرفنا عبد الناصر تأكدنا أنه ليس بالفيلسوف، ولا بذلك المفكر القابع في مكتبه، وقال: إنني أملك بعد التجربة والخطأ مجموعة أفكار وآراء تحل مشكلة المجتمع العربي الآن، أما في الكينونة والصيرورة، فأنا أؤمن بالدين.. وفكري ليس مقطعاً من تاريخ، وإنما هو فكر تراكمي متفاعل بين الأرض أي الجغرافيا والشعب أي التاريخ.. فالتراث الإسلامي أفرز فكر عبد الناصر وهو الاشتراكية والحرية والوحدة. فأهمية الفكر الناصري تكمن في جدليته بين الإنسان وتراثه والطبيعة التي يعيشها.. ونحن اليوم في حاجة إلى الاجتماع لتوحيد مفاهيمنا ومصطلحاتنا، ويبقى جوهرنا واحد، وعلينا أن ندرك أن فكرنا جماهيري، وبالتالي تطوير الفكر الناصري لا يكون فاعلاً إلا إذا كان إفرازا لنضالات الجماهير العربية.. ولست مع أي شخص مهما كبر، أنه منظر الناصرية، لقد سقطت كل النظريات المتحجرة وانتهت.
* طرح عبد الناصر في الستينات مسألة الحركة العربية الواحدة، وبعد وفاته، بقيت معلقة إلى اليوم، ويعتبر الفكر الناصري في جوهره قومياً، فإلى أي مدى عمل التنظيم الناصري على بلورة هذا الشعار؟ ** الحركة العربية ليست هدفاً، وإنما هي أداة يجب أن توجد من أجل الوحدة العربية، والوحدة العربية وسيلة لرفعة الإنسان العربي، وأهمية هذا الشعار أنه طرح في زمن معين، كانت مصر فيه قائدة للنضال العربي بفضل القائد الفذ جمال عبد الناصر، وأراد هذا القائد أن يربط مصر بالوطن العربي عن طريق حركة تنظيمية مقننة قادرة على الصمود… واليوم نحن بحاجة أكثر من الماضي إلى أداة الحركة العربية الواحدة، لأن القضايا التي نواجهها يجب أن تحل قومياً بأداة قومية.. وهذا لا يعني أن صعوبات جمة لن تواجه هذا المسعى. وأهم الصعوبات أن الواقع الناصري قد تغير وكذلك الأحزاب الناصرية في كل ساحة قطرية عربية، أما الصعوبة الثالثة فهي تعدد المرجعية الفكرية النظرية، فكل ساحة وطنية يجب أن توحد نفسها قبل أي شيء آخر، وبعد ذلك تشكل مجموع الساحات الناصرية الموحدة وطنياً الحركة العربية الواحدة. فالواقع فرض هذه الساحات والمطلوب أن نعترف بها لتغييرها وليس العكس. ويجب أن نعلم أيضاً أن القطرية قد فعلت فعلها في الواقع، وأرغمتنا مكرهين على التعامل معها، وأن نجعل منها مدخلاً إلى العمل القومي.. وأعتقد أن الساحة الناصرية اللبنانية لم تسقط في فخ القطرية، لأنها احتضنت المقاومة الفلسطينية. لقد لفظت القطرية من أجل القضايا القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهي أكثر الساحات حماساً للحركة العربية الواحدة.
طرابلس – يونيو (جوان) 1990.
حوارات ناصرية 9 – رياض الصيداوي أسامة سعد (مسؤول من التنظيم الشعبي الناصري اللبناني)
* ليس من حق أي شخص أن يحدد الميثاق القومي * سيتوحد الناصريون في لبنان وذلك سبيلهم الوحيد * وقفنا ضد محاولات تصفية الشعب الفلسطيني * الفكر الناصري حريص على الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي * الناصرية ليست نظرية جامدة
الدكتور أسامة سعد، قائد من التنظيم الشعبي الناصري، أكبر التنظيمات الناصرية بلبنان.. أجرينا معه لقاءاً شاملاً تناول مواضيع عديدة، ذكر فيها أن الناصريين بلبنان بدؤوا تنظيمات كثيرة، وانتهوا اليوم إلى خمسة تنظيمات.. كما عبر الدكتور سعد عن أمله في وحدة كل الناصريين بلبنان، مبيناً أن ذلك سبيلهم الوحيد.. وبيّن أن واجب الناصريين أن يبنوا المؤسسات، كما أن العلاقات بين التنظيمات الناصرية في هذا البلد هي علاقات جيدة ومتميزة.. وأكد في محور آخر أنهم وقفوا ضد كل المحاولات التي استهدفت تصفية الشعب الفلسطيني.. وهم ضد الدخول في أي صراع مع المقاومة الفلسطينية يسيء إلى وحدة شعبها أو وحدة أداتها الثورية، حيث اختلف عبد الناصر كثيراً مع منظمة التحرير، لكنه لم يحاول مطلقاً تخريب وحدة النضال الفلسطيني.. كذلك لم يسقط الناصريون في فخ الطائفية.. فالطرح الناصري توحيدي عقلاني.. والفكر الناصري حريص على الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي.. كما أن التنظيم الشعبي الناصري لا يساوي السنة، بل هناك مسيحيون منضمون إليه.. وفي محور آخر يقول أن الناصرية ليست نظرية جامدة.. والميثاق القومي يجب أن يكون إفرازاً لقوى ناصرية مخلصة وفاعلة ومتحركة على الأرض.. وليس من حق أي شخص أن يحدد الميثاق القومي.. كما يوجد تكامل بين العمل الوطني والنضال القومي.. وهذه تفاصيل الحوار.
* دكتور أسامة سعد، أول سؤال يتبادر إلى الذهن، هو أن الناصرية نسق واحد ورؤية موحدة في حين نجد في لبنان أكثر من تنظيم ناصري وهو ما يمثل مفارقة، نرجو أن توضح لنا أسبابها؟ ** أريد أن أؤكد على بعض المسائل حول هذه القضية الحيوية التي تمس بناصريي لبنان، في البداية نلاحظ أن الناصريين في هذا البلد لم يكونوا تنظيماً واحداً في أي يوم من الأيام ثم تمزقوا وأصبحوا عدة تنظيمات، وإنما الحقيقة تقول أنهم بدؤوا تنظيمات كثيرة جداً وانتهوا الآن إلى أربعة أو خمسة تنظيمات، وهو شيء إيجابي. ونعتقد أن ظروف الصراع في الساحة اللبنانية فرضت هذا الواقع، ورغم أننا نرفض هذا الواقع ونحاول تغييره وتصحيحه، ولكن بأسلوب طبيعي وبطريقة بعيدة عن الافتعال والتصنع.. ونحن مطمئنون إلى أن الناصريين في لبنان لا بد أن ينتهوا إلى إطار واحد يجمعهم لأنه ليس أمامهم غير ذلك في الساحة اللبنانية.. وفي الماضي لم تتح لهم فرص ومجالات اللقاء.. فالساحة التي يعيشونها مليئة بالمتغيرات اليومية، وهذا يفرض على كل فصيل ـ من موقعه ـ أن يتعامل مع المستجدات والمتغيرات باستمرار.. وأنا مطمئن إلى أن الناصريين قادرون على الوصول إلى مستوى يجمعهم في إطار واحد، والمجرى العام للأحداث يسير في هذا الاتجاه، وهو يتعزز باستمرار.. ويتأكد أكثر إذا ما اهتم الناصريون في لبنان ببناء مؤسسات حقيقية تنظيمية وسياسية وثقافية وعسكرية.. وتستطيع هذه المؤسسات أن تستقطب طاقات كثيرة من الناصريين، هي معطلة إلى اليوم، ولا تنتمي إلى أي من التنظيمات الموجودة على الساحة.. هذا ما أراه بالنسبة لوحدة الناصريين في لبنان، وأعتقد بإذن الله، أننا نستطيع أن نتجاوزه ونصل إلى الحقيقة التي يريدها كل الناصريين في الوطن العربي، وهي وحدة الأسرة التنظ! يمية على كل ساحة من ساحات الوطن العربي، وأكثر من ذلك وحدة الحركة العربية الواحدة، وهي قضية مطروحة. * التنظيم الشعبي الناصري هل كانت له مبادرات توحيدية خاصة في الساحة اللبنانية؟ ** بالتأكيد هناك عدة مبادرات وحدوية تمت، ونحن بالرغم من فشل بعضها، إلا أننا استفدنا منها، وهناك محاولة لالتقاء ثلاثة تنظيمات ناصرية وهي الاتحاد الاشتراكي العربي ـ التنظيم الناصري مع الأخ منير الصياد، والاتحاد الاشتراكي العربي، والتنظيم الشعبي الناصري، وانتهى الأمر إلى لقاء بين الاتحاد الاشتراكي العربي والتنظيم الشعبي الناصري، لكن بعد مدة خرج من هذا الإطار بعض الذين دخلوا فيه، ولم ينخرط الأخ منير في حينها مع هذه الوحدة نتيجة بعض الظروف الموضوعية التي قدرناها واحترمناها، وثبتت صحتها لاحقاً، ورغم ذلك نحن لم نخسر شيئاً في هذه العملية. بل نعتقد أننا كسبنا أشياء كثيرة هامة، منها التجربة والتحاق الكثيرين من الناصريين بالتنظيم الشعبي الناصري، وحتى الذين خرجوا عن الوحدة وأعادوا بناء الاتحاد الاشتراكي يعتبرون أقلية ضعيفة.. كما انخرطنا في محاولات سابقة عامة تميزت أطرها بالجبهوية والتنسيق.. وأضيف أن العلاقة بين الأطر الناصرية بلبنان هي علاقة جيدة، لأن تعددنا التنظيمي لا يشكل عائقاً كبيراً أمام نضال الناصريين اللبنانيين.. ولكن كذلك إنجاز هذه الوحدة يؤدي إلى دور أكبر لنا في لبنان. * حركة “المرابطون” بقيادة إبراهيم قليلات، ألم تدخلوا في حوار تنظيمي معها؟ ** في الحقيقة، حركة “المرابطون” كإطار تنظيمي فاعل في الساحة اللبنانية غير موجود، وهذا يعود للضربة التي وجهت لهم في عام 1985 من قبل التحالف الطائفي، وكانت ضربة عسكرية عنيفة استطاعت أن تقضي على الإطار العسكري ـ ولا أقول التنظيمي ـ حيث لم يكن لهم هذا الإطار، فالمرابطون موجودون الآن كأفراد نقدرهم ونحترمهم، ولكن ليس لهم إطاراً تنظيمياً، وقيادتهم مضطرة أن تكون خارج الساحة اللبنانية.
* المقاومة الفلسطينية كانت، وربما ما زالت، جزءاً هاماً من معادلة الصراع في لبنان، كخط ناصري، كيف تفاعلتم معها؟ ** التنظيم الشعبي الناصري موجود في صيدا وفي الجنوب اللبناني وفي الجبل وفي بيروت وفي البقاع وفي الشمال، ولكن هناك خصوصية لصيدا، لأنها عاصمة الجنوب اللبناني المحتل، وهي مركز قيادي أساسي لمختلف الفصائل الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها، وخاصة المنضمة لمنظمة التحرير الفلسطينية.. وتقوم علاقاتنا مع المقاومة الفلسطينية على أساس واضح، نعتمد فيه على النهج الناصري في نظرته إلى كفاح ونضال الشعب الفلسطيني، وقد وقفنا ضد كل المحاولات التي استهدفت تصفية الشعب الفلسطيني وتصفية ثورته، ودفعنا ثمناً غالياً لهذا الاختبار، ونحن دائماً ضد أن ندخل في أي صراع دموي ضد المقاومة الفلسطينية، أو في صراع يسيء إلى وحدة الشعب الفلسطيني ولوحدة أداته الثورية. صحيح نحن كناصريين نؤمن بقومية المعركة ضد العدو الصهيوني، وأن المعركة لا تخص الشعب الفلسطيني فقط، وإنما تخص كل مواطن عربي أينما كان وأينما وُجد، ولكن كذلك نحن حريصون في نفس الوقت على الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني، وبدون هذه الوحدة لا يستطيع أن يواجه ولا أن يكون في طليعة المواجهة العربية للعدو الصهيوني. وهذا لا يعني عدم وجود خلافات سياسية مع منظمة التحرير، خاصة فيما تطرحه القيادة تجاه قضية الصراع مع العدو.. لكن بدون صراع دموي.. وعلى كل ناصري شريف أن ينتبه لهذه المسألة ويعرف أن عبد الناصر اختلف كثيراً مع منظمة التحرير ولكنه لم يحاول في أي يوم من الأيام احتواءها، ولا أن يحاول تخريب وحدة الأداة الثورية لشعب فلسطين.. لذلك نقول لقيادة المنظمة نحن نختلف معكم في مسألة أو أخرى، لكن لن تمتد أيدينا لا لضرب وحدة الشعب الفلسطيني ولا لضرب أداته، بل ندفع باتجاه أن يكون موقف منظمة التحرير موقفاً ثورياً حقيقياً يخدم قضية نضال الشعب العربي الفلسطيني ومن خلفه الشعب العربي.. ونحن ضد القوة التي تسلحت في لبنان وراء طائفتها، واستنفرت قواها في مواجهة الشعب الفلسطيني، بحجة أن هذا الشعب يسير نحو الاستسلام بقيادة منظمته، ورغم أننا ضد نهج الاستسلام، إلا أنه يجب علينا أن نواجه مثل هذا الأمر، ونعرف كيف نتصدى دون الدخول في متاهات الشرذمة والتفتيت اللذين لا يخدمان سوى العدو الصهيوني. * من المعروف أن الأحزاب والتنظيمات في لبنان تعكس بنية مجتمعية ضيقة، فإلى أي حد خضع التنظيم الشعبي الناصري أو تجاوز البعد الطائفي في تركيبته؟ ** في المطلق، أعتقد أن أحداً من الناصريين في لبنان لم يسقط في فخ الطائفية، وهذا شيء طبيعي، فالناصريون هم صمام الأمان لكل وحدة وطنية، وهذه مسألة لم يصمد فيها كثير من الوطنيين غير الناصريين، لأن المد الطائفي في لبنان كان طاغياً وكان مدعوماً من قبل قوى إقليمية ودولية كبيرة. وبقي الطرح الناصري في لبنان طرحاً توحيدياً عقلانياً، همه المحافظة على الوحدة الوطنية، ورص الصفوف في مواجهة العدو الصهيوني… فالفكر الناصري بعيد عن العصبية المذهبية والطائفية، وحريص على الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي.. وقد أكد على ذلك عبد الناصر في أكثر من مناسبة، وفي الميثاق، وفي مواقف عملية اتخذها.. ورغم ذلك أسجل على الناصريين أنهم لم يستطيعوا أن يستقطبوا المسيحيين في لبنان، وهي نقطة يجب أن يقفوا عندها، ليبحثوا لماذا لم يجمعوا المسيحيين حولهم.. وأعتقد أن العامل الأساسي الذي لم يتح لهم دخول المجتمع المسيحي ـ رغم وجود الكثير من المسيحيين الناصريين ـ
مقاطعاً: هل يمكن أن تقدم لنا بعض الأسماء؟ ** ليس ضرورة أن أعطي أسماءً، لكن هناك مسيحيين في التنظيم الشعبي الناصري، بأعداد بسيطة، ليس كما هو مطلوب.
* تستطيع أن تؤكد أن التنظيم الشعبي الناصري لا يساوي السنة؟ ** طبعاً لا، فهناك شيعة وسنة ومسيحيين كما ذكرت ودروز، ولكن أقول بالشكل العام لم نستطع اختراق المجتمع المسيحي. لأعود إلى مسألة العامل الأساسي، فأقول أن قيادة المسيحيين نشطت على أساس طائفي، وعملت باستمرار على عزل المسيحيين عن بقية أجزاء الوطن سياسياً واجتماعياً وحتى جغرافياً.. وأعتقد أيضاً أن عدم اهتمام الناصريين بمسألة الثقافة في لبنان كان عاملاً قوياً في هذه النقطة، لأن المارونية السياسية والانعزالية لها مؤسسات ثقافية عريقة ومدعومة… ونحن لن نرد على هذه الثقافة بالشكل القوي المطلوب، وبالتالي لم نقدر على التأثير الكبير في المسيحيين.
* مسألة أخرى نود طرحها معك، وهي المرجعية الفكرية النظرية للتنظيم الشعبي الناصري، فما هي تفاعلاتكم مع مواثيق ثورة عبد الناصر، فلسفة الثورة، ميثاق العمل الوطني، بيان مارس، وإبداعات مفكرين آخرين مثل الدكتور نديم البيطار والدكتور عصمت سيف الدولة؟ ** أساسنا الفكري النظري يعتمد على وثائق ثورة 23 يوليو 1952 التي لم تكن ثورة مصرية، وإنما ثورة عربية، إضافة إلى مواقف القائد المعلم جمال عبد الناصر، كذلك هناك اجتهادات كثيرة أخرى نحن نقدرها ونحترمها، وعلى استعداد كامل للحوار والنقاش حول هذه الكتابات والنظريات التي يعتبر أصحابها أنها اجتهادات في الناصرية، ونحن نقترح أن يكون هناك حوار دائم ومستمر بين القوى الناصرية في الوطن للوصول إلى ميثاق قومي يجمع هذه القوى ويواكب المتغيرات التي حصلت منذ عام 1970 بعد غياب القائد المعلم. ونحن فعلاً في حاجة إلى صياغة ميثاق قومي، وطبعاً مواثيق الثورة ليست كتباً مقدسة ويجب أن لا تكون مقدسة، فهناك تطورات تدفعنا إلى الإضافة. ونؤكد أن الناصرية ليست نظرية جامدة، وعلينا أن نطور خطواتها، لأنها نظرية يجوز الاجتهاد فيها والإضافة رغم أن الاجتهاد مجرد ترف فكري بعيد عن الواقع، لذلك نحن مع أي جهد يبذل من أجل الوصول إلى ميثاق قومي، وليست هناك أية عوائق في وجه هذا الميثاق، وأعتقد أننا نستطيع الوصول إلى ذلك إذا حددنا بدقة، من هو المسؤول عن هذا الإنجاز والإطار الذي سيجمعهم.. ونحن نوجه الدعوة إلى كافة الفصائل العربية لدراسة هذا الموضوع. وأؤكد على أنه ليس من حق شخص أو شخصين أو أكثر أن يحددوا هذا الميثاق، فإنجازه هي من مهام قوى ناصرية فاعلة ومتحركة في ساحة العمل السياسي.
* طرح عبد الناصر في الستينات مسألة الحركة العربية الواحدة، وبعد وفاته بقيت معلقة إلى اليوم، ويعتبر الفكر الناصري في جوهره قومياً، فإلى أي مدى عمل التنظيم الشعبي الناصري على بلورة هذا الشعار؟ ** أنا أعتقد أن كل الناصريين في الوطن العربي يسألون نفس السؤال. والتباعد بين الفصائل الناصرية العربية وعدم وجود تواصل بينها يجعل الإجابة على هذا السؤال مسألة صعبة للغاية. ونحن في التنظيم الشعبي الناصري مؤمنون بالحركة العربية الواحدة، لا فقط بمفهوم الجبهة، وإنما بمفهوم الإطار التنظيمي القومي، ولكن لا بد لهذا الموضوع أن يبحث بعمق فيما بين التنظيمات الناصرية الفاعلة في الوطن العربي.. ونعلم أن القائد جمال عبد الناصر، كان قد بدأ بالإشراف على هذا العمل، ولكن لا أحد يعرف إلى أين وصل.. كما أعتقد أنه ليس هناك أي تعارض بين النضال الوطني في أي ساحة من ساحات الوطن العربي ـ بالنسبة للناصريين ـ مع النضال القومي. فهناك تكامل بين العمل الوطني والنضال القومي، هذا يجب أن يكون واضحاً لكل الناصريين، فالنضال الوطني يجب أن يصب في العمل القومي، والنضال القومي يجب أن يراعي خصوصية الوطني، وهي فكرة عبر عنها القائد جمال عبد الناصر في أكثر من مناسبة.. والحركة العربية الواحدة مطروحة على كل الناصريين، ولكن قبل ذلك يجب أن نعمل على لقاء الناصريين، ونبحث كيف تستطيع قوى من ساحات مختلفة، وبعد انقطاع طويل، أن تصل إلى حركة عربية واحدة.
طرابلس – يونيو (جوان) 1990.
حوارات ناصرية 10 – رياض الصيداوي قراءة في فكر نديم البيطار: نقد عام
“.. هنا أؤكد وبشكل إضافي على أهمية دولة الوحدة لأن كل مقاصدنا المستقبلية لأجل دولة الوحدة، وإنه ليس لنا أي مستقبل كريم منيع، إلا عن طريق دولة الوحدة وإننا سوف نستمر منحسرين متقلصين عن مواكبة والقدرة على حركة التاريخ الفاعلة إلا من خلال الوحدة”.( )
انشغل الدكتور نديم البيطار منذ بداية الستينات بقضيتين أساسيتين، القضية الأولى تهم المرحلة الانتقالية التي يمر بها العرب اليوم من المجتمع التقليدي إلى مجتمع جديد ينفي المجتمع التقليدي القديم. ويعتقد أن هذه المرحلة التاريخية انتقالية، وستزول عاجلاً أم آجلاً، وسيفرض المجتمع الجديد وجوده. وقد عبر عن ذلك في كتابه “الإيديولوجية الانقلابية”( )، أي حاول أن يحلل تجارب أيديولوجية في مراحل معينة هي ما أسماه مراحل التاريخ الانتقالية الجذرية التي كانت فيها المجتمعات الإنسانية تنتقل من نموذج أيديولوجي إلى آخر جديد. ورأى أن جميع هذه الإيديولوجيات أو النماذج الإيديولوجية في هذه المراحل الانتقالية تمثل في الواقع نموذجاً أيديولوجياً، ينطبق عليها كلها، أي أن هناك في جميع هذه الإيديولوجيات التي كانت ترافق هذه المراحل الانتقالية نموذجاً عاماً ينطبق عليها كلها ويمثلها كلها. كما عبر عن ذلك أيضاً في كتبه: “من النكسة إلى الثورة”( )، “من الحقيقة الإنسانية إلى الحقيقة الانقلابية”( ) وفي جزء كبير من كتاب “الفعالية الثورية في النكبة”( ).
من التجزئة … إلى الوحدة أما القضية الثانية، فهي قضية الوحدة العربية، حيث يعتبرها البيطار القضية المباشرة والمركزية، لذلك ركز عليها أبحاثه، ويعتبر كتابه “من التجزئة … إلى الوحدة”( ) أهمها. والفكرة الأساسية التي يتمحور حولها الكتاب هي: إن الظاهرة الوحدوية متكررة عبر التاريخ، هي ليست وليدة اليوم وإنما لها جذورها في الماضي. والظاهرة السياسية إذا تكررت فذلك يعني أيضاً أنها تخضع لقانون علمي عام يتحكم في آلياتها. ومن هنا يعكف الدكتور البيطار على دراسة التجارب الوحدوية في التاريخ مستخدماً في ذلك منهجاً تاريخياً مقارناً، ليصل إلى تحديد ثلاثة عوامل رئيسية تدفع بالتجربة الوحدوية إلى الوقوع، إضافة إلى خمسة عشر عاملاً ثانوياً. العوامل الرئيسية لحدوث عملية الوحدة حسب استنتاج الدكتور نديم البيطار هي: توفر “الإقليم القاعدة” و”وجود خطر خارجي” يهدد الأمة الممزقة، و”توفر سلطة مشخصنة” (زعامة جماهيرية كاريزماتية). أما العوامل الثانوية، فأهمها اللغة المشتركة، التكامل الاقتصادي، التواصل الجغرافي، المساعدة الخارجية.. ولكي تتم الوحدة، لا بد من توفر العوامل الرئيسية حتى نصل إلى ما يسميه “الوضعية الوحدوية الموضوعية”. وفي حالة عدم توفر هذه العوامل الثلاثة معاً، تستحيل الوحدة، بعكس العوامل الثانوية التي يمكن الاستغناء عن بعضها أو عنها كلها. ويرى الدكتور أن العرب قد مروا “بالوضعية الوحدوية الموضوعية” في الستينات حيث توفر لهم “الإقليم القاعدة” ممثلاً في مصر( )، والخطر الخارجي ممثلاً في العدوان الصهيوني الأمريكي، والسلطة المشخصنة ممثلة في زعامة جمال عبد الناصر. وكتب “نحو الارتباط بمصر الناصرية أو طريق الوحدة العربية”( )، مؤكداً، ومبرزاً، أن الذين يقفون ضد عبد الناصر يقفون ضد الوحدة العربية، لأنهم يقفون ضد قوانينها، وبالتالي ساهموا في إضاعة فرصة وحدوية ذهبية برفعهم شعارات وحدوية في الظاهر، وعملهم على ضرب العمل الوحدوي من الداخل، وزايدوا على الوحدويين الحقيقيين بالتهريج اللفظي والبياني، وكتب حول ذلك “جذور الإقليمية الجديدة”( ) و”حدود الإقليمية الجديدة”( ).
الاقتصاد والوحدة شهدت السنوات الأخيرة حديثاً كثيراً حول دور الاقتصاد في الإنجاز الوحدوي، حتى أن كثيرين رأوا أنه العامل الأساسي في أي عمل وحدوي، ويستشهدون بالسوق الأوروبية المشتركة. د. نديم البيطار قام بدراسة معمقة في هذا المجال، سماها “النظرية الاقتصادية والطريق إلى الوحدة العربية”( ). قام باستقراء التجارب التاريخية الوحدوية ودور الاقتصاد فيها، فاكتشف أن الاقتصاد يتذيل قائمة العوامل التي تؤدي إلى الوحدة، ويبرز أهمية العامل السياسي وتفوقه على العامل الاقتصادي في حدوث أية عملية وحدوية، رغم أنه لا ينفي أهمية الدور الاقتصادي في أي إنجاز وحدوي. حدود اليسار الثوري وفي كتابه “حدود اليسار الثوري”( ) يبرز مقومات اليسار الثوري ويميزه مقارناً بمقومات اليسار التبشيري، حيث يرى أن اليسار الثوري يتسم بالجدية والعملية في حين ينجرف اليسار التبشيري وراء التطرف الخطابي والمغالاة في رفع الشعارات لعجز حقيقي يعتريه. ويرد على بعضهم، الذين قالوا بأن الوحدة مصير حتمي في كتاب سماه: “حدود الهوية القومية: نقد عام”( )، راجع فيه فكرة الهوية القومية، واستنتج أن ليس هناك جوهراً قومياً واحداً ثابتا يفرض الوحدة ويوجه عفوياً إلى الوحدة ويجعل دولة الوحدة حتمية تاريخية. المثقفون والثورة ما هو دور المثقف في العملية الوحدوية؟ يجيب البيطار في كتابه “المثقفون والثورة”( ) فيقول أنه يجب على المثقفين الوحدويين، وذوي الاستعداد على التغيير أن يتجمعوا في قوة ثورية ضاربة للتجزئة أو للآلية القطرية كي لا تتحول إلى إقليمية نفسية فكرية، وهذا هو الخطر الأكبر حالياً. والإعداد إلى رجوع مصر إلى دورها كإقليم قاعدة، أو لرجوع وضعية وحدوية تعني فيما تعنيه وجود الإقليم القاعدة، فلا نقع في الأخطاء نفسها التي وقعنا فيها، عندما كانت هذه الوضعية الوحدوية موجودة خلال المرحلة الناصرية( ). هل نحتاج إلى نظرية؟ هذا سؤال أساسي، د. نديم البيطار قدم كتابه “دور النظرية الثورية”( ) ليجيب على هذا السؤال. 1 ـ النظرية الوحدوية أو (الثورية) تشغل نفسها بقضية من أهم القضايا التاريخية، وتعالج من زاوية معينة إحدى المشاكل الأساسية الكبرى في التاريخ، وهي مشكلة التحول الاجتماعي السياسي الأيديولوجي، وهو أمر ضروري للإنسان في إدراك حركة التاريخ، وموقعه من هذه الحركة، لأنه يتفاعل معها ويجب عليه بالتالي إدراكها( ). 2 ـ النظرية الوحدوية أو (الثورية) تمكن العمل الثوري من “الخروج” من الحاضر، والانتقال إلى المستقبل، نتيجة المنظور الثوري الذي تقدمه عن الحاضر، والقوى والاتجاهات الثورية التي يفرزها نحو مستقبل يمكن أن يكون جديداً. هذا النوع من الخروج ضروري لتحقيق سيادة العمل الثوري على الحاضر وهي سيادة لا يمكن لأي عمل ثوري أن يكون ناجحاً أو فعالاً دون قدر كبير منها( ). 3 ـ العمل الوحدوي أو (الثوري) يحتاج إلى مفاهيم تساعده على ضبط الواقع الذي يعمل على تحويله، وأحسن طريقة إلى خلق هذه المفاهيم هي الإفادة من تجارب التاريخ المماثلة التي تكشف عن مفاهيم من هذا النوع، النظرية الوحدوية العلمية الجامعة توفر له ذلك( ). 4 ـ النظرية الوحدوية أو (الثورية) ضرورية لأنها تجعل من الممكن الوقوف عن بعد، أو مسافة ما من الوضع أو العمل الوحدوي، مما يسمح بدراسته وتحليله بشكل موضوعي. العمل الوحدوي يحتاج دائماًُ إلى هذا النقد والتحليل الموضوعي( ). 5 ـ النظرية الوحدوية الثورية توفر القياس العام الذي يحتاجه العمل الوحدوي ـ كل عمل ثوري ـ في التمييز بين الأحداث والأعمال التي يمكن أن تخدمه، وتلك التي يمكن أن تضر به( ). 6 ـ النظرية الوحدوية ـ ككل نظرية ثورية صحيحة ـ تجد أساسها وإطارها في تحديد القوانين الأساسية العامة التي تسود ظاهرة أو قطاعاًُ خاصاً في وضعنا الاجتماعي التاريخي، وهي تقتصر أساساً على هذه القوانين العامة، وتترك التفاصيل والجوانب والمشاكل الثانوية التي ترتبط بالتطبيق أو تلك التي تبرز عند التطبيق إلى الذين يعتمدونها في الممارسة الوحدوية الثورية، فيفسرونها ويترجمونها في ضوء هذه الممارسة( ). 7 ـ العمل الوحدوي ـ أي عمل ثوري ـ يحتاج، كي يكون فعالاً، أن يتحرر نفسياً وفكرياً من الواقع التقليدي الذي يحيط به، والذي يفترض به تجاوزه في نظام جديد يجد قاعدته ووعائه المادي في دولة الوحدة. النظرية الوحدوية العلمية الجامعة لموضوعها توفر له ذلك، أو بالأحرى تشكل شرطاً أساسياً في توفير هذا التحرك( ). 8 ـ العمل الوحدوي الثوري ـ كل عمل ثوري ـ لا يحتاج إلى التحرر من الماضي والواقع الراهن فقط، بل إلى درجة من الحرية على صنع المستقبل الذي يبغيه. النظرية الوحدوية العلمية الجامعة ـ كما حددناها سابقاً ـ هي طريق العمل الوحدوي الثوري إلى هذه الحرية النسبية، “الحرية الحقيقية” التي يمكن ويجب أن تتوفر له، هذا العمل يكون حراً إن هو أدرك الضرورات والقوانين الموضوعية التي تسود عملية الانتقال من التجزئة إلى الوحدة، وبالقدر الذي يدرك ويستوعب ذلك( ). 9 ـ ما ذكرناه سابقاً في النقطة السابقة يعني أ، العمل الثوري في صورة احتمالات وإمكانيات فقط. النظرية الثورية تقول لنا ما يجب علينا اختياره بين هذه الإمكانيات والاحتمالات( ). 10 ـ النظرية الثورية تعني أيضاً، فيما تعنيه، معرفة يمكن بها للعمل الثوري الارتفاع فوق آنية الأحداث والوقائع اليومية إلى صعيد يستطيع أن يتطلع منه بمنظور يكشف عن ترابطها( ). 11 ـ النظرية الوحدوية العلمية الجامعة ـ كل نظرية ثورية ـ ليست ضرورية لتجاوز آنية الأحداث فقط، بل أيضاً لتجاوز التجزيئية التي تسود العمل الوحدوي الثوري في غيابها( ). 12 ـ النظرية الثورية صارت أكثر ضرورة وإلحاحاً في القرن العشرين بسبب سرعة التحولات التاريخية والحضارية المتزايدة( ). 13 ـ النظرية الوحدوية العلمية الجامعة (كل نظرية ثورية) ضرورية لأن ما يفكر به حول مرحلة ما يسهم إيجابياً أو سلبياً في تغييرها( ). 14 ـ دور النظرية الوحدوية ـ كل نظرية ثورية ـ يزيد أهمية في المراحل المماثلة للمرحلة الحالية التي نعيشها حيث أصبح العمل الوحدوي السياسي يراوح في مكانه ويدور على نفسه في حلقة مفرغة وذلك بسبب غياب وضعية وحدوية ـ أو ثورية ـ تفتح الطريق أمامه في ممارسة ذاته بفاعلية يستطيع بها تغيير الواقع في وجهة دولة الوحدة( ). 15 ـ توفر نظرية وحدوية علمية جامعة ـ أي نظرية ثورية ـ ضروري للعمل السياسي الثوري لأنها توحي بالثقة، فتشتد صلابة العمل وتترسخ قدرته على الاستمرارية والمقاومة. نظرية كهذه تكشف للعمل الثوري أن التاريخ يعمل إلى جانبه ومعه، فيطمئن إلى نجاح نضاله، وتزداد بالتالي الطاقة التي يضعها في خدمته. عندما نلتزم بشكل حاسم بعمل ما نجد ثقة كبيرة إن نحن افترضنا أن الأفكار التي توجه العمل هي من النوع الصحيح الذي يتطابق مع الواقع وحركته، والطريقة الأحسن المتوفرة في إعطاء هذه الخاصة للأفكار التي نعمل بها هي قناعاتـنا بأنها جزء من نظرية عامة تعبر عن اتجاهات موضوعية ومستقلة ( ). 16 ـ النظرية الوحدوية العلمية الجامعة تعني الانتقال من العفوية إلى الوعي المنظم، والوعي المنظم هو ما يحتاجه العمل الوحدوي الثوري ( ). 17 ـ النظرية الوحدوية العلمية الجديدة ضرورية لأنها تولد، ككل نظرية ثورية جديدة، هزة فكرية تحرر وتهيئ الفكر للخلق والإبداع، وذلك لأنها تعني أساساً رؤيا جديدة للواقع تنظر إليه وتشمله من زاوية معينة( ). 18 ـ عندما يقال من ناحية سوسيولوجية أن الأحداث تخضع لقدر ما، أو تتبع مجرى محتوم، فذلك يعني أنه عندما تتراكم أحداث جزئية محدودة، بشكل غير محدود، وتتابع قراراتها وأعمال الإنسانية غير مهمة في ذاتها، أو دون نتائج مهمة تترتب عليها، فإنها تؤدي كلها إلى نتائج كبيرة لم تكن مقصودة أو في حسبان أحد. توفر نظرية جامعة حول الأحداث والقرارات والأعمال التي تحيط ظاهرة معينة أو بالواقع ككل، تشكل إحدى الوسائل الأولى لتجاوز هذا القدر، وحتى التحكم فيه( ). 19 ـ النتائج التي تنتج عن أعمالنا تنال وجوداً مستقلاً خاصاً بها يسود ويتحكم فينا ليس فقط من الخارج، أي في سلوكنا الخارجي، بل من الداخل أيضاً. في أفكارنا ومشاعرنا ذاتها. لهذا يحتاج الفرد إلى درجة عليا من الوعي والإرادة كي يكتشف، عند انحرافه، هذه النتائج، وخصوصاً في أشكاله غير المباشرة، لأنها لا تنسجم مع مقاصده الأولى التي أدت إليها( ). 20 ـ النظرية الثورية ضرورية في الإبقاء على فكرة الثورة حية أثناء فترات الجزر التي تعانيها الثورة، وفي الإعداد لمراحل مد جديدة( ). 21 ـ العجز عن ممارسة خط استراتيجي فعال يدل على فعاليته في الواقع، يؤدي إلى شعور بالضعف لأنه يوحي للأفراد والجماعات بأن أعمالهم لا تستطيع تحقيق ما يتوقعونه منها( ).
نديم البيطار: نقد عام( ) يتميز فكر نديم البيطار عن غيره من الوحدويين بتخلصه من الإطلاقية ومن الوثوقية “التبشيرية”( )، ومن الحتمية الميتافيزيقية، ويتعرض في الكثير من كتبه إلى تنبيه الوحدويين بنسبية النظرية، فبقدر ما نحتاجها، بقدر ما يجب أن نتجاوزها عند اللزوم. وهي ميكانيكية ابستمولوجية متطورة في فكر البيطار جعلته يقول: 1 ـ النظريات الثورية يجب أن توفر فقط دليلاً عاماً للعمل الثوري، فتترك لهذا العمل مجالاً واسعاً من الحرية في تطبيقها وملاءمتها مع الظروف والأوضاع التي تحيط بها ويتفاعل معها( ). 2 ـ إن معرفتنا السياسية الاجتماعية هي دائماً معرفة منقوصة، محدودة، نسبية، وغير مطلقة( ). 3 ـ الواقع الاجتماعي السياسي التاريخي واقع ديناميكي يفرز باستمرار الجديد، وبالتالي لا يمكن لأية نظرية أن تضبط مقدماً جميع تحولاته وتطوراته( ). 4 ـ الممارسة الثورية نفسها تحول الواقع وتدخل عليه التغييرات والتحولات التي لم تكن في حسبان النظرية( ). 5 ـ التفاعل الديناميكي المستمر بين مختلف مستويات وجوانب الواقع الاجتماعي السياسي التاريخي يفرز باستمرار الجديد بشكل لا يمكن مقدماً أن نتوقع جميع ما ينتج عنه( ). وأبرز الدكتور البيطار في إحدى دراساته “التجربة الثورية بين المثال والواقع”( ) ضرورة الخروج من المعنى المطلق إلى المعنى النسبي، من المثال إلى الواقع، بما فيه من أخطاء وتنازلات تكتيكية ومرونة. ويتميز البيطار بموسوعيته، بتراثه الفكري، بعمق تحاليله، وغزارة معلوماته، وشدة اطلاعه، غير أنه تميز أيضاً بإقصائه للمفكرين الوحدويين الآخرين، واتهامه لهم بـ”التبشيرية” و”الفكر الوحدوي العربي كان، في الواقع، يعبر عن ذاته ـ فيما يتعلق بكيفية معالجته للطريق إلى الوحدة ـ وكأنه لم يسمع أبداً بهذه الكلمات. لهذا يمكن القول بكل موضوعية بأنه ليس هناك في العالم الحديث كله من فكر أكثر عقماً وتخلفاً من هذا الفكر، أو أكثر عجزاً عن مجاراة أو استيعاب العقل الحضاري الحديث”( ). ورغم علمية فكر البيطار، فإنه يقع في بعض الأطروحات الميتافيزيقية، فتأكيده على دور مصر كإقليم قاعدة، وبرغم الحجج التي قدمها، فإن حتميته هذه في دور مصر، هي نوع من المثالية التي كثيراً ما حاربها، ـ فالإقليم القاعدة ـ مفهوم ذهني قبل أن يكون جغرافياً، أي هو في فكر الوحدوي وليس على مساحة معينة من الأرض، فالعراق مثلاً قد يأخذ هذا الدور، أو المغرب العربي الذي أثبتت أحداث الخليج أنه الأكثر تحركاً، تفاعلاً مع الأحداث القومية الكبرى. ثم إن المواضيع والأحداث التي حللها وقارنها، واستنتج منها البيطار، مستخدماً منهجاُ تحليلياً مقارناً، هي مواضيع وأحداث “غربية” اعتمدت أساساً التجارب الشيوعية والتجارب الليبرالية، وربما يكون العذر أكاديمياً بحتاً، لتوفر المصادر والمراجع في هذه الناحية، وندرتها في النواحي الأخرى. إلا أن هذا لا يمنعنا من ملاحظة أن البيطار تجاهل الخصوصية العربية الإسلامية، ولم يبحث في التجارب الوحدوية العربية التي تمت في الماضي مثل توحيد الجزيرة العربية، توحيد الشام مع مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي، التجربة الوحدوية التي قام بها يوسف بن تاشفين في المغرب والأندلس.. ولم يقارنها ولم يستخرج منها قوانين.
خلاصة انتقل الفكر الوحدوي مع نديم البيطار من مرحلة تعتمد الشعارات في خطابها، إلى مرحلة الدراسة الأكاديمية العميقة، الممنهجة، الموثقة. يبقى أن الفكر الوحدوي العربي ـ بما فيه إبداعات الدكتور البيطار ـ قد ارتبط كثيراً بالفترة التاريخية التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وأصبح فكراً “يُـنظر” لفترة الستينات، في حين أن الظرف العربي والدولي اليوم تطور بنسق “انقلابي”( )، لم يواكبه الفكر الوحدوي، فالعالم انتقل من مرحلة الحرب الباردة إلى مرحلة انتقالية جديدة بدأت ملامحها تتضح شيئاً فشيئاً، نحو نظام عالمي جديد، تكون الولايات المتحدة الأمريكية مركزه، وبقية دول العالم مجرد محيطات تابعة، في هذه المرحلة، يكون من المفيد كثيراً للفكر الوحدوي أن يطور أطروحاته ويواكب أحداث العالم الكبرى، من قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، كيف يمكن التعايش في ظل النظام الجديد.. وإلا تحول الفكر الوحدوي إلى فكر سلفي..وإلى مجرد تراث يدرس الماضي أكثر من تطلعه نحو المستقبل.
تونس ـ يناير (جانفي) 1992.
حوارات ناصرية 11 – رياض الصيداوي الناصرية ووجوب الديموقراطية
نجحت السنغال في ما لم تنجح فيه أية دولة عربية إلى حد الآن. أي التناوب السلمي على أعلى هرم السلطة، بدون عنف، بدون انقلاب، وحتى بدون ثورة.. فقط من خلال صناديق الاقتراع. لماذا لا تحل الديموقراطية في الوطن العربي إذن مثل غيره من البلدان التي انتمت حديثا إلى هذه التجربة ونجحت فيها خصوصا في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية حيث يعد أغلب بلدان هذه الأخيرة أقل نموا وتقدما من المجتمعات العربية؟ الإجابة الأولى الشائعة، لكن دون أن تكون علمية، تعتمد مقولة حاكم قوي مستبد وشعب مغلوب على أمره. هذه المقولة صحيحة، لكنها تصف ولا تحلل، تحمل المسؤولية لطرف ولكنها لا تبحث في آلية الاستبداد، في أسبابها العميقة البنيوية الموضوعية المستقلة عن إرادة الأفراد. لا أحاول في هذا المقال أن أقدم إجابة لإشكالية حضارية يلزمها الكثير من البحث الجماعي المؤسساتي المختص. ولكني أحوصل بعض الأفكار التي يمكن أن تكون مجموعة فرضيات قابلة للتعميق، للبحث وللحفر المعرفي. أعالج الفرضيات/الأفكار التالية: ـ تخلف الثقافة السياسية، ـ تخلف الاقتصاد وتحديدا عجز الرأسمالية العربية، ـ انعدام الخطاب الديموقراطي لدى الحركات السياسية العربية الفاعلة في الحكم أو في المعارضة على حد السواء، ـ موقف الغرب من الديموقراطية في الوطن العربي. أزمة الثقافة السياسية في الوطن العربي أول فرضية تقلل من حدة الاتهام للأنظمة وتؤكد على تخلف، ما يسمى في علم الاجتماع السياسي، بالثقافة السياسية. ثاني فرضية تتناول مفهوم الدولة والمجتمع والاقتصاد. ثالث فرضية تهتم بالعلاقات الدولية ودور الغرب في منع الدول العربية من الدمقرطة حماية لمصالحه. أنبه إلى أن هذا المقال سوسيولوجي لذلك لن يعترف بالمقاربة الدستورانية القانونية. فهو سيتجاهلها ويعتبر أن أغلب الدساتير العربية، خاصة الجمهورية منها شديدة الديموقراطية وعادة ما تتشبه بالدستور الفرنسي أو السويسري، لكنه لا يكترث بمضمونها. يجب أن يعترف علماء القانون العام العرب بلاإجرائية مقارباتهم الدستورانية النصية وعليهم أن يتركوا المهمة لعلماء السياسة والاجتماع الذين لن يروا في هذه الدساتير سوى حجم التناقض المرعب بين الخطاب والممارسة في حياتنا السياسية. كيف يمكنني أن أبرئ الأنظمة السياسية العربية من كونها غير مسؤولة كلية عن الاستبداد لأنه مستقل عنها. أقدم الرأي التالي: يخترق الوطن العربي أنظمة شديدة التنوع والاختلاف الأيديولوجي والعقائدي، حيث نجد فيها الملكي والجمهوري والجماهيري، كذلك نرصد الاشتراكي، الوحدوي أو الرأسمالي، الإقليمي، أو الديني وشبه اللائيكي… يوجد اختلاف عميق. لكن في المقابل تتفق هذه الأنظمة جميعا على تجاهل الديموقراطية وانتهاج التسلط الدائم والمنظم. وهي تتميز، وهذا الأهم سوسيولوجيا، بأن القيادة السياسية العليا لا تتداول إلا من خلال القوة والعنف الثوري أو الانقلابي( ). هذا التنوع الشديد الذي يقابله اتفاق كامل على اختيار النهج التسلطي يجعل من غياب الديموقراطية قضية موضوعية بنيوية وليست مجرد حكم قيمي يمس الأشخاص حتى وأن كانوا حكاما. ليس الحكام هم السبب الحقيقي في منع الديموقراطية وإنما المجتمع وتحديدا ثقافته السياسية هما المسؤولان( ). عائق آخر واجه الديموقراطية في الوطن العربي، يسمى في العلوم السياسية “السلوك السياسي”. فبماذا يتصف السلوك السياسي العربي؟ إنه يتصف بالباطنية أو بالتقية. يلخصه من قال: “قلبي مع علي وسيفي مع معاوية”. بمعنى مصلحتي اليومية مالية وأمنية في الانسجام مع نظام الحكم، في التهليل له نهاراً، في تأييده علنا… لكن ليلا أمام التلفزيون، مع الزوجة والأولاد، أنقد النظام وأتجرأ عليه وأريح ضميري وأنسجم مع مبادئي وقناعاتي. هذا السلوك طغى على السلوك السياسي في الإسلام: استنبطه الشيعة تفاديا لاضطهادهم من قبل السنة، لكنه أصبح سلوك الجميع: سنة وشيعة وخوارج. وانتشر الخوف والتقية: إظهار عكس ما يضمره القلب. لإنجاز ديموقراطية، لا بد من التخلي عن إرث قرون طويلة من الزمن: إرث سيكولوجي، اجتماعي دخل هجيناً ثم تقنن وأصبح مؤسسا صامدا. فلا بد من خلخلته. مشكلة الديموقراطية لا تنحصر في تسلط الدولة فقط. إنها تبدأ مع الأسرة( )، في أسلوب معاملة الطفل وفي بناء شخصيته التي تتم من خلال العنف والقمع. في المدرسة يتواصل نفس الأسلوب، ليصبح ذلك الطفل ذات يوم شرطيا عقيدته العنف والقمع هما ركائز النظام. كما كان الحال في الأسرة وفي المدرسة يستمر في المجتمع. دائرة عبثية مغلقة: العنف فيها يولد العنف( ). في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط أرصد ما يلي: لم تنزل مظاهرة شعبية ولا حتى نخبوية واحدة تطالب بالديموقراطية. الشارع العربي تحركه فلسطين، الوحدة العربية في الستينات، العراق اليوم، مظاهرات الخبز التي استمات في الدفاع عن حقه في ضرورة مواصلة دعم الدولة للسلع التموين الأساسية: مصر 1977، تونس 1984، المغرب 1984، الجزائر 1988، الأردن 1997.. لكن هذا الشارع نفسه الذي أثبت عديد المرات جرأته وأقدامه وعدم خوفه من الردع الأمني وتحديه السافر لنظام بلاده لم يتظاهر من أجل الديموقراطية وضرورة تنفيذها فورا. لا يوجد إذن وعي سياسي يدرك أن الديموقراطية كانت ومازالت وستظل مطلباً جذرياً مشروعاً. النخبة السياسية العربية ومفكروها لم تهتم بمسألة الديموقراطية بقدر ما اهتمت بضرورة الثورة. لا ديموقراطية الخطاب السياسي العربي تحليل الخطاب السياسي العربي يحيلنا إلى مستوى الأفكار ويبعدنا عن الممارسة. لو رصدنا هذا الخطاب في القرن التاسع عشر لوجدناه يطمح بشدة إلى تحول مجتمعاته نحو الديموقراطية. كان رفاعة رافع الطهطاوي، عبد الرحمن الكواكبي، خير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف وآخرون غيرهم ممن عاصروهم في عصر النهضة يبحثون عن الحل للنهوض بالشرق المستبد، وبمجرد ما التقوا بالغرب، أو أوروبا أو فرنسا تحديداً تفطنوا إلى سر التقدم في عالم الآخر. وتأكدوا من حجم التخلف المفزع الذي تعيشه البلاد العربية. لكن المشكل أن هذا الآخر المتقدم الديموقراطي استعمر أراضيهم وتحكم في شعوبهم مما أحدث أزمة ثقة فيه وما عاد يمثل نموذجا يمكن تقليده. لقد انتقل الخطاب السياسي العربي من مفهوم الإصلاح / النهضة إلى الثورة والانقلاب في القرن العشرين. كانت النخبة معادية بشكل عام للغرب الاستعماري الذي أصبح إمبريالياً. وكانت متلهفة إلى تحديث شامل لمجتمعاتها في زمن قياسي، فاختارت أسلوب الثورة أو الانقلاب على حد تعبير الأدبيات البعثية من أجل إحداث تحولا جذريا في مجتمعاتها. مميزات هذا الخطاب أنه معاد بشكل عام للغرب ومن ثمة فهو يحتقر آلياته ومؤسساته ومناهج حكمه. يمكن تصنيف هذا الخطاب إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: الخطاب القومي العربي بتفرعاته الناصرية، البعثية بشقيها السوري والعراقي. الخطاب الماركسي العربي بمدارسه المختلفة (ماوي، تروتسكي، نهج سوفيتي، وحتى ألباني!..). الخطابي الديني السياسي (من إخوان مسلمون، حزب تحرير إسلامي، الجماعات الإسلامية.. إلى الإسلام الجديد بالمغرب العربي). تلتقي هذه الخطابات في نقطتين حاسمتين. أولا: معاداتها للغرب، فهي لا يمكنها استعارة آلياته، لأنه عدو وليس نموذجا للتقليد. وتستنفر لأجل ذلك الروح الوطنية السائدة المتبنية أصلا لهذا الخطاب. ثانياً: النفي والإقصاء المتبادل فيما بينها على المستوى الثلاثي أي اتجاهات ! عامة، وفي داخل كل أسرة فكرية. الموقف القومي العربي القوميون العرب يرون في الماركسيين، سياسياً: عملاء لموسكو الشيوعية، فكرياً: موردي أفكار أجنبية لا تنسجم مع حقيقة مجتمعاتهم ثم هم في نهاية المطاف إقليميين متحمسين لمثالية أممية وهمية على حساب قضايا أمتهم. في الممارسة عانى الشيوعيون من الاضطهاد البعثي والناصري على حد سواء. نفس الأحكام والعداوة مارستها القومية العربية ضد الإسلام السياسي. فهو رجعي، عميل لأكثر الدول العربية تخلفا وتقليدية ويخدم مصالح الغرب الإمبريالي بوعي منه أو بدون وعي. كما يعرقل عمليات التحديث الحاصلة ومتعلقا بأوهام الماضي البعيدة. واضطهد هذا التيار سياسيا: اعتقالات، ومحاكمات وإعدامات فردية أو جماعية. لم يفكر الخطاب القومي في تشريك خصومه في مشروعه الإستراتيجي الضخم وكأن الوحدة العربية لا تعني أحدا غيره. الموقف الماركسي مارست الماركسية العربية أصولية وتطرفا خاصا بها. فسرت فكريا المجتمعات العربية وتطورها بلغة لا تتحدث ألا عن “التحليل العلمي”، بينما كانت في الواقع تعديا منهجيا سافرا على المجتمعات العربية. تحدثت طويلا عن طبقة بروليتارية عربية ثورية كطليعة في التغيير الثوري الذي لم يتم، لأن هذه الطبقة وهم لم يوجد إلا في مخيلة الأنتلجنسيا الماركسية ذات الأصول البرجوازية! حقيقة، لا توجد طبقة عمالية في الوطن العربي، بل هناك عمال. فمفهوم الطبقة يستدعي الوعي بالانتماء. أما مفهوم العامل، فهو تقسيم مهني اجتماعي. لأذكر أن العمال العرب فتنهم الخطاب القومي العربي أو الديني الإسلامي أكثر من أي خطاب طبقي، أو هم في بعض الأحيان يعملون لصالح أجهزة أمن بلدانهم ضد حركات الأنتلنجنسيا الثائرة: مثال الحركات الطلابية، أو هم ثائرون ضد الترفيع في أسعار السلع التموينية الأساسية، وهم في نهاية المطاف تقليديون وشديدو الارتباط بالأفكار التقليدية ومتدينون مخلصون. فكريا: يعد الخطاب الماركسي غزير الإنتاج. لكنه منبت، مغترب، يعيش على أوهام حركات اجتماعية لم توجد عمليا. ويعامل الآخرين بنوع من التعالي، اعتقادا في علميته، ويواجههم بمجموعة من الأحكام القيمية الجاهزة. فالقومية العربية فكر عنصري، شوفيني، برجوازي، قد يشبه بالنازية والفاشية. أما الحركات الإسلامية فهي رجعية، ضلامية، قروسطية مشتركة في مؤامرة إمبريالية أمريكية.. في نهاية المطاف، تهدف الماركسية من خلال دولة دكتاتورية البروليتاريا نظريا، أو دكتاتورية الأنتلجنسيا إجرائيا، إلى التخلص من الطبقات من خلال العنف الثوري. ويعني ذلك التخلص من كل معارضة قومية أو إسلامية. لا يوجد تفكير في ضرورة تشريك الآخر، في ضرورة التداول على السلطة.. في الديموقراطية والتعددية السياسية.
الموقف الأصولي الديني صحيح، أن الحركات الإسلامية في الوطن العربي تعرضت لأكثر أنواع الاضطهاد السياسي كما ونوعا. لكنها في المقابل تتميز بأكثر الخطابات نفيا للآخر، وأكثرها عنفا في رفضه، واستعدادا في القضاء عليه بتهم لاتاريخية من نوع الردة والكفر. فالحاكمية لله و ليس للبشر. ومن ثمة يصبح الإقصاء نسقيا. هذا الخطاب، في شقه الأكثر أرثوذكسية، يتميز بلاتاريخيته، بقطيعة كاملة مع المرحلة العقلانية المعتزلية، الرشدية.. هو امتداد لتحالف نظام الملك السلجوقي مع مدرسة الغزالي الفقهية، امتداد لابن تيمية: ارتبط بعصر الانحطاط، المتميز بالانكماش، والخوف من فكر الآخر. الخوف من العقل لأنه يهدد النقل. اليوم، يمارس إقصائية مرعبة فكريا وحتى عمليا حينما تتاح له فرصة السيطرة على فضاءات محدودة كالجامعات والمبيتات الطلابية مثلا. أخطر ما في هذا الإقصاء هو الاختزال والتكفير واستغلال لأرض خصبة مواتية شعبيا لأسباب متعددة، من أجل مواجهة الآخر. فالقومي: شيوعي متخف، والشيوعي كافر ملحد. لا ينظر إلى المضامين الاجتماعية والوطنية الإيجابية في هذه الأفكار. هناك اختزال وتسطيح نسقي يؤديا إلى رفض الآخر واتهامه بأبشع التهم. والديموقراطية وسي! لة وليست غاية. نجد ذلك في خطاباتهم وممارستهم. غياب الليبراليين لماذا لم تبرز بشكل كثيف حركات ليبرالية ديموقراطية في الوطن العربي؟ هناك رأسمالية هجينة، بشعة، قمعية، لا ترى في الليبرالية إلا وجهها الاقتصادي، فتستلمه وتشوهه. لا توجد رأسمالية عربية تنافسية تحترم السوق وقوانينه. هناك مافيا، وفساد في علاقة القطاع العام بالقطاع الخاص. فالثاني يرشي الأول ويفسده من أجل الخروج من قوانين السوق نحو الزبونية، الاحتكار، التحكم في السوق بمنطق غير رأسمالي. عمليا هذه الرأسمالية تمارس السلطة اليوم. ولا تعتمد إلا على أجهزة الردع أو القمع المتطورة. تعادي الديموقراطية وكل من يهدد مصالحها الاحتكارية وليست الرأسمالية. من سيحمل قضية الديموقراطية في الوطن العربي إذن؟ كيف ستدمقرط مجتمعاتنا دون وجود هذه القوة، هذا الخطاب المؤمن شديد الإيمان بأن الآخر اختلف معه في كل برامجي ولكني اتفق معه في حقه أن يكون له مكانا تحت الشمس، في الوجود، في التعبير، في نسبيتنا جميعا. أو ليست النسبية أهم قوانين الاكتشاف العلمي الحديث؟.. بكل تأكيد الحقيقة المطلقة وهم. والاختلاف لا يعرقل ولكنه يثري بشرط أن يتم من خلال قنوات سلمية، من خلال عقد اجتماعي. من خلال إيمان عنيد، راسخ وقوي، بأن السلطة يجب أن تتداول، لا تورث، لا تنتزع بالقوة ولا حتى بالثورة، وإنما فقط من خلال صناديق الانتخاب. كل القوى السياسية العربية تحمل في ذواتها مشروعا توتاليتاريا، كليانيا، تصورا أحاديا لا يعترف بالغير. بعض التفاؤل هناك مؤشرات تفاؤل جديدة على مستوى الخطاب السياسي العربي في وعيه وإدراكه للمسألة الديموقراطية. يكتب المفكر السوري برهان غليون كتاب “بيان من أجل الديموقراطية” يدعو إلى ضرورة التعايش السلمي بين المتناقضات. يبدأ هذا المفكر في طرح قضية الديموقراطية جديا. يتميز الدكتور محمد عابد الجابري بنهج نقدي عقلاني توصل إلى ضرورة اعتبار الديموقراطية مطلبا ملحا. والى ضرورة أن يتدمقرط الخطاب السياسي في كل تجلياته. يمارس المفكر المغربي عبد الله العروي نقدا داخليا للفكر العربي ويدعو إلى الديموقراطية وضرورة تطوير الخطاب السياسي الماركسي الذي ينتمي إليه. تمارس الأيديولوجية الناصرية، اليوم نقدا ذاتيا وتعترف بأهمية الديموقراطية وأخطاء عبد الناصر في هذا المجال. يدعو اليسار الإسلامي، حسن حنفي مثالا، إلى ضرورة قراءة التراث قراءة عقلانية تقدمية ستوصلنا حتما إلى تبني الديموقراطية.. ترصد يقظة فكرية عربية في هذا الاتجاه، لكنها لم تتحول بعد إلى عقيدة، إلى إيمان مخلص يتبعه نضال دائم وصبور من أجل الديموقراطية، التعايش السلمي، التداول على السلطة، تغير هرم السلطة الدائم.. اعتماد الشرعية العقلانية على حد تعبير ما! كس فيبر. استهلكت الشرعية التقليدية نفسها ولم تعد قادرة على الإقناع، تعيش اليوم بحقن الإنعاش الاصطناعي. انتهى زمن الشرعية الكاريزمية، التلفزيون يجعل من الكاريزما كاريكاتورا مضحكا. ارتبطت الكاريزما بزمن الراديو واستنفدت اليوم نفسها.. المقاربة الاقتصادية الدولة الريعية، نسبة إلى النفط، كما الدولة الأبوية التي اعتبرت نفسها مسؤولة على “الشعب القاصر”، على تطوره، تغذيته، تعليمه.. اعتقدت في وهم تفوقها على المجتمع. منفصلة عنه: كأنها جاءت من كون آخر، تعتقد أنها تقدم هبات إلى الشعب، أنها تساعده، تمنحه. نسيت أن دورها ينحصر في التنظيم وأنها في النهاية ممولة من هذا الشعب. المواطن ينفق على الدولة وليس العكس. هو سيدها وهي خادمته. النفط العربي أعاق الديموقراطية، لأنه ريعي، تملكه الأسرة الحاكمة بمعنى ملكي أو حتى “جمهوري”، تتحكم في توزيعه وتمارس الكرم على المخلصين من الرعية. فتخلق علاقات زبونية تعتمد على الولاء وليس على العقد. الولاء مطلقا يخضع إلى ثنائية الطاعة أو الردع، أما العقد فهو اختياري متجدد مبني على الرضا التام وقابل للإلغاء والتجديد. الدولة العربية مستقلة عن المجتمع، نادرا ما كانت مصادر تمويلها الضرائب. فقد استولت على الثروات الباطنية لتبيعها خاما حتى تمول نفسها. وقامت، بنفسها، بإنشاء مشاريعها الصناعية وحتى الفلاحية والخدماتية لتحافظ على استقلاليتها وتفوقها على المجتمع وسيطرتها عليه. لماذا تحافظ الدولة العربية “الرأسمالية” على الق! طاع العام وتتشبث به: لمراقبة المجتمع والسيطرة عليه لأنها لا تثق في دافعي الضرائب. المواطن، دافع الضرائب، يمكنه مراقبة دولته ومحاسبتها ومساءلتها عن مصير ما يدفعه من ضرائب. الدور الغربي تعيق “الدول الديموقراطية” الديموقراطية حينما يتعلق الأمر بتحقيقها في الوطن العربي. تنسجم في ذلك مع مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية. اقتصاديا، تجد نفسها أكثر قوة وأقدر مناورة على إبرام اتفاقيات لصالحها. لأن المفاوض المقابل يعيش الخوف من إمكانية إزاحته شعبيا أو انقلابيا، فيطلب مساعدة “الدول الكبرى” حتى يستمر. تساعده لأنه يدفع ثمنا اقتصاديا باهظا مقابل الحماية السياسية، العسكرية والأمنية التي توفرها له. مفاوض يمثل دولة ديموقراطية، تنتخب حكومتها انتخابا حرا مباشرا يصبح أكثر قوة في حماية مصالح بلاده. تستغل الديموقراطيات الغربية هذه الثغرة أحسن استغلال لفائدتها. ولأن علاقتها التاريخية مع بلدان الوطن العربي هي علاقة صراع ومقاومة، فأنها تدرك أن ديموقراطية نزيهة في هذا الوطن ستصعد حكومات مقاومة لاستغلالها، متصدية لنفوذها.. وقد تحقق الأمة العربية حلمها في الوحدة الشاملة من خلال استفتاء نزيه: هل تقبل بوحدة عربية شاملة من المحيط إلى الخليج؟ كم مواطن عربي سيجيب بنعم في حالة توفر نزاهة وصدقية كاملة لمثل هذا النوع من الاستفتاء؟ هنا يكمن خطر الديموقراطية العربية على المصالح الغربية. لهذا تحبذ استمرار حالة البؤس السياسي، السلوك الباطني، الخلل الفاضح بين الخطاب والممارسة. لكن تبقى في الغرب قوى هامة يمكنها أن تساعد على تحقيق الديموقراطية في الوطن العربي. توجد قوى حية مخلصة في منظمات حقوق الإنسان، في الجامعات ولدى الأنتلجنسيا الغربية تقبل وتساعد على دمقرطة المجتمعات العربية وتقبل بجار قوي موحد ديموقراطي يؤدي دوره الحضاري إيجابيا. أختم، لأقول بضرورة إعادة ترتيب الأولويات. الديموقراطية أولا: وحتى لا تصبح مفهوما غامضا أفصلها أكثر: تعددية حزبية، اعتراف كل واحد بالآخر وتعايش سلمي معه. التداول على السلطة، لا يمكن لأي حاكم عربي أن يتجاوز عددا معينا من السنوات حتى ولو كان معبود الجماهير. الخطاب السياسي العربي مطالب بتجديد نفسه، بالتخلص من أخطائه، بالاستفادة من التاريخ… بالإيمان المخلص بالديموقراطية كقضية حياة أو موت.
– انتهى –
مع شكرنا الجزيل للأخ رياض الصيداوي على سماحه لنا بنشر هذا الكتاب.
|