
سعيد الشحات يكتب:
الأربعاء، 02 يناير 2019 10:00 ص
أبو عبدالله
سرح «أبوعبدالله» سلطان غرناطة ببصره لآخر مرة إلى موطنه الذى يغادره، فانهمر دمعه، وأجهش بالبكاء، حسبما يذكر محمد عبد الله عنان فى موسوعته «دولة الإسلام فى الأندلس – العصر الرابع – نهاية الأندلس»، مضيفا: «صاحت به أمه عائشة: أجل فلتبك كالنساء، ملكا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال».
كان ذلك يوم 2 يناير- مثل هذا اليوم 1492- وهو يوم سقوط دولة الأندلس التى أنشاها المسلمون عام 711 على أراضى إسبانيا والبرتغال، ووفقا لعنان، فإنه فى صباح هذا اليوم «قام أبو عبدالله باتخاذ أهبته للرحيل مع أهله وحشمه وخاصته، وفى الوقت الذى اقترب فيه «النصارى» من أسوار غرناطة، غادر قصره».. يذكر «عنان» أقوى الروايات التى قيلت حول دراما هذا اليوم بدءا من فجره: «كان رنين البكاء يتردد فى غرف قصر الحمراء وأبهائه، وكانت الحاشية منهمكة فى حزم أمتعة الملك المخلوع وآله، وساد الوجوم كل محيا، واحتبست الزفرات فى الصدور، وما كادت تباشير الصبح تبدو، حتى غادر القصر ركب قاتم مؤثر هو ركب الملك المنفى، يحمل أمواله وأمتعته، ومن ورائه أهله وصحبه القلائل، وحوله كوكبة من الفرسان المخلصين، وكانت أمه الأميرة عائشة تمتطى صهوة جوادها، يشع الحزن من محياها الوقور، وكان باقى السيدات من آله وحشمه يرسلن الزفرات العميقة والدموع السخية، واخترق الركب غرناطة فى صمت البكور وستره، وحين بلغ الباب الذى سيغادر منه المدينة إلى الأبد، ضج الحراس بالبكاء لرؤية ذلك المنظر المؤلم، ثم اتجه الركوب صوب نهر شنيل فى طريق البشرات».
تم التسليم وفقا لمعاهدة وقعها «أبوعبدالله» مع «فرناندو» ملك قشتالة يوم 25 نوفمبر 1491، وحسب الدكتور السيد محمود عبد العزيزسالم فى دراسته «السلطان أبى عبد الله- كتاب الشعب- القاهرة1959 »، فإن المعاهدة جاءت بعد اشتداد حصار جيش فرناندو، فتفاوض أبوعبدالله وكبار رجاله وقواده على التسليم بـ67 شرطا، منها تأمين الصغير والكبير فى النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس فى أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، وإقامة شريعتهم على ما كانت عليه، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت، وألا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدا، وألا يولى على المسلمين نصرانى أو يهودى ممن يتولى عليهم من قبل سلطانهم، وأن يطلق سراح جميع أسرى المسلمين فى غرناطة، وألا يؤخذ أحد بذنب غيره، وألا يقهر مسلم على التنصر، وإن تنصر من المسلمين يوقف أياما حتى يقرر بنفسه، ويعلن ذلك أمام حكم من المسلمين وآخر من النصارى، ولا يعاقب من قتل نصرانيا أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداء، وألا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى، وألا تفرض على المسلمين ضرائب جديدة، وأن ترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، وأن يسير المسلم فى بلاد النصارى آمنا فى نفسه وماله، ولا تجعل للمسلمين علامة كما هو الحال مع اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصل ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك من النصارى استهزاء يعاقب».
يضيف «عنان» أن المعاهدة اشترطت أن يقدم أبوعبدالله خمسمائة شخصا صحبة وزيره «ابن كماشة» من أبناء وإخوة وزعماء غرناطة قبل التسليم بيوم، كرهائن لدى فرناندو عشرة أيام، يعودون بعدها أحرارا، ويغادر أبوعبدالله غرناطة إلى البشيرات، وفى نفس اليوم الذى وقعت فيه المعاهدة «25 نوفمبر»، وفى نفس المكان بمرج غرناطة: «أبرم ملحق سرى للمعاهدة الأولى، يتضمن الحقوق والامتيازات والمنح التى تعطى لأبى عبدالله ولأفراد أسرته وحاشيته، وذلك متى نفذ تعهداته، وأبرزها، أن يأخذ أبوعبدالله ثلاثين ألف جنيه قشتالى ذهب، ويحتفظ بالأراضى والحدائق التى يملكها سواء فى الغرناطة أو البشيرات».
يذكر عنان، أنه حين اجتمع الزعماء فى بهو قصر الحمراء الكبير للتوقيع على المعاهدة، لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل، لكن شخصا منهم وهو فارس غرناطة «موسى بن أبى الغسان» كانت له كلمة أخرى تذكرها الرواية القشتالية وهى: «بقى موسى وحده صامتا عابثا وقال: اتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع، ولكن لتقطر الدماء، فلنمت دفاعا عن حرياتنا وانتقاما لمصائب غرناطة، وصمت موسى وساد المجلس سكون الموت، وسرح أبوعبدالله البصر حوله وصاح: «الله أكبر، لاإله إلاالله، محمدا رسول الله، ولا رد لقضاء الله، تالله لقد كتب على أن أكون شقيا، وأن يذهب الملك على يدى»، وصاحت الجماعة على أثره: «الله أكبر ولا رد لقضاء الله»، وكرروا جميعا أنها إرادة الله ولتكن، ولا مفر من قضاء الله ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه، ولما رأى موسى أن اعتراضه لا يجدى، غادر المجلس عابسا حزينا، ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه وركب جواده، وغادر غرناطة ولم يره إنسان أو يسمع به بعد ذلك قط».
يضيف «عنان» أنه لما تسربت الأنباء عن المعاهدة السرية، تعالت نداءات الدفاع عن المدينة حتى آخر نسمة، فعجل أبوعبد الله بالتسليم، وألا ينتظر مرور الستين يوما التى نصت عليها المعاهدة، فتم الاتفاق أن يكون التسليم يوم 2 يناير.