الرئيسية / تقارير وملفات / «السيرة الحائرة».. أسرة «أبو الفتح» بين التخوين والتكريم

«السيرة الحائرة».. أسرة «أبو الفتح» بين التخوين والتكريم

«السيرة الحائرة».. أسرة «أبو الفتح» بين التخوين والتكريم (الحلقة 1)

«أبو الفتح».. أول أسرة مصرية تُصادر أملاكها بعد ثورة 23 يوليو 1952
الجمعة 03-04-2020 22:22 | كتب: عبدالله سالم |
محمود أبو الفتح - صورة أرشيفية محمود أبو الفتح – صورة أرشيفية تصوير : المصري اليوم

اشترك لتصلك أهم الأخبار

في أجواء شديدة التوتر، وقف عبداللطيف البغدادي في الوسط رئيسًا لمحكمة الثورة، وعن يمينه محمد أنور السادات، وعن يساره حسن إبراهيم، وأمامهم الدكتور وحيد رأفت، محامي أسرة أبوالفتح، يقدم مرافعته، حتى صدر الحكم أخيرًا بإدانة محمود أبوالفتح، مؤسس جريدة «المصري»، وأخيه حسين بـ«الاتصال بجهات أجنبية في محاولة لتقويض نظام الحكم».

لم يكن محمود أبوالفتح مؤسس جريدة «المصري» وحسب، فإليه ينسب الدور الأكبر في تأسيس نقابة الصحفيين عام 1941، وتكريمًا لهذا الدور جرى انتخابه كأول نقيب للمهنة. وفي صباح 4 مايو 1954 اجتمعت المحكمة وأصدرت حكمها بمعاقبته غيابيًا بالسجن 10 سنوات، وتغريمه 356 ألف جنيه، ومعاقبة شقيقه حسين بالسجن 15 سنة مع إيقاف التنفيذ.

لمع نجم محمود أبوالفتح صحفيًا وسياسيًا إبّان ثورة 1919، إذ سافر على نفقته الخاصة مع الوفد المصري بزعامة سعد زغلول لحضور مؤتمر الصلح العالمي في باريس، وألّف كتابي «مع الوفد المصري» و«القضية المصرية والوفد المصري»، وانتخب في البرلمان عام 1939، وظل انتخابه يتجدد في مجلس الشيوخ حتى حلّ الملك فاروق البرلمان عام 1952.

تمتع محمود أبوالفتح بعلاقات جيدة مع ملوك وزعماء عربيين، ويقول الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمي، ابن شقيقته، إنه «كان يتكفّل بجميع نفقات الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة كلما جاء إلى مصر، إذ كان يعوّل عليه لإنهاء الاستعمار الفرنسي لبلاده»، وهو ما جعل بورقيبة يأمر بنقل جثمانه على متن طائرة خاصة من سويسرا إلى تونس حيث مرقده الأخير عام 1958.

في بورسعيد، وبمناسبة عيد النصر 23 ديسمبر 1961، ألقى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر خطابًا للمصريين، تطرق فيه إلى نشاط «أبوالفتح»، قائلًا: «مؤامرات ضدنا في الإذاعة، بعض الخونة المصريين اللي مشيوا بره واللي كانوا بيشتغلوا وبيستغلوا أيام الوفد بيطلعوا يتآمروا وبيروحوا يقدموا خدماتهم لفرنسا ولإسرائيل، كام واحد: أحمد أبوالفتح، حسين أبوالفتح..».

https://youtu.be/0Q4bfGCG8dE

حديث «عبدالناصر» عن أسرة «أبوالفتح» جاء بعد 3 سنوات من وفاة محمود أبوالفتح في برلين، 15 أغسطس 1958. لم يذكر «ناصر» اسم صاحب «المصري» في خطابه «احترامًا لوفاته»، كما يقول الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، لكنه رفض دفن جثمانه في مصر، بعد سنوات من قرار مجلس القيادة بتجريده من الجنسية.

هكذا، دانت ثورة 1952 أسرة «أبوالفتح» بـ«الخيانة»، بينما رأت الأسرة، وعلى رأسها محمود وشقيقه أحمد، أن «الثورة حادت عن جادة الصواب، ولم تف بالتزامها في تحقيق الديمقراطية»، فراحت تشن حملات ممنهجة بالتعاون مع جهات أجنبية لتطويق نظام الحكم وإسقاطه بدعوى «إنهاء ديكتاتورية الضباط وإعادتهم إلى ثكناتهم وتحقيق الحرية للمصريين».

بعد صدور أحكام الثورة بحق «أبوالفتح»، قرر مجلس القيادة مصادرة جميع ممتلكات الأسرة؛ فأغلق مقر «المصري» في شارع قصر العيني، وصادر مطابعها في بولاق، ومنزل محمود في الزمالك. ويقول أحمد أبوالفتح، أصغر أفراد الأسرة، وصديق عبدالناصر القديم، ورئيس تحرير «المصري»، إنهم «أول أسرة مصرية صميمة تصادر حركة الجيش أملاكها».

الصدام بين الأسرة والثورة بلغ ذروته خلال أزمة مارس 1954، عندما انقسم مجلس القيادة بين جبهتي محمد نجيب وعبدالناصر؛ فالأول كان ينادي بإجراء انتخابات وتسليم السلطة إلى مدنيين، بينما كان للثاني رأي آخر. حينها وقفت الأسرة بجانب «نجيب» متسلحة بقوة جريدة «المصري» الضاربة وانتشارها الكاسح، وكانت من أشد المطالبين بـ«الانتخابات والديمقراطية».

كانت أزمة مارس 1954 نقطة فاصلة في تاريخ السياسة المصرية، إذ شهدت العديد من «الإجراءات اللازمة لحسم موقف الثورة من القوى الحزبية والسياسية القديمة»، وعلى رأسها حزب الوفد صاحب الأغلبية، فهيأت قرارات الديمقراطية في 5 و25 مارس الفرصة لقوى المعارضة لإظهار عدائها للثورة، وهيأت للضباط نافذة تطل على «سفور المعارضة».

فماذا فعل محمود أبوالفتح وأخواه لينالوا كل هذا الغضب؟ هل لأنه عارض جمال عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة؟ هل كان نصيرًا للديمقراطية ونبراسًا للحرية مهما كلفه ذلك من تضحيات؟ أم كان يخشى، وهو أحد أبرز رجال الأعمال الرواد في تلك الفترة، من أولئك الضباط على أعماله وشركاته داخل مصر؟ وهل اقتصر الأمر على دوره في إذاعة «مصر الحرة»؟

«حاول تجنيدي ضد الثورة»

خالد محيي الدين، عضو مجلس الثورة، كان من أشد الداعمين لـ«نجيب»، وعندما رأى أن «الثورة تبتعد عن أحد مبادئها» بعد أزمة مارس 1954 قرر النأي بنفسه، واتفق مع المجلس على السفر إلى جنيف، وهناك تقابل مع محمود أبوالفتح، الذي كثر تردده على سويسرا بعد صدور أحكام الثورة، لكن لقاءاتهما لم تدم طويلًا؛ إذ قرر الضابط المُبعد إنهاء تلك العلاقة.

في مذكراته المعنونة «والآن أتكلم»، يقول خالد محيي الدين: «حاول محمود أبوالفتح نصب شرك لي کي أتعاون معه (..) حدثني بحماس عن ضرورة فعل شيء لإنقاذ مصر من براثن حكم جمال عبدالناصر، وتحدث عن دوري، وحاول إثارتي، وكيف أنني مبعد، وكيف أن عليّ واجب إزاء الوطن، وأخيرًا وصل إلى غايته.. ستكون هناك محطة إذاعة موجهة إلى مصر».

«حاول تجنيدي ضد الثورة».. خالد محيي الدين يروي شهادته في «أبوالفتح»

في تلك الأثناء كان محمود أبوالفتح يجهّز من لبنان لإنشاء إذاعة مصر الحرة بالتعاون مع صحفيين شوام، أبرزهم زهير عسيران، مراسل «المصري» في بيروت الذي سيصبح نقيبًا للصحفيين اللبنانيين. وفي أثناء عدوان 1956، أذاعت «مصر الحرة» ما يفيد بـ«مصرع عبدالناصر في قصف بريطاني»، بينما اعتاد «ناصر» التشهير بـ«دور تلك الإذاعة في خدمة الاستعمار».

خالد محيى الدين – صورة أرشيفية

طلب محمود أبوالفتح من خالد محيي الدين التحدث في تلك الإذاعة بشكل مستمر، وأن يكون شريكًا فيها، ويقول الضابط المُبعد في مذكراته: «أخطأ محمود أبوالفتح الخطأ القاتل عندما حاول إغرائي بالمال، فقال: نحن نعلم أنك تتقاضی معاشًا وبدل سفر، وطبعًا سوف يقطعون ذلك كله، ولهذا نحن على استعداد أن نسلمك مقدمًا ما يساوي ما ستتقاضاه لمدة 10 سنوات».

«لا تلوم من تدهور به الحال، وحاول قدر الإمكان الحصول على حقه في الحياة وفي الوجود وفي الحرية»، هكذا يحاول عبدالرحمن فهمي، ابن شقيقة محمود أبوالفتح، تفسير طريقة تفكير خاله، ويضيف: «حينما يختلف اثنان ويكون بينهما ثالث فكلاهما يحاول استمالة هذا الطرف الثالث إلى صفه، هذا طبيعي، والثلاثة كانوا في حقل واحد ومهمة واحدة، وبينهم اتصال قوي».

يضيف «فهمي» تعليقًا على شهادة خالد محيي الدين: «طبيعي جدًا أن أستميل من هو ضد عبدالناصر، وأن أقوي جبهتي ضده، لكن هل كان ذلك في صالح البلد؟ وهل كان بقاء ناصر في صالح البلد؟ ناصر ارتكب أخطاء كبيرة جدًا سياسيًا واقتصاديًا. وخالد لم يكن يريد أن يأخذ موقفًا ضد أي أحد. هذه أعتبرها شهامة منه، وردًا لجميل عبدالناصر عليه، تلك هي أخلاقيات الكبار».

يعطي «فهمي» جملة أسباب لنظرة «الشهامة» تلك، فيقول: «خالد قال لعبدالناصر وقت الأزمة إنه يريد السفر، فوافق. رفضْ خالد لعرض محمود أبوالفتح هو رد جميل؛ إذ كان بإمكان عبدالناصر أن يرفض طلب خالد ويعتقله. لكن هذه هي أخلاقنا. عبدالناصر صعب عليه أوي أن يتعرض خالد لأي محاولة تنكيل، وهو المعارض الأكبر للملك، وأكبر يساري في مصر».

«لم ينس محمود أبوالفتح أن يقدم شروطه بعد أن قدم الإغراء»، يواصل خالد محيي الدين تقديم شهادته، ويضيف: «فقال وكأنه يتحدث بشكل عشوائي وبلا تخطيط مسبق: (وطبعًا، بلاش حكاية الاشتراكية واليسار والكلام ده). كانت عملية الرفض تتراكم في داخلي منذ اللحظة الأولى، وكلما استمر في حديثه ازددت رفضًا، فأنا لم أكن أبدًا ضد ثورة أسهمت في صناعتها».

صورة من مذكرات خالد محيي الدين «والآن أتكلم»

خصص خالد محيي الدين فصلًا من مذكراته لفترة إبعاده في سويسرا، وجاءت شهادته تلك تحت عنوان «في المنفى.. حاول محمود أبوالفتح تجنيدي ضد الثورة»، ويختتم: «لم أكن من الصنف الذي يمكن إغراؤه، فلو كان ممكنًا إغرائي لأغراني الموقع الهام في قمة السلطة، ولمنعني من الإصرار على التمسك بما أؤمن به. رفضت.. وانتهت علاقتي بمحمود أبوالفتح».

«صوت مصر الحرة»

انبثقت إذاعة «مصر الحرة» من كيان عرف باسم «لجنة أحرار العرب»، أسسه محمود أبوالفتح في بيروت، ودأب «عبدالناصر» ومحمد حسنين هيكل من بعده على تخوين ذلك الكيان واتهامه بـ«العمالة للاستخبارات الغربية»، بينما دافع عنه أحمد أبوالفتح في كتابه «جمال عبدالناصر»، إذ يقول: «هذه اللجنة رفعت راية الكفاح في سبيل تخليص مصر من الديكتاتورية».

يقول الصحفي اللبناني زهير عسيران، مراسل صحيفة «المصري» في بيروت آنذاك، وصديق أسرة «أبوالفتح»: «على أثر الخلاف بين نظام الضباط الأحرار وآل أبوالفتح الذين شردوا خارج مصر، طرأت فكرة إنشاء إذاعة تعمل ضد النظام الجديد في مصر. فاجتمع في بيروت محمود أبوالفتح مع بعض المنتسبين إلى جماعة الإخوان المسلمين».

يضيف في مذكراته «زهير عسيران يتذكر.. المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب»: «تقرر في ذلك الاجتماع إنشاء إذاعة في لبنان تعمل ضد النظام في مصر. لكن السؤال كان: كيف؟ وأين يكون مقر هذه الإذاعة؟ فرددت على السؤال فورًا: توضع في منزلي. قلت ذلك وأنا لا أعرف كيف يتم ذلك. فاتصلت بالسيد لويس رزق المهندس بإذاعة لبنان للاستعانة بخبرته».

جمال عبدالناصر: «إذاعة صوت مصر الحرة بتهاتي.. وبتتكلم باسم الاستعمار»

يمضي قائلًا: «أطلعته على فكرة الإذاعة، وسألته عن إمكانية إقامتها في المنزل فنيًا، فقال: بالإمكان وضعها في غرفة خاصة شرط ألا يدخلها أحد. فباشر العمل مستعينًا ببعض الآلات الموجودة محليًا، وولدت الإذاعة باسم صوت مصر الحرة موجهة نحو القاهرة، ثم جعلها السيد رزق تصل إلى سوريا، بعد أن سافر أبوالفتح إلى سويسرا وعاد ببعض القطع اللازمة».

غلاف مذكرات زهير عسيران

انطلقت «صوت مصر الحرة» بإذاعة خطاب لمصطفى السباعي، مؤسس جماعة الإخوان في سوريا، وتلاه كامل الشريف، وهو أحد أركان الجماعة، بهجوم شديد على نظام جمال عبدالناصر، كما يقول «عسيران»، مضيفًا: «تنبهت السلطات في القاهرة واتصلت بالسلطات اللبنانية لوقف تلك الإذاعة، فبدأت التحريات فورًا وحدد الرادار الحي والشارع الذي تعمل منه الإذاعة».

يختتم «عسيران»: «اتصل بي مدير الأمن العام الصديق الأمير فريد شهاب وأبلغني أن الشبهة تحوم حول بيتي، وقال لي: لا سبيل للإنكار، وأنا أنصحك بأن تخرجها من المنزل قبل مداهمته. وأمام خطورة مصادرة الإذاعة والنتائج أخذت بنصيحته، وعمدت فورًا إلى تفكيكها وإعطاء السيد رزق ما يحتاجه منها، ووضعت البقية في صناديق وأودعتها مطابع جريدتي {الهدف}».

وثيقة «الغليان» رقم «6»

في كتابه «سنوات الغليان» الصادر عام 1988، أرفق «هيكل» وثيقة لخطاب منسوب إلى محمود أبوالفتح، وممهور بتوقيعه، وقال إن «أبوالفتح أرسله باسم لجنة أحرار العرب (مصر الحرة) إلى رئيس الوزراء البريطاني، أنتوني إيدن، في 27 يناير 1956، ودعاه فيه إلى استعمال القوة المسلحة ضد مصر، وطلب أموال بطريقة مكشوفة لتمويل الدعاية ضد خطر عبدالناصر».

الوثيقة رقم «6».. محمود أبوالفتح «يعرض خدماته على حكومة بريطانيا»

بعد صدور أحكام الثورة بإدانة أخويه، ظل أحمد أبوالفتح مقيمًا في جنيف حتى عام 1974، عندما سمح له الرئيس الراحل محمد أنور السادات بالعودة إلى مصر. وعندما نشرت صحيفة «الأهرام» مقتطفات من سلسلة محمد حسنين هيكل «حرب الثلاثين سنة»، ومعها تلميحاته وتصريحاته بشأن دور الأسرة، أقام «أبوالفتح» دعاوى قضائية ضد الصحيفة و«هيكل».

اتهم أحمد أبوالفتح «هيكل» و«الأهرام» بـ«نشر وقائع غير دقيقة بشأن دور أخيه محمود في حلف بغداد، ودوره في العدوان الثلاثي 1956، والمحطات السرية وغيرها». وقدم «هيكل» للمحكمة صور لوثائق بريطانية تدين «أبوالفتح»، لكن المحكمة اشترطت أن تكون الوثائق ممهورة بختم دار المحفوظات البريطانية، وحقق «هيكل» الشرط، وتأكدت المحكمة من صحة الوثائق.

وثيقة الخطاب المنسوب لمحمود أبوالفتح، والممهور بتوقيعه، يحمل تحذيرًا للحكومة البريطانية من «الخطر الشيوعي» في مصر، وجاء فيه أن «الساعد الأيمن لعبدالناصر شيوعي متعصب، وهو اللواء عبدالحكيم عامر، قائد الجيش ووزير الدفاع، وعبدالناصر نفسه كان عضوًا في الحزب الشيوعي، بالإضافة إلى الصاغ خالد محيي الدين و5 آخرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة».

وثيقة الخطاب المرسل بتوقيع محمود أبو الفتح إلى الحكومة البريطانية نقلًا عن كتاب «سنوات الغليان»

الخطاب يدعو الحكومة البريطانية إلى «استعراض القوة بإرسال سفن حربية إنجليزية وأمريكية إلى الشرق الأوسط، مع التهديد باتخاذ تدابير عسكرية، والإعراب عن التأييد الصريح لجميع أصدقاء الغرب، لأن خطوة كهذه سوف تلقى تأييد الشعب المصري المغلوب على أمره، وسيكون من الميسور بنشر الوثائق والتفاصيل تبديد الأسطورة التي نسجت حول عبدالناصر ونظامه».

وثيقة الخطاب المرسل بتوقيع محمود أبو الفتح إلى الحكومة البريطانية نقلًا عن كتاب «سنوات الغليان»

طلب الخطاب من حكومة بريطانيا مساعدة مالية لإنشاء «منظمة قادرة على بث الدعاية والدعاية المضادة، والأولوية في استيراد وإقامة محطة إذاعة قوية»، ودعاها إلى توفير «ملايين الجنيهات التي تنفقها سنويًا للاحتفاظ بنفوذ مهتز في الأردن، من أجل إنشاء جهاز فعال وكفء للدعاية والدفاع عن المصالح التي تضطر بريطانيا، بالابتزاز، إلى دفع الملايين للدفاع عنها».

في الذكرى الـ7 للثورة، ألقى الرئيس جمال عبدالناصر خطابًا للمصريين يوم 22 يوليو 1959، قال فيه: «حرب الدعاية والسموم، 9 محطات سرية وفرقة سيمفونية من محطات الاستعمار وإسرائيل وأعوان الاستعمار بتذيع كل يوم طول النهار وطول الليل (..) تسمع محطة صوت مصر الحرة تسمع سموم، اتهامات وتشكيك وسب، ولكن هل نفع هذا الكلام؟ منفعتش حرب الدعاية».

أضاف «ناصر» في خطابه: «9 محطات بتهاتي ما عملت أي شيء في هذا الشعب، ولم تحقق أي هدف من أهدافها، ولغاية النهارده محطة إذاعة صوت مصر الحرة مازالت بتهاتي، واللي بيسمعها واللي مبيسمعهاش عارف إن صوت مصر الحرة محطة بتتكلم باسم الاستعمار وبتذيع من باريس، وإنها بتعبر عن الحقد الذي يشعر به الاستعماريون بعد أن فشلوا وبعد أن انهزموا».

«محمود أبوالفتح كان غارقًا، وكان يريد التعلق بأي شيء»، يقول الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمي، مضيفًا أن خاله كان «شديد الذكاء، وكان يراهن على 3 أشياء: الأول أن يحدث انقلاب على عبدالناصر الذي لم يكن بعيدًا عن الانقلاب، والثاني أن يتوفى، والثالث أن يستخدم علاقاته الجيدة مع الزعماء والملوك العرب للوساطة بينه وبين عبدالناصر، فبعضهم كانوا مدينين له».

أمام محكمة الثورة

في 16 سبتمبر 1953، قرر مجلس القيادة تشكيل محكمة الثورة للنظر في «الأفعال التي تعتبر خيانة للوطن أو ضد سلامته في الداخل والخارج، والأفعال التي تعتبر موجهة ضد نظام الحكم الحاضر أو ضد الأسس التي قامت عليها الثورة»، وجاء في القرار: «يجوز للمحكمة أن تحكم بمصادرة أموال المتهم، كلها أو بعضها، إذا تبين لها أنها نتيجة كسب غير مشروع».

نص القرار في مادته الأولى على تشكيل هيئة المحكمة من قائد الجناح عبداللطيف البغدادي رئيسًا، والبكباشي أنور السادات عضوًا، وقائد الأسراب حسن إبراهيم عضوًا، والثلاثة كانوا أعضاء في مجلس القيادة، كما نص على إنشاء مكتب تحقيق وادعاء يلحق به نواب عسكريون وأعضاء نيابة عامة يعينهم مجلس القيادة، وأسندت رئاسته إلى البكباشي زكريا محيي الدين.

قرار تشكيل محكمة الثورة
قرار تشكيل محكمة الثورة

قرر مجلس القيادة تقديم الأخوين محمود وحسين أبوالفتح إلى محكمة الثورة 18 أبريل 1954، على أن تبدأ محاكمتهما في 29 من الشهر نفسه، وتولى الدفاع عنهما المحامي الكبير وحيد رأفت، وانتهت المحاكمة في 3 مايو، وتقرر النطق بالحكم صباح اليوم التالي، فيما صدر آخر عدد من جريدة المصري صباح يوم 4 مايو 1945 وهو يحمل مرافعة الدفاع عن حسين أبوالفتح.

جاء في قرار الإدعاء ضد «أبوالفتح»، كما يقول محمد حسنين هيكل في كتابه «لمصر لا لعبدالناصر»، أنه «أتى أفعالًا ضد سلامة الوطن، ومن شأنها إفساد أداة الحكم، ففي غضون سنة 1954 وما قبلها: قام بدعايات واتصالات ضد نظام الحكم القائم بقصد تقويض النشاط القومي للبلاد، وأغری موظفًا عموميًا بطرق غير مشروعة لإتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية».

المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق يرى أن قرار تشكيل محكمة الثورة كان «ضربة أخيرة للأحزاب»، وينسب إلى المؤرخ أحمد حمروش قوله: «كانت موجهة أساسًا ضد حزب الوفد، وضد بقايا الأحزاب والتنظيمات السياسية الأخرى، وكان على رأس الوفديين آنذاك: فؤاد سراج الدين والسيدة زينب الوكيل، حرم مصطفى النحاس، والأخوان محمود وحسين أبوالفتح».

يقول «الشلق» في كتابه «ثورة يوليو والحياة الحزبية»: «هذه المحاكمات التي تولاها العسكريون أنفسهم، قضاة وخصومًا، قصد بها التمثيل بمن تبقى من رجال الأحزاب والقضاء على ما تبقى لهم من نفوذ وهيبة وممتلكات، وكان المتهمون يواجهون المحكمة بلا تحقيق، وكانت التهم متشابهة تقريبًا والأحكام مبالغًا فيها (..) ولم تكفل تلك المحاكمات ضمانات العدالة القانونية تمامًا».

«محاكمة انتقامية!»

بعد 23 عامًا من تلك المحاكمة، أصدر عبداللطيف البغدادي، رئيس محكمة الثورة، مذكراته عن دار «المكتب المصري الحديث» عام 1977، ويقول فيها إنه «حاول إثناء» مجلس القيادة عن محاكمة الأخوين محمود وحسين أبوالفتح أمام محكمة الثورة، بدعوى أن محاكمتهما جرت بدافع «الانتقام من مطالبهما المشروعة بتحقيق الديمقراطية بموجب قرارات مارس 1954».

قرارات 5 مارس 1954 نصت على: «انتخاب جمعية تأسيسية لمناقشة مشروع الدستور الجديد وإقراره، والقيام بمهام السلطة التشريعية لحين انتخاب البرلمان الجديد وفقًا لأحكام الدستور الذي ستقره الجمعية، وإلغاء الأحكام العرفية قبل انتخابات الجمعية التأسيسية بشهر، وإلغاء الرقابة على الصحافة والنشر اعتبارًا من 6 مارس فيما عدا الشؤون الخاصة بالدفاع الوطني».

قرارات 5 مارس 1954

وفي 25 مارس 1954، قرر مجلس القيادة: «السماح بقيام الأحزاب، عدم تأليف حزب للمجلس، لا حرمان من الحقوق السياسية، تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابًا حرًا مباشرًا ودون أن يعين بها أي فرد وتكون لها السيادة وسلطة البرلمان، حل مجلس القيادة يوم 24 يوليو 1954 باعتبار أن الثورة قد انتهت، تنتخب الجمعية التأسيسية رئيسًا للجمهورية بمجرد انعقادها».

قرارات 25 مارس 1954 المكملة

وعلى خلفية المظاهرات المطالبة بـ«سقوط الديمقراطية والأحزاب السياسية»، قرر مجلس قيادة الثورة في 29 مارس 1954: «حمل المسؤولية كاملة على عاتقه مرة أخرى، واتخاذ القرارات الآتية: إرجاء تنفيذ القرارات الصادرة يوم 5 مارس و25 مارس 1954 حتى نهاية فترة الانتقال، وتشكيل مجلس وطني استشاري يراعى فيه تمثيل الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة».

قرار 29 مارس 1954 القاضي بإرجاء تنفيذ قرارات 5 و25 مارس

يقول «البغدادي» في مذكراته: «طلبت إعفائي من رئاسة محكمة الثورة في حالة عرض أي قضية عليها لها ارتباط بحوادث تلك الأزمة (أزمة إلغاء قرارات 5 و25 مارس 1954)، لأنني قدرت أن مهمة المحكمة في هذه الحالة ستكون ما هي إلا عملية انتقامية من بعض الأشخاص الذين كانوا قد عبروا عن آرائهم بعد إعلان حرية الصحافة وبعد إعلان قرارات مارس».

يضيف «البغدادي» في مذكراته: «لم يكن هناك مبرر لمحاكمة من عبروا عن آرائهم بموجب قرارات 5 و25 مارس القاضية بحرية الصحافة وعودة الأحزاب أمام محكمة الثورة، واقترحت تشكيل محكمة خاصة للنظر في القضايا المتعلقة بإعاقة أهداف الثورة أو تهديد النظام القائم (..) لم أشأ أن أكون أداة لتنفيذ هذا الانتقام، لذا قررت ألا أكون رئيسًا لهذه المحكمة».

[quote:4]

يقول «البغدادي» إنه دافع عن «أبوالفتح» قبل المحاكمة: «كيف يحاكم وقد كان بالخارج في هذه الفترة»، مشيرًا إلى ما اعتبره «تغير موقف مجلس قيادة الثورة من جريدة المصري وصاحبها»، قائلًا: «أليس موقف الجريدة من الثورة في الفترة الأخيرة {هو السبب}، أليس هذا انتقامًا، وهم كانوا يتكلمون عن الحريات والحياة النيابية، وهو كلام لا يمكن أن يؤاخذوا عليه».

حديث «البغدادي» عن «تغير موقف مجلس الثورة من جريدة المصري وصاحبها» يقصد به حكم محمكة الثورة الصادر في 7 مارس 1954 بإلزام الجريدة بتسديد ضرائب متأخرة قدرها 21.233 جنيهًا. ويقول أحمد أبوالفتح في كتابه «جمال عبدالناصر» إن الضباط «اتهموا شقيقه محمود بأنه لم يسدد كل ما كان يجب سداده من الضرائب على ورق باعه وربح فيه».

يقول «البغدادي» عن أحد اجتماعات مجلس القيادة بعد حكم إلزام «المصري» بسداد «الضرائب المتأخرة»: «كان جو الاجتماع مكهربًا. وبدا أن عبدالناصر كان قد وعد أحمد أبوالفتح بشيء خاص في هذا الموضوع. وكان قد سبق وتكلم معي مرتين سائلًا عن قرار اللجنة وملمحًا بأنهم يتعاونون معنا. ولكنني كقاض كنت أحكم بوحي من ضميري ولا أعمل اعتبارًا للأشخاص».

يضيف: «عندما طلبت من مجلس القيادة التصديق على الحكم سألني عبدالناصر: لماذا لم نتكلم معًا في موضوع جريدة المصري قبل صدور الحكم؟ فأجبته بأنه لم يسبق للمحكمة أن عرضت قضية أو حكمًا في قضية على المجلس قبل النطق به لأنه سر بين أعضائها. فقال: هل أنتم مستعدون للدخول في معركة مع جريدة المصري خاصة بعد إعلان حرية الصحافة؟».

عبداللطيف البغدادي، رئيس محكمة الثورة

يواصل رئيس محكمة الثورة شهادته: «قلت له: ومنذ متى كانت جريدة المصري مؤمنة بكم؟ أليس أصحابها هم الذين تكلم عنهم صلاح (سالم) في المؤتمر الشعبي يوم 15 سبتمبر 1953 وأشار إلى ملايين الجنيهات التي كانوا قد كسبوها من تجارتهم في الورق في السوق السوداء؟ وأليس هو أحمد أبوالفتح الذي كتب مقالًا يهاجمكم فيه، وخاصة صلاح (سالم)».

يمضي قائلًا: «شعر جمال أنني على استعداد للدخول معه في معركة. وتكلم صلاح (سالم) موجهًا الكلام لي متسائلًا: ألا يمكنك عمل شيء الآن؟ فأجبته بأننا نحكم كقضاة وعليكم أنتم أن تجاملوا إن شئتم. ثم تكلم عبدالناصر وطلب من كمال الدين حسين بصفته سكرتيرًا للمجلس أن يرسل خطابًا لوزارة المالية لتقسيط المبلغ على أصحاب المصري على 5 أو 10 سنوات».

«أنا لست بآلة»

يقول «البغدادي»: «اعترضت على اقتراح تقديم محمود أبوالفتح لمحكمة الثورة، مبينًا أنه إذا كان لا بد من محاكمته فليبحث عن شخص آخر غيري، على أن أعتكف خلال فترة محاكمته بحجة أنني مريض، وذاكرًا لهم نفس الأسباب التي تمنعني من رئاسة هذه المحكمة، والتي سبق أن ذكرتها في اجتماعنا يوم 30 مارس، وكنت أتكلم بعصبية، والجو كان مكهربًا».

«إنني لست بآلة تستخدم وقتما وكيفما يشاء المجلس»، يقول «البغدادي» عن موقفه من محاكمة «أبوالفتح»، مضيفًا: «عبدالناصر قال لي: لقد سبق وتكلمت معك مرتين بخصوص قضية جريدة المصري، وكنت منتظرًا منك أن تتكلم معي قبل الحكم {الأول} فيها، ولكنك تصرفت بهذه الطريقة نتيجة للحساسية. أنت لست بقاضٍ، إنما تحكم باسم المجلس في قضايا سياسية».

يقول «البغدادي»: «قال لي عبدالناصر: لقد اتفقنا في المجلس على أن تعرض علينا كل قضية قبل صدور الحكم فيها، والمجلس هو الذي يقرر الحكم، ولكنك اتخذت صفة القاضي ولم تعرضها علينا، ولم نتكلم لأننا نعلم بحساسيتك، فرددت: إننا لم نتفق من قبل على عرض كل قضية على المجلس قبل الحكم فيها (..) ولي ضمير ولا بد أن أحكم كقاضٍ، فقال: هذه قضايا سياسية».

يضيف: «قال عبدالناصر إن الثورة ليست لها قاعدة شعبية تعتمد عليها، وليس هناك من يؤيدها لا من الشعب ولا من الجيش، وإن الذين قاموا بها 90 ضابطًا فقط وهم في تناقص حتى أصبح عددهم الآن 50 ضابطًا. وعلقت على كلامه بقولي: معنى هذا أننا نفرض أنفسنا على هذا البلد. فرد عليّ بالإيجاب، فقلت: أعتقد في هذه الحالة يجب علينا أن نروح إذا كان هذا هو الوضع».

الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمي، ابن شقيقة محمود أبوالفتح، يقول عن شهادة «البغدادي»: «عندما حاد الضباط عن خط السير المرسوم للحركة كان هناك غضب مكتوم داخل عدد منهم، مثل عبداللطيف البغدادي وخالد محيي الدين. أغلب الضباط كتموا غضبهم وواصلوا السير في خط جمال عبدالناصر لإقامة الديكتاتورية، وإن كان لا يقصد الديكتاتورية في ذاتها».

يضيف «فهمي»: «كاد يحدث انقسام داخل المجلس بسبب محاكمة أبوالفتح، وكان هناك تيار يرفض المحاكمة، وراح بعض الضباط يذكّرون بدور أحمد أبوالفتح في الثورة؛ فهو الذي أبلغهم باتجاه الملك فاروق لتعيين اللواء حسين سري عامر، العدو اللدود لحركة الضباط، وزيرًا للحربية، ما عجّل بموعد قيام الثورة، كما كانت المصري أول جريدة تبارك الثورة منذ يومها الأول».

يمضي قائلًا: «التيار العاقل في مجلس قيادة الثورة قرر أن تكون محاكمة أبوالفتح صورية، بحيث يكون الحكم مع إيقاف التنفيذ على من بالداخل (حسين)، ويكون واجب النفاذ على من بالخارج (محمود)، فضلًا عن مصادرة جزء كبير من ماليته. وكان على رأس هذا التيار عبداللطيف البغدادي وخالد محيي الدين وصلاح سالم، رغم أن الأخير كان دائم الهجوم على أسرة أبوالفتح».

يرى «فهمي» أن الأحكام الصادرة بحق خاليه كانت «هايفة ومضحكة جدًا»، معقبًا: «البغدادي رفض كتابة الحكم بيده، ولم يكن هناك مفرًا من توقيعه على الحكم فوقّع مضطرًا، وصلاح سالم قال: آه هندينهم لكن بطبطبة، وعبدالناصر قام بموقف في منتهى الغرابة لإبعاد أحمد أبوالفتح قبل صدور الحكم؛ فقد ذهب إلى منزله ومنحه جواز سفر دبلوماسي لإبعاده فورًا إلى بيروت».

يشكك الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، في شهادة «البغدادي»، قائلًا: «السياسي الذي ينشر مذكراته تحت أي عنوان وهو حي لا يذكر كل الحقائق، بل هو يكذب في الغالب العام إلا ما ندر، السياسي الصادق مع نفسه يكتب يومياته أو ما يراه من انطباعات ويتركها جانبًا ولا ينشرها، هذا النموذج نادر في مصر، وهو ما سار عليه سعد زغلول».

يضيف «الدسوقي»: «الذين ينشرون مذكراتهم وهم أحياء يريدون تبرير تصرفاتهم، وإظهار نفسهم بمظهر البطولة، لا أحد في هذه المذكرات يقول إنه أخطأ، ولكنه يكتب عن أخطاء الآخرين، الذي يكتب مذكراته لا يحاكم التاريخ، بل يكتب وقائع وفقط، ولا يكتب بعد الحدث، ولا من موقع المراقب لما كان يجب أن يكون، إذا فعل ذلك فإن ما يكتبه يصبح تأليفًا ومجرد ذكريات».

يرى «الدسوقي» أن «عبداللطيف البغدادي نشر مذكراته نتيجة خلافه مع عبدالناصر، فعندما اختلفا بدأ عبداللطيف ينتقده»، لكن أستاذ التاريخ المعاصر يرفض سحب أقواله تلك على مذكرات خالد محيي الدين، إذ يقول: «مذكرات خالد محيي الدين تختلف عن هذا الكلام، لأنه سجل فيها اعترافات على نفسه، وعلى دوره في أزمة مارس 1954، فالرجل هنا يتحرى الصدق».

المؤرخ عاصم الدسوقي – صورة أرشيفية

يضيف «الدسوقي»: «مذكرات خالد محيي الدين تعطينا فكرة عن عبدالناصر، وهي خصوصيته في الالتزام بشرف الدفعة العسكرية وتماسكها، فقد تعلم ألا يعادي وألا ينتقم من خصومه السياسيين من أبناء الدفعة، وأقصى ما فعله مع خالد محيي الدين ومحمد نجيب هو الإبعاد والإقامة الجبرية، وهكذا فعل مع البغدادي، ألم يكن قادرًا على محاكمة نجيب في ميدان التحرير؟».

المؤرخ العسكري الراحل اللواء جمال حماد، عضو حركة الضباط الأحرار، يصف الفترة التي أعقبت قرارات 5 مارس بأنها «فترة مشرقة في تاريخ الحياة الديمقراطية في مصر»، ويقول: «شهدت الصحافة فترة مزدهرة بعد رفع الرقابة عنها يوم 6 مارس، وبعد أن أعلن صلاح سالم، وزير الإرشاد القومي، أن الرقابة زالت بلا رجعة، وأن حرية الرأي مكفولة للجميع».

«بعض الصحف أفردت صفحاتها لقضايا الحريات وحقوق الشعب، وكانت في مقدمتها جريدة المصري»، يقول «حماد» في كتابه «أسرار ثورة 23 يوليو»، مضيفًا: «ومن ثم انبرى عدد من السياسيين والصحفيين في المطالبة بالديمقراطية وعودة الضباط إلى ثكناتهم. ودفع هؤلاء الكتاب جزاء ما كتبوه في هذه الآونة، وتعرضوا لأبشع ألوان البطش والتنكيل والتعذيب».

يشير «حماد» إلى محاكمة العقيد أحمد شوقي، وهو قائد الكتيبة 13 مشاة أثناء قيام ثورة 1952، أمام محكمة الثورة عقب أزمة مارس 1954، بتهمة «تحريض بعض ضباط القوات المسلحة لإحداث فتنة في البلاد، وتعريض سلامة الوطن للخطر»، وحكمت عليه المحكمة بالسجن 10 سنوات، معقبًا: «لكنه لم يمكث طويلًا بالسجن، فقد أفرج عنه صحيًا بعد فترة».

أبوالخير نجيب، رئيس تحرير جريدة «الجمهور المصري»، كان من أبرز الصحفيين المنكل بهم، بحسب «حماد»، فأدين بـ«الاتصال بجهات أجنبية تعمل ضد النظام الاجتماعي والسياسي القائم في البلاد، والاتصال بطوائف العمال والطلبة لتحريضهم على التمرد، وامتهان الصحافة دون الالتزام بدستورها وأهدافها القويمة»، وعوقب بالأشغال الشاقة 15 سنة.

العقيد يوسف صديق، أحد الضباط الأحرار – صورة أرشيفية

يضيف «حمّاد»: «دفع العقيد يوسف صدّيق، أحد الضباط الأحرار، ثمنًا غاليًا بسبب تأييده للديمقراطية، فجرى اعتقاله أوائل أبريل 1954، وأودع سجن الأجانب لمدة شهر، ثم انتقل إلى السجن الحربي لمدة 13 شهرًا، وفي أوائل مايو 1954 اعتقلت زوجته، ولحق به في السجن الحربي عدد من أقاربه، وبعد الإفراج عنه وزوجته فرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله».

«أنت دمك مهدر!»

بعد صدور حكم إلزام «المصري» بسداد الضرائب المتأخرة في 7 مارس 1954، دعا محمود أبوالفتح أخاه أحمد، رئيس تحرير الجريدة، للقائه في بيروت لشرح ماهية الحكم، كما يقول أحمد في كتابه «جمال عبدالناصر»، ويضيف: «يوم 14 مارس، أرسل أخي محمود يستعجل حضوري إلى بیروت، لكن عبدالناصر كان قد طلب أن أزوره منذ بضعة أيام».

يضيف أحمد أبوالفتح: «ادعيت المرض ورفضت الذهاب، لكنه علم عن طريق جواسيسه أنني لست مريضًا فغضب وقرر أن يعتقل المشرفين على تحرير الجريدة إذا لم أزره، وعلمت أنه سينفذ القرار صباح 15 مارس، وهو اليوم الذي كنت قد عقدت العزم على أن أسافر فيه إلى بيروت. خشيت أن أسافر وينفذ عبدالناصر تهدیده، فذهبت إلى منزله في كوبري القبة».

[quote:5]

التقى أحمد أبوالفتح وجمال عبدالناصر في التاسعة مساء 14 مارس 1954، ويقول «أبوالفتح» عن هذا اللقاء: «وجدت عنده البكباشی أحمد أنور، رئيس البوليس الحربي، واجتمعنا نحن الثلاثة حتى منتصف الثالثة صباح 15 مارس، وتناقشنا في الوضع السياسي، وطلب عبدالناصر أن أوقف حملة الدفاع عن الحريات والحياة الدستورية والديمقراطية، وأن أقف بالمصري في صفه».

أحمد أبو الفتح – صورة أرشيفية

يضيف «أبوالفتح»: «كان ردي أنني مستعد لذلك لو أطلق هو الحريات واحترمها وساعد على قيام الحياة الديمقراطية وألّف حزبًا، وأنني سأقف مؤيدًا لهذا الحزب بل وسأسعى إلى ضم أصدقائي إليه. لم نتفق، وأثناء هذه الساعات الست غادر عبدالناصر غرفة الاجتماع، فإذا بأحمد أنور يقول لي بصوت خافت: أرجوك يا أحمد توقف الحملة ضد حركة الجيش فأنت دمك مهدر».

«يا أحمد الأعمار بيد الله»، هكذا رد أحمد أبوالفتح على تحذير «أنور»، كما يقول، مضيفًا: «بعد منتصف الليل غادرنا عبدالناصر ليطلب عشاء، وعاد أحمد أنور يقول: أنت تعرف مدى إعزازي لك فأرجوك توقف الحملة فوالله أنت دمك مهدر، ولم يتسع الوقت للنقاش إذ عاد جمال. وفي الثانية والنصف صباحًا قررنا أن لا فائدة من مواصلة النقاش، فكل منا مصرّ على موقفه».

تابع: «قال عبدالناصر أثناء الحديث المحتدم: هل تريد مني أن أترك صفوف الجيش لأكون حزبًا، أم تريد أن أذهب ملحقًا عسكريًا في واشنطن. ووسط الإجهاد وحدة النقاش قلت: وماله لو تركت الجيش أو رحت ملحق عسكري. هذه الجملة ضايقته أشد الضيق، وظل يتحدث عنها مرددًا: أحمد أبوالفتح عاوزني أروح ملحق عسكري في واشنطن. والحقيقة أنه هو الذي قالها».

بعد ساعات من ذلك الاجتماع استقل أحمد أبوالفتح الطائرة المتجهة إلى بيروت للقاء أخيه محمود، عاقدًا العزم على العودة إلى القاهرة في اليوم التالي، كما يقول: «شرحت لأخي محمود أسباب حكم الغرامة وملابساته، وقلت إنه ولا شك بمثابة إنذار لنا لمعارضتنا للديكتاتورية وللحملات القوية التي كان يشنها المصري للدفاع عن حريات المصريين وتخليصهم من الجاسوسية».

محمود أبو الفتح يطالع جريدة المصري

عندما علم محمود أبوالفتح بتحذير رئيس البوليس الحربي لأخيه، قرر إبقائه في بيروت حتى ينجلي الموقف، فيما قال له أخوه: «إن ما نخوضه عن طريق جريدة المصري من حملات دفاعًا عن الحرية قد يعرضها لانتقام الضباط، وعندئذ سيكون الانتقام عنيفًا، فإذا كنت تريد الحفاظ على المصري فأرجو مرة أخرى أن تعيّن غيري ليرأس التحرير ويغير سياسة الجريدة إلى المهادنة».

يقول أحمد أبوالفتح: «غضب أخي محمود من العرض الذي سبق أن رفضه من قبل، وكرر نفس الكلام: إننا لم نكن أغنياء، وقد تسبب في ثروتنا إخلاصنا للقضايا الوطنية وإقبال المصريين على جريدة المصري، فهل تريد مني أن أخونهم الآن؟ لقد وجب علينا أن نحمل الأمانة، أمانة الدفاع عن الشعب المصري ودفع الظلم والبطش والتعذيب عنه، تاركين الأمور لتصريف الله».

«لا مهادنة!»

كانت تلك المرة الثانية التي يعرض فيها أحمد أبوالفتح على أخيه تخليه عن رئاسة التحرير، وانتهاج سياسة المهادنة مع الثورة، وكان العرض الأول في منتصف 1953 عندما دب خلاف بين أحمد أبوالفتح والثورة، ويروي الدكتور السيد أبوالنجا، الذي كان مديرًا عامًا لجريدة «المصري»، كواليس ذلك العرض عندما التقى هو ورئيس التحرير بصاحب الجريدة في باريس.

في مذكراته المعنونة «مذكرات عارية»، يقول «أبوالنجا»: «كانت الثورة ترى أنها لم تتمكن بعد من الإفصاح عن سياستها للأمة، فلا محل للتعجيل بالانتخابات وإلا عاد حزب الوفد سيرته الأولى، ورئيس التحرير يرى أن الثورة حاربت الدكتاتورية بطرد الملك فليس من حقها أن تحكم بغير برلمان، وكانت الصحف جميعًا، فيما عدا المصري، تؤيد الثورة في سياستها».

بعيدًا عن السياسة، كان «أبوالنجا» يختلف مع أحمد أبوالفتح في خطته «لأن من شأنها أن تعرض الجريدة للإقفال»، ويقول في مذكراته: «جاءني وجيه أباظة {أحد الضباط الأحرار} يقترح أن يحدد لي موعدًا مع جمال عبدالناصر ليكلفني برياسة التحریر بجانب الإدارة، فاعتذرت لأن في هذا استعداء من الخارج على خلاف داخلي يرجع الفصل فيه إلى صاحب الجريدة».

[quote:6]

كان محمود أبوالفتح آنذاك في باريس، فسافر رئيس التحرير والمدير العام لعرض خلافهما عليه، ويقول الأخير: «رأى صاحب المصري أن يعطي رئيس التحرير إجازة حتى ينجلي الجو، ولكن أخاه ثار لهذا الاقتراح وأرسل إليه خطابًا يقول فيه: أخي وأبي وأستاذي.. إن كان عليّ فضل بعد الله فهو لك، أو كانت لي كرامة بين الناس فلأنني أخوك. إني لأرجو أن تضم فضلًا جديدًا إلى أفضالك الكثيرة فتقبل استقالتي من رئاسة التحرير».

يقول «أبوالنجا»: «بكى محمود أبوالفتح حين جاءه هذا الخطاب، فاستدعاني من غرفتي بعد منتصف الليل، فدلفت إلى جناحه، وكان على وجهه علامات التأثر، وقدم الخطاب إليّ ولم يعلق عليه بشيء، فوقعت في حيرة، وقلت له: إني حضرت إلى هنا لأوقفك على حقيقة الموقف، ولكن لكل معركة قائدًا وأرى أن تترك القيادة لأحمد. فبدا الارتياح على وجهه. ثم سارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، ومن أسوأ إلى محكمة الثورة».

هكذا، عرض أحمد أبوالفتح على أخيه الاستقالة وانتهاج سياسة المهادنة مرتين. ويقول الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمي: «لو وافق محمود أبوالفتح على المهادنة لكان من شأن هذا أن يسقط جريدة المصري في نظر قرائها، وكانت آنذاك الأكثر توزيعًا، لكنه رأى أنه بدل ما نضيع وإحنا وحشين قد نعود بانقلاب أو بوساطات أو بوفاة عبدالناصر، لكن شيء من هذا لم يحدث».

محمود أبو الفتح مع الملك فيصل

وسام الجمهورية لـ«أبوالفتح»

بعد 27 عامًا من إدانة «أبوالفتح» أمام محكمة الثورة، وبعد 23 عامًا من وفاة صاحب «المصري»، قرر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي كان عضو يمين في تشكيل محكمة الثورة، منح اسم محمود أبوالفتح وسام الجمهورية من الطبقة الأولى في 31 مارس 1981؛ «تقديرًا لما اتصف به المرحوم من حميد الصفات، وما قدمه للصحافة من جليل الخدمات».

محمد أنور السادات يمنح اسم محمود أبو الفتح وسام الجمهورية مارس 1981

يرى الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمي أن الرئيس السادات «رد اعتبار الأسرة بهذا التكريم»، ويقول: «السادات تعرض لضغوط كثيرة منذ وصوله إلى الحكم للسماح لآل أبوالفتح بالعودة إلى مصر، لكنه قال حينها إنهم أصحابه، وكانت تجمعه بهم علاقة قوية جدًا، لكنه لم يوافق على ذلك الطلب بدعوى أن الناصريين من حوله سيثورون على الأمر».

«لقد أسأنا استعمال الكثير من المبادئ، وكم من الجرائم ترتكب باسم الديمقراطية»، هكذا يقول محمد حسنين هيكل عن تكريم «أبوالفتح»، فيما يرى الدكتور عاصم الدسوقي أن «السادات حاول الانقضاض على تاريخ عبدالناصر، كل ما كان يرفضه ناصر وافق عليه السادات، وهذا التكريم هو محاولة لرد اعتبار آل أبوالفتح ضمن محاولات هدم كل ما فعله ناصر».

محمد حسنين هيكل – صورة أرشيفية

في يوبيلها الماسي عام 2016، كرمت نقابة الصحفيين اسم «أبوالفتح». ويقول النقييب الأسبق يحيى قلاش: «السادات أراد أن يخلق حالة مختلفة مع الغرب، وأن يعطي انطباعًا مختلفًا للجميع، فسمح بعودة الإخوان وغيرهم، وكرم اسم محمود أبوالفتح»، مضيفًا: «لا أعتبر هذه الأمور رد اعتبار بقدر ما أراها أسباب متعلقة بالتحول عن مسار عبدالناصر».

«السيرة الحائرة».. أسرة «أبو الفتح» بين التخوين والتكريم (الحلقة 2)

ديمقراطية أم مصالح.. لماذا دبت الخلافات بين الأسرة والثورة؟
السبت 04-04-2020 22:24 | كتب: عبدالله سالم |
محمود أبوالفتح مع الملك فاروق محمود أبوالفتح مع الملك فاروق تصوير :

عن طريق صهره ثروت عكاشة، عضو حركة الضباط الأحرار، تعرّف أحمد أبوالفتح إلى جمال عبدالناصر، وكان صوته من الأصوات المسموعة لدى المجلس في الفترة الأولى، وكان دوره وسط مجموعة الشباب التقدمي الجديد في حزب الوفد وعلى اليسار من التيار الرئيسي فيه دورًا ظاهرًا، فكان حلقة الاتصال بين الضباط والوفد الذي كان حزب الأغلبية حتى ذلك الوقت.

عندما تنازل الملك فاروق عن العرش، ذهب الصحفي إحسان عبدالقدوس للقاء أحمد أبوالفتح في مقر جريدة المصري، ويقول الأخير عن ذلك اللقاء: «قال لي إحسان عبدالقدوس يومها: أرجو ألا تغرق في التفاؤل فإننا مقبلون على حكم عسكري ديكتاتوري»، وبعدها بأيام بدأت الشكوك تتراكم في نفس رئيس التحرير عندما تقرر تشكيل مجلس وصاية على عرش الملك أحمد فؤاد.

يقول «أبوالفتح»: «قانونيًا، كان يتعين على الأوصياء على العرش حلف اليمين أمام البرلمان، لكن البرلمان الأخير حلته وزارة نجيب الهلالي، فقرر مجلس الثورة إحالة الأمر إلى مجلس الدولة برئاسة عبدالرازق السنهوري لاستصدار فتوى دستورية، فقرر الأخير جمع المستشارين الإداريين دون القضائيين، وصدر قرار تشكيل مجلس الأوصياء دون انعقاد البرلمان».

في ذلك اليوم، يقول أحمد أبوالفتح إن الدكتور وحيد رأفت، أستاذ القانون بجامعة القاهرة، دعاه للقائه في منزله الكائن بالمعادي، ويضيف في كتابه «جمال عبدالناصر»: «قال لي بصوت تخللته رعشة: لقد مُزق الدستور اليوم، فالإجراء غير قانوني، إذ يحتم القانون دعوة جميع المستشارين الإداريين والقضائيين، وأبعد القضائيون لأنهم كانوا لا يستطيعون مخالفة القانون».

في موضع آخر، ينكر «أبوالفتح» على عبدالناصر «التوسع في جلب أدوات التسجيل للتجسس على الناس»، مشيرًا إلى «مؤامرة الصولات»: «قال لي عبدالناصر وهو يضحك: اكتشفنا أن أحد الصولات يعد انقلابًا (..) لقد اتصل ببعض الصولات وقال لهم: لماذا ينفرد الضباط بأمر البلاد، إننا نستطيع القيام بما قاموا به (..) ودخل بعض الضباط مسكنه وسجلوا اجتماعاته».

عام 1953، بلغت الخلافات بين عبدالناصر و«أبوالفتح» ذروتها، ويفسّرها محمد حسنين هيكل في كتابه «لمصر لا لعبدالناصر» بـ3 أسباب: أولها سياسي، وهو أن «معنى الديمقراطية لم يكن واحدًا عند الاثنين، فالأول يرى أن إقامة ديمقراطية سياسية سليمة تعبر عن رأي الأغلبية وسلطتها لا يتأتى إلا إذا كانت الحقائق الاجتماعية والاقتصادية تعطي لهذه الأغلبية وزنها وثقلها».

يقول «هيكل»: «كان عبدالناصر يرى أن إجراء أي انتخابات قبل إجراء تغييرات اجتماعية واقتصادية تعطي الأغلبية وزنها وثقلها لن يكون من شأنه إلا أن يعيد إلى السلطة نفس العناصر القديمة التي تمثل الطبقة المتميزة في مصر والتي تسيطر على الحقائق الاجتماعية والاقتصادية فيها، وهذا يصبح بمثابة العودة إلى ديكتاتورية الأقلية الطبقية تحت اسم الديمقراطية».

29 مارس 1954.. مظاهرات في شوارع القاهرة تهتف بـ«سقوط الديمقراطية»

وكان رأي أحمد أبوالفتح مختلفًا، وهو أن حل مشكلة الديمقراطية هو إجراء الانتخابات فورًا. السبب الثاني كان «نفسيًا»، ويقول «هيكل»: «مرجعه فيما أظن أنه بالغ، ربما بحسن نية، في أهميته بالنسبة لأصدقائه الجدد، وبالتالي كانت جماعته وأسرته تنتظر أن يحقق لهم جميعًا أشياء عجز عن تحقيقها، وہإحساسه بالحرج فقد تحول خلاف الرأي إلى عناد ثم إلى عداء».

«تسقط الديمقراطية»

آل «أبوالفتح» يعزون خلافهم مع الثورة إلى مطالبهم بإقامة الديمقراطية، ويقول أحمد في كتابه «جمال عبدالناصر»: «في 29 مارس 1954، انطلقت مظاهرات في شوارع القاهرة مرددة: يسقط الدستور.. تسقط الحرية.. تسقط الديمقراطية.. يسقط المتعلمون. وكان راديو القاهرة ينقل هذه الهتافات مع وصف تفاصيل اعتدائها على البرلمان ومجلس الدولة ومبنى الجريدة».

جريدة الأهرام 30 مارس 1954

يضيف «أبوالفتح»: «في ذلك اليوم قال شقيقي {محمود}: لقد حانت ساعة العمل يا أحمد، إن المسؤولية التي ألقاها الله على عاتقنا ضخمة، والرسالة التي وجب علينا العمل لها رسالة كبرى (..) لقد استطاع عبدالناصر اليوم أن يحطم كفاح الشعب لبلوغ حكم ديمقراطي سليم وتحقيق الحرية السياسية والشخصية، وأن يضرب ضربته فيمحق بها الآمال الزاهرة التي يتطلع لها كل مصري».

محمود أبوالفتح: «عبدالناصر حطّم كفاح الشعب المصري لبلوغ الديمقراطية»

ينقل «أحمد» عن شقيقه: «لقد حطم عبدالناصر كل ذلك، وأمام مصر أيام سود، وأمام الشعب مستقبل حافل بكل ما يحمله الحكم الدیكتاتوري من بطش وظلم وإرهاب وفساد سیاسي. واليوم يا أحمد ونحن نعيش خارج مصر وجب علينا أن نحمل أمانة الدفاع عن الشعب المصري، ودفع الظلم والبطش والتعذيب عنه، علينا أن نعمل ونملأ الدنيا بأصواتنا دفاعًا عن إخواننا».

«منذ ذلك اليوم انطلق شقيقي يعمل وأنا إلى جواره»، يقول «أبوالفتح»، مضيفًا: «وفي زمن وجيز تكونت (لجنة مصر الحرة) التي رفعت راية الكفاح في سبيل تخليص مصر من ربقة الديكتاتورية، وسرعان ما اتسعت هذه اللجنة حتى صار لها داخل مصر وخارجها جنود بواسل يرفعون راية الحق ويعملون إما في السر أو في العلانية لإقامة حكم ديمقراطي برلماني سليم».

«مصالح»

الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة حلوان، يقول إن خلاف أسرة أبوالفتح ومجلس قيادة الثورة بدأ بعد قرار حل الأحزاب السياسية في 16 يناير 1953، معقبًا: «هنا بدأت ردود الأفعال في الظهور، فالذي كان مرتبطًا بحزب كان مرتبطًا أيضًا بمصير ومستقبل، لذا بدأ البعض يشعر بخطورة اتجاهات الثورة، وبدأت معركتهم للدفاع عن مصيرهم».

يضيف «الدسوقي»: «محمود أبوالفتح ترك مصر إلى بيروت ومنها إلى سويسرا، واختار الأخيرة لأنها كانت بلدًا محايدًا بموجب نظام الأمم المتحدة عام 1945، ولا يمكن اعتقال أحد فيها، ولا يمكن مصادرة أموال مودعة في أي من بنوكها، وبعد قرار حل الأحزاب وبعد انكشاف سياسات الثورة أمام العالم بدأت مساعي الغرب للقضاء على الثورة بإعادة الملك فاروق».

«هنا جاء دور محمود أبوالفتح»، يقول «الدسوقي»، مضيفًا: «المخابرات المصرية علمت بنشاطه بفضل اتصالاتها، ورأى جمال عبدالناصر أن يقطع الطريق على هذه المساعي فعجّل بإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953. ولقد اطلعت، خلال زيارتي إلى جامعة أكسفورد عام 1974، على وثائق في دار المحفوظات البريطانية حول محمود أبوالفتح ونشاطه».

محمود أبوالفتح مع الملك فاروق

يرجع «الدسوقي» خلاف الأسرة والثورة إلى «حرص الأولى على مصالحها وأموالها»، ويقول: «المصالح لها دور أساسي، ودائمًا يقال إن السياسة تتبع الاقتصاد، فعندما يكون نظامك اشتراكي تكون سياساتك معادية للرأسمالية. أسرة أبوالفتح تحاول تبرير حرصها على مصالحها، وهم أساسًا ينطلقون من كونهم أصحاب مال، وكانوا يعرفون أن الثورة ستأتي على أموالهم».

يقول «هيكل» إن السبب الثالث لخلاف أحمد أبوالفتح وعبدالناصر هو أن الأول «كان يشعر بوفاء شديد لأخيه محمود، ويعتبره ولي نعمته، وهذا تعبيره بالحرف، ولكن محمود أبوالفتح كان قد ترك الصحافة والجريدة لشقيقه أحمد وتفرغ هو تمامًا لدور رجل الأعمال، وأحس أحمد أن أخاه لا يأخذ ما يعتبره هو حقًا له، وأن فرصًا كثيرة ضاعت أو ضيعت عليه لأسباب لا يعرفها».

عاصم الدسوقي: «آل أبوالفتح كانوا يعرفون أن الثورة ستأتي على أموالهم»

في مهمة صحفية لتغطية الانقلاب على الرئيس السوري أديب الشيشكلي في فبراير 1954، التقى «هيكل» مع محمود أبوالفتح في فندق سان جورج في بيروت، ويقول عن ذلك اللقاء: «سألته عن شقيقه أحمد، وكان قد غادر القاهرة إلى جنيف، وقال لي الأستاذ محمود إنه يريد أن يجلس معي لحديث طويل عن العلاقات بين جمال عبدالناصر وشقيقه، واتفقنا على ترتيب مقابلة بينهما».

يقول «هيكل» إنه تعهد لـ«أبوالفتح» بضمان خروج شقيقه من القاهرة بعد المقابلة المرتقبة مع عبدالناصر مهما كانت نتائجها، ويضيف: «جاء أحمد أبوالفتح وذهبنا معًا إلى بيت جمال عبدالناصر، وجلسنا نحن الثلاثة لحديث طال 4 ساعات، وفي الواقع فقد كان الحديث بين الاثنين، وكنت أتابع ما يدور بينهما صامتًا (..) وكان الخلاف واضحًا بين الاثنين في الآراء وفي المواقف».

ارتفعت درجة حرارة الحديث مرتين، يقول «هيكل»، مرة عندما أثار عبدالناصر مسألة «الاتصالات التي يقوم بها محمود أبوالفتح في أوروبا وفي العالم العربي، خصوصًا مع نوري السعيد، رئيس وزراء العراق وقتها، وكان رد أحمد أن علاقات شقيقه ونوري السعيد هي علاقات رجل أعمال يورد مهمات لمشروعات في العراق، بجانب توريد السلاح كوكيل لبعض شركاته».

الصحفي اللبناني زهير عسيران، صديق أسرة «أبوالفتح»، ومراسل «المصري» في بيروت، تطرق في مذكراته إلى «مأساة محمود أبوالفتح بعد تجريده من الجنسية المصرية وتشريده»، ويقول إنه اتصل بوزير خارجية العراق آنذاك، فاضل الجمالي، وأبلغه بظروف صاحب «المصري»، فأبدت السلطات في بغداد تعاطفًا، وقررت حكومة نوري السعيد منحه الجنسية.

نوري السعيد، رئيس وزراء العراق – صورة أرشيفية

يضيف «عسيران»: «ظل محمود أبوالفتح عراقيًا حتى الانقلاب الذي قام به عبدالكريم قاسم {ثورة تموز 1958}، حيث قرر مجلس الوزراء في أول جلسة له سحب الجنسية العراقية منه»، واستطاع «عسيران» بفضل علاقاته الحصول على صورة من مرسوم حكومة نوري السعيد القاضي بمنح الجنسية لـ«أبوالفتح»، معقبًا: «هكذا، بقيت الجنسية سارية المفعول في سويسرا».

«كان رأي عبدالناصر أن الصلات والاتصالات {بين أبوالفتح ونوري السعيد} فيها عنصر سياسي»، يقول «هيكل»، «وارتفعت درجة حرارة الحديث مرة أخرى عندما تساءل أحمد: لماذا تضار مصالح أخي محمود في مصر؟ ولا يحصل على حقه؟ وسأله عبدالناصر: وهل حدث ذلك؟ فرد: نعم، إن أخي تقدم لمشروع أتوبيسات النقل في القاهرة ولكنه ذهب إلى عبداللطيف أبورجيلة».

«بنادق وآنية ذهب»

يقول «هيكل» في كتابه إن «أبوالفتح» قال لعبدالناصر: «تقدم أخي أيضًا وكيلًا عن شركة سلاح بعرض بندقية مقررة لحلف الأطلنطي، ومعنى هذا أنها ممتازة، ولكن اللجنة العسكرية المشرفة على مشتريات السلاح رفضتها. هنا بدت الدهشة على وجه عبدالناصر، وسأل: وهل تتصور أن لي علاقة بذلك أو أنني أتدخل في مثل هذه الشؤون، هذه مسائل تقررها الوزارات المسؤولة».

«جرى إيه يا أحمد، أتوبيسات إيه؟ وبنادق إيه؟»، هكذا رد جمال عبدالناصر بالحرف على حديث أحمد أبوالفتح وقد شاع الأسف في نبرة صوته، كما يقول «هيكل»، مضيفًا: «كان واضحًا أمامي أن الحديث سار إلى طريق مسدود، وفي الأسابيع التالية بدأت أسمع من عبدالناصر أكثر من مرة، وبأسف أكثر من غضب، عن النشاط المنسوب إلى محمود أبوالفتح في أوروبا وفي بغداد».

[quote:4]

في 27 أبريل 1954، علم «هيكل» بإحالة نشاط محمود أبوالفتح إلى محكمة الثورة، ونص قرار الإدعاء ضده على أنه «أتى أفعالًا ضد سلامة الوطن، ومن شأنها إفساد أداة الحكم، ففي غضون سنة 1954 وما قبلها: قام بدعايات واتصالات ضد نظام الحكم القائم بقصد تقويض النشاط القومي للبلاد، وأغری موظفًا عموميًا بطرق غير مشروعة لإتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية».

المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق يقول في كتابه «ثورة يوليو والحياة الحزبية» إن قرارات مارس 1954 «هيأت الفرصة لقوى المعارضة لكي تكشف عن مواقفها بشكل سافر، وهيأت للثورة نافذة تطل منها على قوى المعارضة لتبدو سافرة، فشن أحمد أبوالفتح حملة قاسية على الضباط واتهمهم، والجيش عمومًا، اتهامات تتعلق بالتصرفات الشخصية والذمة المالية».

سفور قوى المعارضة القديمة، كما يسميه «الشلق»، أثار خوف الضباط من المستقبل، وأثار حفيظتهم ضد قرارات مارس وضد الديمقراطية بشكل عام، وبدأ عبدالناصر في «حشد الضباط وتحريك إضرابات عمال النقل الشهيرة، وانطلقت المظاهرات المعدة والمؤيدة للثورة تهتف بسقوط الأحزاب والديمقراطية، في إشارة إلى القوى السياسية، وألغيت قرارات مارس».

يقول أحمد أبوالفتح في كتابه: «عبدالناصر لم يتحمل الدفاع عن الديمقراطية وهو الذي قاد حركة الجيش واعدًا بإعادة الحرية والديمقراطية، واستغل المرتزقة يوم ۲۹ مارس ليهتفوا في الشوارع بسقوط الديمقراطية، وكانت تلك الهتافات أكبر عار شهدته شوارع مصر، إذ انتشر حثالة البشر الذين دفع لهم عبدالناصر ليهاجموا مجلس الدولة ثم يتوجهون لمهاجمة دار المصري».

يضيف: «ويوم صدور الحكم (محكمة الثورة) أرسل أخي محمود برقية يبدى فيها استعداده لتسديد الغرامة، والمثول أمام أية محكمة تتكون من رجال القضاء المصري، ولكن طبعًا لم تعر السلطات هذه البرقية أية أهمية، فقد كان غرضها الانتقام، ووقف صدور جريدة المصرى، ونهب وسلب ثروتنا (..) ووضعت السلطات يدها على كل حسابات محمود أبوالفتح وخزائنه في البنوك».

يرجع «أبوالفتح» غضب عبدالناصر ورفاقه من الأسرة إلى رغبتهم في الحصول على تأييد «المصري»، وهي التي باركت الثورة منذ يومها الأول. فهل كان ذلك التأييد السريع تعبيرًا حقيقيًا عن موقف الأسرة؟

يروي الدكتور سيد أبوالنجا، مدير عام جريدة «المصري» وقتها، كواليس ما جرى ليلة اندلاع الثورة ويومها الأول، ويقول في مذكراته إن «ثلة من الجنود أحاطت بمبنى الجريدة فور قيام الثورة، وجاءني إخطار بالموقف، وكان أصحاب الجريدة متغيبين».

ذهب «أبوالنجا» إلى الجريدة في السادسة صباحًا، فوجد في انتظاره أمرًا من جمال عبدالناصر يقضي بأن يصدر على الفور ملحقًا خاصًا من الجريدة عن قيام الثورة، كما يقول في مذكراته، معقبًا: «اتفقت مع مدير المطابع، وكان قريبًا لصاحب المصري، على أن يعد صفحات الرصاص، ثم يتركها تسيح، ويعد غيرها لتسيح أيضًا، ويستمر هكذا فيقنع الضباط بأننا ننفذ تعليماتهم».

يضيف «أبوالنجا» في مذكراته المعنونة «مذكرات عارية» عن مباركة الجريدة للثورة: «اتفقت مع عمال المطابع على بدء عملية الطبع فعليًا عند سماع كلمة السر في التليفون وهي (فورًا)، وبعد ساعات قليلة جاءني أن مرتضى المراغي، وزير الداخلية، سلم بكل طلبات رجال الثورة، فخرج العدد الخاص إلى الأسواق مبكرًا كأنما كان نصيرًا للثورة مهما كانت النتائج».

عندما عاد محمود أبوالفتح من أوروبا، زار أعضاء مجلس الثورة في ثكناتهم مهنئًا، ويقول «أبوالنجا»: «دعاهم إلى غداء في بيته، وكانت عنده آنية من الذهب الخالص اشتراها لضيافة الملك عبدالعزيز آل سعود الذي كان قد وعده بالزيارة حين يجيء لزيارة الملك فاروق. ولم تكتمل زيارة الملك، فقدم أبوالفتح الطعام لأعضاء مجلس الثورة في تلك الآنية، وكان أثرها عليهم سيئًا».

السيرة الحائرة لأسرة أبو الفتح

في كتابه «جمال عبدالناصر»، يقول أحمد أبوالفتح: «عندما عاد أخي محمود إلى القاهرة وتقابل مع عبدالناصر وعبدالحكيم عامر في دار المصري دعا ضباط مجلس القيادة على الغداء في مسكنه، وحضر الجميع، ولا شك أن هذه الدعوة كانت خطأ، إذ إن مسكن أخي كان به تحفًا من أجمل التحف، ولعل هذا ما جعلهم بعد المحاكمة يبادرون بالاستيلاء على المسكن وكل محتوياته».

تصريح بالخوف!

في مذكراته «أيام الوفد الأخيرة»، يقول النائب الوفدي إبراهيم طلعت: «في ليلة 4 أغسطس 1952، وفي منزل أحمد فؤاد، أحد الضباط الأحرار، اجتمعت على الغذاء مع كل من جمال عبدالناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين وعبدالحكيم عامر، ودار حديث حول نظام الحكم بعد نجاح الثورة، وجرى الاتفاق على ضرورة عودة الحياة الدستورية بما يحقق الديمقراطية».

نقل «طلعت»، كما يقول في مذكراته، تفاصيل ما جرى في ذلك الاجتماع إلى صديقه أحمد أبوالفتح في حضور عبدالناصر وعبدالحكيم عامر في حديقة جريدة المصري 10 أغسطس 1952، وفي اليوم التالي تقابل «أبوالفتح» مع «طلعت» في كافيتريا «البافيون» بمصر الجديدة، وصارحه بأنه خائف: «ما أعرفش.. إحساس عندي.. كل اللغوصة اللي بتحصل في البلد دي!».

في 12 أغسطس، انفردت «المصري» بنشر «نص مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية الذي قدمه مجلس الثورة للوزارة لإصداره»، وفي اليوم نفسه فوجئ «طلعت» بـ«أبوالفتح» يصيح فيه: «رحنا في داهية يا إبراهيم!»؛ كان على ماهر، رئيس الحكومة، قد أخبر اللواء محمد نجيب بأن «المصري» نشر «خبرًا مكذوبًا في محاولة للوقيعة بين الحكومة ومجلس قيادة الثورة».

لم يكن «نجيب» على علم بتفاصيل ما دار بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وإبراهيم طلعت وأحمد أبوالفتح في مقر «المصري»، ومن ثم صرح للصحفيين بأن ما نشرته جريدة المصري صباح 12 أغسطس «عار تمامًا عن الصحة وكاذب جملة وتفصيلًا، وأنه من خيال هذه الجريدة»، وطلب تكذيبًا رسميًا للخبر، وهنا «اهتزت الدنيا ولم تقعد»، كما يقول إبراهيم طلعت.

قرر «نجيب» أن تنشر جريدة الزمان تكذيبًا على لسانه بأن مجلس الثورة لا علاقة له بما نشرته «المصري» وأنه لا مشروع إطلاقًا لتحديد الملكية الزراعية، وفي مساء اليوم نفسه تقابل «أبوالفتح» و«طلعت» مع عبدالناصر، وتحدثوا عن الفضيحة التي تنتظرها «المصري»؛ إذ كانت «الزمان» قد انتهت من طبعتها الأولى التي تحمل مانشيت رئيسيًا لتكذيب «المصري».

غلاف كتاب أحمد أبوالفتح «جمال عبدالناصر»

«ارتسمت على وجه عبدالناصر ابتسامة هادئة ومطمئنة»، يقول «طلعت»، مضيفًا أنه أخبرهما بـ«سحب كل نسخ الطبعة الأولى لجريدة الزمان ومصادرة كل ما طبع منها على رأس قوة بقيادة الصاغ عبدالمنعم النجار، وإعادة طبعها من جديد بمانشيت رئيسي مختلف يحمل عنوان (ما نشرته جريدة المصري هو نص المشروع الذي قدمه مجلس قيادة الثورة للحكومة لإصداره)».

خرج «أبوالفتح» و«طلعت» من مكتب جمال عبدالناصر في مجلس قيادة الثورة «مذهولين»، ونظر النائب الوفدي لصديقه قائلًا: «أنا الآن يا أحمد أستطيع القول بأني أشاركك الخوف الذي انتابك يوم أمس، فما حدث بجريدة الزمان اليوم من المحتم أن يحدث لجريدة المصري غدًا»، وكانت آثار نشر خبر تحديد الملكية الزراعية «شبه كارثية، أدت لمظاهرات عنيفة».

خروج «أبوالفتح» الأخير

علم محمود أبوالفتح أن هناك أزمة داخل مجلس قيادة الثورة نفسه حول محمد نجيب ووزارة على ماهر، لأن عبدالناصر «كان يرى أن الأخير يريد الانفراد بالسلطة، وكان يرحب بإسناد الحكومة إلى الدكتور عبدالرزاق السنهوري، رئيس مجلس الدولة وقتها»، تلك الأزمة ألقت بظلالها على حركة الأعمال في مصر، فقرر صاحب «المصري» السفر إلى لبنان ومنها إلى سويسرا.

غادر محمود أبوالفتح القاهرة إلى بيروت في مايو 1953 تقريبًا، وهناك تقابل مع الصحفي اللبناني زهير عسيران، صديق الأسرة، ومراسل «المصري» في بيروت، الذي كان يستعد في ذلك الوقت للسفر إلى مصر؛ إذ عهد إليه عفيف الطيبي، نقيب الصحفيين اللبنانيين آنذاك، لإلقاء كلمة صحافة لبنان أمام مؤتمر نظمه مجلس القيادة للاحتفال بالعيد الأول للثورة في 23 يوليو 1953.

[quote:5]

يرجع زهير عسيران سبب انضمامه إلى أسرة «أبوالفتح» في معارضة «عبدالناصر» إلى «تراجع الحريات في مصر منذ عام 1953»، ويقول في مذكراته: «في الذكرى الأولى للثورة، لبت نقابات الصحف في سوريا ولبنان والعراق والأردن دعوة نقابة الصحفيين المصريين إلى مؤتمر يعقد في القاهرة، فعُهد إليّ برئاسة الوفد اللبناني بصفتي نائبًا لنقيب الصحفيين».

يضيف: «ترأس المؤتمر رئيس الجمهورية آنذاك، محمد نجيب. قبل افتتاح المؤتمر طُلب إلى رؤساء الوفود تقديم كلماتهم للاطلاع عليها مسبقًا، فعادت كلمتي من لدن الرقيب بعلامات استفهام كثيرة حول مقاطع تتعلق بالديمقراطية والحريات، مما سبب الاستغراب؛ فالثورة أطاحت الملكية وجاءت بحكم الشعب ووعدت بإطلاق الحريات وقالت: (ارفع رأسك يا أخي فأنت اليوم حر)».

يمضي قائلًا: «دعيت لإلقاء كلمة صحافة لبنان فألقيتها بنصها الأصلي متجاهلًا علامات الاستفهام والتعديل، وبوصولي إلى الكلام عن الحرية وحق الشعوب في أن تحكم نفسها بنفسها اشتعلت القاعة بالتصفيق، ولاحظت من عبدالناصر لفتة ذات مغزى نحو نجيب جعلتني أتساءل: ترى ماذا دهى الحرية؟ هل ينوي الضباط أن يستأخروها؟ وهل تخطو الثورة إلى المجهول؟».

«نهض محمد نجيب في نهاية المؤتمر فشكر الوفود الصحفية، ثم تحدّث عن الحرية، وأن لمصر تاريخ طويل معها ومع الاستعمار، قال ذلك بنبرة قوية شجاعة»، يقول «عسيران»، مضيفًا: «قلت في نفسي إما أن الرئيس أراد أن يزايد على كلمتي ليفهم الحاضرين أن الحرية بخير، أو أن الرقيب يتبع سلطة خارجة عن إرادة الرئيس، وتبين لي فيما بعد أن استنتاجي كان في محله».

محمد نجيب – صورة أرشيفية

يشير «عسيران» في مذكراته إلى دور جريدة المصري وأسرة «أبوالفتح» في «مساندة الثورة»، فيقول: «من مطابعها كانت تخرج بياناتهم، وفيها يحتفظون بسلاحهم الخفيف، وفي حضور أحمد أبوالفتح ومشاركته عقدت جميع مراحل التخطيط لإحدى أعظم الثورات وأخطرها في التاريخ»، فضلًا عن «التستر على عبدالناصر ورفاقه في إحدى مداهمات البوليس السري».

يضيف: «ولكن بعد نجاح الانقلاب وخروج عبدالناصر إلى العلن رئيسًا للوزراء، ومحمد نجيب في رئاسة الجمهورية، وقع الخلاف حول عودة الحياة البرلمانية والحريات التي وعد بها قادة الثورة، فتصدت لهم جريدة المصري بسلسلة مقالات بعنوان (حكم الشعب)، استوجبت عقد اجتماع بين عبدالناصر وأحمد أبوالفتح في منزل صهره ثروت عكاشة انتهى إلى خلاف في الرأي».

يختتم «عسيران» شهادته قائلًا: «أصر رئيس تحرير المصري على رأيه بوجوب عودة الحياة البرلمانية فورًا إلى مصر، وبعد هذا الاجتماع الذي كان حارًا عاصفًا، استمرت المصري في موقفها المطالب بأن يعود الحكم إلى الشعب، فصدر قرار بإسكات صوتها ثم مصادرة مطابعها التي كانت تستعد للانتقال إلى عاصمة أخرى تمارس فيها حريتها ودفاعها عن حرية مصر».

في كتابه المعنون «عمالقة الصحافة»، يقول حافظ محمود، السكرتير العام الأول لنقابة الصحفيين، إن محمود أبوالفتح اتفق معه في مارس 1953 على خطة صحفية للعهد الجديد {الثورة}، ويضيف: «بعد مقابلته مع رئيس مجلس قيادة الثورة، قال لي محمود أبوالفتح: ماذا أخذنا، أنا وأنت، من النظام الملكي، لقد خاصمونا وخاصمناهم، وهي خصومة تربط بيننا وبين العهد الجديد».

يمضي «محمود» قائلًا: «يومئذ اتفق معي محمود أبوالفتح على خطة صحفية جديدة للعهد الجديد، وطلب إليّ ألا أذيع سر هذه الخطة إلا بعد أن يعود من رحلة سريعة إلى الخارج يدبر فيها ما تحتاجه مشاريعنا الصحفية الجديدة (..) ثم انقلبت الدنيا، وحوكم أبوالفتح وأخوه وهو غائب، ولا شك أن الحكم عليه قد جعله في موقف مغاير لما قال لي، وإن كان حبه وحنينه لبلده لم يتغير».

الصحفي الراحل حافظ محمود

جمال حماد.. عين على «أبوالفتح»

قبل صدور أحكام الثورة بحق محمود وحسين أبوالفتح، كان جمال عبدالناصر يتلقى معلومات حول نشاط الأسرة في الخارج، وبعد المحاكمة توالت تقارير سرية من بيروت وبغداد ترصد تحركاتهم واتصالاتهم، وتشير شهادة ووثيقة إلى أن جمال حماد، الملحق العسكري في دمشق آنذاك، والأمير عبدالإله، الوصي على عرش العراق حتى عام 1958، كانا مصدر تلك التقارير.

في لقائه مع برنامج «شاهد على العصر» المعروض على قناة «الجزيرة» عام 2008، شن المؤرخ العسكري جمال حماد، وهو أحد الضباط الأحرار، هجومًا ضاريًا على ثورة يوليو وقيادتها، بصورة يقول الكاتب الصحفي عبدالله السناوي إنها «تجاوزت النقد والحق فيه لتجربة سياسية وإنسانية إلى نزع أية قيمة سياسية أو أخلاقية عن الثورة وقيادتها، ونفي أية إيجابية عنها».

بعد عامين من سلسلة حواراته مع «شاهد على العصر»، أصدر «حماد» كتابه «أسرار ثورة 23 يوليو» عام 2010، وانتقد فيه «انحراف مجلس قيادة الثورة عن الديمقراطية»، بينما أشاد بدور أسرة «أبوالفتح» وجريدة المصري في الفترة السابقة لأزمة مارس 1954، قائلًا: «حفلت صفحات المصري خلال تلك الفترة بمقالات الكتاب والسياسيين الأحرار الداعية للديمقراطية».

يقول «حماد» في كتابه: «نشرت المصري مقالًا للقانوني الضليع الدكتور وحيد رأفت بتاريخ 8 مارس 1954، لكن صلاح سالم عاد ليهدد في مؤتمر شعبي يوم 13 مارس بأن ثورة الجيش القادمة ستكون حمراء، قائلًا: ولا يظن ظان أنه لا قدر الله لو عاد الفساد مرة أخرى أن الجيش سيحمي الطغيان، ستكون ثورة من نوع جديد، لن تكون ثورة بيضاء بل ستكون ثورة حمراء».

[quote:6]

الكاتب الصحفي عبدالله السناوي رد على «شهادة حمّاد على العصر» بوثيقة «بخط يده شخصيًا»، نشرتها صحيفة «العربي» المصرية منتصف فبراير 2009، وهي عبارة عن رسالة من «حمّاد» إلى جمال عبدالناصر بتاريخ 24 سبتمبر 1962، يقول فيها إن التقارير السرية التي كان يرسلها أثناء ابتعاثه ملحقًا عسكريًا في دمشق هي التي أوصلت «أبوالفتح» إلى محكمة الثورة.

يقول «السناوي»: «الوثيقة تؤكد أن صاحبها كاتب تقارير محترف، يعترف بخط يده أن من يحيكون المؤامرات ضده أدرى الناس بمدى خبرته في تلك الأمور. في تلك الوثيقة اعتراف صريح بأنه هو الذي أوشى بأصحاب جريدة المصري، وأن تقاريره أدت إلى إغلاق الجريدة، وأن المعلومات التي حصل عليها من بيروت أوائل الخمسينيات كانت المستند الرئيسى في محاكمتهم».

يضيف «السناوي»: «يلاحظ أن تلك التقارير كتبت قبل الصدام بين الثورة وأسرة أبوالفتح، ويبدو أنها اصطنعت فجوة خطيرة أدت تاليًا إلى اندفاع الأسرة في الصدام إلى حدود خطيرة من التعاون مع الاستخبارات الفرنسية والبريطانية أثناء العدوان الثلاثي على مصر، وهذه خطيئة لا تغتفر نالت على نحو يصعب ترميمه من دور الصحيفة الذي لعبته عند مقدمات الثورة».

المصري اليوم تحاور اللواء جمال حماد – صورة أرشيفية

تنقل الوثيقة عن «حماد» قوله: «لقد هال فئة السياسيين الرجعيين اتصالاتي الوثيقة بضباط الجيش السوري الأحرار (..) وأزعجتهم جهودي المثمرة في تعزيز العلاقات المصرية السورية (..) وهالهم إخلاصي في عملي ونشاطي الدائب وولائي للثورة وزعيمها (..) لقد اعتبرت هذه الفئة الرجعية نشاطي خطرًا يقلق مضاجعهم (..) فعقدوا العزم على ضرورة التخلص مني».

تضيف الوثيقة: «شارك في ذلك الهدف فئة من المصريين يملأ قلوبهم حقد هائل ضدي وهم آل أبوالفتح ومن يلوذ بهم من أذناب، فلقد أثرتَ نقمتهم حين كشفت نشاطهم المعادي للثورة في لبنان حين كانوا لا يزالون يدبرونه في طي الخفاء، وتسبب تقريري عنهم إلى المخابرات في إغلاق جريدتهم وتقديمهم إلى محكمة الثورة فمضوا مع حلفائهم يدبرون لي الدسائس والمؤامرات».

في موضع آخر من الوثيقة، يقول «حماد»: «وفوجئت مرة بدخول زمرة من الصحفيين السوريين واللبنانيين إلى مكتبي من أعوان أبوالفتح، وأبلغني أحدهم وهو زهير عسيران أن معهم نص التقرير الذي أرسلته للمخابرات عن نشاط محمود وأحمد أبوالفتح في بيروت، وورد في التقرير تعرض لشخصيات سياسية لبنانية وذكر لمقابلتهم مع آل أبوالفتح، التي كانت تحت رقابتي».

يضيف: «هددني زهير عسيران ومن معه بنشر تقرير في الصحف وفضح تحرياتي السرية إلا إذا استجبت لطلبهم وهو الاتصال بحكومتي والحيلولة دون محاكمة آل أبوالفتح، فرفضت، وطلبت منهم أن يفعلوا ما يريدون، وفعلًا نشر التقرير في بعض الصحف الموالية لهم عقب حكم محكمة الثورة على أبوالفتح، مع حملة شعواء بضرورة طردي من لبنان لقيامي بالتجسس فيها».

تمضي الوثيقة: «لم ينس آل أبوالفتح حقدهم عليّ حتى بعد أن تركت منصبي في دمشق (..) ظلوا يتابعون حملة التشهير ضدي بصفة شخصية من محطة إذاعة بغداد التي كانت تربطهم بها وقتئذ أوثق الصلات، لأن غرضهم لم يكن إبعادي عن دمشق فحسب، بل هو الانتقام مني (..) وحتى لا أفضح أساليبهم وأكشف وسائلهم ذات يوم، وهم أدرى الناس بمدى خبرتي في تلك الأمور».

يواصل «حمّاد» قائلًا، بحسب الوثيقة: «إن ما أوردته في مذكرتي هذه هو بعض ما واجهته من مؤامرات دنيئة من هذه الفئة الغادرة بسبب إخلاصي في عملي وتأدية واجبي بتجرد وإيمان، غير عابئ بما يثيره ذلك من تآلب الأعداء وخطرهم عليّ، وإنني إذ أرفع إلى سيادتكم هذه المذكرة لا أستهدف من ورائها منصبًا، ولا أبتغي مطلبًا، فإنني قانع بفضل رضائكم بوضعي الحالي».

يختتم: «كل ما أبتغيه هو أن أزيل من نفس قائدي وزعيمي الذي أفتديه بحياتي أي شائبة قد تكون عالقة في نفسه من ناحيتي نتيجة لهذه الحملات التشهيرية، ولا ألتمس من سيادتكم سوى (..) أن تسبغوا عليّ شرف لقائكم لكي (..) أشعر حقًا أنني موضع ثقتكم وتقديركم (..) سأظل كما عهدتموني دائمًا الجندي المخلص للثورة وزعيمها إلى آخر رمق في الحياة (..) والله ينصركم».

في برنامجه «مع هيكل» المعروض على قناة «الجزيرة» عام 2007، ألمح محمد حسنين هيكل إلى تضارب موقف اللواء جمال حماد من أسرة أبوالفتح قائلًا: «الملحق العسكري القديم بقى مؤرخ عسكري مرموق، وإذا به يكتب وينقد معلوماته. بيقول في تقريره لعبدالناصر إنه والله ده أنا تقاريري هي اللي أدت إلى إدانة هؤلاء الخونة (..) وإذا به بيكتب إن دي كانت قضية رأي».

الأمير عبدالإله.. عين أخرى

يقول «هيكل» في حلقة برنامجه «مع هيكل» التي تطرق فيها إلى «أحداث إغلاق جريدة المصري» إن الأمير عبدالإله، الوصي على عرش العراق خلال فترة الخمسينيات، كان «أهم مصدر للأخبار» يعتمد عليه جمال عبدالناصر عن نشاط «أبوالفتح» في العراق، وذلك بعد «ذوبان الجليد بينه وبين عبدالناصر، وبعد أن دفأت العلاقات بأكثر مما هو متوقع بين الاثنين».

الأمير عبدالإله الوصي على عرش العراق – ضورة أرشيفية

يضيف «هيكل»: «الأمير عبدالإله قال لعبدالناصر: نوري باشا يشطّ أحيانًا، وأنا أعدك ألا يستخدم العراق في عمل ضدكم، وإذا كان هناك عمل ضدكم سأبلغكم، وبدأت تجيء أخبار ملفتة للنظر، نوري باشا بدأ يستعمل محمود أبوالفتح، أو هو بيستعمل نوري باشا، بدأت تبقى في حاجات لفتت نظر عبدالناصر فقال لأحمد أبوالفتح: خلي بالك من نشاط أخوك مع نوري باشا».

يمضي قائلًا: «طبعًا محدش كان عارف في هذا الوقت أنه أهم مصدر للأخبار في هذه الفترة كان بنفسه الوصي على عرش العراق، أنا أقولها إنصافًا للرجل وتوضيحًا لزاوية في التاريخ، والمسائل مشيت، لكن بدأت الأخبار تيجي بعد كده أنه الأستاذ محمود أبوالفتح بدأ بعد الأزمة اللي دخل فيها أحمد أبوالفتح وبعد أن فشل اللقاء اللي كان موجود في القاهرة بدأ بالكامل يتعاون مع الإنجليز».

يقول «هيكل»: «محمود أبوالفتح بدأ يتعاون مع الإنجليز، كتب جواب لرئيس الوزراء البريطاني، عرض فيه أن يتعاون بكل الوسائل مع الحكومة البريطانية في مواجهتها للنظام اللي موجود في مصر واللي بيعمل المشاكل دي كلها معها، وبدأ يقول إنه عنده حلف وقوة موجودة في مصر، تحالف فيه مصطفى النحاس، وأنا أظن أنه هذا غير صحيح، بل أنا واثق أنه غير صحيح».

يضيف: «بدأ محمود أبوالفتح يقول عنده ضباط بيعملوا نشاط وعنده تنظيم سياسي وتنظيم عسكري في الجيش وعنده في البلد كذا وعنده وعنده، وكنا هنا بنتجه إلى قرب {حرب} السويس. أنا هأقفز بالحوادث إلى أمام قليلًا، لكن محمود أبوالفتح بدأ في هذه الفترة داخل (..) ووزارة الخارجية في الأول وهذا واضح في الوثائق بدأت تشوف جوابات أبوالفتح، وبعدين بعث لآيزنهاور على (الطغمة العسكرية الفاسدة) في مصر».

سقطة زغلول عبدالرحمن

بعد الانفصال عن سوريا، وأمام مؤتمر شتورا في لبنان أغسطس 1962، تفجّرت مفاجأة على لسان المقدّم زغلول عبدالرحمن، الملحق العسكري المصري في بيروت، إذ أعلن بإيعاز من خاله أحمد أبوالفتح، وبالترتيب مع الملك سعود بن عبدالعزيز، تأييد الانفصاليين في سوريا أمام المؤتمر، ليقوم سفير السعودية بعد ذلك بتهريبه عبر سيارته إلى سوريا ومنها إلى أوروبا.

يقول الكاتب الصحفي عبدالله السناوي: «بدت تلك سقطة كبرى في حياة زغلول عبدالرحمن، ندم عليها فيما بعد طويلًا وكثيرًا عندما استشعر في أوروبا أن الأطراف التي التقته ربما تكون إسرائيلية، أو أن الشخصيات البريطانية التي التقاها عن طريق أقاربه في عائلة أبوالفتح مهتمة بالسؤال عن الصواريخ المصرية، فعاد بمحض اختياره إلى مصر وتقبل مصيره فيها».

فور عودته إلى مصر، قدم «عبدالرحمن» إلى محاكمة عسكرية، وقال في التحقيقات إن «أحمد أبوالفتح أغراه بالهروب من وظيفته وتسليم جميع أوراقه بصفته مستشارًا في سفارة مصر في بيروت إلى الحكومة السعودية، وأنه علم أن أحمد أبوالفتح قبض 250 ألف جنيه إسترليني من الملك سعود لتنفيذ هذه الخطة، وأن أسرة أبوالفتح أغرته بالعمل مع الاستخبارات البريطانية».

الكاتب الصحفي عبدالرحمن فهمي، ابن خالة زغلول عبدالرحمن، يقول: «الانفصال كان طعنة في قلب زغلول أكثر من عبدالناصر نفسه، وهاجم في مؤتمر شتورا تصرفات عبدالناصر الذي يفضل صداقته وحبه لعبدالحكيم عامر على البلد والمصلحة العامة، وهاجر زغلول إلى أخواله في جنيف بعد أن سلّم أموالًا لا حصر لها كانت تحت يده لمندوب لبنان في جامعة الدول العربية».

يضيف: «بعد الهجرة بسنوات حن زغلول لبلده الذي يعشقه وعاد من تلقاء نفسه وسلم نفسه في المطار وجرت محاكمته وحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص. أرسلوا الحكم إلى عبدالناصر فسالت دموعه على وجهه (..) مزق الحكم بدلًا من أن يوقعه، وأرسل له ليراه وتقابلا في حديقة المنزل بالعناق والقبلات وظلا معًا بقية اليوم في منزل عبدالناصر مع بعض الأصدقاء».

قضية رأي

في كتابه «بين السياسة والصحافة»، ذكر «هيكل» اسم أحمد أبوالفتح مرتين: الأولى في معرض بيانه لخطاب مصطفى أمين إلى الرئيس جمال عبدالناصر، بعد إلقاء القبض عليه بتهمة «التخابر لصالح الولايات المتحدة الأمريكية» 21 يوليو 1965، وجاء فيه: «أنا {مصطفى أمين} الذي أخبرت سيادتكم بنبأ المؤامرة التي يقوم بها الملك سعود مع أحمد أبوالفتح وسعيد رمضان».

المرة الثانية جاءت في خطاب على أمين إلى «هيكل» بتاريخ 30 مارس 1966، بعد الحكم على شقيقه مصطفى أمين في قضية التخابر، وجاء فيه: «أحب أن أطمئنك أنني لم أتغير وأنني لا زلت على أمين الذي تعرفه وتحبه وتحترمه. لم أتحول إلى أحمد أبوالفتح، ولن أتحول في يوم من الأيام، فإنني أريد أن أفخر بأنني أعطيت بلادي كل شيء، وأنصفتها بعد أن ظلمتني..».

نص الخطاب المرسل من علي أمين إلى محمد حسنين هيكل مارس 1966

عام 1989، أقام أحمد أبوالفتح 3 دعاوى قضائية ضد «هيكل» وجريدة «الأهرام» ورئيس تحريرها آنذاك، الكاتب الصحفي الراحل إبراهيم نافع، للمطالبة بإلزامهم بدفع 30 مليون جنيه تعويضًا عما نشرته الجريدة من مقتطفات كتاب «سنوات الغليان» لـ«هيكل» في فترة رئاسة تحرير «نافع»، بدعوى «التعرض بالسب والقذف» لشخص شقيقه الراحل محمود أبوالفتح.

قبل ذلك، شن «أبوالفتح» هجومًا عنيفًا على «هيكل» عبر صفحات جريدة الوفد، «خرج فيه على حدود اللياقة والأدب وكل شيء»، كما يقول عبدالرحمن فهمي، ابن شقيقته. ولم يتردد «هيكل» في اختصامه استنادًا إلى «ما ورد في مقالاته من سب وقذف»، ودارت معركة قضائية بين الطرفين، وصفتها «الأهرام» بأنها «واحدة من أهم قضايا الرأي في مصر الحديثة»

«السيرة الحائرة».. أسرة «أبو الفتح» بين التخوين والتكريم (الحلقة 3)

حتى فاتن حمامة.. وثائق مراسلات «مصر الحرة» تتهم الجميع بالشيوعية
الأحد 05-04-2020 22:06 | كتب: عبدالله سالم |
هيئة محكمة جنح بولاق برئاسة محمد سعد الدين هيئة محكمة جنح بولاق برئاسة محمد سعد الدين تصوير : المصري اليوم

 

لجأ أحمد أبوالفتح إلى القضاء لمطالبة محمد حسنين هيكل و«الأهرام» بـ30 مليون جنيه كرد اعتبار للأسرة، لكنه خرج من المعركة محكومًا بالحبس سنة مع الشغل، وكفالة 200 جنيه لإيقاف التنفيذ، وملزمًا بدفع 100 جنيه للمدعي بالحق المدني «هيكل» كتعويض مؤقت، وذلك بالتضامن مع فؤاد سراج الدين، رئيس مجلس إدارة جريدة الوفد آنذاك، وجمال بدوي، رئيس تحريرها.

جرت وقائع معركة «أبوالفتح» و«هيكل» عامي 1989 و1990 أمام محكمة جنح بولاق، التي اشترطت لتبرئة «هيكل» إثبات توقيع محمود أبوالفتح على الوثيقة رقم «6» الواردة في كتابه «سنوات الغليان»، وهي وثيقة خطاب مرسل باسم لجنة أحرار العرب «مصر الحرة» إلى الحكومة البريطانية للتحريض ضد جمال عبدالناصر قبل العدوان الثلاثي عام 1956.

أحضر «هيكل» 3 وثائق لمراسلات لجنة «مصر الحرة» إلى الحكومة البريطانية، منها اثنتان تحملان توقيع محمود أبوالفتح، وجميعها ممهورة بختم دار المحفوظات البريطانية، وسارع بتقديمها إلى المحكمة، ثم عهد بنسخة منها إلى محمود المراغي، رئيس تحرير جريدة الأهالي آنذاك، الذي سلمها بدوره إلى الصحفي عبدالله السناوي، ونشرت في عدد 11 أكتوبر 1989.

نشرت «الأهالي» الوثائق تحت عنوان رئيسي «حرب الوثائق التي تفجرت بين محمد حسنين هيكل وآل أبوالفتح»، وآخر فرعي «أبوالفتح يقول للويد: احذروا عبدالناصر فهو يسعى لتدميركم»، وخصص لها «السناوي» مقدمة بعنوان «هيكل وأبوالفتح: مفاجآت من طرف واحد!»، وعلّق عليها «المراغي» في عمود بعنوان «بين المعارضة والتعاون مع العدو».

جريدة «الأهالي» تنشر وثائق مراسلات لجنة مصر الحرة إلى الحكومة البريطانية

يقول «السناوي» في توطئته: «أسرة أبوالفتح طلبت تعويضات قيمتها 30 مليون جنيه، بينما اكتفى هيكل حين رفع دعوى قذف ضدهم بطلب 51 جنيهًا لمجرد إقرار المبدأ»، مضيفًا: «كانت أهم نقطة أثارها أبوالفتح اعتراضًا على الوثيقة الواردة في كتاب (سنوات الغليان) هو التشكيك في صحة توقيع شقيقه عليها، وكانت ردود هيكل على هذا مجموعة من المفاجآت والوثائق».

«إحدى مفاجآت القضية كانت التصديق رسميًا على صحة وثيقة (سنوات الغليان) من دار الوثائق البريطانية ومن القنصلية المصرية في لندن، ما يدل على أنها، نصًا وحواشي، مستخرج رسمي من أوراق الخارجية البريطانية»، يقول «السناوي»، مضيفًا: «مفاجأة هيكل كانت قفل باب المماحكات، بل صفقه بشدة في وجه المشككين في إمضاء محمود أبوالفتح على الوثيقة».

أثبت «هيكل» توقيع «أبوالفتح» على الوثيقة باللجوء إلى أرشيف صاحب «المصري»، وبيّن أنه «لم يكن دقيقًا باستمرار في مسألة الإمضاءات بحيث لا يمكن بسهولة مضاهاة إحداها بالأخرى»، كما يقول «السناوي»، مضيفًا: «بالرجوع إلى عدد جريدة الأساس الصادر 5 سبتمبر 1947 أثبت هيكل تفاصيل قضية لمحمود أبوالفتح عندما كان طالبًا بمدرسة الحقوق».

«يتلاعب بإمضاءاته».. «هيكل» يثبت للمحكمة صحة توقيع «أبوالفتح»

يقول «السناوي»: «في تلك القضية، حوكم محمود أبوالفتح حضوريًا استئنافيًا أمام محكمة مصر بالحبس 3 شهور مع الشغل، عملًا بالمادتين 180 و183 عقوبات؛ لارتكابه جنحة تزوير شيك بمبلغ 220 جنيهًا، إذ وقّع عليه بإمضاء نسب صدوره إلى أحد عملاء البنك»، مضيفًا: «كانت لدى هيكل بالفعل مفاجآت أقسى وأوجع. والحقيقة لا نظن أن تسر (أبوالفتح) كثيرًا».

دفاع «هيكل» طلب من المحكمة استخراج صور رسمية لقضية الأخوين محمود وحسين أبوالفتح أمام محكمة الثورة عام 1954، وصور رسمية من ملفات استماع إذاعة صوت مصر الحرة، وصور رسمية أيضًا من ملفات المخابرات العامة والمباحث العامة المتعلقة بنشاط الإذاعة، وصور رسمية لقضية زغلول عبدالرحمن وعلاقته بلجنة مصر الحرة عام 1965.

أعاد «السناوي» نشر أجزاء من وثيقة «سنوات الغليان» لخطاب محمود أبوالفتح إلى رئيس الوزراء البريطاني، تحت عنوان «رسالة إلى إيدن: ننصحكم بعدم التردد أو الملاينة مع عبدالناصر»، وكانت الوثيقة الثانية لخطاب مرسل أيضًا من صاحب «المصري» إلى وزير الخارجية البريطاني، سلوين لويد، ومؤتمر وزراء خارجية حلف الأطلنطي بتاريخ 13 أبريل 1958.

من «أبوالفتح» إلى حلف الأطلنطي

الوثيقة تناولت «الوضع الحرج في الشرق الأوسط، مع إشارة خاصة إلى نظام الحكم الديكتاتوري في مصر، وما يقوم به من عمليات التخريب والإثارة الإقليمية، بمساندة الاتحاد السوفيتي، فذلك النظام يسعى تحت ستار القومية العربية إلى تدمير النفوذ الغربي في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاستراتيجيتين، عبر انهيار النظم العربية المعادية للشيوعية أو تحييدها».

تضيف: «وبينما ترى معظم الحكومات العربية أن عبدالناصر عميل سوفيتي، وأن عمليات الإثارة التي يقوم بها تحركها الشيوعية، فإن بعض الدول الغربية التي يضللها ممثلوها أو ساستها الليبراليون تنكر هذا التواطؤ، بل وتمجد الديكتاتور المصري، وترى فيه بطلًا ورمزًا للقومية العربية، وقد ساعد هذا التفسير على التشكيك في الدافع السياسي للقوى المناهضة لعبدالناصر».

تمضي الوثيقة: «نحن كمصريين نقرر أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تتجاهل طغيان النظام المصري دون أن تلحق الضرر بمكانتها الأدبية؛ إذ ليس بوسعها أن تقف من ناحية مشجعة للحملة القومية التي يقوم بها ملك الأردن أو الحملة التي يشنها رئيس تونس في مواجهة إثارة نظام عبدالناصر، في حين يقف بعض المسؤولين من الناحية الأخرى مؤيدين للطابع القومي لهذه الإثارة».

تدعو الوثيقة حلف الأطلنطي إلى سياسة قاطعة مع عبدالناصر: «لا يمكن لهذا الارتباك أن يستمر دون نتائج مفجعة يتعذر إصلاحها بالنسبة لكل الأطراف المعنية، وينبغي لدول الأطلنطي أن تحدد بصورة نهائية سياسة واضحة وقاطعة فيما يتعلق بكل من القوى الموالية لعبدالناصر، والقوى المعادية له في العالم العربي. وبعد أن تقرر ذلك يتعين عليها أن تنفذ سياساتها دون تردد».

وثيقة خطاب «مصر الحرة»: «المصريون يعتبرون أزمة السويس مباركة»

تقول الوثيقة: «رغم الهزائم الفادحة التي تعرض لها الغرب على يد الديكتاتور عبدالناصر، فإن الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية مازالت ترغب في التعاون معه ومساعدته على تدعيم إمبراطوريته المتداعية، وهذا النهج الجديد يبدو أنه مبني على الوعود الجديدة التي بذلها البكباشي، وهو ما يفسر الشعور المعادي للأمريكيين في مصر، وضياع مكانة أمريكا في العالم العربي».

تضيف: «لا شك أن الشعب المصري سيكون شعبًا غريبًا حقًا إذا أبقى على احترامه وصداقته للدولة الديمقراطية القائدة في العالم عندما تختار معاونة نظام حكم يتسم بالطغيان، وشن خلال السنوات الثلاث الماضية حملة آثمة للحط من مكانة أمريكا، وشوه حلف بغداد، وحيّد مبدأ أيزنهاور، وجعل إعراب أي زعيم عربي عن صداقته لأمريكا أو الغرب علانية عملًا من أعمال الخيانة».

جريدة «الأهالي» تنشر وثائق مراسلات لجنة مصر الحرة إلى الحكومة البريطانية

تدعو الوثيقة إلى قطع المساعدات عن عبدالناصر: «الطريقة الوحيدة لمساعدة المقاومة المصرية لهذا النظام والحد من تهديدات عبدالناصر في العالم العربي هي منع العون للديكتاتورية، ولن تنجح هذه المقاطعة الاقتصادية إلا إذا احترمتها الدول الغربية بصورة حازمة، وكانت تعبيرًا عن سياسة متسقة ومحددة جيدًا (..) نحن المصريين لا نطلب من الغرب إلا أن يقف محايدًا».

تمضي الوثيقة: «إن أي معونة غربية لنظام الحكم المصري لن تؤثر على مقاومة شعبنا للنظام الاستبدادي. إن المصالح المباشرة وبعيدة المدى للدول الغربية والنظم العربية الموالية للغرب هي وحدها التي ستتأثر بهذه المعونة الغربية، والتي تلاقي ترحيبًا من الاتحاد السوفيتي الذي يهدف إلى الحفاظ على نظام حكم عبدالناصر لأنه يتيح له التوسع في الشرق الأوسط وأفريقيا».

«كلهم شيوعيون.. حتى فاتن حمامة»

الوثيقة الثالثة التي قدمها «هيكل» إلى المحكمة، ونشرتها «الأهالي» في عدد 18 أكتوبر 1989، يقول عنوانها إنها من مصدر يتصل بلجنة مصر الحرة التي أسسها محمود أبوالفتح، وإنه جرى توزيعها على من يهمه الأمر قبل شهر واحد من عدوان 1956، وتقول: «المصريون يعتبرون أزمة السويس حدثًا مباركًا غير متوقع قد يحقق تحررهم من ديكتاتورية عبدالناصر».

جاء في الوثيقة أن «حركة الضباط الأحرار والحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) بقيادة أحمد فؤاد تواطئتا في الإعداد للانقلاب على الملك فاروق عام 1952. وأحمد فؤاد هو منظم الضباط الأحرار في خلايا من الطراز الشيوعي، ومؤلف كتيّباتهم ودعايتهم الأخرى، وهناك قائد شيوعي آخر هو السيد سليمان، وكان مسؤولًا عن طباعة وتوزيع مطبوعات الضباط».

تضيف الوثيقة: «المصريون الذين يزعمون الولاء لأمريكا ساعدوا في تضليلها بتأكيد أن نظام عبدالناصر ليس شيوعيًا، لكن هؤلاء كانوا أكثر دهاء في نهجهم، فقد اتبعوا أسلوب تشويه سمعة كل العناصر المادية للشيوعية، وقد أشرت من قبل إلى النشاط المعادي للشيوعية الذي يقوم به صاحب جريدة المصري، وكان الوحيد الذي يحارب عبدالناصر ونظامه خارج مصر».

تمضي قائلة: «ولماذا اشترك هؤلاء المصريون الموالون لأمريكا، ولاسيما محررا جريدة الأخبار، الأخوان مصطفى وعلي أمين، واللذان يبذلان كل الجهد حاليًا في لندن لإنقاذ رأس عبدالناصر، في حين ينقلان أموالهما إلى بنوك لبنان وسويسرا، لماذا شاركوا في هذه الحملة لتشويه الشخصية المصرية الوحيدة التي كانت تعمل على فضح المؤامرة الشيوعية في مصر؟».

[quote:4]

جاء في الوثيقة أيضًا أن «البكباشي لطفي واكد شيوعي، وهو رئيس مكتب عبدالناصر الذي يدير منه كافة شبكات المخابرات في جميع البلدان العربية، ويوجه أعمال الإثارة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط عن طريق عملاء، بأموال ضخمة موضوعة تحت تصرفهم، ويعاونه الصاغ كمال رفعت وآخرون هم البكباشي فتحي الديب وأحمد سعيد، وجميعهم شيوعيون».

«الاتحاد السوفيتي ترك للصين مسؤولية نشر الشيوعية بين المسلمين المصريين من خلال الأقلية المسلمة الكبيرة بها، ولهذا السبب كان هناك تدفق متزايد من الحجاج الصينيين إلى مكة، وهؤلاء لم يتخلفوا أبدًا عن زيارة القاهرة وإلقاء المحاضرات بمساعدة المؤتمر الإسلامي الذي يرأسه البكباشي أنور السادات، وهو أيضًا شيوعي يدير جريدة الجمهورية الرسمية».

«كما أن نصير عبدالناصر الشيخ أحمد الباقوري، وزير الأوقاف، يعاون بنشاط في هذا التقريب بين الشيوعية والإسلام، وسلسلة المقالات التي كتبها عن بعثته إلى الصين، والاعتبار العميق الذي توليه الصين لتقاليد المسلمين وعاداتهم، هي جزء من تلك السياسة المسمومة التي تسعى في كلمة واحدة إلى أن تثبت للمصريين أنه ليس هناك تعارض بين الشيوعية والدين».

تصل الوثيقة إلى جماعة الإخوان المسلمين فتقول إنهم «ارتكبوا أخطاء عديدة في ظل قيادة غير مسؤولة وديماجوجية، لكن ينبغي أن أقول بصراحة إنه عندما يتم تدمير عبدالناصر فإن هؤلاء المسلمين وحدهم هم الذين يستطيعون أن يعاونوا بفاعلية أكبر في استئصال الشيوعية من مصر ومن البلدان العربية، واكتسابهم إلى جانب الغرب هو أفضل من دفعهم نحو الشيوعيين».

تضيف: «إن تحالفًا محتملًا بين الشيوعيين في مصر والإخوان المسلمين سيؤدي إلى إضفاء طابع شيوعي على مصر وسوريا حتى لو تم تدمير عبدالناصر، وقد أشرت في 1954 إلى أن الوفد والإخوان إذا اتحدا يصبحان المجموعتان اللتان تستطيعان، بمساعدة مجموعات مستقلة، أن تجلبا الفرج لمصر وأن تكيفا العلاقات المصرية الغربية بصورة سليمة وبناءة».

جريدة «الأهالي» تنشر وثائق مراسلات لجنة مصر الحرة إلى الحكومة البريطانية

تنتقل الوثيقة للحديث عن «نشاط السفارات الأجنبية الموالية للشيوعية في مصر، والحملات الصحفية والثقافية التي تقوم بها للدعاية السيكولوجية المعادية للغرب»، مضيفة: «هناك داران للنشر في القاهرة تزودان مصر والعالم العربي بمواد عن الشيوعية، وهما دار الفكر ودار النديم. وهناك شيوعيون آخرون يعملون في مجلة روز اليوسف الشيوعية المشهورة».

لم تسلم السينما من اتهامات الشيوعية، فتقول الوثيقة: «والفيلم وسيلة إعلام أخرى، وقد ذهبت النجمة المصرية الكبيرة فاتن حمامة ومنتج أفلامها، رمسيس نجيب، إلى موسكو لتعرض فيلمها، وقد أنشئت شركات سينمائية مصرية مؤخرًا لاستيراد الأفلام الروسية (..) وفي خضم أزمة السويس عرض نظام عبدالناصر الفيلم الروسي معركة ستالينجراد في كافة الميادين».

تمضي الوثيقة: «كل كتاب الأعمدة تقريبًا شيوعيون، في الجمهورية: الخميسي وسامي داود وأمير الإمام ورشدي صالح وزهدي والفيتوري وطوغان، وفي الشعب: الشرقاوي ونعمان عاشور وحسين فهمي ويوسف إدريس وعبدالمنعم الصاوي، وفي أخبار اليوم: سلامة موسى، وفي روز اليوسف الجميع شيوعيون، ورئيس تحرير صباح الخير شيوعي وهو أحمد بهاء الدين».

تأتي الوثيقة على ذكر خالد محيي الدين، فتقول: «عبدالناصر منحه تصريحًا بإصدار صحيفة المساء، وزوده بالأموال اللازمة، وخالد محيي الدين هو عضو سابق في مجلس قيادة الثورة أقيل عام 1954 بعد اعتقال اللواء محمد نجيب، وكان خالد شيوعيًا شهيرًا (..) كما منح تصريحًا لشيوعي آخر وهو الصاغ أحمد حمروش لإصدار مجلة أسبوعية باسم له دلالته (الفجر)».

«بين المعارضة والتعاون مع العدو»

«بين معارضة النظام والتعاون مع العدو»، تحت هذا العنوان كتب الصحفي الراحل محمود المراغي، رئيس تحرير جريدة «الأهالي»، تعليقًا على الوثائق التي قدمها «هيكل» إلى المحكمة، ويقول: «لا تحتاج الوثائق إلى كثير من التعليق، فالقارئ يستطيع أن يعرف منها الكثير ويستنتج أكثر، ومع ذلك فإن وضعها في موقعها ولفت النظر إلى خطها العام قد يكون مفيدًا».

أضاف: «القضية ليست مجرد جنحة ينظرها قاضي محكمة بولاق، وليست مجرد نزاع يطلب فيه أبوالفتح 30 مليون جنيه كرد شرف. القضية أكبر من ذلك لأنها تتعلق بالصراع بين ثورة يوليو والغرب، وبداية التعاون مع الكتلة الاشتراكية، كما تفضح الوثائق الخط الفاصل بين أن تكون أداة في يد أعداء النظام، وأن تلعب دور المستشار وجامع المعلومات في وقت واحد».

تابع: «الوثائق تأخذ خط التحريض وخط الإبلاغ، والتحريض هنا واضح: لا تساعدوا عبدالناصر، لا تصدقوا أنه يمكن أن يكون صديقًا للغرب، ثم يصل التحريض إلى ذروته فتطلب الرسائل عملًا عسكريًا معاديًا لمصر. أما خط الإبلاغ ونقل الأخبار فهو واضح في الوثائق التي وجه محمود أبوالفتح اثنين منها مباشرة. والقارئ هنا تملكه الحيرة لكل هذا القدر من الجهل بالأمور».

مضى «المراغي» قائلًا: «عقدة الشيوعية تركب صاحب التقرير البلاغ، حتى أنه في التقرير الثالث، وهو منسوب إلى مجهول، استقى معلوماته من عضو بلجنة مصر الحرة يقول إن أزمة السويس ليست الخطر الذي يفكر فيه المصريون، لكن الخطر الحقيقي هو الغزو الشيوعي لمصر، والتاريخ 10 سبتمبر 1956، قبيل العدوان الذي كان ذروة ما سمي بأزمة السويس».

اختتم: «ومن المنطق الفاسد إلى التوقيت الخطير يصبح الأمر أكثر فجاجة، بل وعندما نطالع الوثيقة تطلب المال والعون المادي لمعارضي النظام المصري، عندما يحدث ذلك نقول الأمر ليس معارضة نظامبل هو أخطر من ذلك.. ونمسك عن الحديث في انتظار مفاجآت محكمة صغيرة تنظر واحدة من أخطر القضايا؛ لأنها تصحح التاريخ، تاريخ من يقولون: نحن أبطال الديمقراطية».

مرافعات «رأس السنة»

في 31 ديسمبر 1989، استمعت محكمة جنح بولاق لمرافعات الدفاع في دعاوى «أبوالفتح» و«هيكل»، وبدأ الدكتور نعمان جمعة مرافعته عن أحمد أبوالفتح، وركز فيها على سرد «أمجاد أسرة أبوالفتح وتضحياتهم»، وترافع الدكتور عبدالرحمن الشرقاوي عن «هيكل» فحدد نقاط الدعوى من حيث الخصوم والموضوع، رافضًا أن يتحدث أحد نيابة عن محمود أبوالفتح.

رفض محامي «هيكل»، الدكتور عبدالرحمن الشرقاوي، وكان عضو الهيئة العليا لحزب الوفد آنذاك، مطالب أحمد أبوالفتح بتعويض أدبي عن شقيقه «لأنه متوفي»، معقبًا: «لا تجوز المطالبة بتعويض أدبي عن ضرر أصاب متوفي، ولا يجوز الحديث عن المطالبة بتعويض عن ضرر أصاب أسرة أبوالفتح؛ لأن الأسرة ليست شخصًا معنويًا ولا يجوز لأحد التحدث باسمها».

متابعة معركة «أبوالفتح وهيكل» في «الأهرام»

دعا «الشرقاوي» في مرافعته إلى «استبعاد جريمة خدش العائلات؛ لأن هذه الجريمة خاصة بنشر الفضائح أو العلاقات المشبوهة في العائلات، وهو ليس موضوعنا. أما الوقائع المطروحة فبالرغم من أنها منسوبة كلها لمحمود أبوالفتح ويمكن استبعادها إلا أننا سنتعرض لها لأن الأستاذ هيكل حين رواها نقلها عن الوثائق الرسمية المثبتة، فضلًا عن إقرار الخصوم بصحة هذه الوقائع».

عدّد «الشرقاوي» بعض الوقائع، ومنها إنشاء إذاعة صوت مصر الحرة، قائلًا: «هم يقرون بصحة هذه الواقعة، والخلاف هو حول سبب إنشاء هذه الإذاعة وسبب إلغائها، ويكفي القول إنها أنشئت قبل عدوان 1956، عندنا اشتد الخلاف بين مصر وفرنسا بسبب موقف مصر من ثورة الجزائر وبسبب تأميم قناة السويس، ويقال أيضًا إنها أغلقت بطلب من إسرائيل عام 1962».

يضيف «الشرقاوي»: «معنى ذلك إن صح أن إسرائيل كانت راضية عن هذه المحطة طوال السنوات الست، والصحيح أن إغلاقها كان معاصرًا للصلح مع فرنسا بعد استقلال الجزائر، ولا يجوز أن يقال إن هذه المحطة كانت ضد النظام الحاكم في مصر وليست ضد مصر، لأنه حين يقع العدوان بالحرب من دولة تأوي هذه الإذاعة فإن كل ما يوجه إلى النظام هو ضرب ضد الدولة».

يمضي قائلًا: «ويصبح من الصعب التفرقة بين النظام والدولة، وإلا فليقل لنا ماذا كان يذيع أثناء العدوان الثلاثي، وأثناء الغارات الجوية التي كانت تدق المدن المصرية وتقتل الأبرياء. إن وصف ما كانت تقوم به إذاعة مصر الحرة في ذلك الوقت نعجز عن بيانه حتى لا يغضب أحمد أبوالفتح، ولا يعفيه من هذا الوصف ما تحدث عنه محاميه من مواقفه ضد الاحتلال الإنجليزي».

[quote:5]

واصل «الشرقاوي» مرافعته: «أما واقعة التقارير التي كان يقدمها محمود أبوالفتح إلى الحكومة البريطانية فيكفي الأستاذ هيكل التثبت من صحتها لأنه حصل عليها من دار الوثائق البريطانية التي وثقتها وشهدت بصحتها، ولا يستطيع أي إنسان أن يتلاعب بمثل هذه الوثائق، فكلها تنطق بطلب من لجنة مصر الحرة بقطع المعونة عن الشعب المصري ليثور على عبدالناصر».

أكمل قائلًا: «وفي هذا أيضًا لا تستطيع أن نفرق بين حرب ضد النظام وحرب ضد الوطن الذي يحكمه هذا النظام. أما واقعة زغلول عبدالرحمن فقد اعترف في التحقيق أمام المجلس العسكري سنة 1965، ونشر هذا التحقيق في جميع الصحف، أن أحمد أبوالفتح أغراه بالهروب من وظيفته وتسليم جميع أوراقه بصفته مستشارًا في سفارة مصر في بيروت إلى الحكومة السعودية».

استمرت مرافعة «الشرقاوي» بقوله: «زغلول عبدالرحمن {الملحق العسكري في سفارة بيروت} قال في التحقيقات إنه علم أن أحمد أبوالفتح قبض 250 ألف جنيه إسترليني من الملك سعود بن عبدالعزيز لتنفيذ هذه الخطة، وأن أسرة أبوالفتح أغرته بالعمل مع الاستخبارات البريطانية، وأنه رفض ذلك، وأن لجنة مصر الحرة عبارة عن مجموعة من الخونة والمرتزقة والعملاء».

واختتم قائلًا: «أما محمود أبوالفتح فيكفي أن نشير إلى ما أثير حوله عن تجارة الورق في السوق السوداء أثناء الحرب والتي حقق منها أرباحا طائلة كانت موضوع منازعة بينه وبين مصلحة الضرائب، وما كتبه محمد التابعي إليه وهو ينسحب من ملكية جريدة المصري عن أن محمود أبوالفتح كان يحصل على أموال لنشر أخبار أو عدم نشرها ويخفيها عن شركائه».

وترافع الدكتور يحيى الجمل عن «هيكل» فركز على «حق النقد المباح، وأن كتاب هيكل {سنوات الغليان} عبارة عن بحث علمي يتحدث فيه عن الصراع بين حركة القومية العربية والقوى العالمية المعادية لها، وأن ذكر أسرة أبوالفتح جاء عارضًا غير مقصود، وأن الدستور والقانون يعطيان الكاتب الذي يتعرض لوقائع التاريخ ما يشاء مادام اسنتاجه يدور حول وقائع».

براءة «هيكل».. وإدانة «أبوالفتح»

قضت محكمة جنح بولاق ببراءة «هيكل» وإبراهيم نافع من تهمة السب والقذف في الدعاوى الثلاث المقامة ضدهما من أحمد وحسين أبوالفتح، وإلزام مقيميها بالمصروفات ومقابل أتعاب المحاماة، وحبس أحمد أبوالفتح شهرًا من الشغل وكفالة 200 جنيه لإيقاف التنفيذ، وإلزامه بالتضامن مع فؤاد سراج الدين وجمال بدوي بدفع 100 جنيه لـ«هيكل» على سبيل التعويض المؤقت.

قالت المحكمة في أسباب حكمها إن «الأصل هو إباحة حرية الرأي والنقد وتعدد الآراء، ولكن هذا الحق مقيد بأن يكون في سبيل النفع العام وعلى ضوء ما يقتضيه، وهو ككل الحقوق ينتهي عندما يساء استعماله، وإذا كان الأصل أن النقد هو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحبه، غير أن القول بأن النقد حكم على تصرف دون المساس بالمسند إليه قول نظري».

طلب 30 مليونًا فأُلزم بدفع 200 جنيه.. «أبوالفتح» يخسر أمام «هيكل»

أضافت: «في جميع الأحوال يمتد النقد من التصرف إلى صاحبه، وإذا كان الأصل أن يصاغ النقد في عبارات ملائمة للموضوع، بيد أنه لا يعيب النقد أن يلجأ الناقد إلى السخرية من العمل الذي ينقده، ولا يعيبه أن يكون فيه كثير من الشدة ومن قوارص الكلم، ولا يبطله أن يستعمل فيه عبارات مرة قاسية أو عنيفة، فالمناسبة قد تسمح بأن يستعمل الناقد في النقد العبارات المرة القاسية».

رفضت المحكمة اعتبار ما ورد في كتاب «سنوات الغليان» لـ«هيكل» سبًا: «لا يعتبر ذلك سبًا أو تحقيرًا للمسند إليه ما دام مستعملها لا يريد التشهير ويتوخى المصلحة العامة، فالتخومة بين حق النقد والسب أو الاحتقار ليست ثابتة، إنما المناسبة وخطورة ما يتصدى له الناقد من الشؤون العامة قد تمد تخوم حق النقد وتوسعها لمصلحته فيضيق عندئذ دائرة الخطأ والتجريم».

أضافت: «إن حق النقد المقول به في التشريعات الوضعية ليس حقًا للمسلمين في نطاق الشريعة الإسلامية، بل هو واجب عليهم يؤثم الواحد منهم إذا لم يمارسه، ومن المقرر أنه إذا تناول النقد فكرة في ذاتها أو مذهبًا ولم تكن شخصية صاحب الفكرة أو المذهب على حكم الناقد أو بحثه فإن الناقد لا يعد متجاوزًا لحق النقد المباح، ويستوي في ذلك أن تجهّل شخصية صاحب الفكرة أو المذهب أو أن يكون في استطاعة القارئ التعرف عليها».

[quote:7]

تابعت: «إن هيكل كاتب وصحفي واجبه أن يطلع الجمهور على ما رأى، غير مدفوع بعوامل شخصية، وكان ما سطره في مقالاته لم كن محل تقدير شخص من أسند إليه بعض هذه الوقائع، وإنما كان مقصده سرد ما دار في فترة زمنية من تاريخ مصر، ما ينفي عنه سوء النية أو القصد، وكان يتوخى في ذلك النفع العام، وكان جميع ما ذكره المدعيان بالحق المدني سبق وأن صرح على صفحات الجرائد في فترة زمنية سابقة».

زادت المحكمة: «وثابت في ذلك في العدد رقم 4093 بتاريخ 3 أغسطس 1965 جريدة الأخبار، وللمحكمة أن تستشف قصد المتهمين في إذاعة الوقائع التي اشتملت عليها المقالات، وأن ما اشتملت عليه هذه المقالات بهدف الصالح العام ولم يقصد بها الإساءة إلى شخص بعينه، وحيث أن البين للمحكمة أن ما كتبه هيكل ونشرته الأهرام إنما كان القصد منه كشف ما يدور على الساحة المصرية خلال فترة من الزمن، وكان متوخيًا في ذلك المصلحة العامة فقط، ولم يقصد بنشره هذا التشهير أو القذف أو السب، مما يتعين عليه والحال كذلك القضاء ببراءة المتهمين مما أسند إليهما».

«الأهرام» تنشر خبر براءة «هيكل» وإبراهيم نافع

وفي أسباب حكمها بحبس أحمد أبوالفتح شهرًا مع الشغل وكفالة 200 جنيه لإيقاف التنفيذ، قالت المحكمة: «المقرر أن السب يقوم إذا أسند المتهم إلى المجني عليه عيبًا غير معين بما يتضمن ازدراءه ووصفه بالضعة والحقارة، ويرتكب السب ولو لم ينسب المتهم إلى المجني عليه عيبًا معينًا أو غير معين، ويتعين على القاضي أن يحتكم إلى العرف لكي يحدد دلالة العبارات التي صدرت عن المتهم».

أضافت: «إن لبعض الألفاظ معنى لغويًا لا يشين المجني عليه، ولكن لها مدلول عرفي يخدش من شرفه واعتباره، وللقاضي أن يفترض في المتهم آراء الدلالة العرفية لألفاظه باعتبار أن الناس قد تعارفوا عليها وغدت أقرب إلى أذهانهم من الدلالة اللغوية. ولا تقوم جريمة السب إلا إذا تضمنت عبارات المتهم تحديد الشخص المجني عليه، ويعلل ذلك بأن الاعتداء على الشرف والاعتبار غير متصور ما لم يوجد شخص يكون له هذا الحق».

تابعت: «وحيث أنه من المقرر وفقًا لقضاء النقض أن النقد المباح هو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به أو الحط من كرامته. فإذا تجاوز النقد هذ الحد وجب العقاب عليه، ومن المقرر أيضًا أن القذف المستوجب للعقاب قانونًا هو الذي يتضمن إسناد فعل يعد جريمة يقرر لها القانون عقوبة جنائية أو يوجب احتقار المسند إليه عند أهل وطنه».

مضت قائلة: «ومن المقرر أيضًا أن تعرف حقيقة ألفاظ السب والقذف والإهانة مرجعه إلى ما يطمئن إليه قاضي الموضوع بصرف النظر عن الباعث عليها، ولا رقابة لمحكمة النقض ما دام لم يخطئ في تطبيق القانون. وحيث أنه متى كان ما تقدم وكان الثابت من المقالات التي حررها أحمد أبوالفتح أنه نسب إلى المدعي بالحق المدني أنه (ملوثاتي) وأنه مثل (بلطجية الأفراح) وأنه مثل (بائعات الهوى)، وأن المحكمة ترى أن هذه الألفاظ تقلل من الاحترام الذي يتمتع به المدعي بالحق المدني، وأنها تستوجب احتقاره عند أهل وطنه».

[quote:8]

اختتمت المحكمة: «ونشرت هذه المقالات في جريدة الوفد، وكان المتهم عالمًا بأنها ستكون في متناول الجمهور، ومن ثم تكون أركان جريمة القذف قد توافرت ما يتعين عقاب المتهم عملًا بالمادة 302 و303 عقوبات، وحيث أنه لما كانت المحكمة قد انتهت إلى قضائها وقد ثبت للمحكمة خطأ المتهم وأن ذلك سبب ضررًا للمدعي بالحق المدني، وكان المدع عليهما الثاني والثالث مسؤولين عن الحقوق المدنية، ومن ثم فالمحكمة تقضي بإلزامهم بالتضامن مع المتهم بالتعويض المؤقت والمصروفات شاملة أتعاب المحاماة».

«هيكل» منتصرًا

في أول تعليق على حكم تبرئته، كتب «هيكل» في «الأهرام» تحت عنوان «قضاء مصر العظيم أعلى فكرة وأرساها إلى درجة المبدأ»: «أصدر قضاء مصر العظيم حكمه في قضيتين في نفس الوقت، قضية رفعها ضدي الأساتذة (أبوالفتح) بشأن ما ذكرته عنهم بطريقة عارضة في كتاب سنوات الغليان، وقضية أخرى رفعتها ضدهم بشأن ما كتبه أحدهما عني في جريدة الوفد».

أضاف: «كانت القضية الأولى بالنسبة لي أمرًا مهمًا، وفي الواقع فإنها كانت اختبارًا أمام القانون لمصداقية ما أكتب، ومع أنني أكتب باستمرار واثقًا من دقة الحقائق والوثائق التي أستند إليها فيما أقول، فإن حكم القضاء جاء إضافة أعتز بها وأتشرف. وفي القضية الثانية فإن قضاء مصر العظيم أعلى فكرة وأرساها إلى درجة المبدأ، فحكم بأن الشتائم لا تصلح ردًا على الحقائق والوثائق».

تعليق «هيكل» على أحكام محكمة جنح بولاق

عام 2007، قال «هيكل» في برنامجه على قناة «الجزيرة»: «فؤاد باشا {سراج الدين، رئيس حزب الوفد} كلمني بطريقته كده: محمد أنت عايز تحبس أحمد أبوالفتح ولا إيه؟ قلت له: إطلاقًا. قال لي: طيب هتعمل إيه في الحكم؟ تعالوا اتغدوا عندي ونخلص الكلام الفارغ ده كله. قلت له: أنا لا هاجي ولا هصتلح، لكن إذا أحمد لم يستأنف أنا أعدك أنه خلاص الموضوع انتهى».

هيئة الدفاع عن «هيكل» ضمت كل من: الدكتور عبدالمنعم الشرقاوي، والدكتور يحيى الجمل، والدكتور إبراهيم صالح، والأستاذ محمد شريف من مكتب الأستاذ على الشلقاني. ويروي «هيكل» في برنامجه على «الجزيرة» تفاصيل انضمام «الشرقاوي» إلى هيئة الدفاع عنه في القضية، علمًا بأنه كان عضو الهيئة العليا لحزب الوفد آنذاك، بينما كان خصوم «هيكل» وفدييين.

يقول «هيكل»: «فوجئت يوم من الأيام بالأستاذ عبدالمنعم الشرقاوي بيكلمني في التليفون وبيقول لي: أنت لقيت محامي. قلت له: لأ لسه. وقتها مكنتش عايز محامي ذو صبغة حزبية أو سياسية، كنت عايز محامي محترف؛ لأني أردت أن تبقى القضية في حدود الوثائق والأوراق والوقائع، وألا تأخذ طابعًا ناصريًا، فعبدالمنعم الشرقاوي قال لي: أنا مستعد أبقى محاميك إذا تقبل، فرحبت به».

يضيف: «رحبت بعبدالمنعم الشرقاوي جدًا لسبب أساسي كمان جنب كفاءته، وهو كان عضو في الهيئة الوفدية العليا، فأن يكون محامي في قضية في أشياء كتبت في جريدة الوفد عضو في الهيئة الوفدية العليا. وطبعًا الأستاذ أحمد أبوالفتح غضب غضبًا شديدًا أنه يرى أحد أعضاء الهيئة الوفدية يكون محامي عني. وأول حاجة قالها لي المحامي: ارفع قضية في القذف اللي كُتب عليك».

[quote:6]

في كتابه «جمال عبدالناصر»، تطرق أحمد أبوالفتح إلى علاقة عبدالناصر وهيكل وغيره من الصحفيين، فيقول: «كان عبدالناصر يعتبر أي إنسان مرؤسًا له يخضع لأوامره، وبعكس ما يدعي أحد الكتاب كان يعتبر كل صحفي مهما كان مركزه موظفًا يتلقى أوامره»، مستعرضًا «نماذج من الأوراق الصغيرة التي تحمل أوامره إلى كل من هيكل ومصطفى أمين وإحسان عبدالقدوس».

يضيف: «في أحد الأوامر، يأمر عبدالناصر هيكل بأن تكون الخطوط في الهجوم على الديكتاتورية الإرهابية في بغداد: لا استعمار ولا رجعية ولا شيوعية ولا تبعية (..) هذه الأوامر تثبت أنه لم يكن يتخذ من أي واحد من الكتاب صديقًا، وكان على كل واحد منهم الطاعة (..) ولا شك أنها تكذب ادعاءات من يدعي بأنه كان في كثير من الأحيان يوحي بالآراء لعبدالناصر».

علق «هيكل» على مقالات «أبوالفتح» التي قست في الهجوم عليه، قائلًا: «الأستاذ أحمد أبوالفتح غضب من كلامي عن الدور اللي عمله شقيقه محمود، وكتب كلام كثير قوي، ولا يزال ده تقليد ساري، أنه أنت تقول وقائع فإذا الرد عليه يكون شتائم (..) وفي طبائع الحياة السياسية في مصر وفي العالم الثالث أنه لما نضيق ذرعًا برأي فنحن لا نناقش الرأي لكن نحاول قتل صاحبه».

«السيرة الحائرة».. أسرة «أبو الفتح» بين التخوين والتكريم (4- 4) | المصري اليوم

«السيرة الحائرة».. أسرة «أبو الفتح» بين التخوين والتكريم (4- 4) |

لم يتمكن محمود أبوالفتح من الحصول على شهادة الحقوق، لكنه استطاع أن يكون نجمًا في عالم الصحافة، إذ ينسب إليه الدور الأكبر في ثورة التحرير الصحفي، والانتقال بالصحافة إلى مرحلة الصناعة القائمة على الخبر والتحليل بعيدًا عن الإنشاء والصيغ الأدبية التي كانت تشكل طابع الصحف حتى ثلاثينيات القرن الماضي، كما يقول يحيى قلاش، نقيب الصحفيين الأسبق.

قبل التحاقه بـ«الأهرام»، عمل «أبوالفتح» في صحيفة «وادي النيل»، وأنشأ صحيفة «الجمهور» لـ«الدفاع عن القضايا الوطنية والحرية والاستقلال عن الاحتلال الإنجليزي»، كما يقول شقيقه أحمد في كتابه «جمال عبدالناصر»، مضيفًا أنه «كان المحرر الأول في جريدة الأهرام رغم الضيق بتطرفه السياسي، وحقق انتصارات صحفية كانت محل تعليق الصحف العالمية».

ينسب أحمد أبوالفتح إلى شقيقه السبق بنشر خبر اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، ويقول: «غضب الملك فاروق لإذاعة أنباء الكشف وتفاصيل محتوياته، لأنه كان يريد أن يعلن ذلك بنفسه»، ويقول أيضًا إنه كان أول صحفي أجنبي يسافر في أول رحلة للمنطاد الألماني «جراف ربلن» عام 1927، و«استغل هذا الحدث لإقناع الحكومة الألمانية بأن يقوم المنطاد برحلة إلى مصر».

عام 1936، أصدر «أبوالفتح» جريدة «المصري» بالتعاون مع الصحفيين محمد التابعي، مؤسس مجلة «آخر ساعة»، وكريم ثابت، المستشار الصحفي للملك فاروق، ووقع الثلاثة عقدًا بتاريخ 4 يوليو 1935 لإنشاء «شركة النشر والأنباء المصرية» لإصدار الصحف وغيرها، وتوزعت رواتب الثلاثة بواقع: 60 جنيهًا لـ«أبوالفتح»، و50 جنيهًا لـ«ثابت»، و25 جنيهًا لـ«التابعي».

خروج التابعي من «المصري»

أصبحت «المصري» محسوبة على الوفد بعد أن تلقى الشركاء الثلاثة عرضًا من الحزب للمساهمة بحصة في الشركة، وفي الأخير اشترى «أبوالفتح» حصة كريم ثابت، واتفق مع مكرم عبيد على شراء حصة الوفد، وذلك بعد أن أرسل «التابعي» إلى شريكيه خطابًا مطولًا يطلب فيه فض الشراكة، مع بيان الأسباب التي دفعته لذلك، ولعل أبرزها «إخفاء مصادر الدخل والتمويل».

في خطابه يشكو «التابعي» إلى شريكيه سوء تنظيم التحرير في الجريدة، وسوء الحالة المالية للشركة ككل، ويقول: «إن كل ما يعنيكما هو الحصول على مرتبكما كأنما قد دفعنا رأس المال لكي نسترده في شكل مرتب وفي أقصر زمن ممكن (..) وسمعت ما فهمت منه أن أحدكما لا تهمه نجاة الجريدة بقدر ما يهمه الحصول على مرتبه كاملًا غير منقوص ثم بعده الطوفان».

يصارح «التابعي» شريكيه بالسبب الأكبر لفض الشراكة، إذ يقول: «يوم اتفقنا معًا، تعاهدنا على أن نكون لبعض شرکاء شرفاء مخلصين لا ينفرد أحدنا بغنمه بل يصارح بعضنا بعضًا بأي ربح أو إعانة أو مكافأة يقع عليها.ولقد حفظت عهدي معكما، ومع أن المبلغ الذي قدمته إلينا أخيرًا جهة معروفة رصد باسمي وكلف المختص بأن يسلمه إليّ شخصيًا فقد أسرعت إليكما بالنبأ».

يضيف: «هل في وسعكما أنتما أن تقولا المثل؟ كلا، وعندي ما يحملني على الاعتقاد القاطع الأكيد أن هناك مبالغ عديدة دفعت من أجل المصري أو من أجل دعاية يقوم بها المصري أو من أجل سكوت المصري، وهذه المبالغ لم أسمع عنها لأن الذي قبضها اعتبرها مالًا حلالًا لنفسه دون الآخرين، ومن الذين تناولوا هذه المبالغ مخبرين في الجريدة يعملون تحت إشرافكما».

خطاب صاحب مجلة «آخر ساعة» إلى شريكيه جاء ضمن أوراقه المنشورة في كتاب «محمد التابعي» للكاتب الصحفي صبري أبوالمجد، ويقول في ختامه: «وترون مما تقدم ألا فائدة ترجى من استمرار شركتنا معًا، ولهذا أرجو أن تتفقا معي على تصفية هذه الشركة بطريقة حبية لكي أعرف الباقي لي بعد الخسارة فاسترده، أو الدين الذي عليّ فأحصره وأعمل على سداده».

ذكريات «أبوالنجا» مع «أبوالفتح»

في منتصف 1943، أسند «أبوالفتح» النواحي الإدارية في جريدة المصري إلى الدكتور السيد أبوالنجا الذي يصفه في مذكراته المعنونة «ذكريات عارية»: «كان الإنصات هو عمله الوحيد؛ أذناه تتجاوبان مع من حوله وعيناه تتشاغلان عنهم، وبين دقيقة وأخرى يرفع بصره في وجوههم، فكأنما يبعث من عينيه أشعة تفاذة تكشف ما في نفوسهم، وقد يتصدق ببعض كلمات».

يروي «أبوالنجا» تفاصيل اتفاقه مع صاحب «المصري» قائلًا: «سألني: هل تمانع في أن تكون وفديا؟ قلت: لا، ولكن طبيعتي تنفر من الحزبية. قال: أليس لك رأي محدود في سياسة البلد؟ قلت: إنني أبدي رأيي في الشؤون العامة، ولكنني لا أحترف السياسة. فقال: ولكن السياسة هي السبيل لخدمة الوطن. فقلت: ولكنني أخدم وطني بعملي، فالسياسيون كثيرون والفنيون قليلون».

قرب محمود أبوالفتح من حزب الوفد، الذي كان صاحب الأغلبية آنذاك، أتاح له، بجانب الصحافة، الدخول في عالم تجارة الورق، كما يقول الصحفي محمد حسنين هيكل في برنامجه «مع هيكل» على قناة الجزيرة عام 2007، مضيفًا أن «محمود أبوالفتح عمل فلوس مهولة في فترة الحرب، وكانت في حصص ورق بيتباع في السوق السوداء، والأستاذ محمود راكم ثروة خرافية».

في كتابه «جمال عبدالناصر»، يقول أحمد أبوالفتح إن صلاح سالم، عضو مجلس الثورة، طلب إلى شقيقه «التبرع بخمسة أطنان ورق ليقدمها كهدايا للصحف السودانية، ووافق أخي ونفذ الطلب بصدر رحب»، ويقول «أبوالنجا» في مذكراته إن إحدى مهامه الأولى في «المصري» تمثلت في استرداد 400 طن من الورق كان «أبوالفتح» قد أقرضها للاحتلال الإنجليزي.

في كتابه «السيد أبوالنجا مع هؤلاء»، يقول مدير «المصري»: «احتاج محمد التابعي سلفة من الورق لمجلة آخر ساعة فطلبها من محمود أبوالفتح، فقال لي قبلها إنه سيطلب مني أمامه أن أعطيها له، ولكنه حذرني بشدة من أن أقبل، وجاء التابعي بطلبه فاعتذرت بقلة الرصيد، فصاح غاضبًا: (لقد كنت أعتقد أن محمود هو صاحب المصري فإذا هو موظف عند سيادتك يا دكتور)».

يقول «أبوالنجا» في مذكراته إنه تلقى عرضًا من «أبوالفتح» للاستمرار في إدارة المصري، لكنه كان يمضي معظم وقته في التدريس بجامعة القاهرة، فوعده «أبوالفتح» بالحصول له على ترخيص من الدكتور طه حسين، مدير الجامعة آنذاك، بأعمال الخبرة في غير أوقات العمل، وتوسط له بالفعل عند نجيب الهلالي، وزير المعارف آنذاك، لكن طه حسين تعمد رفض طلبه.

يضيف «أبوالنجا»: «ذهبت إلى طه حسين وسألته: هل تحدث إليكم صاحب المصري بشأن الترخيص لي بالعمل معه كخبير؟ قال: لا، ولكنه كلم نجيب (الهلالي وزير المعارف)، ونجيب كلمني فرفضت. قلت: ثم ماذا؟ فقال: هذا هو كل ما حدث. قلت: إذن فأنا آسف لأني أضعت وقتكم، لقد ظننت أنكم موافقون. قال: يا سيدي أنا حريص على أن أغضب صاحب المصري».

كان لعميد الأدب العربي مأخذ على «أبوالفتح»، فقال عنه: «إنه يجمع المال من جريدته ثم لا يزكي عنه بالإنفاق على الثقافة العامة»، حسب «أبوالنجا» الذي يضيف في مذكراته: «قلت له: وهل الصحافة إلا تثقيف؟ فقال: کلا، إنها تجارة فيها يسلي الناس ولا ينفعهم. قلت: يا دكتور إن عملي خارج الجامعة يتيح لي تطبيق ما ألقيه على تلاميذي. فقبل مني ذلك وسمح لي بالعمل».

ساهم محمود أبوالفتح في شركة الإعلانات الشرقية التي كانت مملوكة لعائلة «فيني» اليهودية، وكانت تحتكر إعلانات جميع الصحف الصادرة في مصر آنذاك، فضلًا عن احتكارها لإصدار الصحف الأجنبية مثل صحيفة «الإيجيبشان جازيت»، وكثيرًا ما نسب أحمد أبوالفتح إلى شقيقه الأكبر «الفضل في تمصير الصحافة الأجنبية، وتعيين المصريين في صفوفها».

يروي السيد أبوالنجا في مذكراته أن «أبوالفتح» كان على خلاف مع شركة الإعلانات الشرقية منتصف عام 1943، ويقول: «كانت الشركة تحتكر إعلانات المصري مقابل 300 جنيه في الشهر، وكان أبوالفتح يريد رفعها إلى 400، ولكنها ترفض، ويشجعها على الرفض أنه لا يستطيع إنشاء إدارة لبيع المساحات الإعلانية، وطلب مني إما رفع المبلغ أو الاستقلال عن الشركة».

بعد ذلك، فرض «أبوالفتح» نفسه على الشركة، وكانت القاهرة مركز توزيع الإعلانات في العالم العربي، ويقول «أبوالنجا»: «تكونت بينهما شركة جديدة باسم شركة الإعلانات المصرية، تحتكر إعلاناتهما، وأسندت إدارتها إليّ مع العضو المنتدب، وكان أجنبيًا يدير الشركة الشرقية، وتكونت الشركة الجديدة برأسمال 24 ألف جنيه مناصفة بين صاحب المصري والشركة الشرقية».

«لم يدفع أبوالفتح حصته في الشركة الوليدة، وهي 12 ألف جنيه، وحين انتهى العام كانت الأرباح 36 ألف جنيه، وقال هنري حاييم {العضو المنتدب} إن أبوالفتح لا يستحق منها شيئًا ما دام لم يدفع حصته»، يقول «أبوالنجا»، مضيفًا: «رددت عليه بأن الشركة قائمة والحصة دين مدني يخصم من نصيب أبوالفتح في الربح، فتسلم 6 آلاف جنيه بعد أن سدد حصته من الأرباح».

ينتقل «أبوالنجا» للحديث عن تمصير الشركة، فيقول في مذكراته: «لم يكن في الشركة مصريون غير السعاة النوبيين، ومندوب واحد من مندوبي الإعلانات، فألفوا من بينهم وفدًا جاء يقدم لي التهاني ويعبر لي عن فرحهم باختياري. وأدركت على الفور أن تمصير الشركة هو أول واجباتي، فبدأت أنتقي للوظائف التي تخلو شبانًا مصريين من الملمين باللغات الأجنبية».

يضيف: «كان العضو المنتدب أجنبيًا شديد المراس، وكان مجلس الإدارة يتألف من 8 أعضاء: 4 يمثلون شركة الإعلانات الشرقية، و4 يمثلون جريدة المصري، وكنت أحضر المجلس بمفردي باسم الأربعة، وكان أحد الشبان من خريجي كلية الآداب قد لمع في عمله الإعلاني، فاقترحت اسمه كمساعد لمدير الإنتاج، ولكن العضو المنتدب لم يوافق بحجة أن هذا تعدِ على الأقدمية».

يمضي «أبوالنجا» في سرده لتمصير الشركة، ويقول في مذكراته: «أصررت على الترقية بحجة أن الشركة تعمل في مصر، ومصر بها 20 مليون من الناس، منهم مليون من الأجانب. صحيح أن الأعمال في يد الأجانب لكن أليس في الأغلبية العددية الساحقة معلنون؟ أليس من حق هذه الأغلبية أن يعترف بوجودها فيختار لها موظف مصري واحد يتحدث إليها بلغتها؟».

يقول «أبوالنجا»: «كان کریم ثابت بين ممثلي شركة الإعلانات المصرية في مجلس الإدارة، وكان يتقاضى ألف جنيه سنويًا مقابل حضور جلسة واحدة كل عام، هي الجلسة الختامية التي تنظر الميزانية وتوزع الأرباح، وقد تذمر يومًا من أتعابه هذه فقال متخابثًا لأبوالفتح: كل هذا الاستغلال للقصور بألف جنيه! فضحك أبوالفتح قائلًا: القصور في عقلك. وساءت العلاقة بين الرجلين».

ينتقل «أبوالنجا» للحديث عن استحواذ محمود أبوالفتح على شركة الإعلانات الشرقية، فيقول: «عرفت أن الأوصياء على ورثة مستر فيني {ملاك الشركة} لم يعد لهم مصلحة في أن يستمروا في إصدار صحف: البورص والبرجرية والجازيت، فساومتهم على شراء شركة الإعلانات الشرقية التي تملك هذه الصحف، ونجحت في ذلك، فأصبح أبوالفتح ملك الصحافة المصرية».

يضيف: «كنت دائمًا أتوقع شرًا من ناحية المصري، كنت أرى الأمور تتعقد بينه وبين الثورة، حتى صدر قرار محاكمة أبوالفتح. وكانت المصارف قد رأت أن تحتاط فضيقت على ائتمان الجريدة، بل أخذت تستولي على كل ما يصل إليها من إيراداتها. فظللت أجمع من الإيرادات بعيدًا عن البنوك حتى تمكنت من صرف مرتبات الموظفين في آخر شهر من حياة الجريدة».

توكيل «بيبسي كولا»

كان محمود أبوالفتح أحد رجال الأعمال الرواد في عصره، وكانت له علاقات متشعبة في أوروبا، أتاحت له الحصول على توكيلات العديد من الشركات العالمية مثل مرسيدس وفولكس فاجن، بما لهما من معارض ومراكز صيانة، وكان أحد مؤسسي بنك القاهرة، واستطاع بفضل علاقاته مع الملك سعود بن عبدالعزيز أن ينشئ فرعًا للبنك في السعودية في الربع الأول من 1954.

قبل الثورة، يقول السيد أبوالنجا: «أبلغني رئيس مجلس إدارة بنك مصر {وقتها}، إلياس أندراوس، أن الملك فاروق يعرض على محمود أبوالفتح أن يكون وزيرًا مقابل دفع 100 ألف جنيه، أو أن يكون رئيسًا للوزارة مقابل ربع مليون جنيه. فرأيت من واجبي أن أنقل إليه العرض، فسخر مني، لكنه طلب أن أمنّي أندراوس بالقبول دون أن أرتبط معه بشيء تجنبًا لأي صدام».

يضيف «أبوالنجا» في مذكراته: «ودارت الأيام، فإذا بصاحب المصري يسافر إلى جنيف ويطلبني إليه، وسافرت فوجدته قد حجز لي جناحًا فخمًا في فندق كبير، وألحق به سكرتيرة خاصة من الفندق. وفي الصباح كاشفني بأن رئيس مجلس إدارة بيبسي كولا سيحضر من نیویورك ليكمل إليه توكيلها في مصر، وطلب إليّ أن أحسن استقباله، وأن أتفاوض معه على أسس محددة».

يمضي قائلًا: «جاء رئيس مجلس إدارة بيبسي كولا فقالت له استعلامات الفندق إن صاحب المصري بالخارج وإن مديره موجود، فردت السكرتيرة قبل تحويل المكالمة إليّ، ثم نزلت {السكرتيرة} فصاحبت الرئيس إلى الجناح. وهكذا تم إعداده ذهنيًا للتفاوض. ودعوته للعشاء في الجناح فلبى، وكنت على المائدة أعطي السكرتيرة تعليماتي فتنقلها لرئيس الخدم، ثم بدأت المفاوضات».

يصل «أبوالنجا» إلى القول: «علم صاحب المصري أن إلياس أندراوس موجود في باريس، فاتصل به ودعاه لمقابلتي، إذ إنني الذي سأتولى دفع المبلغ المطلوب لتولي الوزارة، فحضر على الفور بالطائرة، وكان رئيس مجلس إدارة بيبسي كولا يعرف أندراوس منذ قابله في القاهرة، ولذلك أقام صاحب المصري عشاء حضره الرجلان الكبيران ومعهما سفير مصر في برن».

«قبل الرئيس جميع الشروط»، يقول «أبوالنجا»، مضيفًا: «وأمضى عرضًا قدمه لي يبقى صالحًا 6 أشهر، ثم استقل سيارة صاحب المصري الرولزرویس إلى المطار وهو يهنئ نفسه على التعامل مع صاحب الملايين. وكان في أقصى المدينة رجل ينتظر، إنه صاحب الملايين الفعلي الذي سيمول الصفقة كلها فينشئ شركة التعبئة، أما صاحب المصري فقد حقق لنفسه ربحًا كبيرًا».

هكذا، أدى إلياس أندراوس مهمته في مفاوضات «بيبسي كولا» دون أن يدري، كما يقول «أبوالنجا»، ويضيف: «اتفق معي صاحب المصري على أن نصطنع خلافًا لإبعاد أندراوس، فلما جاء قال لي صاحب المصري: أنا لا أقبل أن أكون وزيرًا، ولكني لا أمانع أن أكون رئيس وزارة فادفع لإلياس باشا ربع مليون جنيه. قلت: سأفعل بمجرد أن تتفضلوا بعمل الترتيب مع البنوك».

يختتم «أبوالنجا»: «قال أبوالفتح متعجبًا: أنا الذي أعمل الترتيب مع البنوك؟ وما هي وظيفتك إذن؟ قلت: إن المصري لا يستطيع دفع المبلغ. فصرخ: وهل كنت وصيًا عليّ حتى أحتاج مشورتك إذا لم تكن مهمتك أن تقوم بالدفع؟ قلت: لا، إن هناك سوء تفاهم. فثار قائلًا: إنك تخلق سوء التفاهم عن قصد لتتخلص من الدفع. وتدخل أندراوس لإعادة المياه إلى مجاريها ثم استأذن في السفر».

داخل جريدة «المصري»

خطاب محمد التابعي لفض شراكة «المصري» تطرق إلى الأمور التحريرية، فيقول: «مواد الجريدة متروكة للمقادير، وكثيرًا ما يشكو رئیس عمال الجمع من عدم وجود مواد لبعض الصفحات. والذي أعرفه أن رئيس التحرير في كل الصحف لا يغادر مكتبه في المساء إلا بعد أن يبت في صفحات عدد اليوم التالي ويختار لها المواد المناسبة أو على الأقل يطمئن إلى وجود هذه المواد».

أضاف «التابعي» لشريكيه: «تعرفان أنه بسبب قلة التلغرافات في مساء الأحد وبسبب إغلاق البورصة فإن بعض الصفحات تبقى مفتوحة أو خالية تمامًا، ومع علمكما بهذا فإن أحدكما لم يتعب نفسه بالتفكير في وضع نظام لعدد يوم الاثنين، وكانت النتيجة أن صدر مثلًا عدد الاثنين الماضي وفيه عدة صفحات سمك لبن تمر هندي، رغم وجود رسائل متأخرة تصلح جدًا لسد الفراغ».

أما السيد أبوالنجا، مدير عام الجريدة، فيشير في مذكراته إلى بعض الجوانب التحريرية والإدارية داخل «المصري»، ويقول في بداية تعاونه مع «أبوالفتح»: «كان توزيع الجريدة يدور حول 10 آلاف نسخة يوميًا، وكان توزيع الأهرام يدور حول 100 ألف، وأغرى هذا مدير إعلانات الأهرام بأن يرسل خطابًا للمعلنين يقول فيه إنه لا توجد جريدة ثانية في مصر بعد الأهرام».

يضيف «أبوالنجا»: «رأيت أن في هذا التهكم قذفة واضحة في حق المصري، وأشرت على صاحبه برفع دعوى بطلب التعويض، واستشار صاحب الأهرام محاميه، فأفتاه بأن المسؤولية محققة، ولم يجد بدًا من أن يقبل إرسال خطاب دوري يعتذر فيه عن خطابه الأول، وأن يرسل أصل الخطاب إلى المصري، فجعلت من هذا الخطاب نقطة الانطلاق في حقل الإعلانات».

يمضي «أبوالنجا»: «كانت الوفيات من الأبواب المهمة التي تنقص المصري فسعيت للحصول عليها عن طريق موظف في قسم الإعلانات المبوبة في الأهرام، كان يتقاضی قيمتها ممن يحضرون للإعلان عنده ويحتفظ بها لنفسه، ثم يرسل النص للمصري فينشره بالمجان. وكنت سعيدًا بهذا لأن من شأنه أن يغري المعلنين الآخرين بالحضور رأسا إلى مكتب المصري، ونجح الباب».

يشير «أبوالنجا» إلى ضعف المواد التحريرية في «المصري» آنذاك، ويقول: «كان باديًا أن توزيع المصري لا بد أن يرتفع إذا أريد للجريدة أن تنافس الأهرام، والارتفاع غير ممكن ما دامت مواد الجريدة مقصورة على بضع مقالات تهاجم الأحزاب المعادية للوفد، وتصف استقبالات مصطفى النحاس باشا، وعلى مقال أسبوعي عن المسجد الذي قصده فجأة لصلاة الجمعة».

يقول: «كان من رأيي أن القارئ يبحث عن الأخبار، وهو يتطلب فيها السبق والصدق، ولا يمكن أن يثق بالمصري وهو يقرأ فيه أن عدد الذين حضروا خطاب النحاس بأشا 30 ألفًا مع أنه كان بينهم وقدرهم بـ3 آلاف، وكانت تجربة صاحب المصري معي قد نجحت في الإدارة، فاتجه إلى جامعي آخر في التحرير، وجرى اختيار الدكتور محمد مندور بعد اعتذار حسن الزيات».

«رئيس تحرير من وراء ستار»، يقول «أبوالنجا» إن محمود أبوالفتح «سافر إلى أمريكا فاتفق معي على أمر بالغ الخطورة، قال: إني طلبت إلى سكرتير التحرير أن يعمل بتوجيهاتك في أثناء غيابي، فحاول أن تخفف كثيرًا من وفدية الجريدة، ولكن حذار أن تصطدم مع النحاس باشا فيفصلها عن الوفد فتموت. فقسمت التحرير إلى إدارات، ونظمت مواعيد العمل في كل منها»

يمضي «أبوالنجا»: «أصبحت الجريدة تصدر مبكرًا قبل الأهرام، واشتغلت بالصحافة الميدانية، فأجرت أحاديث مع عدد من الوزراء ظهر فيها الصحفي ندًا للوزير يناقشه ويحاسبه»، وبعد ذلك تولى حسين أبوالفتح رئاسة التحرير «وجاءته يومًا برقية من محسن مؤمن، مراسل الجريدة في بغداد، يقول فيها إن الملك فيصل، ملك العراق، تقدم لخطبة الأميرة فريال، ابنة الملك فاروق».

نشر حسين أبوالفتح الخبر في الصفحة الأولى بعنوان «مصاهرة ملكية»، فثار الملك فاروق، واتصل بالنائب العام آنذاك، محمود منصور، للقبض على حسين أبوالفتح، ونفذ النائب العام الأمر دون أن يدري السبب، ويقول «أبوالنجا»: «ذهبت مع المحامي رهيب دوس إلى مقر التحقيق فوجدنا محضرًا لم يتجاوز بضعة أسطر انتهى بحبس المتهم أربعة أيام على ذمة التحقيق».

يضيف «أبوالنجا»: «دخل وهيب دوس على محمود منصور، وكان زميله في الدراسة، وسأله عن جلية الأمر، فقال النائب العام إنه لا يدري، ولكنه ينوي أن يتصل بكريم ثابت، مستشار الملك فاروق الصحفي، ليعرف سبب القبض على حسين أبوالفتح، وفي المساء جاء وهيب دوس إلى مكتبي هائجًا وقال: ما دمتم تلعبون بالنار هكذا فلماذا تشرکوني معكم في مثل هذه الألاعيب؟».

كان عنوان «مصاهرة ملكية» سقطة وقعت فيها «المصري» بسبب التسرع، ويقول «أبوالنجا»: «قلت للمحامي: ماذا يا وهيب بك؟ فقال إن کریم ثابت كان قد سافر إلى بغداد ومعه كلبة ملكية لتحمل من کلب ملكي هناك، وقد أراد حسين أبوالفتح أن يشير إلى الواقعة فنشر الخبر بعنوان (مصاهرة ملكية). وذهبنا فورًا إلى النيابة لمقابلة حسين، فدهش هو الآخر عند سماعها».

«أمر السراي سفير مصر في بغداد بالتحقيق، فاستدعى مراسل المصري، وقال إنه أرسل برقية بالفعل بعد أن رأی کریم ثابت في بغداد بصحبة أحد رجال السراي، فسأله عن سبب مجيئه، فقال إن هناك مصاهرة ملكية. وسارع المراسل بإبفاد برقية إلى القاهرة، واتصل السفير برجل السراي فقال إنه كان يمزح، ولم يتوقع أن المراسل سيأخذ الأمر بجد ثم يكمل الخبر من عنده».

أشار أحمد أبوالفتح في كتابه «جمال عبدالناصر» إلى تلك الواقعة تحت عنوان «عندما أراد فاروق إغلاق المصري»، ويقول: «ذات يوم في عام 1948 وصلتنا برقية من مدير مكتب المصري في بغداد الأستاذ محسن المؤمن تقول: وصل إلى بغداد اليوم سعادة كريم ثابت باشا وبصحبته محمد حلمي حسين بك (..) ودلت التحريات أن الزيارة تمهيد لمصاهرة ملكية».

«كان فاروق قد طلّق الملكة فريدة»، يقول «أبوالفتح»، مضيفًا: «نشرنا خبر المصاهرة الملكية داخل إطار على 3 أعمدة في صدر الصفحة الأولى». وذهب «أبوالفتح» لاستجلاء موقف أخيه في مكتب النائب العام، فسمع الأخير يقول: «معلهش يا حسين 4 أيام في سجن الأجانب، وسأعطي أمرًا بأن تخرج كل يوم ولا تعود إلا قبل الغروب علشان نهدي الملك».

يقول «أبوالفتح»: «أمضى أخي ليلته في سجن الأجانب، وفي الصباح عندما خرج بصحبة ضابط بوليس بحجة العلاج تنفيذًا لأوامر النائب العام اتجه بالسيارة إلى مكتب محمود بك منصور، وعندما استقبله النائب العام قال أخي: كفاية والله ما أنا راجع السجن. وبعد تناول القهوة أصدر النائب العام قرار الإفراج عن أخي (..) وعلمنا أن الملك كان مصرًا على إغلاق المصري».

ق

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات هاتفية باحتلال العراق للكويت

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *