فى 19 أكتوبر 1954، وقع الرئيس الراحل، جمال عبدالناصر، «اتفاقية الجلاء»، مع رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، الذي طالما كان رافضًا لمسألة الجلاء.
إنجي عبد الوهاب |
في مثل هذا اليوم قبل 68 عامًا وقع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، النص النهائي لـ«اتفاقية الجلاء» لتتكلل مساعي الشعب المصري الذي كافح حتى إجلاءه آخر جندي بريطاني من أراضيه، عبر نضال استمر 73 عاماً وتسعة أشهر وسبعة أيام، كانت عمر وجود الاحتلال الإنجليزي على الأراضي المصرية، ما يعيد إلى الذاكرة مراحل هذا الاتفاق التي لم تكن بمعزل عن المقاومة الشعبية، بدءًا من انتهاء ثورة عرابي، فقيام ثورة 19، مرورًا بانتفاضة الشعب المصري وإضراب طوائفه بانتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم وصولًا للكفاح المسلح ضد قوات اللاحتلال البريطاني والعمليات النوعية التي قامت بها المقاومة الشعبية في قناة السويس فور انتهاء حرب فلسطين، واستمرار هذا الكفاح عقب قيام ثورة يوليو، 1952، مما أجبر الجانب البريطاني، على استئناف المفاوضات، وإبرام اتفقاقية الجلاء في الـ19 من أكتوبر1954.
73 عامًا من الاحتلال والنضال
ظلت قناة السويس، مقرًا لأكبر قاعدة عسكرية للاحتلال البريطاني، في الشرق الأوسط، لنحو مايزيد عن 73 عامًا، لكن مصر استردتها بموجب «اتفاق الجلاء»، وكما تسلمت باكتمال إجلاء الإنجليز عن مصر منشآت عسكرية تحوي معدات إنجليزية قدرت قيمتها آنذاك، بنحو 60 مليون جنيه،، فضلًا عن خط أنابيب البترول بين السويس والقاهرة الذي قدرت قيمته آنذاك بنحو 2.5 مليون جنيه. عقب نضال استمر عقود، ولكن ما هي مراحل ذاك النضال، وكيف أتمت مصر اتفاقية الجلاء؟ وما هي مراحلها.
جلاء القوات البريطانية عن القاهرة والاسكندرية
بدأت مساعي مصر لإجلاء الاحتلال الإنجليزي عن مصر منذ أربعينات القرن الماضي؛ إذ دخلت الحكومات المصرية المتعاقبة سلسلة من المفاوضات بهدف تعديل بنود معاهدة 1936، وإجلاء الإنجليز تمامًا عن الأراضي المصرية.
جائت أولى مراحل هذا الإجلاء في تمام الساعة الحادية عشر صباح الاثنين 31 مارس 1947م حين رفع الملك فاروق علم مصر فوق «ثكنات قصر النيل» معلنًا جلاء الإنجليز عن القاهرة والإسكندرية، وحضر إلى جانب فاروق، محمود فهمى النقراشى، رئيس وزراء مصر وكبار قادة الجيش المصري، وكان هذا يوما مشهودا بإعلان أولى خطوات إجلاء الإنجليز عن مصر، طبقا لمعاهدة عام 1936 التي جرى تأجيلها جراء الحرب العالمية الثانية، وأطلق الجيش المصري أنذاكـ أعيرة احتفالية، وأعلنت الحكومة المصرية هذا اليوم إجازة رسمية للوزارات والمصالح الحكومية.
إلغاء معاهدة 36..خطوة على طريق الإجلاء النهائي
بموجب اتقافية 1936 كانت بريطانيا «تحمى» قناة السويس لمدة 20 عام تنتهى 1956، لكن جلاء القوات البربطانية عن القاهرة والإسكندرية حفًز الحكومات المصرية المتعاقبة لحقيق الجلاء التام والغير مشروط؛ لذا دخلت سلسلة مفاوضات بهدف ذلك؛ ففي 27 أبريل عام 1953 عقد في مقر مجلس الوزراء المصري أول اجتماع لمباحثات الجلاء، لكن الجانب البريطاني، راوغ وأصر على البقاء؛ إذ فشلت المفاوضات على إثر تمسك بريطانيا بإعطاء السودان «حق تقرير المصير» كشرط لجلائها عن مصر وهو الأمر الذي رفضه الملك فاروق آنذاك؛ مما دفع حكومة مصطفى النحاس باشا والبرلمان إلى إلغاء معاهدة 1936 في 15 أكتوبر 1951، وحينها نصحت القوات البريطانيا رعاياها بالرحيل عن مصر.
مرحلة الكفاح الشعبي المسلح
عقب فسخ معاهدة 1936 أعلنت مصر حالة الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال البريطاني الموجودة في قناةالسويس، كما أعلنت تمسكها بالسودان جزءًا لا يتجزأ من مصر، وأعلن الملك فاروق نفسه كـ«ملك مصر والسودان»، بالمخالفة لرغبة الاحتلال البريطاني؛ فرغم إعلان إنتهاء الحماية البريطانية على مصر إثر تصريح 28 فبراير 1922 احتفظت بريطانيا بأربع ميزات، كحقها في «تأمين مواصلات امبراطوريتها في مصر»، و«الدفاع» عن مصر ضد أي تدخل أجنبى، و«حماية» المصالح الأجنبيه والأقليات، وأيضًا حق التصرف في السودان.
نشب صراع بين قوات الاحتلال ومصر، على إثر فسخ المعاهدة، ودخلت مصر في موجات من الفوضى العارمة «مجهولة الفاعل» فتنة طائفية إلى حرائق إلى مظاهرات إلى حظر تجوال وأحكام عرفية.
ثورة يوليو تكلل مساعي الجلاء
بلغت الصراعات الداخلية ذروتها، وكان لحريق القاهرة في 26 يناير 1952 دور مهم في دفع «حركة الضباط الأحرار» للإطاحة بالملك فاروق، إذ تسلم فاروق إنذار الجيش في 26 يوليو الذي أجبره على التنازل عن العرش لولى العهد، أحمد فؤاد، فسقط حكم الوفد والملك، وعزلت ثورة يوليو، آخر ملوك مصر، الملك احمد فؤاد، وأُعلنت مصر كـ«جمهورية» 18 يوينو 1953 كان محمد نجيب أول رئيسًا لها، لكن سرعان ما وُضع تحت الإقامه الجبريه في منزله، وتولى مجلس قيادة الثورة، ورئاسة الوزراء، جمال عبدالناصر.
عبدالناصر يدعو لمواصلة الكفاح
عقب تولي جمال عبدالناصر رئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة الوزاره في فبراير، 1953، سعى لكسب الشعب الراغب في إجلاء الاحتلال؛ فزار مدينة بورسعيد في أغسطس عام 1953، ودعا الشعب إلى مواصلة الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي؛ إذ قال مخاطبا المواطنين «إن مصر متكاتفة معكم لإجلاء قوات الغاصب، حتى يغادر بلادنا، آخر جندي أجنبي من قوات الاحتلال»، ما قوبل باحتفاء شعبي، ثم واصل جمال عبدالناصر، ثم كسب تأييد الجماهير حتى أصبح رئيسا للجمهورية 24 يونيو 1956
مقاومة شعبية وحاضنة رسمية
شجعت الحاضنة الرسمية التي وفرتها حكومة عبدالناصر الشعب المصري على مواصلة الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي؛ إذ شهدت الفترة بين أواخر ديسمبر 1953، حتى أوائل 1954 حركة مقاومة شعبية واسعة؛ وتعددت العمليات النوعية للمقاومة الشعبية ضد جنود الاحتلال الإنجليزي، بمعسكرات القناة، مما أجبر الوزير البريطاني، سلوين لويد، على إعلان قبول بريطانيا استئناف المفاوضات حول جلاء الإنجليز عن مصر مجددًا.
تصاعدت وتيرة المقاومة الشعبية، وتجددت العمليات النوعية، ضد ثكنات الاحتلال البريطاني، في مارس 1954، مما أدى إلى قدوم السفير البريطاني إلى مصر، لتسجيل اعتراضه، على مصرع ضابط بريطاني، وإصابة آخر في القناة، وحينئذ، أعلن وكيل وزارة الخارجية البريطانية، أمام مجلس العموم البريطاني، في مايو عام 1954، عن وقوع 52 «حادث اعتداء»، في غضون ست أسابيع. وفي يونيو عام 1954، لافتًا أن مستقبل المفاوضات، بين مصر وبريطانيا، مشروط بتعاون مصر في الكشف عن المسئولين عن قتل ضباط الاحتلال البريطاني.
المقاومة الشعبية تجبر بريطانيا على استئناف التفاوض
أجبرت المقاومة الشعبية المدعومة بحاضنة رسمية، الجانب البريطاني على استئناف المباحثات، في يوليو 1954؛ إذ وقع الجانبان المصري والبريطاني «مذكرة تفاهم»، حول الجلاء وقعها كل من جمال عبدالناصر،و أنتوني هيد وزير الحربية البريطانية، آنذاك.
وتشكل الوفد المفاوض المصري من عبدالحكيم عامر، وعبداللطيف البغدادي، وصلاح سالم، ومحمود فوزي، فيما مثل الوفد البريطاني رالف ستيفنسون السفير البريطاني في القاهرة، وميجر بنسون القائد العام للقوات البريطانية، في منطقة القناة، ورالف موري الوزير المفوض في السفارة البريطانية، وأنتوني هيد، وزير حربية بريطانيا المساعد لشئون الشرق الأوسط.
جمال عبدالناصر يوقع اتفاقية الجلاء
استكملت مصر مسار التفاوض للحصول على مسعاها بإجلاء آخر جندي ‘نجليزي من أراضيها، وفى 19 أكتوبر 1954، وقع الرئيس الراحل، جمال عبدالناصر، «اتفاقية الجلاء»، مع رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل، الذي طالما كان رافضًا لمسألة الجلاء.
وتضمنت الاتفاقية تنظيم الإجلاء عبر أربع مراحل، ونفذت المرحلة الأولى منها 18 فبراير عام 1955، والثانية 16 يونيو 1955، والثالثة 25 مارس 1956، حتى أجلي في 18 يونيو 1956، آخر جندي بريطاني الأراضي المصرية، حينئذ رفع الرئيس، جمال عبدالناصر، العلم المصري، على مبنى البحرية البريطانية «نيفي هاوس»، في ببورسعيد.