الأيام العشرة الأخيرة من عمر الوحدة
- عبدالمنعم علي عيسى
- 6 تشرين الأول 2020

كانت الشركة الخماسية درّة التاج الشامية القابضة على الاقتصاد السوري، وفي عام 1948، أي بعد عامين على تأسيسها، كان رأسمالها المتحرّك قد تجاوز الخمسة عشر مليون ليرة سورية، في الوقت الذي لم تكن موازنة الدولة تتجاوز في العام نفسه الـ107 ملايين ليرة. وعندما جرى تأميمها، في تموز/يوليو من عام 1961، أي بعد خمسة أشهر على قيام الوحدة، تحوّل المتضرّرون الخمسة، التي استمدّت الشركة تسميتها من عديدهم، إلى تكتّل شرس لم يلبث أن ضمّ إليه ساسة متضرّرين أيضاً، مثل معروف الدواليبي ومأمون الكزبري ونهاد الغادري، ثمّ راح التكتّل الجديد يبتني له أذرعاً إعلامية مساندة، كانت أشبه بالطابور الخامس الذي راح يغدق مكتب المشير عبدالحكيم عامر بسيلٍ من البرقيات التحريضية ضد عبد الحميد السراج و«أسلوبه القمعي والاستبدادي في إدارة البلاد»، وهو ما لم ينكره العقيد عبد الكريم النحلاوي الذي قاد انقلاب الانفصال، وفق رواية الكاتب الفلسطيني ذياب عيوش، التي عرضها على صفحات «رأي اليوم»، في مقال نشرته هذه الأخيرة بتاريخ 17 أيلول/سبتمبر 1987. وفي تلك الرواية، ذكر الأخير أنّه عندما واجه النحلاوي، في لقاء جمعه معه على غداء حصل في ربيع هذا العام الأخير في مدينة آن آربر في ولاية ميشيغان الأميركية، بحادثة إغداق مكتب المشير بسيل الرسائل السابق الذكر، «طلب النحلاوي عندها الانتقال إلى موضوع آخر».
وإذا كان من الصعب الدفاع عن السراج في مواجهة التهم التي احتواها سيل الرسائل السابقة الذكر، فإنّ من الواجب القول إنّ توجيه السهام إليه، بغضّ النظر عن صوابية التهم، كان يمثّل تركيزاً للقصف على الجدار الاستنادي الأقوى، لا بل والأخير، لبناء الناصرية في سوريا. والسراج، دون أدنى شك، كان مؤمناً بأنّ الضغط على القوى المناهضة والمتضرّرة من الوحدة، يمثّل السبيل الوحيد للنجاح في استمراريتها ودوام حالها، وإذا كان ذلك مبرّراً في التفكير السياسي الذي يهدف للحفاظ على إنجاز كبير، بحجم ما كان قائماً ما بين عامَي 1958 ـــــ 1961، فإنّ الخط السياسي، وكذا الأدوات المستخدمة، لم تكن ناجعة لدى شعب «يعتقد كل من فيه أنه سياسي، ويعتقد خمسون في المئة من ناسه أنهم زعماء، و25 في المئة منهم أنهم أنبياء أو رسل، بينما يعتقد عشرة في المئة على الأقل أنهم آلهة»، وفقاً لتوصيف شكري القوتلي، الذي قاله لعبد الناصر بُعيد توقيعه ميثاق الوحدة. المؤكد أنّ هذا التوصيف، كان يحمل في طيّاته الكثير من الواقعية انطلاقاً من التنوّع الحضاري والديني والإثني، الذي كرّسته تمرحلات تاريخية عاشها السوريون، والضاربة لجذورها في البنية السورية بعمق يمتد آلاف السنين، في حين أنّ أنفاسها لا تزال حاضرة في ذاتهم الجماعية ولسوف تظل.
في صيف عام 1961، قدّم عبد الحميد السراج إلى جمال عبد الناصر تقريراً كان على درجة عالية من الأهمية، بل ويصحّ اعتباره استشرافاً لمآلات قادمة لم يطُل الوقت بها لأكثر من بضعة أشهر ، حتى أضحت واقعاً. ورد في ذلك التقرير، أنّ العقيد عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير عامر، يعد لتنفيذ محاولة انقلابية، وعندما عُرض التقرير على ناصر بحضور عامر، رفض هذا الأخير استنتاج السراج، قائلاً: «النحلاوي وحدوي أكثر منك يا جمال».
كان ذلك الصيف الذي قدم فيه السراج تقريره السابق الذكر، مفصلياً، أو هو كان كاشفاً لتحوّلات كانت ذات أثرٍ تراكمي تكاثفت غيومها في السماء السورية بفعل عامِلين أساسيين اثنين، أولهما الجفاف الذي ضرب الإقليم السوري في العامَين اللذين سبقا قيام الوحدة، ثم تعمّق في سنواتها الثلاث التي عاشتها هذه الأخيرة، وهو من حيث النتيجة كان قد ألحق ضرراً واسعاً بعملية الإنتاج الزراعي، التي كان يعتاش عليها أكثر بقليل من نصف الشعب السوري؛ وثانيهما، هو السياسات الاقتصادية التي اتّبعها ناصر في سوريا، وهي أيضاً من حيث النتيجة كانت قد ألحقت الضرر بمصالح الطبقة النافذة في سوريا، ما قبل عام 1958. وفي تراجم ما سبق، كان ذلك الصيف قد جمع بين طبقة الفقراء ذات الوزن الذي يمثّل نصف ثقل الشارع السوري، جنباً إلى جنب في رزمة واحدة مع طبقة البرجوازية المتضرّرة، في حين بقيَت الطبقة الوسطى المتذبذبة بطبعها، مترقّبة بانتظار ما ستحمله التطوّرات لتحدد مواقفها.
في منتصف أيلول/سبتمبر الثالث ـــــ والأخير ـــــ من سني الوحدة، راحت الشقوق في الجسد تتوسّع، بشكل بات من الصعب على عمليات الترقيع أن تفي بالغرض. وفي الغضون، راحت مبادرات المتضرّرين تؤتي أُكلها، فمضى السراج في إحكام قبضته أكثر، آملاً في أن ينجح تطبيق المزيد من الضغظ في تشتيت التلاقيات، التي راحت تتوسّع هوامشها عبر دعم السعوديين، أكثر فأكثر بمرور الوقت الذي أخذ يكتسب سرعات ضوئية في دمشق. يروي ذياب عيوش، أيضاً، نقلاً عن أحد المعارضين السياسيين السوريين، أنّ السراج كان قد دعا المفاصل الأمنية في دمشق، إلى اجتماع يفترض أنّه حدث في هذه المرحلة السابقة الذكر، أي ما بعد منتصف أيلول/سبتمبر الأخير، طالباً منهم أن يعرفوا «من ينام مع زوجته ومن لا ينام»، إلّا أنّ مناخات الضغط كانت قد تأخّرت، وهي من حيث النتيجة كانت تبشّر بنتائج عكسية تبعاً للحدّة التي استدعتها ضرورات الإنقاذ، فجاءت فاقعة بدرجة قصوى، وبنتيجة هذه القراءة التي اعتمدتها القاهرة، بالتأكيد، أقيل السراج قبل يومين من وقوع الانفصال.
سيقدم الضابط في سلاح المدرّعات السوري عبدالرحمن خليفاوي (الذي أضحى رئيساً لوزراء سوريا لمرّتين خلال عقد السبعينيات) نبوءة مدهشة، قبل 48 ساعة من لفظ الوحدة لأنفاسها الأخيرة، حيث سيقول بالحرف، في يوم 26 أيلول/سبتمبر، أي بعد ساعات على إقالة السراج، أمام تجمّع لضبّاطٍ في سلاح المدرّعات: «لم يبقَ أحدٌ مع عبد الناصر في سوريا، والشرطة العسكرية قادرة على القيام بانقلاب وحدها، كلّ الناس ضدّه والجيش ضدّه، إنّ فرقة هجانة إذا ما جاءت من البادية إلى الشام ستنجح في تنفيذ انقلاب». لم يمضِ يومان على تلك النبوءة المدهشة، حتى أضحت واقعاً، ومصدر إدهاشها لا يتأتّى فقط من سرعة تحقّقها، بل من دقّة تصويرها للتهتّك الذي أصاب «نسيج» الوحدة، عندما لحظت إمكانية أن يستطيع لواء هجانة (أي قطعات حرس الحدود المصنّفة قطعات غير قتالية) قادم من البادية قلب الأوضاع في دمشق، والغريب هو أنّ ذلك التقدير هو ما حصل بالضبط.
في هزيع يوم 27 أيلول/سبتمبر، كان المقدّم حيدر الكزبري يتقدّم كتيبة هجانة منطلقة من معسكر قطنا، عناصرها بدويون كما تشي بذلك أهازيجهم التي كانوا يردّدونها، وعند مفترق طرق الضمير التقى بالعقيد جاسم علوان الذي بادر الأول بسؤال لو قدر له أن يستولد العديد من الأسئلة لتغيّر ـــــ ربما ـــــ وجه الأحداث. سأل علوان الكزبري: «إلى أين تمضي يا حيدر؟»، فأجاب الأخير: «أقوم بمناورة ليلية للتدريب، لكن ماذا تفعل أنت؟»، فردّ علوان: «أنا أيضاً أنفِّذ مناورة ليلية». لم يكن جاسم علوان، الناصري حتى العظم، فطناً في تلك اللحظات التي استولدت زلزالاً، استولد بدوره زلازل ما كان لها أن تحدث لولا حدوث الأول، فلم يسأل علوان نفسه لماذا لا يُجري الكزبري مناورته في البادية الواسعة، بل فضّل عليها طريقاً ضيّقاً، كذاك الذي كان يسير عليه، وما جرى بفعل غياب الفطنة، هو أنّ علوان اتّجه بمصفّحاته الحديثة العائدة للواء 70 فخر الجيش السوري شمالاً، فاسحاً المجال لمدّرعات الكزبري المهترئة لتحقيق ما خطّط له ـــــ وأراده ـــــ تكتّل الضبّاط الشوام الناقمين على «اغتصاب ناصر للقرار السوري».
فجر الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر، كانت المدرّعات التي انطلقت من قطنا تحاصر مكتب المشير عامر ومبنيَي الأركان والإذاعة التي راحت تبثّ البيان تلو الآخر، وهي في مجملها لم تكن تدعو للانفصال بل لإيجاد تسوية جديدة. ولإثبات حسن نوايا القيّمين على إصدار تلك البيانات، جرى اعتقال الكزبري المخمور، يومها، بعدما ركب مصفّحته وراح يطلق من رشاشها الرصاص على مبنى الأركان، رفضاً لأية تسوية يمكن أن تجري. وفي ساعة الظهيرة، صدر البيان رقم (9) الذي عبّر الانقلابيون فيه عن رغبتهم في العودة عن الانقلاب، إلّا أنّ عامر رفض أي حوار مع الانقلابيين، ما شكّل ذريعة لهؤلاء لترحيله إلى القاهرة.
شهد الشارع السوري تظاهرات مؤيّدة، وأخرى معارضة لناصر، إلّا أنّ الأخيرة كانت هي الأكثر اتساعاً وثقلاً. وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاع المؤيّدون تحقيق نوع من السيطرة، حتى بدا للوهلة الأولى أنّ الانقلاب قد فشل من حيث النتيجة، خصوصاً أنّ قيادتي اللاذقية وحلب العسكريّتين كانتا قد رفضتا تأييد الانقلابيين، لكنهما بالمقابل رفضتا نداء عبد الناصر الموجّه إليهما، للزحف على دمشق لإحباط الانقلاب.
سقطت الوحدة كيتيمة لم تجد من يدافع عنها، بل ولم تجد الكثيرين ممّن بكى عليها، لكنّ الناس الذين يمثّلون عمق الذات الجماعية لشعوبهم، ظلّوا يحبّون عبد الناصر، بيد أنّ الحب وحده لا يكفي لنجاح السياسات، وهو إذ توفّر يصبح بيئة حاضنة تستطيع تفعيل مناخات مناسبة لعمل ركائز أخرى، لا بدّ من توافرها وتلك في غالبيتها كانت غائبة. اليوم، بعد مرور ما يقرب من ستة عقود على الانفصال، يمكن الجزم بأنّ البذور التي غرستها الناصرية في إقليميها الجنوبي (مصر) والشمالي (سوريا)، ظلّت تتمتّع بخصوبتها لمدة طويلة في هذا الأخير، وبما لا يقاس عن نظيرتها في الأول.
عبد الناصر لم يمت في سوريا، التي ظلّت ترى فيه حلم نهوض يجب ألا يزول، بل من الأكيد القول إنّ جمره لا يزال متّقداً تحت رمادها حتى اليوم، لكنّه مات في مصر في 15 أيار/مايو 1971، الذي شهد ما يسمى ضرب السادات لـ«مراكز القوى»، الذي عنى أولى تصفيات الحساب مع الناصرية، فيما المشوار سيطول ويطول بعد فتح الحساب السابق الذكر.