الكتاب للمؤلف أحمد يوسف أحمد
لقد ارتكزت ثورة يوليو فى تخطيط إستراتيجيتها وترتيب أولوياتها على فكرة التحرر؛
كفكرة محورية فى كل تحركاتها، وجاء الوطن العربى فى مقدمة الدوائر التى يجب العمل من أجل تحريرها تمهيدا لوحدتها الشاملة، وإقامة نظام للأمن القومى العربى يمتلك عناصر القوة اللازمة لمواجهة التهديدات الخارجية .
وإذا كانت فكرة التحرر تستهدف فى الأساس مقاومة النفوذ الأجنبى فى كل صوره وأشكاله ، فقد كانت مقاومة التخلف فى كل أشكاله أيضا أحد الأهداف الذى رأت فيه الثورة مدخلا ضروريا لإقامة النظام الأمنى المشار إليه ، وأستطيع أن أقول أنه بالنسبة لهذا الشق الأخير؛ أى التصدى للتخلف فقد انتظرت الثورة مبادرة القوى الوطنية فى كل دولة عربية على حدة باتخاذ الخطوة الأولى ، وعندما كانت تأتى هذه القوى إلى القاهرة فإنها تلقى كل ترحيب وتجاوب؛ إيمانا من جانبها بأن هذه القوى لابد أن تأخذ فرصتها فى الانتقال بشعوبها إلى آفاق العصر، وتنفض عنها قيود الطبقات والاستغلال الداخلى ، أضف إلى ذلك أن غالبية هذه الدول كانت الحماية فقط لشخوص قادتها وامتلاك وسيلة للتعبير عما يظنوه صوابا .
وسواء كان الهدف هو مقاومة المستعمر الأجنبى أو تحقيق الإصلاح الداخلى فلم تدخر القاهرة جهدا فى دعم هذه الحركات ، ودعم تماسكها الداخلى ، يستوى فى ذلك احتضان مصر لثوار الجزائر ، ودعم توجههم النضالى المسلح، أو استضافة الزعامات الوطنية القادمة من المغرب وتونس وليبيا، وإعطائهم الفرصة للتعبير عن أهدافهم من داخل مصر ، ومن خلال أجهزتها الإعلامية ، ولم ترد القاهرة أى حركة وطنية أو كوادر عربية جاءت تطرح أفكارها ومشروعاتها الوطنية للتحديث والتغيير ، وقد لا أذيع سرا إذا قلت أن هذا الاتجاه شمل كل الدول العربية بما فى ذلك المملكة العربية السعودية التى جاء منها وفى أكثر من مناسبة كوادر وطنية بل وبعض القيادات الشابة ـ فى ذلك الوقت ـ طرحوا أفكارهم وأهدافهم من التغيير ، وكان علىّ شخصيا مهمة التنسيق معهم، والاستماع إليهم وإلى مطالبهم وتقديم النصح والإيضاحات لهم .
أقول أن هذا الخط كان منهج القاهرة فى كل أرجاء الوطن العربى ، وذلك باستثناء اليمن ، فقد جاءت المبادرة الأولى من جانب ثورة يوليو 1952 وليس العكس وكان لذلك ما يبرره لقد كانت اليمن من أشد مواقع الوطن العربى تخلفا وانعزالا عن كل ما يجرى فى العالم ، فقد كان يحكمها نظام الإمامة على رأسه أئمة زيود استأثروا بالسلطة الروحية والزمنية لأكثر من ألف ومائة عام متصلة. والزيدية فرقة أسسها زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب كرم الله وجهه ، ودون ما الدخول فى تفاصيل، التقى بعد ذلك مع الإمام أبى حنيفة النعمان وكانت حركة شيعية سنية معتزلة؛ شيعية فى الأصول، حنفية فى الفقه والفروع . وكانت هناك شروط أربعة عشر لمن يتولى الإمامة وهى :
” ذكر ـ حر ـ مجتهد ـ علوى ـ فاطمى ـ عدلا ـ سخيا ـ ورعا ـ سليم العقل ـ سلم الحواس ـ سليم الأطراف ـ صاحب رأى وتدبير ـ مقدام وفارس” وأن تكون الإمامة بالانتخاب والبيعة الشعبية وليست بالوراثة . وقدم الزيود إلى اليمن سنة 900 ميلادية، وأول من تولاهم الإمام الهادى ، وبعد أن استقر بهم الحكم انقلبوا على مبادئ زيد بن على، وحكموا حكما مطلقا وسخروا القضاة فى تبرير كل تصرفاتهم .
وقد انتهج حكم الإمامة أساليب غاية فى الغرابة فى تأمين استمرار يته.. أساليب فاقت ما كان معروفا فى العصور الوسطى؛ تنوعت ما بين ترويج الأساطير عن قدرة الإمام وكراماته فى مواجهة كل من يتآمر ضده، وأن الإمام هو ظل الله على الأرض، وأنه يحتل المرتبة الثالثة بعد الله ورسوله (ص)، وأنه لا يغلب ولا يقطع السيف رقبته أو يخترق الرصاص جسده، ويسخر الجن ويتحول إلى طائر أخضر يذهب للصلاة فى الكعبة كلما أراد، وأن من ينتقد الإمام بقلبه كان منافقا، ومن ينتقده بلسانه فهو زنديقا، ومن خرج عليه كان كافرا ، وكان نظام الإمامة فى اليمن يقاوم وجود جيش أو قوة عسكرية من أى نوع يمكن أن تكون مصدر خطر فى يوم من الأيام، ويلجأ إلى استخدام أساليب الدس والوقيعة بين القبائل بعضها البعض، والاحتفاظ بأبناء زعاماتها، ومنهم من كان طفلا يؤخذ ومعه أمه، كرهائن فى صنعاء لمنع أى منها من التمرد على الإمام، وتتكفل القبيلة بنفقات الطعام والملبس للرهينة، ويتكفل الإمام بالمأوى والقيود، وكان عدد الرهائن يتراوح ما بين الألف والأربعة آلاف.
كان الإمام يتحكم فى ثروات البلاد، ويستخدم وسائل المنح والمنع لضمان الولاء فى كل أرجاء اليمن، وتعميق الانقسام الطائفى بين شوافع وزيود، ويملك الأرض والبشر ولا حاجة للرعية أن يتعلموا أكثر من الفاتحة وفرائض الصلاة . كانت المدارس فى اليمن كله ، ثمانية فقط, وثلاثة من الأطباء الأجانب هم الذين يتولون متابعة أحوال الصحة العامة فى اليمن، وكان الإمام يجسم الخلافات بين القبائل وطوائف الشعب فى وقت لا توجد فيه فوارق حقيقية سواء على المستوى الثقافى أو العقيدى بينهم .
كانت اليمن تمثل عنصر توازن يستعين به الاستعمار البريطانى فى الجنوب العربى المحتل والأنظمة التقليدية الأخرى فى شبه الجزيرة العربية كجدار دفاع ضد تيارات التغيير والتقدم القادمة من الشمال العربى، وتعتبرها منطقة عازلة بين التقدم والتخلف. وقد كانت هذه القوى ـ أى الاستعمار البريطانى والرجعية العربية ـ أقوى مصادر الدعم لحكم الأئمة فى اليمن، وعامل الضعف الرئيسى فى أى تخطيط ثورى يستهدف هذا الحكم، ولقد لعبت القوتان أدوارهما فى إفشال عديد من الحركات الثورية التى سبقت ثورة 26سبتمبر 1962 .
كانت اليمن ـ ومن وجهة النظر العربية ـ نقطة ارتكاز حيوية فى الأمن القومى المصرى والعربى بحكم موقعها الإستراتيجى فى جنوب البحر الأحمر وفى مواجهة السودان والقرن الإفريقى وباب المندب ، وأدركت الثورة فى مصر مبكرا أن أى تغيير سياسى فى اليمن يمكن أن يحدث ردود فعل إيجابية لصالح حركة التحرر الوطنى فى الوطن العربى كله .
لهذه الأسباب فلم ينتظر قادة ثورة يوليو قدوم الكوادر الثورية فى اليمن إليها؛ بل حرصت هى على الذهاب إليهم ، وكان ذلك فى العام 1953 ، ففى ذلك الوقت كانت المواجهات بين الثوار فى اليمن ونظام الإمامة قد أسفرت عن هروب بعض من عناصرها إلى مصر، وأقاموا ما سمى بالنادى اليمنى لكن الإقامة الهادئة المستقرة كانت قد استهوتهم، وغلبت عليهم نوازع الذاتية، بل وتسلل بينهم العديد من عملاء الإمام اليمنى الذى حرص باستمرار على استقطابهم وإمدادهم بالمخصصات، وإثارة الانقسامات بينهم عن طريق عناصر سفارته فى القاهرة، وبين أعضاء الجالية اليمنية والدارسين المصريين فى الجامعات المصرية .
رابط لتحميل الكتاب
https://drive.google.com/file/d/1c9IH-W20WLFAEIBOWrZKFVVE6yBetU4A/view?usp=sharing