بتاريخ 28 سبتمبر 2020م، تكون قد مرت على وفاة الزعيم/ جمال عبد الناصر، خمسون عامًا، أي نصف قرن بالتمام والكمال، وهو بمثابة وقت ليس بالقصير، وتجري في هذه المناسبة احتفاليات في عدد كبير من بلدان العالم الثالث والوطن العربي، ومن بينها مصر بكل تأكيد التي ولد فيها عبد الناصر، وتربى فيها وكان أول حاكم مصري لها، استمر لمدة (18) سنة بين (1952م – 1970م)، بينهم فترة انتقالية استمرت 4 سنوات (52-1956)، حتى ميلاد أول دستور مصري بعد قيام ثورة 23 يوليو، 1952م بزعامة جمال عبد الناصر على رأس مجلس قيادة الثورة. وعلى عكس كل الزعماء والرؤساء والملوك الذين حكموا بلادهم حتى في فترات ما بعد التحرر والاستقلال عن الاستعمار العالمي الذي كان يحم أكثر من نصف مساحة العالم، ويحتلها احتلالاً فعليًا، يلاحظ أن الزعيم جمال عبد الناصر، هو الأكثر جدلاً وصخبًا وحديثًا وبحثًا حتى أضحى أنه لايزال حيًا. وإلى الدرجة التي تفوه بها مرشح رئاسي أمريكي زار مصري، قبل أن يغيبه الموت بمرض عضال أودي به يدعي (جون ماكين)، بأن أمريكا لن تسمح بجمال عبد الناصر، مرة أخرى في المنطقة. أي أنه لايزال طيف عبد الناصر يطاردهم، وهم الذين أعدوا له المكائد حتى رحيله في غمضة عين، ليظل رحيله، وقد ارتسمت حوله علامات استفهام حتى الآن!! وهنا فإن السؤال المهم هو: لماذا يزداد وهج عبد الناصر، رغم مرور نصف قرن على رحيله؟ هل لصفات شخصية أم لمشروعه الوطني التحرري؟ أم لأسباب أخرى، لا أحد يعلمها؟!
والرأي عندي في هذا الصدد، أن الجماهير العربية وفي المقدمة بطبيعة الحال المصريون، وهي التي ناضل عبد الناصر من أجلها، هي التي وراء استمراره حيًا حتى أن قنوات الإخوان المضادة تساهم في تشويه عبد الناصر ومشروعه في إطار خلط الأدوار. كما أن غضب الأعداء السياسيين وعملائهم، وهم حسبما حددهم عبد الناصر (الاستعمار العالمي – الصهيونية – الرجعية العربية)، هم الذين بذلوا كل جهد لمحاولة محو صورته من أذهان الجماهير، إلى حد تشويهه باستخدام كل ما هو متاح، واستثمار الإعلام المضاد بكل وسائله للانقضاض على مشروعه وإنجازاته، وتضخيم نقاط الخطأ، والطعن فيها. وقد أتى ذلك بنتائج عكسية من شدة الضراوة التي كان يستخدمها هؤلاء ضد عبد الناصر وعصره ومشروعه، فأسهمت في إيقاظ الجماهير، واستنفار وعيها حفاظًا على استمرار ناصر “حيًا”.
وقد بدأت القوى المضادة لناصر ومشروعه، من مصر في عهد السادات، وازدادت حدتها بعد حرب أكتوبر 1973م، إيذانًا بعصر جديد هو عصر الانفتاح، والرأسمالية وعودة الإقطاع، والانفصال عن المنجز الناصري طوال حقبة الـ (18) عامًا، ثم انطلقت تباعًا في بعض الدول، ووصلت إلى قمتها بتغيير معادلة الصراع العربي الصهيوني، بالذهاب للقدس عام 1977م، ثم كامب ديفيد 1978م، ثم المعاهدة المصرية الإسرائيلية (مارس 1979م) وبدء التطبيع مع الكيان الصهيوني، كمحاولة لطوي صفحة “الصراع” إلى صفحة “السلام” الوهمي!! وليتم تعبيد الأرض لسلامات وانكسارات باتفاقيات مشبوهة في وادي عربة وأوسلو، والجاري حاليًا في منطقة الخليج، بكل أسف!! فالمشروع الناصري، هو مشروع الجماهير، وهو مشروع متكامل الأركان. وينطلق من معاداة الاستعمار، وإرساء قواعد الاستقلال الوطني، وضرورة الاعتماد على الذات، وتحقيق النهضة الشاملة بتنمية متكاملة.
وتأكيدًا لذلك، فقد جاءت قراراته خلال الأربع سنوات (52 – 1956)، كاشفة عن هذا المشروع المتكامل. فبعد (48) يوم من قيام الثورة، أصدر قانون الإصلاح الزراعي (9 سبتمبر)، لتحقيق العدالة الاجتماعية بتحديد حد أقصى للملكية (200 فدان)، وإعادة توزيع الأرض الباقية على صغار الفلاحين ليتحولوا من أجراء إلى ملاك. وقد كان هذا هو السر والبداية لارتباط الشعب بعبد الناصر، وبدء تصاعد شعبيته لدى الجماهير التي صدقته بعد توجس استمر (48) يومًا.
ثم اتفاقية الجلاء الإنجليزي عن مصر، وبداية الاستقلال الوطني الذي تأكد بعقد أول اتفاقية شراء أسلحة عام 1955م مع تشيكوسلوفاكيا بموافقة الاتحاد السوفيتي. ثم أصدر قراره بتأميم قناة السويس واستعادتها للشعب المصري لتظل وتستمر تحت القيادة المصرية حتى الآن، وكان ذلك ردًا على عدم تمويل البنك الدولي وصندوق النقد، لمشروع السد العالي الذي تم تشييده بإرادة مصرية وتمويل مصري كامل لمدة عشر سنوات (1960 – 1970م) وبدعم الاتحاد السوفيتي.
وكانت النتيجة هي عدوان ثلاثي، انتصر فيها الشعب والقائد، وكانت إيذانا بأفول إمبراطوريتي بريطانيا وفرنسا من الخريطة العالمية، وتغيير النظام الدولي من بورسعيد. ثم كان المشروع التنموي بالتمصير والتأميم وخطط تنموية (عشر سنوات)، حققت معدلات عالية للغاية والأهم هو شعور المواطن بعائد التنمية وتحسين حالته المعيشية. وكانت المياه النقية وكهربة الريف المصري وتنظيم الدورات الزراعية في الريف عنوان التنمية وعوائدها على البشر، لتنطلق تجربة التنمية وكانت نكسة 1967م، محاولة لتعطيل المشروع الناصري في الداخل، فكانت النتيجة تزايد شعبية عبد الناصر الذي أعلن استقالته وتحمله مسئولية النكسة، إلا أن الشعب تمسك به دون تردد، فأعاد بناء الجيش وطهره من الأخطاء، وكانت معارك حرب الاستنزاف التي استمرت (1000) يوم، وتم وضع خطط الحرب (جرانيت 1، 2) والخطة (200)، هي بدايات لحرب أكتوبر 1973 فيما بعد. لكن القدر لم يمهل عبد الناصر أو المتآمرون عليه للتخلص منه، فرحل في سبتمبر 1970م، ليظل حيًا للأبد في نفوس المصريين والعرب والعالم الثالث، لدرجة أن أعداءه يخشونه رغم رحيله منذ نصف قرن.
د. جمال زهـران
القاهرة في: 19/سبتمبر/2020م