جمال عبد الناصر
” لا صلح – لا اعتراف – لا تفاوض “
اليوم تمر الذكرى الخمسون لرحيل قائد النضال العربي جمال عبد الناصر، الرجل الذي اتسعت همته لآمال أمته ، وعاش من أجلها ، واستشهد في سبيلها.
تأتي هذه الذكرى ، لنتذكر معًا ، كيف نهض جمال عبد الناصر بثورته العظمى في مواجهة قوى الاستعمار العاتية المتجذرة في ربوع أوطاننا ، وفي ثنايا كرامتنا ، وكيف نجح في اقتلاع هذه القوى الاستعمارية من مناطق سيطرتها التقليدية ونفوذها الطاغي في بلادنا الحبيبة التي رزحت ردحًا من أزمنة متعاقبة تحت السيطرة الأجنبية ، حتى جاء صوته النبيل ” ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد ” يشق المدى بشارةً للحرية والكرامة والاستقلال ، ومع صوته الهادر استيقظت كل الشعوب العربية ، وانتصبت قاماتها ، وطالت أعناقها ، وحلقت في سماء أوطانها للمرة الأولى بعد قرون وعقود سوداء من الظلم ، والقهر ، والذل ، والاستعباد .
لم يكن جمال عبد الناصر مفجرًا وزعيمًا لثورة حررت الأوطان فحسب ، بل قائدًا ، ومفكرًا ، ومؤسسًا لأول ثورة شاملة بالمعنى الحديث لعلم الثوارت ، فكانت ثورته تحررية واجتماعية ووحدوية وانسانية ، تداخلت مراحلها ، وتوحدت أهدافها، وتجاوزت معنى الثورات التقليدية التي تصل للسلطة بدون رؤية أو مشروع وطني مُهَدّفْ ، فتغيب عنها خرائط المستقبل ، فتذبل وتموت أو تستقر كسلطة أمر واقع ، وتفقد مع الوقت معناها ومشروعيتها . بينما ثورة يوليو كواحدة من الثورات الكبرى في التاريخ ، قد نجحت في تجسيد سيرورة جدلية متكاملة ، ومتشابكة ، ومتطورة تبدأ بتحرير الأوطان ، ولا تنتهي إلّا بتحرير الانسان من الجهل والفقر والمرض والمهانة ، ثم تعليمه وتثقيفه وتطويره وتمكينه من العمل والعلم والادارة وملكية ادوات الانتاج ، وقبلها وبعدها امتلاك السيادة والاستقلال والكرامة.
هل نتحدث عن الاصلاح الزراعي الذي كان ثورة اجتماعية هائلة بدّلت أحوال الدنيا ، وحققت أكبر نمط للعدالة الاجتماعية في التاريخ الحديث ، فجعلت الفلاح المصري مالكًا وسيدًا بعد أن كان عبدًا أجيرًا . هل نتحدث عن تأميم القناة ، واستخلاص الإرادة المصرية المسلوبة فيها ، وكسر رقبة الشركة العالمية ، وإلقاء بقاياها على قارعة الطريق ، تمامًا مثلما حولنا بريطانيا العظمى دولة من الدرجة الثانية بعد حرب السويس المجيدة . وهل نتحدث عن السد العالي رمز الفخار الناصري والوطني ، وعن افريقيا التي حررها جمال عبد الناصرا بلدًا بعد بلد ، وكان أمامهم إمامًا ، وفي عيونهم نورًا وبينهم ” أب أفريقيا ” كما كانوا ينادونه ، واجتمعوا على محبته وتأييده ، واحتضنوا اسم مصر وأمّنوا لها شريان الحياة في النيل العظيم ، ولم يفكر أحد أبدًا في إيذاء مصر ، أو الاقتراب من روحها السارية في مياهه المباركة، وهاهو الآن يفيض فيضًا نادرًا رحيمًا، كأنه يقدم التحية لجمال عبد الناصر في ذكراه .
هل نتحدث عن التعليم والبحث العلمي ، والصناعات الثقيلة والخفيفة ، والكهرباء الممتدة في ربوع مصر من اقصاها إلى اقصاها ومياه الشرب النظيفة ، هل نتحدث عن الثقافة والفنون والآداب وثورة المعرفة ، والكتاب . هل نتحدث عن فلسطين والجزائر وليبيا واليمن وعُمان وسوريا والعراق والشعب العربي كله من المحيط إلى الخليج الذي توحد مع صوت الزعيم ، وقامة الزعيم الفارهة التي كان نيلسون مانديدلا يشُبُّ على قدميه في جنوب افريقيا محاولا رؤيتها في القاهرة. أي رجل كان ، وأي قائد كان ، وأي إنسان كان . هل كل هذه المعالم هي جملة ما حققه جمال عبد الناصر ، نعم وأكثر ، لكننا أبدًا لانتحدث عن التاريخ أو الماضي ، بل نرصد – بنظرة طائر – بعض المضامين الحية لمشروعه الوطني العريض القائم على دعائم الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية والكرامة الإنسانية . وهو المشروع الذي يحيا به جمال عبد الناصر حتى الآن ، وسيبقى به حيًا في فكر الناس وأفئدتهم وحقوقهم يستدعونه عند الحاجة ، فيجدونه حاضرًا مُجيبًا ، ومُعلمًا في كل وقت . هو المشروع إذن ، وما الرجل العظيم إلّا رمزًا وتلخيصًا لكل المعاني في مشروعه العظيم.
هل حقًا مات جمال عبد الناصر ؟
جمال عبد الناصر لمن لا يعرفون ، أو لمن يتجاهون ، ويناهضون ، ويتآمرون هو ببساطة ” المشروع الوطني المصري” هذه هي حقيقة الوجود ، والهوية الوطنية المصرية التي لا تموت ولا تنتهي أبدًا ، كما عبر عنها الرائد الراحل جمال حمدان بمنتهى الوعي والمسؤولية ، وما المشروع القومي العربي ، سوى الوجه المكمِّل للمشروع الوطني المصري ، هو مشروع واحد بمضمونين ووجهين متكاملين ، كالعروة الوثقى لا انفصام ولا تمايز ، أو تمييز.
وعندما جاء الأجل قبل خمسين عامًا ، خرجت الملايين من كل بيت وشارع وعاصمة عربية تودعه وداعًا لم تر البشرية مثيلًا له لا قبل ولا بعد ، ولا غرابة ، فقد أعطى جمال عبد الناصر عمره كله لأمته ، وكان شريفًا نزيهًا ، لا بيتًا بنى ، ولا عقارًا امتلك ، ولا أرصدًة حاز ، ولا سياراتٍ اقتنى ، بل عاش حياة البسطاء في بيت بسيط ملك الدولة ، وعاش وأسرته الحبيبة على أثاث وفراش بسيط ملك الدولة ” عُهدة ” ، وارتدى ملابسه من مصانع مصر الوطنية ، وكان يأكل مايأكله المصريون في صُبحهم وعشاءهم. وحرَّم على أولاده وأسرته وعائلته – على نحو قاطع لا لبس فيه – أي نوع من الاستثناءات أو الامتيازات ، ولهذا استحقّ أن يسكن في قلوب الملايين كظلِّ أخضرَ أو ” كعود الفل ” التي غناها الشعب الحزين في أحزن وأبكى أيام تاريخه.
خمسون عامًا على الرحيل ، لم تكن سوى التآمر على اسمك ، وتصفية تجربتك ، وإهالة التراب على مشروعك ، وإذلال الشعب الذي أحبك ، والتحالف مع أعداء أُمتك ، وكأنهم جميعًا عربًا وعجمًا قد أقسموا – بأغلظ الإيمان – على أن لا يكون أبدًا ناصرًا من بعدك ، فلا تمثال لك في الوطن الذي حررت وافتديت ، ومن أجله قاتلت وانتصرت ، وابعدوا اسمك من محاضر التاريخ ، ومن كتب الدرس ، وغيّروا ، وشوّهوا وكذَبوا وتخرّصوا ، وأحكموا قبضتهم على مصر الحبيبة ، خلاصة الأوطان ، وعُمدة الأوطان وأقدس الأوطان ، وحاولوا خنقها وتجريدها من عناصر قوتها ، ودورها ومكانتها ، وحصارها من الجهات الأربع ، وساد فيها غُلاة متوحشون من أصحاب المال الحرام ، ونظرائهم من جماعات العنف والارهاب ذوي القلوب السوداء عديمي الضمائر ، وظنوا أنهم قد نجحوا في تفاصيل الاغتيال ، ونسوا في غمرة الاحتراب ، ونشوة التشفي أنك هناك ، لا تزال خالدًا في المكان الذي لايموت فيه أحد ، في قلوب الشعب الطاهرة التي حفظت اسمك وعهدك ، وفي حضور الشعب المقدس بملايينه المضيئة – في ميادين الثورة المقدسة 25 / 30 – وفي حماية الجيش المصري العظيم الذي خرج وأحبط مخططاتهم المجرمة ، خرجتَ يا حبيبنا من القلوب إلى الحناجر ، نداءًا أيقظ الدنيا لا في مصر وحدها ، بل في ميادين الثورة في كل أرض عربية ، فكنت السيد ، والرمز ، والدليل ، والنور الذي لا يغيب .
تُطل علينا ذكراك ، والأمة العربية التي افنيت عمرك القصير ، وأنت تقاتل من أجل وحدتها ، وعزتها ، وكرامتها ، قد ضربت فيها الذلة والمسكنة ، وتحولت من أمة تقاتل بصلابة ، وشرف وكرامة خلف جيشها العظيم – المُفدَّى ، والمضيء بالوهج المقدس للروح الوطنية في اكتوبر 73 – إلى أمة تتقاتل وينهش بعضها بعضا ، وكأنها – بخُطًى واثقةٍ – تستقيل من التاريخ ومن الوجود معًا ، وآخر دليل هذه الغاشية الكبرى التي نراها أمامنا تلاحق انفاسنا ، وتكوي ضمائرنا في بعض ممن يهرولون للانسحاق أمام العدو الصهيوني – بدعوى التطبيع – في مشهد ذلِّ وعارٍ لم يعد لنا طاقة على احتماله .
هكذا ياحبيب الملايين كلّما تعثرنا ، وضاقت علينا أحوالنا ، وتغوّل علينا أعداؤنا نراك تطل علينا ، وكأنك المعادل الوحيد ، والأمل الباقي في رجاء المستقبل ، وكأن نهضة الأمة ، وعزتها التي بدأت ، وتجلّت باسمك ذات يوم بعيد ، سوف تدور دورتها ، وتعود من جديد ، بعون الله وإرادة الشعب العظيم ، ولا سبيل أمامنا للخروج من عصر الانحطاط والتيه العربي ، إلا بالاعتصام بحبل الله ، وبما سطّرتْ أنت ، وكتبت ْ، وألهمتْ في مشروعك الوطني العظيم ، وبشّرتْ. وحتى نصل لبوابة الخروج من هذا الهوان ، استشرافًا للمستقبل ، سوف تبقى الأمة على قلب رجل واحد بأجيالها العفيّة المتعاقبة تهتف من خلفك ” لا صلح – لا اعتراف – لا تفاوض ” .
رحل الزعيم الكبير و عاد الوطن صغيرا.