اليوم هو السادس والعشرين من يوليو أحد أمجد وأعظم أيام تاريخنا الحديث . في هذا اليوم أمّمَ جمال عبد الناصر قناة السويس منذ ثلاثة وستين عامًا ، ومع هذا اليوم بدأ الاستقلال الحقيقي لمصر ، بعد ثلاث سنوات تقريبًا من نجاح ثورة يوليو. قامت الثورة في بواكير أيامها بتفكيك قبضة الإقطاع عن رقاب المصريين بقوانين الإصلاح الزراعي ، وامتلك الفلاح المصري لأول مرة في تاريخه المكتوب ( منذ 2500 سنة قبل الميلاد) قطعة من الأرض التي عاش عليها عبدًا ذليلًا طوال عمره وعمر ابناءه وأحفاده جيلًا بعد جيل ، فإذا به بين ليلة وضحاها يصبح مالكًا لها بحق السماء وحق العدالة وحق الكرامة وحق الإنسانية . ومهما قلت أو قال غيري فلن يدرك أبدًا قيمة هذا الأمر إلّا من اكتوى بنار العبودية وسياطها الملتهبة على ظهور آبائنا وأجدادنا الفلاحين العظماء الشرفاء( ولاتزال صرخة جمال عبد الناصر شاخصة :إرفع رأسك ياأخي فقد مضى عهد الاستعباد).
وفي تقديري أن ما قام به جمال عبد الناصر بقوانين الإصلاح الزراعي هي ثورة اجتماعية شاملة عميقة وكانت المقدمة الطبيعية للتحول في بنية وهيكل الملكية والسلطة في مصر . هذا الإجراء نسميه “الحرية الاجتماعية – حرية الإنسان” . ثم جاء السادس والعشرين من يوليو عام 1956 لتقوم الثورة بتفكيك وقطع وتحطيم قبضة الإحتلال البريطاني بإعلان تأميم قناة السويس ( ولاتزال صرخة عبد الناصر مدوية مشرقة ناهضة بالثورية والعزم والقوة مُحَمّلةٌ بأشواق الملايين لعناق المستقبل المُحَمّل بكل معاني الكرامة الوطنية : باسم الأمة تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية ) وهذا الإجراء نسمية ” حرية الوطن- الاستقلال الوطني” ومهما قلت أو قال غيري عن هذه اللحظة البعيدة في زمانها الحاضرة في كل حين ، لن يستطيع فهم ماجرى إلّا من كابد ويكابد ظلم المستعمر وظلام أيامه ولياليه. ومع انتصارنا على قوى العدوان الثلاثي انطلقت مصر الحبيبة بقوة الصاروخ لتنهض وتبني عناصر قوتها الاقتصادية والعلمية والعسكرية. إذًا بتكامل الحرية الاجتماعية الانسانية والحرية الوطنية بمضمون الاستقلال تحققت في هذا الوطن الغالي معنى ومضمون الحرية الحقيقية التي لم يفهمها بعض السفهاء الذين يتباكون – تخرصًا – على ديموقراطية احزاب ماقبل الثورة ، وكأنه يمكن أن يكون هناك ديموقراطية في وطن محتل وشعب مُستعبَد.
أقول هذا الكلام أيضًا للأجيال الجديدة الذين احتضنهم جمال عبد الناصر وأمّن لهم – ولآبائهم من قبلهم – طعم الحياة الكريمة ، لعلهم يقفون على حقائق وطنهم المضيئة ويتمسكون بها ويدافعون عنها وكلهم ثقة في جدارة المشروع الوطني لجمال عبد الناصر ؛ لأن مصر لم تكن مصر القوية العزيزة المهابة صاحبة الدور والمكانة الدولية – برغم كل الصعوبات والتحديات الاستعمارية المُعاندة – إلّا تحت قيادة جمال عبد الناصر كرمز ملهم لكل الشعوب المقهورة والساعية للتحرر . في هذا اليوم لابد أن نسجل أيضًا بوعي وأمانة وطنية وتاريخية ، إن التحديات المفروضة على مصر في وقتنا الراهن سواء من الجنوب أو من الشرق والغرب هي نفس التحديات ، ومن يفرضونها هم نفس الأعداء الذين واجههم جمال عبد الناصر من قبل ، ولا سبيل من الفكاك من هذا الحصار إلّا باستحضار روح المشروع الوطني المصري بعناصره ودوائره ومنطلقاته الناصرية ، وليكن أهم مايكون الآن في مواجهة هذا الحصار ومغالبة هذه التحديات هو تصليب الجبهة الداخلية وتمكين تماسكنا الوطني وأن تتحول كل مؤسسات الدولة إلى ورش عمل وطنية في كل المجالات ولايهدأ لها بال إلّا بالوصول إلى نقطة امتلاك كل عناصر القوة الضرورية للنصر على كل من يحاول المساس بأرضنا ، أو حقوقنا ، أو كرامتنا.
كما أكتب – وأتعجب – كيف يمكن في مثل هذه الأحوال الوطنية الصعبة أن يُصر البعض من أصحاب المرض العضال – إياهم – على غِيِّهم القديم البائس ويهرعون – في مهزلة تستحق التحقيق الوطني وليس القانوني فقط- لتبني نصب تمثال دليسيبس على مدخل قناة السويس في تناقض – وتحدٍ معيب – للروح الوطنية والتضحيات الكبرى للشعب المصري العظيم . والأمر كذلك ، فنحن بدورنا نطالب من منظور وطني خالص بإقامة تمثال جمال عبد الناصر الذي صممه المثّال المصري العظيم جمال السجيني في مكانه في ميدان التحرير وفق القانون الصادر من مجلس الأمة في هذا الشأن عام 1971 – وهو أحد مطالب اللجنة القومية لمئوية جمال عبد الناصر حتى تاريخه- إذ كيف حتى الآن تضيق ميادين المحروسة عن تمثال يليق بإسم وقيمة ودور جمال عبد الناصر ، وهو الرجل الذي اتسعت همته لآمال أمته وعاش من أجلها واستشهد في سبيلها . وحتى لايقول قائل وهل هذا وقته ؟ نقول إن وقته قد تأخر قرابة أربعون عامًا ، ولو أننا حافظنا على قِيَمْ ومكتسبات وانجازات ثورة يوليو ، ورمزية دور جمال عبد الناصر في وطنه وأمته وعالمه ، ربما كنا في وضع أليقُ مما نحن عليه الآن .