بقلم : غادة محمد عبد الرحمن
في مثل هذا اليوم من كل عام نكون على موعد مع ذكرى أنبل الثورات وأعظمها والتي كانت بمثابة بزوغ للفجر بعد ليلٍ دام لسنوات , فقد كانت البلاد غارقة في ظلام الاحتلال والتبعية والاستبداد والفقر والجهل , إلى أن أشرقت شمس الثالث والعشرين من يوليو عام 1952م لينجلي الظلام وتملأ الدنيا بنور الحرية والكرامة والاستقلال , وضياء العلم والتقدم والازدهار.
ولأن لكل تجربة ناجحة من يحقد عليها ويشكك في إنجازاتها , ولكل قائد عظيم أعداءه والكارهين له مازال هناك من يهاجم الثورة وزعيمها الخالد جمال عبد الناصر , ويعتبر الثورة المجيدة مجرد انقلاب عسكري لاستيلاء زعيمها على السلطة , ويرى أن حال الوطن قبلها كان أفضل بكثير مما أصبح عليه فيما بعد , وذلك في تجنٍّ مفضوح علي الثورة وزعيمها , وتجاهل صارخ للحقائق التاريخية , وتغاضٍ غريب لواقع البلاد قبل الثورة وبعدها والذي يجب الاحتكام إليه حتى نقف علي حقيقة ما حدث يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1952م , ونعرف ما إذا كان ثورة عظيمة أم انقلاب عسكري بغيض.
ولنبدأ بواقع مصر قبل الثورة وما كان عليه حالها في تلك المرحلة التي كان عنوانها الرئيسي الاحتلال البريطاني والتبعية القميئة للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وذلك منذ عام 1882م , أما عن العناوين الفرعية لتلك المرحلة فكان أبرزها نظام الحكم الفاسد المتمثل في الملك والذي توارث الفساد والاستبداد أباً عن جد , ومن حوله من حاشية منحلة كان شغلها الشاغل هو إلهاء الملك وإغراقه في ملذات الحياة , وذلك حتى يتسنى لهم الوصول لأعلى المناصب ونهب ثروات الشعب دون حسيب أو رقيب , كذلك السيطرة الأجنبية علي رأس المال , وتملك قلة قليلة من أصحاب السمو والمعالي من المحسوبين علي القصر علي ثروات الوطن ومقدراته , بينما كانت الغالبية العظمى من أبناء الشعب المصري تعيش في فقر مدقع وجهل وحرمان من أبسط حقوق الحياة.
تلك أبرز العناوين التي تمثل في مجملها واقع مرحلة ما قبل الثورة , وحتى لا نقف عند حدود القول المرسل فهناك عشرات الأحداث والوقائع التاريخية التي تعبر عن هذه العناوين سنكتفي بذكر بعضٍ منها في هذا المقام.
وسنبدأ بما حدث يوم الرابع من فبراير عام 1942م من قيام جيش الاحتلال البريطاني بحصار قصر عابدين , وقيام السير “مايلز لامبسون” سفير بريطانية في مصر آنذاك بتخيير الملك فاروق بين تكليف مصطفى باشا النحاس بتشكيل الحكومة أو التنازل عن العرش , وبالفعل قام الملك تحت التهديد البريطاني باستدعاء النحاس باشا وتكليفه بتشكيل الحكومة , وعلي الرغم ما مثله هذا الموقف من تدخل مستفز في شؤون مصر الداخلية واعتداء صارخ علي سيادتها , إلا أن النحاس قد قبل التكليف وقام بتشكيل الحكومة وهذا ما رفضه الشعب المصري وخرجت علي إثره المظاهرات الغاضبة والمنددة بالنحاس الذي قبل بمنصب جاءه علي أسنة رماح الانجليز.
ولهذا قد كشفت تلك الواقعة وبشكل جلي حياة مصر السياسية قبل الثورة ومدى تدخل سلطات الاحتلال في قرارها السياسي , فقد كان الحاكم الفعلي للبلاد هو المندوب السامي البريطاني الذي يحق له تهديد الملك وتغيير الحكومة وإدخال البلاد في حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل وغيرها من التصرفات التي تعد انعكاس لتبعية مصر السياسية لدولة الاحتلال , أما الملك فلم يكن سوى دمية في يد سلطات الاحتلال تحركه وفقاً للمصلحة البريطانية , حتى النحاس باشا الذي يفترض أنه كان زعيم حزب الأغلبية المعارض لسياسة القصر والاحتلال والمتحدث الحقيقي باسم المصريين والمعبر عن مطالبهم في الحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال , قد تخلى عن كل ذلك في سبيل تولي رئاسة الحكومة بناء علي أمر إنجليزي ليبيع بذلك التصرف المذموم ثقة الشعب وآماله بثمنٍ بخس.
أما عن الواقع الاقتصادي فيكفي الإشارة إلى المشروع القومي المصري قبل الثورة , والذي عرف وقتها بمشروع “مكافحة الحفاء” وذلك بالمعنى الحرفي للجملة , حيث كان أغلب أبناء الشعب المصري آنذاك يمشون حفاة الأقدام ولا يستطيعون شراء أحذية تستر أقدامهم وتقيها حر الصيف وبرد الشتاء , ولهذا قام الملك فاروق عام 1941م بمخاطبة الحكومة برئاسة حسين سري لإيجاد حل لهذه المشكلة , وقد استجابت الحكومة وتقرر شراء ستين ألف حذاء لتوزيعها علي الحفاة , وتم تشكيل لجنة حكومية من كبار رجال الدولة لمباشرة تنفيذ المشروع , مع قيام الصحف بحملات للتبرعات والمساهمة في المشروع , وهذا ما يعد دليل صارخ علي الحالة الاقتصادية المزرية للمصريين قبل الثورة.
أما عن واقع مصر بعد الثورة فقد عبر عنه زعيم الثورة الخالد جمال عبد الناصر عندما قال (ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد) , فقد كان العنوان الرئيسي لتلك المرحلة هو الحرية واستقلال القرار السياسي للبلاد , وهذا ما عبر عنه جلاء الاحتلال ورحيل آخر جندي بريطاني عن البلاد عام 1956م , وما نتج عن ذلك من استقلال حقيقي لقرار مصر السياسي والذي كان المحرك الوحيد له هو صالح الشعب وسلامة الوطن , وذلك بعد أربعة وسبعين عام من الاحتلال والتبعية والخنوع , أما عن عناوين المرحلة الفرعية فكان من أبرزها عودة الحق لأصحابه وعودة الثروات المصرية للمصريين وذلك بعد عقود من الهيمنة الأجنبية عليها , وهذا ما تم من خلال العديد من القوانين والإجراءات مثل قانون الإصلاح الزراعي الذي ملك المصريين أرض آباءهم وأجدادهم والتي حرموا منها كثيراً , كذلك تأميم البنوك والشركات والمنشآت الأجنبية وتمصيرها , كان أهمها شركة قناة السويس التي أممها الزعيم في السادس والعشرين من يوليو عام 1956م لتعود قناة السويس لأحفاد من حفروها واختلطت دماؤهم بترابها وذلك بعد سبعة وثمانين عاما من السيطرة الإنجليزية الفرنسية عليها.
هذا وقد كانت مجانية التعليم الجامعي من العناوين البارزة لتلك المرحلة , حيث تمكين غالبية أبناء مصر من الالتحاق بالمرحلة الجامعية وذلك بعد أن كانت حكراً علي قلة من أبناء الأغنياء , هذا بالإضافة إلي الازدهار الذي عم جميع المجالات , أما عن الواقع الاقتصادي لمصر بعد الثورة فقد عبرت عنه النهضة الصناعية التي قامت في تلك المرحلة , وقد كان السد العالي أضخم مشروعاتها والذي يعد نهضة بمفرده وذلك نظراً للطفرة الزراعية التي شهدتها البلاد بفضل السد بالإضافة إلى توليد الطاقة الكهربائية ، وقد أطلقت عليه “الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبرى” “مشروع القرن” , حيث صنفته بأعظم مشروع هندسي في القرن العشرين وذلك في تقريرها الصادر عام 2005م , هذا بالإضافة إلى تشييد العديد من المصانع الكبرى والمتوسطة في مختلف المجالات مثل مجمع مصانع الألمنيوم بمدينة نجع حمادي في أقصى الصعيد , وشركة الحديد والصلب المصرية بمدينة التبين بحلوان , كذلك مصانع الإنتاج الحربي والتي لم يقتصر دورها على المنتجات الحربية بل أنتجت العديد من احتياجات المواطنين المختلفة ، وغيرها من المصانع والمشروعات الهامة.
هذا هو واقع مصر بعد الثورة بجوانبه المختلفة والذي بمجرد مقارنته بواقع مصر قبل الثورة ندرك جيداً أن ما حدث في يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1952م كان ثورة عظيمة بمعنى الكلمة وأن زعيمها كان بطلاً فريدًا من نوعه , ولكن لأن دائماً الشجرة المثمرة يقذفها الناس بالحجارة ستظل ثورة يوليو وزعيمها الخالد في مرمى سهام الحاقدين والمتآمرين إلى أبد الآبدين , وهذا ما يعد دليلاً دامغًا علي أن ثورة يوليو شمس الثورات وزعيمها الخالد من أعظم فرسان العصر الحديث.