رابعاً : مشكلة الاقليات القومية :
أخيراَ نصل الى المشكلة الأصيلة بعد ان عرفنا ما يختلط بها من مشكلات مشابهة . ونعرف الآن إنها تقوم عندما تفرض الحدود السياسية على الأمم فلا تتفق مع وجودها الموضوعي وتؤدي الى ان يقتطع جزء من أمة ويضم الى دولة اخرى . وقد اصطنع الاستعمار الاوروبي أكبر مجموعة من هذه الدول خاصة بعد الحرب العالمية الأولى . والموقف القومي من هذه المشكلة – كما عرفنا – لا يحتمل التردد أو المماطلة . فعلى كل دولة أن تتخلى عن الاقلية القومية فيها لتلحق بدولتها القومية . وعلى الحركة القومية في كل أمة أن تمد ثورتها الى كل الوطن القومي ولو كان جزء منه قد اقتطع وألحق بدولة مغتصبة او مصطنعة . ذلك لآن مشكلة الاقليات القومية هي في جوهرها مشكلة تحرر ولا تمكن – قومياً – المساومة على الحرية .
وهكذا نعرف المشكلات على هدى النظرية القومية التقدمية . وعلى هذا تتحدد المواقف من المشكلات وحلولها . وتكون كل مشكلة متسقة مع حلها وعندما يغيب الوعي العقائدي ، ونخطيء في معرفة المشكلات المطروحة لن تزيدها الحلول الخاطئة الاتعقيداً . ومن أخطر الاخطاء في مشكلة الاقليات ان نأخذ بما يدعيه أو يتصوره أطراف المشكلة فنسمي كل اقلية قومية ونعترف بأن مطالبها ( المنصبة على امكانيات التقدم عادة ) هي حقوق قومية اننا بذلك نمهد لتمزيق الأمة . ولا يقل عن هذا خطراً أن نخطيء في التعرف على الاقليات القومية الحقيقية فنفرض عليها البقاء بسلطة الدولة . اننا بذلك نخون التزامنا القومي العقائدي ونتخذ من القومية غطاء لاستعباد الشعوب وطال الزمان أو قصر سيدفع كل خاطيء ثمن خطيئته .
فهل في الوطن العربي أقليات قومية ؟
ان هذا السؤال يتصل بالواقع التاريخي والاجتماعي يمكن معرفة الاجابة عليه بالبحث العلمي . ونحن نعرف أن في الوطن العربي أقليات عنصرية : عشائرية وقبلية وطائفية وشعوبية ، هي افرازات مرحلة التخلف التي تمر بها الأمة العربية منذ وقت غير قصير . ونعرف ان في الوطن العربي أقليات متخلفة من القبائل فوق قمم الجبال ومن البدو في اعماق الصحراء ومن الفلاحين في الريف العربي . وكلها حصيلة عدم استواء المسيرة القومية . ونعرف ان علاج كل هذا متوقف على العطاء القومي التقدمي . ثم اننا نعرف ان ليست كل التحركات العشائرية أو القبلية أو الطائفية أو الشعوبية بريئة من العلاقة بتحركات القوى المعادية لمصير أمتنا . وتكاد بعض تلك التحركات أن تكون في توقيتها وتخطيطها وقواها ، تحت القيادة المباشرة لأعدائنا . نعرف كل هذا ومن يبحث يعرفه ويعرف أكثر منه .
ولكن الذي نعرفه حقاً هو أن في الوطن العربي أقليات قومية . ان للأمة العربية أقليات قومية اقتطعها منها الذين فرضوا عليها الحدود السياسية . لنا أقلية قومية في عربستان أضيفت الى ايران . ولنا اقلية قومية في الاسكندرون أضيفت الى تركيا . ولنا أقلية قومية في اريتريا أضيفت الى الحبشة . ولكن ليس في داخل الحدود السياسية القائمة في الوطن العربي أقلية قومية واحدة مقتطعة من امة خارج تلك الحدود . ولم يكن من الممكن تاريخياً أن يكون الأمر على غير هذا ، فإن الأمة العربية لم تكن هي المعتدية التي فرضت حدودها على الأمم المجاورة فاقتطعت منها اجزاء ضمتها الى دولتها القومية . وكيف يمكن أن يحدث هذا وليس للأمة العربية دولة قومية ؟ … بل رسمت كل تلك الحدود وفرضت على الأمة العربية المعتدى عليها ، فلم يكن من المعقول أن يضيف اليها المعتدون شيئاً من خارجها ومع هذا فتكاد القوى المعادية والجماعات العشائرية والقبلية والطائفية والشعوبية المرتدة أن تمزق الأمة العربية وتعود بها عشرات القرون الى الوراء . وهذا مفهوم تماماً فلقد كدنا أن نصل كأمة الى اقصى درجات التخلف القومي .
ولكن الغريب أننا بدلاً من أن يستفزنا هذا الواقع المتردي فنحشد قوانا لإعلاء القومية وإعادة المضمون التقدمي اليها كحل وحيد لمشكلة الاقليات ينبري أكثر الناس ادعاء للعلم وللقومية وللعقائدية ليبرروا الهروب من المشكلة و ” يفلسفوا ” الهزيمة فيعترفوا للاقليات المتخلفة بأنها أقليات قومية واهمين بأن ذلك الاعتراف هو نهاية المطاف و ” الحل الأبدي ” للمشكلة . ان اكتشاف الموقف العقائدي الصحيح ولو من خلال تجربة الفشل لا عيب فيه إلا أنه جاء متأخراً ، ولكن عندما يكون الموقف ” العقائدي ” ” تبريراً ” ” عقائدياً ” للفشل يكون الأمر مختلفاً تماماً . انها الانهزامية . الثمن الذي يدفعه عادة كل الذين يتصدون لمشكلات القومية مغامرة بدون نظرية صحيحة في القومية .
ثم أين هي الاقليات التي يقال لها ” قومية ” في الوطن العربي ؟
قبائل الكرد في شمال العراق ؟ قبائل البربر في المغرب ؟ قبائل الزنوج في جنوب السودان ؟
اننا لا نستطيع أن نقدم – هنا – تلك الدراسة العلمية التي قلنا أن لا بد منها لمعرفة الواقع التاريخي والاجتماعي للاقليات . ومع هذا فقد نستطيع أن نشير الى بعض مصادر الخطأ في دراسة تلك الاقليات .
أول مصادر الخطأ هو ” الاسم ” فعندما لا نعرف متى وكيف ولماذا اطلقت الاسماء نكون معرضين للوهم المباشر الذي يوحي به ” الاسم ” فنظن أن تعدد الاسماء يعني تعدد وتوازي المجتمعات التي تطلق للدلالة عليها . وفي هذا الوهم تبدو كلمات ” كردي ” و ” بربري ” و ” نوبي ” و ” زنجي ” و ” مصري ” الخ . كما لو كانت مقابلة ومتميزة عن كلمة ” عربي ” . بل سبدو كما لو كانت كلمة ” عربي ” ذاتها قد احتفظت بدلالتها الأولى ” بدوي ” . وكل هذه أوهام لغوية ناتجة من اننا ما نزال نستعمل كلمات قديمة بدون انتباه الى تطور دلالاتها فتختلط علينا الدلالات . مثال هذا ان كلمة “عرب ” ذاتها لم ترد في التاريخ إلا في نقوش للملك الآشوري ” نبوبولاصر ” يسجل فيها انتصاراته على ملك دمشق الأرامي في عام 854 قبل الميلاد وهي كلمة سامية ( أرابي ) تعني البادية أو سكان البادية . ولم يكن لها أية دلالة اثنولوجية ، خاصة فقد كان كل من الآشوريين والآراميين قبائل سامية . وكلمة ” كرد ” لم يستطع أحد حتى الآن أن يقطع علمياً في أصل دلالتها . وكلمة ” بربر ” تطلق على عديد من القبائل تمتد اقامتها من واحة سيوة الى ساحل المحيط الاطلسي لم يكن بينهما شيء مشترك سوى أنها تتحدث لهجة واحدة ” البربرية ” قريبة بدورها من لغة مصر القديمة . والفينيقيون هم تجار الصبغة الحمراء في مدينة صور كما أسماهم الاغريق أخذاً بكلمة ” فوانكس ” الاغريقية وتعني ” أحمر ” . ولم تكن تدل على أية خصائص اجتماعية . والفينيقيون هم بعض الكنعانيين أي الشرقيين . ومصر الآشورية ، ومصرين في الآرامية ، ومصرايم في العبرية تعني ” الحد ” ولا تعني شعباً بعينه . فالمصريون هم الذين يسكنون مصر تمييزاً جغرافياً للساكنين و ” ليبي ” كانت التسمية التي اطلقها الاغريق على سكان شمال أفريقيا جميعاً . وفرعون هو البيت الكبير ، ثم هو الملك منذ الاسرة الثامنة عشرة . ولم يكن يعني حتى مصري . فملوك الهكسوس الوافدون من ليبيا كانوا فراعنة . وملوك الاسرتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين الوافدون من ليبيا كانوا فراعنة أما فراعنة الأسرة الخامسة والعشرين فقد كانوا من النوبة . وهكذا . ان ” الفرعونية ” نظام للحكم يساوي الملكية . ونسل الفراعنة يعني الامراء أولاد الملوك . أما الشعب الذي كان يسكن مصر في ظل الفراعنة فلم يكن شعباً فرعونياً إلا بمعنى انه طبقاً للنظام الفرعوني كان مملوكاً ملكية خاصة للملك الفرعون . فإن أردنا أن نعرف أصله العرقي فهو من القبائل السامية التي كانت تملأ الأرض التي نسميها اليوم الوطن العربي .
إذاً فإن كنا ما نزال نحمل أسماء الكرد أو الليبيين أو البربر أو السودانيين أو المصريين … فإن هذا لا يعني إننا لسنا “عرباً ” لأن العروبة انتماء الى تكوين اجتماعي لاحق زمانياً واكثر تطوراً اجتماعياً فهو لا ينقض ما قبله بل يتلوه ولا ينفي عناصر تكوينه الأولى بل يتجاوزها . تماماً كما أن كوننا ” عرباً ” لايعني إننا ” بدو ” أخذاً بدلالة اللفظ القديم لأن العروبة تجاوز حضاري للبداوة . فلا يقولن احد أنني لست عربياً لأنني كردي أو بربري أو مصري أو فينيقي أو ليبي . لأن هذي لا تؤذي تلك في الزمان او في الطور الاجتماعي فلا تناقضها ولا تنفيها .
فإذا تحررنا من أوهام ” الأسماء ” بقي أن نتحرر من وهم الأصول العرقية القديمة . ان كان الاجداد القدامى للأكراد من القبائل الميدية التي تنتمي الى الجنس الآري ، وكان الزنزج حاميين ، وكان الساميون قد ملأوا الأرض العربية خلال هجرات تاريخية طويلة فإن كل هذا قد زال واختلطت الاجناس . ان كرد الجنوب ليسوا من جنس كرد الشمال . وبينما اختلط البربر بالفينيقيين الساميين الوافدين من شمال الجزيرة العربية فلم يعودوا ساميين ولا حاميين فإن قبائل العبابدة والبشارية والهداندوة وبني عامر الذين ملأوا الأرض من أسوان الى جنوب السودان ( شرق النيل ) هم ساميون حاميون أو هم لا ساميون ولا حاميون . وتنتشر في طرابلس قبائل بيض الوجوه شقر الشعر زرق العيون وفي صعيد مصر قرى كاملة من امثالهم . وإلى فلسطين جاء الفلسطينيون ( المقاتلون بالحديد ) من جزيرة كريت وجزر بحر إيجة . وإلى المغرب جاءت قبائل الوندال الأوروبية . وغزا الزنوج اليمن قبل أن تبدأ موجة الهجرات من اليمن إلى أفريقيا مرة أخرى . ويكاد يحفظ سكان مصر أنسابهم الى قبائل قريش وجهينة والازد وحمير ولخك وبني سليم وبني هلال وخزام وكتامة وزويلة والبربر … الخ ، بعضها وفدت من أقصى الشرق وبعضها جاءت من اقصى الغرب . وخلال الحروب الصليبية كان أغلب الحاكمين في الوطن العربي والكثرة من جيوشهم من أصول كردية فهل عادوا مرة أخرى الى شمال العراق أم ذابت الملايين من نسلهم في أمتهم العربية ؟ وخلال قرون طويلة من الغزو المغولي والفارسي والاغريقي والروماني والصليبي والأوروبي الحديث التقت كل الاجناس على هذه الأرض فهل عادوا مرة اخرى أم إنهم يعيشون فينا نحن العرب ؟ بل إن في الوطن العربي بضعة ملايين يستطيع كل منهم أن يثبت أن جده الرابع وربما الثالث كان شركسياً أو أرمنياً أو تركياً او أوروبياً او مملوكاً لا يعرف أحد من أين جاء ، ومع هذا فكل هؤلاء “عرب ” بمعنى انهم ينتمون الى الأمة العربية وإن لم يكونوا بدواً في أي يوم ولم يعرف أجدادهم الجزيرة العربية أبداً . فكما لا يستطيع أي عربي أن يقول أنني عربي لأنني سامي ، كذلك لا يستطيع أحد ان يقول إنني لست عربياً لأنني آري أو مغولي أو حامي . تلك كانت العناصر المتمايزة الأولى التي انصهرت فأصبحت أمة عربية . وعندما تكتمل الأمة تكويناً ، فتصبح مجتمعاً قومياً يذوب فيه كل وافد إليه مقيم فيه إلى أن يصبح جزءاً منه .
ثم يأتي وهم ” اللهجات ” . إن اللغة المشتركة للأمة العربية هي اللغة العربية . فهي لغتها القومية . واللغة العربية هي أحدث فروع اللغات السامية الأولى ذات الأصول اللغوية الواحدة . والتي هي لغات كل المجتمعات والجماعات القبلية التي كانت تملأ الأرض العربية قبل التكوين القومي . ولقد كانت حداثة اللغة العربية ، أي كونها تمثل آخر مراحل التطور في اللغات السامية هي التي أهلتها لتكون اللغة القومية المشتركة ، فلم يجد احد من أصحاب اللغات ذات الأصول السامية صعوبة كبيرة في أن يقبل اللغة العربية لغة له هذا بالاضافة إلى أنه بالفتح الاسلامية أصبحت اللغة العربية هي لغة الحياة ولا نقول لغة العبادة . ومع هذا فإن اللغة المشتركة لا تعني اختفاء اللهجات الموروثة من عهود ما قبل التكوين القومي . فإذا كانت القبائل الكردية تتحدث لهجة ( أكثر من واحدة في الواقع ) ، وكانت اللهجة البربرية ما تزال باقية في جماعات قبلية كبيرة تستمد اسمها القبلي من لهجتها فإن هذا غير مقصور عليهم . فما يزال النوبيون يتحدثون لهجة ” تبداوي ” أو ” بداويت ” وهي لهجة قديمة . وقد ظلت أجيال من الشعب العربي في الجزائر تتحدث الفرنسية . ومع هذا فلا يصح الاحتجاج باللهجات المتبقية من الطور القبلي ليقال أن كل هؤلاء ليسوا عرباً . ذلك لأن إستعمال اللهجات او حتى اللغات القبلية لا ينفي الاشتراك في معرفة وفهم وإستعمال اللغة القومية . وهل كان الايوبيون من القبائل الكردية يحكمون مصر بوساطة مترجمين ؟ … وكيف حمل البربر اللغة العربية الى الاندلس ؟ . وما هي اللغة المشتركة لسكان جنوب السودان حيث يكاد يكون لكل قبيلة ولكل عشيرة لهجة خاصة ؟ …
وعندما تتوافر اللغة القومية المشتركة في الأرض المشتركة تكون الحصيلة ثقافة مشتركة وقيم مشتركة . إذ اللغة والأرض هما مصدرا البناء الحضاري . وكما لا يصح الاحتجاج على اللغة القومية المشتركة باللهجات القبلية أو ما تبقى منها ، لا يحتج على التكوين القومي الحضاري بالتقاليد المحلية . يكفي ان نعرف أن لكل قرية في الوطن العربي تقاليد محلية خاصة . ولكل اقليم تقاليد خاصة ولكل منطقة جغرافية تقاليد خاصة . لا في الأمة العربية وحدها ولكن في كل الأمم . وليس في هذا ما يناقض الوجود القومي وحضارته المشتركة . لديهم إذن أن تكون للقبائل الكردية تقاليد من نتائج البيئة الجبلية الوعرة التي تعيش فيها . أو أن تكون للبدو تقاليد تتفق مع متطلبات الحياة في الصحراء القاحلة . أو أن تكون للمدن الكبرى تقاليد مستعارة من أوربا . أو أن تكون لسكان جنوب السودان تقاليد من نتاج المناخ الحار الذي لا يطيق الكساء .
ثم يأتي أكثر أسباب الخطأ انحطاطاً : اللون .
ان اللون ليس أكثر من الاستجابة الفيزيولوجية لمتطلبات المناخ ثم ينتقل بالوراثة . فهو عملية مادية يخضع لها كل البشر ولا تقوم مميزاً اجتماعياً أو حضارياً بين البشر ، ولكنه ليس الاستجابة الوحيدة . فنوع الشعر ، ومحيط الجمجمة ، وطول العظام … الخ ، كل هذه نتائج ملاءمة بين التكوين الفسيولوجي للانسان وبيئته الجغرافية وليس لها أي مدلول يتجاوز هذا . وإذا كان علماء الاجناس قد قسموا الناس الى جماعات ، أو أجناس ، حسب ألوانهم أو تركيب عظامهم ، فإن ذلك لا يتضمن أية قسمة اجتماعية أو مصيرية . وعندما يقال أن سكان جنوب السودان ” زنوج ” لا يدل هذا القول إلا على انه تتوافر فيهم الخصائص الفسيولوجية التي تأثرت بالبيئة الجغرافية لوسط افريقيا . ولا يعني على أي وجه أنهم امة تكونت تاريخياً لتكون سوداء أو بسبب أنها سوداء . أن السود في جميع انحاء العالم يكافحون ضد ” التفرقة العنصرية ” استناداً الى مقولة علمية هي ان الناس لا يتميزون فيما بينهم بألوانهم . وان ليس لكلمة الأسود او الزنجي أي مدلول حضاري أو اجتماعي . فما الذي يفعله الذين يحتجون على الأمة العربية بألوانهم وينكرون انتماءهم القومي لأنهم زنوج . انهم لا يفعلون شيئاً سوى تأكيد ” التفرقة العنصرية ” التي فرضها المستعمرون . انهم يحتجون بما علمهم سادتهم ويتخذون من ألوانهم مميزاً يفرقهم عن الآخرين . فهل هم يطلبون الحرية أم انهم ينفذون إرادة المستعمرين ؟ .. ثم اولئك الذين يستعلون عليهم بألوانهم الأقل سواداً أو البيضاء هل يفعلون شيئاً سوى استفزازهم ليتمردوا مساهمين بذلك مساهمة غبية في تأكيد ” التفرقة العنصرية ” بقبولهم اللون مميزاً للمجتمعات . لو صح أن الألوان تميز الأمم فعبثاً نجد في الأرض أمة عربية . ولن نعرف من الألوان المختلطة المتعددة المتفاوتة التي نصادفها في كل مكان من الوطن العربي إلى أي أمة في الأرض ينتمي كل واحد من هؤلاء . ولكان علينا أن نحسب كل أشقر في الوطن العربي منتمياً إلى أمة أوروبية . فلماذا يكون الشقر من سكان الشام عرباً ولا يكون السود من سكان السودان وجنوبه عرباً ؟ وما هو إذن اللون العربي ؟
على أي حال ، أن انتقاء بعض المميزات القبلية ( العرقية او اللغوية أو الفسيولوجية ) للاحتجاج بها على الوجود القومي خطأ متسرع . انما يجب ” أن ننظر الى المجتمعات خلال تطورها الجدلي وحركتها التي لا تتوقف من الماضي الى المستقبل ” وهكذا يكون الاحتكام في شأن الأقليات إلى قاعدة علمية صارمة : هل تنتمي أية أقلية في الوطن العربي إلى أمة خارج الحدود السياسية القائمة في الوطن العربي ؟ إن كانت تنتمي فتلك أقلية قومية ويكون أول واجبات الحركة القومية العربية ان تحررها فترفع عنها الولاء السياسي المفروض عليها لتستقل وتلحق بالأمة التي تنتمي اليها ودولتها القومية . إن الحركة القومية العربية إذ تفعل هذا لا تحرر الاقلية القومية ولكن تحرر نفسها أيضاً من سلبيات القهر والتسلط العربية وبالمقابل ، عندما لا تكون لأية أقلية في الوطن العربي أمة هي جزء مقتطع منها فإنها أقلية متخلفة ينبغي أن ييسر لها من امكانيات التقدم ما يعوض تخلفها ، ولكنها – على أي حال – جزء من الأمة العربية لا تملك من أن تقتطع من الوطن القومي جزءاً لتقيم عليه دولة ولا يملك أحد حق منحها ما تريد .
ثم أن لدينا مقياساً لا يخطيء في التعرف على ما وراء ادعاء أية أقلية بأنها أقلية قومية . انه موقفها من الوحدة العربية . ذلك لأن أية أقلية تزعم أنها قومية وتتحرك من اجل أن تكون لها دولتها القومية لابد أن تسلم بمبدأ ” دولة قومية واحدة لكل أمة ” . ويكون عليها أن تحدد موقفها من التجزئة العربية وهدف الوحدة على الوجه الذي يتفق مع هذا المبدأ ليكون اتساق مواقفها من الحركات القومية دليلاً على صدق اعتقادها صحة ما تزعم لنفسها . عندئذ ستجد نفسها ملزمة بالتعامل مع دولة الوحدة العربية ، الدولة القومية للأمة العربية ، ويكون عليها أن تسهم ايجابياً في إلغاء التجزئة إلى أن توجد تلك الدولة التي لا يصح – قومياً – أن يكون لأحد غيرها صلاحية الاعتراف باستقلال ما قد يكون على أرضها من أقليات قومية . لا يصح – قومياً – لأن أي قومي حقاً لا يمكن أن يقبل الاعتراف بشرعية الدولة الاقليمية ، ولا يمكن أن يعول على ما قد تصدره من بيانات أو تعقده من اتفاقات أو تبرمه من معاهدات تنصب على مدى سيادة الشعب العربي على وطنه . ولا شك في أن دولة الوحدة الاشتراكية الديموقراطية لن تتردد لحظة في تحرير أية أقلية اثبتت من خلال نضالها ضد التجزئة انها قومية الوعي والحركة فعلاً . ولكن الأمر يختلف تماماً عندما نرى أقلية تزعم القومية وتدعي لها حقاً في مبدأ ” دولة قومية واحدة لكل أمة ” تخون منذ البداية ما تدعيه فتعادي الحركة العربية التقدمي ، وتتآمر مع اعدائها ، وتقف ضد الوحدة العربية ، وتتحالف مع الاقليميين ، وتحتج بالتجزئة وتدعمها ، وتزيد فتحاول أن تكسب بيانات أو اتفاقات أو معاهدات من دولة اقليمية ، هي تعلم – لو كانت قومية حقاً – انها دولة غير مشروعة فلا تملك ان تعطي ما لا تملكه .
وأخيراً :
فقد تجاوزنا في هذه الفقرة من الحديث عن أقليات أخرى توجد أو قد لا توجد في الوطن القومي بعضها عن طريق الهجرة الفردية وبعضها عن طريق الغزو . الأولى تنظمها القوانين الداخلية تنظيماً يتضمن عادة إباحة الاقامة بشروط خاصة ثم منح المواطنة للمقيمين بعد فترة من الزمان يثبتون فيها ولاءهم لمجتمعهم الجديد ويكون هذا تمهيداً لاندماجهم في الأمة التي لجأوا إليها . أما الثانية فهي عدوان استيطاني نعرف الموقف القومي منه عند حديثنا عن الحرية