الرئيسية / الوحدة العربية / الوحدة العربية وموضوعة الأقليات في الوطن العربي

الوحدة العربية وموضوعة الأقليات في الوطن العربي

  – د. ساسين عساف
nashwannews-2019-11 sdd


منذ العشرينيات وبداية تشكّل الدول العربية ضمن كيانات قطرية والوطن العربي يشهد نزاعات أهلية يعود بعضها الى وجود أقليات اتنية وأخرى دينية على امتداد مساحته الجغرافية والسياسية والثقافية.

هذا الوجود ليس غريباً عن الوطن العربي أو دخيلاً اليه أو مصطنعاً فيه. انّه، في ضوء النظرة التاريخية/ السوسيولوجية/ الحفرية/ التحليلية/ التركيبية، من مكوّناته البنيوية.. فهو وجود تاريخي ثابت وحقيقة اجتماعية أنتروبولوجية ثقافية، سعى ويسعى في اتّجاهاته العامّة الى التفاعل مع هويّة الوطن العربي الحضارية من موقع الاحتفاظ بالخصوصية.. والعروبة، هوية حضارية/ ثقافية للوطن العربي، لم تسحق خصوصيات الأقليات ولم تنابذها بل تفاعلت معها على امتداد قرون وأدخلتها عنصراً مكوّناً في كيانها الحضاري/ الإنساني.. وما التوتّرات التي شهدها الوطن العربي تحت عنوان النزاعات الأهلية سوى نتيجة عملية لتدخّلات خارجية، اقليمية ودولية، من جهة، وهي ليست سوى نتيجة عملية لعسف مارسته سلطة الأكثرية في مراحل تاريخية محدّدة وذلك خروجاً على مضمون العروبة الحضارية ببعديه الديموقراطية والاعتراف بالآخر، من جهة ثانية.

 

أمّا موضوعة الأقلية والأكثرية بوصفها اشكالية مطروحة من اشكاليات الفكر القومي العربي وبوصفها قنبلة موقوتة في جسد الأمة العربية تسعى مخطّطات التآمر الغربي الصهيوني الى تفجيرها فلم تطرح بحدّة الاّ بعد اعلان قيام الدولة الصهيونية التي وجدت فيها حجّة وجود وتسويغ استمرار فسعت اسرائيل منذ الخمسينيات الى حماية نفسها ممّا تدّعيه خطر الأكثرية العربية/ الإسلامية بتفجير ما يداخل هذه الأكثرية من أقليات قادرة على انهاكها.

ولمّا كانت اسرائيل هي جسر عبور المصالح الغربية الى الوطن العربي ومحور الصراعات فيه فقد كان لها دور أساس في استراتيجيات تلك المصالح في أثناء الحروب الباردة. هذا الدور المكرّس للدولة الصهيونية أوجب لتنفيذه استخدام آليات تخريب متعدّدة في الوطن العربي، منها تحريك الأقليات وادخالها في مشروع تفتيت هذا الوطن والهيمنة عليه على قاعدة أنّ لكلّ أقلية اتنية أو دينية الحقّ في اقامة دولة مستقلّة عن دولة الأكثرية أو دول الأكثريات المهيمنة. وهذا الدور مقروء على الصعيد السياسي/ الايديولوجي في خطاب صهيوني معلن. وهو مقروء على الصعيد التخطيطي في خطّة أودد ينون (على سبيل المثال) التي ترسم استراتيجية اسرائيل في الثمانينيات ازاء الوطن العربي. وهو مقروء كذلك في وثائق صهيونية تعود الى الخمسينيات (منها رسائل موشي شاريت). وهو مقروء بوضوح على الصعيد الاجرائي في تدخّلات اسرائيلية مكشوفة مع الأقليات في لبنان والعراق ومصر والسودان.. وخلاصة هذا الدور هي أنّ المشروع الصهيوني التاريخي المعدّ للوطن العربي هو تجزئته وتفتيته وتقسيمه على قياس وحداته الاتنية والدينية، طائفية ومذهبية.

بين الصهيونية والاستعمار الغربي ما هو أكثر من تبادل مصالح ظرفية. ما يربط بينهما هو مشروع تاريخي هادف الى السيطرة التامة والدائمة على الوطن العربي بدت معالمه تتّضح منذ منتصف القرن التاسع عشر وأخذ دربه الى التنفيذ، بعد سقوط الدولة العثمانية، عبر تجزئة الوطن العربي الى كيانات هزيلة، وتحديداً في يوم التوقيع على معاهدة سايكس/ بيكو واصدار مقرّرات سان ريمو واطلاق وعد بلفور. وليس من قبيل الصّدف التاريخية أن توقّع تلك المعاهدة وتصدر تلك المقرّرات ويطلق ذلك الوعد في فترة زمنية واحدة (1916- 1920) حيث برزت التناقضات الفعلية في الوطن العربي:

في العراق نما شعور قومي عربي يوازيه شعور قومي كردي. الأوّل ينزع الى الوحدة والثاني الى الانفصال.

في سوريا ولبنان قامت حركات انفصالية رعتها الدولة الفرنسية المنتدبة وأوجدت لها حلاًّ بطرح فكرة انشاء الدول الخمس: علوية، سنية 2، درزية، مسيحية..

في مصر نما شعور بالتمايز الديني لدى بعض الأقباط برفض المشاركة السياسية في العهد الاستقلالي.

في السودان قامت حركة مسيحية في جنوبه وقام حكم إسلامي في شماله.

في المغرب العربي كثرت ظواهر الانقسام بفضل ما بذله الفرنسيون من محاولات تفرقة بين العرب والبربر.

هذه التناقضات الفعلية/ التكوينية بوجوهها الاتنية والدينية شكّلت قاعدة مشروع التفكيك والهيمنة بامتداداته الاستعمارية والصهيونية المتشابكة.

لقد برزت، اذاً، في الوطن العربي بعد انهيار الدولة العثمانية، نتوءات اتنية ودينية. هذا صحيح. وهي نتوءات طالعة من واقع الوطن العربي وليست مدسوسة فيه من خارج حدوده، ليست مصطنعة، وهذا ما أشرنا اليه في كلام سابق. لكنّ الصحيح كذلك هو أنّ الاستعمار الغربي (الفرنسي والانكليزي) ضخّمها وضاعف من أحجامها وضخّ فيها مقوّيات التمدّد والنموّ بالاستناد الى نظرة خاصّة الى الوطن العربي وفهم خاص لطبيعة العلاقات بين جماعاته والهويات..

النظرة الاستعمارية/ الصهيونية الى الوطن العربي تسقط عنه هويته القومية وتدّعي أنّه ليس عربياً بالكامل بل هو متعدّد الهويات بتعدّد أقلياته الاتنية والدينية. وهي نظرة تسقط عنه تالياً عروبته وتدّعي أنّه ليس ملكاً للعرب بل هو متعدّد الملكية بتعدّد شعوبه!.. انّ النظرة التفكيكية للوطن العربي، على الرّغم من انطوائها على حقائق متّصلة بطبيعة تكوينه المجتمعي، تنطلق من حاجة المستعمرين والصهاينة الى ذرائع واقعية تشكّل اسناداً موضوعياً لسياسة التدخّل الهادف الى بسط النفوذ والهيمنة على العرب.

انّ مسألة الأقليات في الوطن العربي، وفي ضوء النظرة الاستعمارية/ الصهيونية، هي مسألة ذرائعية. فالوطن العربي تتآلف فيه حيناً وتختلف حيناً آخر جماعات متعدّدة في اتنياتها والأديان. وهذه الجماعات لم تنصهر في وحدة قومية ثابتة. تنازعها تيّارا الانفصال والوحدة بحسب الظروف المحيطة والضاغطة من خارج حدود الوطن العربي في هذا الاتجاه أو ذاك. عانت تسلّط جماعة على أخرى. تصادمت دفاعاً عن ثقافاتها والخصوصيات. كما أنّها بالمقابل تآلفت وأنتجت حضارة عربية مميّزة بتنوّع أصولها والروافد. غير أنّ التحالف الاستعماري/ الصهيوني تعامل مع واقع تلك الجماعات الأقلوية كعصبيات سياسية منفصلة عن وسطها الحضاري وساعية الى سلخ نفسها عن هوية الوطن العربي لتبدو في المجال الاجتماعي/ الثقافي/ الأنتروبولوجي طوائف ومللاً وأقواماً متناحرة، والقاعدة في ذلك هي أنّ التعامل المباشر مع الأقليات هو أقصر الدروب لاجهاض مشروع الوحدة العربية واتلاف الفكر القومي. وعليه،

لقد استغلّت قوى التحالف الاستعماري/ الصهيوني واقع الأقليات ووظّفته في استراتيجيتها الهادفة الى كسر المشروع القومي الوحدوي الذي بدأت ملامحه بالظهور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.. فالثقافة الاستعمارية عبر البعثات والارساليات والمؤسسات التربوية والاعلامية ومراكز البحوث المتخصّصة راحت تروّج لمنطق الأقليات وراحت توقظ فيها العصبيات وتستثير الهواجس وتبثّ ثقافة العداء للعروبة والإسلام فأنتجت بذلك ظاهرة الانبعاث السياسي لدى الأقليات المطالبة بالاستقلال أو بالحماية الأجنبية خوفاً من أكثرية عربية إسلامية احتوائية!..

في ضوء هذه القراءة التاريخية السريعة نستخلص أنّ التحدّي المطروح على الفكر القومي العربي هو ايجاد حلّ ثابت للأقليات الاتنية والدينية في الوطن العربي قائم على فكرة الاندماج الطوعي في بنية الدولة والمجتمع وفكرة المشاركة السياسية الفعّالة من موقع الانتماء السياسي لا الديني ولا الاتني، والاّ ظلّت قضيّة الأقليات قضيّة نقص في بناء الوحدة والاندماج القومي وبنية الأحزاب القومية وتطلّعاتها. فالفكر الوحدوي القومي البسماركي الصارم يرفض هذا الحلّ ما يوجب قيام مشروع عربي حضاري جديد على يد عروبيين لا تتملّكهم عقدة الأكثرية والأقلية ورغبة في الاكتساح والابتلاع. فالعروبة الحضارية بمضمونها التاريخي المعروف منذ تكوّنات المجتمع العربي الأوّل حتى اليوم هي عروبة جميع المؤمنين بها هوية جامعة تعلو فوق الهويات الاتنية والدينية من دون أن تنفصل عنها أو تتنكّر لها أو تعاديها. هي عروبة احتضان الخصوصيات لا سحقها بالتسلّط والاكراه. هي عروبة الأمّة، والأمّة العربية هي أمّة العرب بدون تفريق بين عربي وآخر. هي عروبة التاريخ العربي، والتاريخ العربي هو تاريخ مفتوح على جميع الاسهامات التي قدّمتها المجموعات المنتظمة في سياقه العام بمن فيها اليهود ومجموعات أخرى غير عربية. انّ العودة الى التراث العربي لتفحّص مدى اسهام الأقليات في اغنائه كفيلة بتصويب العديد من الأفكار والمواقف في التعامل القومي السليم مع أقلّيات الوطن العربي.

انّ فكرة الوحدة القومية تواجه السؤال التاريخي والثابت: كيف نحافظ على الأقلّ في الأكثر؟

قد تكون الديموقراطية المستندة الى مبدأ الحرية والتنوّع في داخل الوحدة هي الجواب. فالديموقراطية نظام يتّسع للجميع ويحمي الجميع، وهي سبيل التفاهم الواقعي بين أكثرية سياسية متنوّعة في أصولها وموحّدة في أهدافها وبين أقلية سياسية متنوّعة كذلك في أصولها وموحّدة في أهدافها.

انّ التجمّع السياسي الديموقراطي لا يتمّ على أساس اتني أو ديني بل على أساس وحدة الموقف والتفكير والنهج والهدف. فالديموقراطية، اذاً، هي شرط انبناء الوحدة القومية حيث تنتفي موضوعة الأقليات واشكالية تمايزها عن محيط أكثري.

عن admin

شاهد أيضاً

وَّقف تأقولَّك …إستحي!؟

د.شكري الهزَّيل ترددت بعض الوقت  في الرد على ما لا يستحق الرد لكني اخذت بلباب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *