الرئيسية / حوارات ناصرية / تحميل كتاب :عبد الناصر والثورة العربية- د.أحمد صدقي الدجاني

تحميل كتاب :عبد الناصر والثورة العربية- د.أحمد صدقي الدجاني

 

د. أحمد صدقي الدجاني

 أحمد صدقي الدجاني المشاركة في بلورة فكرة العالم الثالث

كان للثورة العربية بقيادة عبد الناصر دورها الكبير في صياغة وبلورة العالم الثالث ورسم الطريق الثالث- طريق الحياد الايجابي وعدم الانحياز، وفي النضال من أجل السلام القائم على العدل ، وفي الدعوة الى التعاون الدولي من اجل الرخاء.
ففي هذا المجال فهمت الثورة العربية الى حد كبير طبيعة الظروف التاريخية المحيطة به ا: وعاشت أبعاد عالمها وعصرها وحددت مكان الامة العربية في هذا العالم ، وتطلعت لقيام العرب بحمل رسالتهم الحضارية الى الانسانية جمعاء .
وهنا يبرز الدور العالمي للثورة العربية ولعبد الناصر. وهو الدور الذي مكن الثورة العربية من التأثير على الاحداث في المنطقة ، ومن دفع عجلة تحرير الشعوب في آسيا وافريقيا ودعم ثورة التحرير ، والمشاركة في رسم السياسات الدولية . وقدم هذا الدور عبد الناصر كواحد من قادة العالم في عصره ، فكان اول عربي يحتل هذه المكانة في العالم المعاصر.
**
اننا لكي نتعرف على هذا الانجاز الذي حققته الثورة العربية بقيادة عبد الناصر، ونحيط بدورها العالمي يجدر بنا أن نتفحص وضع العالم الذي عاشه عبد الناصر . فقد واجه ” كما يقول هيكل ” عالما تعتريه عمليات التطورات التاريخية التي كانت تتلاحق بسرعة محمومة بعد الحرب العالمية الثانية . كانت الامبراطوريات القديمة تتقوض وتتهاوى وكان الفرنسيون والبريطانيون الذين اقتسسوا فيما بينهم- طويلا – آسيا والشرق الاوسط ، ينسحبون من كل مكان ، ولم يعد في وسع السلطات الاستعمارية القديمة ان تحكم كما كانت تفعل من قبل . فقد اجتاحت موجة القومية والأيديولوجيات الجديدة الشعوب التي عانت طويلا من الاستعباد. فكانت هذه الحقبة التي عاشها عبد الناصر فترة صراع وغليان ” (54).
ان هذا العالم هو عالمنا المعاصر.. عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه الحرب مع ما انطوت عليه من ماس وفواجع تنطوي في تضاعيفها على ثورة ضخمة ، هي عند البعض اكبر ثورة عرفها الانسان منذ فجر تاريخه. ” فكأضخم الظواهر الطبيعية التي تدك الجبال وتطمر البحار وتطمس الحضارات ، كذلك كانت فترة السنوات الخمس التي أمتدت من 1939 الى 1945. تبدل في الروح والفكر والطموح اكثر منه في المادة والمظاهر. فعل في العمق حمل الى العالم تغييرات اساسية اشتركت فيها قوى مختلفة وارتفعت حولها اصوات مجلجلة. فكان ميثاق الاطلسي ، وكانت تطلعات البلدان المستعمرة الى التحرر، والاقطار المتخلفة الى العمران والازدهار. كا نت اذن ارادة التحول والتغيير التي جعلت من العالم ما هو عليه اليوم من غليان لن يستقر الا عندما تبلغ تلك الارادة ما نشدته في سبيل سعادة الانسان في كل مكان ” (55) .
كانت ابرز سمات هذا العالم هو ما شهده من تفجرات . حتى وصف هـذا العصر الذي بدأ بتفجير القنبلتين الذريتين الاميركيتين في اغسطس 1945على هيروشيما ونجازاكي المدينتين اليابانيتين : بأنه عصر متفجر. فقد شهد تفجير العلم والمعرفة بصورة لم يعرفها الانسان قبلا . وشهد تفجر السكان الذي جاء في أكثره نتيجة لسابقه. وشهد تفجر الحاجات والآمال والمطامح والنقمة المتصاعدة على الظلم والعوز والمرض والجهل وشتى صنوف العبودية والشقاء (56).
وحين ننظر بمنظار السياسة والجغرافية السياسية نجد أنه اجتمع في هذا العالم ا نقلابان حافلان مذهلان هما ثورة التحرير والانقلاب النووي . ثوّر الاول- كما يقول جمال حمدان- المناخ السياسي في العالم برمته ، وقلب الثاني قوانين الاستراتيجية الكوكبية رأسا على عقب (57).
وتصدرت عالمنا المعاصر دولتان كبيرتان هما الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيتي بعد أن أنهكت الحرب بريطانيا وفرنسا وبقية دول أوروبا الاستعمارية . وبرزت هاتان الدولتان كقوى جديدة. وكان العالم قد شهد قبلها منذ بدايات الاستعمار الغربي في عصر الكشوف الجغرافية ثلاث قوى استعمارية- حسب تصنيف جمال حمدان- توضح- منحنى التطور الاستعماري . فثمة أولا جاءت ” القوى العتيقة ” في أوائل عصر الكشوف وتمثلت بالبرتغال واسبانيا والى حد ما هولندا . ثم تلت ذلك ” القوى العتيدة ” التي كانت اكبر قوى استعمارية ظهرت في التاريخ الحديث ومثلت انموذج الاستعمار بكل ما فيه من استغلال ورجعية واحتكارات ، وقد شملت هذه القوى بريطانيا وفرنسا . ثم ظهرت في ” القوى الوليدة ” التي تأخر توحيدها وتأخر فيها بدء الانقلاب الصناعي ومن ثم تأخر خروجها الى ميدان الاستعمار، ويندرج ضمنها المانيا وايطاليا والى حد ما بلجيكا وفي معنى خاص اليابان . واخيرا برزت ” القوى الجديدة ” بعد الحرب الثانية متمثلة بالولايات المتحدة والاتحادالسوفيتي ” ولم تكن قد مارست الاستعمار بشكله التقليدي بل هي تنكر صلتها بالاستعمار وتستنكره . ومع ذلك ف! هي متهمة من غيرها بأشكال خاصة من الاستعمار اما الاقتصادي واما الايديولوجي ” (58) .
وضحت ثورة التحرير خلال الحرب العالمية الثانية . وكان الاستعمار المباشر يغطي آنذاك 35% من مساحة العالم فهوت رقعة الاستعمار بين عامي 1945- 1965 الى 4% . وهكذا مثلت ثورة التحرير عصر ذوبان الاستعمار ونهاية أوروبة العالم . وتتالت في هذه الثورة التي ظهرت بدايتها في لبنان وسوريا عام 1943: ثلاث موجات زمنية هي الموجة الاسيوية والموجة العربية والموجة الافريقية. وأصبح التحرير هو ايديولوجية الشعوب التي طال كبتها وروح العصر . وكان وراء هذه الروح عاملان رئيسيان هما آلية نمو المستعمرات حيث أن الاستعمار سلاح ذو حدين ، يفرض التحضير من أجل الاستغلال ، وانتهاء احتكار القوة العالمية في يد قوى أوروبا الاستعمارية، فرغم ان الاستعمار كان يمثل نظاما واحدا في النهاية فقد كان يجيش بالصراعات الداخلية والتوترات الكامنة التي لم تزل تصدعه وتمزقه (59).
وكان طبيعيا أن يحتدم الصراع في عالمنا المعاصر بين ثورة التحرير و الدول التي تحررت من جهة وبين قوى الاستعمار القديم والجديد من جهة اخرى . كما كان متوقعا أن يحتدم الصراع بين القوى الجديدة نفسها بعد انتهاء الحرب التي فرضت عليها أن تتحالف . وهكذا شهد عالمنا المعاصر هذين النوعين من الصراع . وكان على الدول المستقلة حديثا وهي تبحث لها عن مكان في العالم ان تشق لنفسها وسط هذين النوعين من الصراع طريقا خاصا يصل بها إلى مكانها.
**
وحين تفجرت الثورة العربية النواة يوم 23 يوليو 1952 كان الصراع بنوعيه على أشده في العالم. وكانت احداث الثورة في الصين والحرب في كوريا والهند الصينية والحرب الباردة في برلين تجسيدا له. كما كان الصراع بنوعيه على أشده في منطقة الوطن العربي التي حلت بها نكبة فلسطين عام 1948 واستجابت للنكبة بتزايد التحرك الجماهيري فيها والتي تضاعفت اهميتها بعد اكتشاف النفط بكميات كبيرة فيها ازداد بالتالي تكالب المصالح الاستعمارية عليها.
ولقد كان طبيعيا أن تنشغل ثورة 23 يوليو العربية أول ما تثشغل بمصر ثم بالوطن العربي، قبل أن تنطلق كثورة عربية للقيام بدورها العالمي . وهكذا سرعان ما دخلت خضم هذا الصراع على أرضها من اجل استكمال تحرير الوطن وطرد قوى الاستعمار القديم ثم من اجل الحفاظ على الاستقلال وتثبيته وعدم الوقوع في براثن سيطرة قوى الاستعمار الجديد .
وأعلنت الثورة مبادئها الستة وباشرت نضالها لتحقيق المبدأ الاول وهو ” القضاء على الاستعمار ” واجلاء القوات البريطانية عن مصر . وقادها هذا النضال على أرض مصر الى خوض معركتها ضد الاحلاف والى تزعمها لهذه المعركة في الوطن العربي، كما سبق أن شرحنا. وسرعان ما أشعرها ذلك بضرورة التحرك على المستوى الدولي. وهكذا فاذا كانت معركة الجلاء قد أكدت لعبد الناصر أهمية التحرك على المستوى العربي ، فان معركة الاحلاف أوضحت له أهمية التحرك على المستوى الدولي.

وبدأت تباشير الدور العالمي للثورة في الظهور بعد قرابة ثلاث سنوات من تفجرها – حين جاءت مشاركة عبد الناصر في مؤتمر باندونج- ابريل 1955 ، فكانت أول مشاركة فعالة للثورة على المستوى الدولي . ويبدو وكأنه كان لا بد من هذه الفترة كي تتضح لعبد الناصر من خلال التجربة والممارسة بعض ابعاد هذا الدور، والى حد ما طبيعته. كما كان لا بد منها كي تتهيأ لها الظروف المناسبة للتحرك .
ففي تلك الفترة وبينما كانت الثورة تركز اوضاعها داخليا وتتصدى لقضية الجلاء تعرضت من خلال هذا التصدي لمحاولة فرض دخول مصر الاحلاف الغربية تحقيقا لسياسة الغرب التي تحمل اسم ” الدفاع عن الشرق الاوسط ” وازدادت وعيا لطبيعة الخطر الاسرائيلي ودور اسرائيل في المنطقة كما تحدده السياسة الاستعمارية. واصطدمت بشكل حاد بقضية التسليح واحتكارات الغرب للسلاح وتحكمه من خلاله في سياسة دول المنطقة . وخاضت تجربة التعامل على الخصوص مع الولايات المتحدة الاميركية، وخرجت منها بمعرفة انضج لطبيعة السياسة الاميركية في المنطقة وبرفض محاولات هذه السياسة لاستيعاب الثورة والهيمنة عليها . ونشيير بايجاز في هذا المجال الى ما فصلناه في فصل سابق عن مفاوضات الجلاء والخلاف الشديد فيها حول ارتباط مصر بحلف أو معاهدة للدفاع المشترك والوصول الى نص في الاتفأقية انه في حالة وقوع هجوم مسلح من دولة اجنبية على تركيا او اي من الدول العربية فان مصر تساعد بريطانيا على تهيئة القاعدة الحربية وادارتها. كما نشير الى تحديد عبد الناصر لهدف عدم الارتباط بأي حلف أو معاهدة للدفاع المشترك . ولقد كشفت المفاوضات وزيارة دالاس وزير خارجية ! الولايات المتحدة لمصر ومباحثاته مع عبد الناصر وزيارة ايدن في فبراير 1955 لمصر ومباحثاته وهو آنذاك وزير خارجية بريطانيا، كشفت جميعا نظرة الغرب الى دور اسرائيل في المنطقة وكشفت محاولات الغرب وخاصة الولايات المتحدة ترتيب صلح بين العرب والاسرائيليين ينسجم مع هذا الدور. كذلك اوضحت سياسة اسرائيل خلال تلك الفترة طبيعتها العدوانية وأطماعها التوسعية في المنطقة وتطلعها الى التسلط بمنطق القوة . وحين بحثت الثورة عن السلاح لمجابهة خطر اسرائيل وطرحت على الغرب قضية تسليح مصر أصطدمت بالخداع الاميركي وبسياسة الغرب في احتكار السلاح، وعادت بعثة السلاح المصرية برئاسة علي صبري من الولايات المتحدة بمرارات وبخفي حنين دون أن تصل لشيء . وغيرت تجربة التعامل مع الولايات المتحدة من نظرة الثورة اليها، فبعد أن كانت في بادىء الأمر نظرة قائمة على الآمال وعلى الصورة المزوقة التي كانت مرسومة للولايات المتحدة في المنطقة اصبحت نظرة قائمة على حقائق الواقع وعلى فهم طبيعة السياسة الامريكية (60).
كذلك فان تلك الفترة بما حفلت من مواقف للثورة في مواجهة السياسة الاستعمارية خلال خوضها معركتي الجلاء والاحلاف مكنت دول المعسكر الاشتراكي والدول المستقلة حديثا من تكرين فكرة أقرب الى الصحة عن حقيقتها. وكانت دول المعسكر الاشتراكي عند بداية الثورة شديدة الارتياب في زعماء الثورة وفي طبيعتها . وقد حمل عليهم الاتحاد السوفيتي ناعتا اياهم بالفاشية . كذلك اتسم موقف بعض الدول المستقلة حديثا من الثورة بالتحفظ في بادىء الامر بل وبرزت في الوطن العربي بين القوى السياسية خلال العامين الاولين للثورة تساؤلات واتهامات غذتها الاحداث الداخلية التي شهدتها مصر آنذاك . ولكن الموقف تغير على كل هذه المستويات بعد خوض الثورة لمعركتي الجلاء والاحلاف. وحين التقى شواين لاي بعبد الناصر مرة في رانجون قبل انعقاد مؤتمر باندونج قال له شواين لاي ” انه يعرف ان عند الروس فكرة حسنة عن الحكومة المصرية ” (61).
قلنا ان مشاركة عبد الناصر في مؤتمر باندونج كانت أول مشاركة فعالة للثورة العربية علىالمستوى الدولي . والحق ان مؤتمر باندونج نفسه كان أول مشاركة للدول المستقلة حديثا في رسم السياسة الدولية ، وأول خروج على تحكم الغرب وانفراده بالهيمنة على العالم منذ بدأت المؤتمرات الدولية في العصر الحديث. فلأول مرة يتولى مسؤولون افريقيون وآسيويون مناقشة مواضيع تهم شعوبهم والعالم بوجه عام- كما علق آنذاك الكاتب الهندي بانيكار في صحيفتي فرانس اوبزرفاتور ونيشن- ” بعد أن جرى العرف في الدبلوماسية الدولية حتى عام 1946 أن تبحث شؤون آسيا في مؤتمر للدول الغربية. ويبدو ان الدول الغربية لم تتخل عن هذا التقليد ففي مؤتمر جينيف عن الهند الصينية حضرت فرنسا وانجلترا واميركا ، بينما لم تحضر بورما والهند واندونيسيا ” (62) .
وكانت الدعوة الى مؤتمر باندونج قد تبلورت بعد سنوات من محاولات الدول المستقلة حديثا ايجاد مكان لها على مائدة السياسة الدولية، والتصدي للاخطار الناجمة عن الصراع بنوعيه والتي تتهددها بصورة خاصه. ففي عام 1949 جاءت دعوة نهرو لسفراء حكومات آسيا الى الاجتماع في نيودلهي لوضع حد لأعمال القوى البوليسية الهولندية في آسيا ، وأوضحت الدعوة المدى التاريخي لهذا الحشد الفريد لأمم آسيا الحرة واصدقائها . وتألف في هيئة الامم المتحدة فريق عربي آسيوي ضم أثنتي عشرة دولةآ تمرس خلال الحرب الكورية بالعمل الديبلوماسي وتطور مع الزمن الى فريق آسيوي- افريقي ساهم بتشكيل هيئات للتخطيط والتنفيذ. وفي عام 1950 عقدت دول آسيا الحرة مؤتمرا في باغيو ركزوا فيه الانظار على مكافحة الاستعمار بصورة منظمة والسعي الى اقرار سلام دولي دائم يقوم على سياسة ” عدم الانحياز ” من شأنها اقامة منطقة سلام في آسيا الجنوبية، وهما الموضوعان اللذان بحثهما مؤتمر باندونج . وقويت هذه المحاولات في مواجهة سياسة الاحلاف الاميركية التي استهدفت تطويق الصين الشعبية بعد سيطرة ماو على الحكم عام 1949 ، وأبرمت من أجل ذلك ميثاق جنوب شرق آسيا عام1! 954.
وكان الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على أشده. وقد دخل المرحلة الثانية من مراحل توازن القوى التي تقوم على استراتيجية الغدر والردع الشامل بما تورثه من عواقب وخيمة على العالم أجمع . ذلك ان الانقلاب النووي قلب مفاهيم الاستراتيجية الدولية. وفي مرحلة التوازن الاولى والتي اعقبت الحرب واستمرت حتى الخمسينيات كانت الولايات المتحدة تنفرد وحدها با لسلاح الذري ولا يملك الاتحاد السوفيتي الا جهازا ضخما من الاسلحة التقليدية، فسادت في هذه المرحلة سياسة حافة الحرب والهاوية التي اشتهر بها دالاس . حتى اذا ما توصل الاتحاد السوفيتي للسلاح النووي وتحقق التوازن الذري الرهيب بين قطبي القوى الجديدة ساد مفهوم الهجوم المفاجىء واستراتيجية الغدر والردع الشامل وعاش العالم وعلى الخصوص الدول المستقلة حديثا في ظل شبح الحرب النووية التي لا تبقي ولا تذر.
وسط هذه الظروف وجه رجال كولومبو (63) الدعوة الى ثلاثين دولة آسيوية وأفريقية من بينها الصين الشعبية للمشاركة في مؤتمر باندونج بهدف اقامة تعاون صادق بين أمم آسيا وافريقيا، وبحث المشاكل الاجتماعية والأقتصادية والثقافية والعلاقات بين الدول المشاركة، ودراسة المشاكل التى تمس سيادة شعوب القارتين وبحث مركز آسيا وافريقيا من عالم اليوم ودورهما في خدمة السلام والتعاون .
واستجابت مصر للدعوة ، وأعلن عبد الناصر باسم الثورة عزمه على المشاركة في باندونج على الرغم من محاولة دالاس اقناعه بعدم الذهاب – على حد ما أورده هيكل- الأمر الذي أغضب دالاس ” حيث رأى فيه خذلانا وخيانة لحملته الصليبية ضد الشيوعية ” (64) . ورأى فيه أيضا خروجا من ثورة 23 يوليو عن الدائرة التي حاولت اميركا حصرها فيها. وكان عبد الناصر مستشعرا اهمية الصلة بين ثورة 23 يوليو وشعوب آسيا وافريقيا. وقد شرح افكاره حول هذه الصلة في فلسفة الثورة وهو يناقش عنصر المكان ويتساءل ” ما هو دورنا الايجابي في هذا العالم المضطرب ، وأين هو المكان الذي يجب ان نقوم فيه بهذا الدور ” . فخصص الدائرة الثانية لافريقيا ” التي يحرس العرب بابها الشمالي والتي هي مسرح لفوران عجيب مثير “. كما خصص الدائرة الثالثة للعالم الاسلامي ” الذي يمتد عبر قارات ومحيطات والذي يضم اخوان العقيدة ” في دول آسيوية عدة مع الوطن العربي وافريقيا (65) . ونلاحظ انها كانت أفكارا أولية تعبر عن التوجه . وكان عبد الناصر أيضا قد استشرف بعد ذلك آفاق هدف باندونج وأبعاده العالمية من خلال حواره مع نهرو خلال لقائهما الاول بالقاهرة في فبراير 1955 ! وقد هيأته معركة الاحلاف التي كان يخوضها لذلك . كما التقى في الشهر نفسه بتيتو لقاءهما الأول وتحدثا في ا لشؤون العالمية. ثم تلقى يوم 28 فبراير صدمة عنيفة حين أغار الاسرائيليون على غزة وقتلوا 38 جنديا مصريا وافتقد عبد الناصر بقوة توافر السلاح اللازم للرد واستشعر بمرارة خذلان أميركا له في تسليح مصر وتطلع يبحث عن مصدر آخر يكسر به احتكار الغرب للسلاح في المنطقة.
وفي طريقه الى باندونغ التقى عبد الناصر بشواين لاي في رانجون بعد ان تولى نهرو اتمام التعارف بينهما وتبادلا الحديث عن الشوون العالمية وعن قضايا بلدهما والمناطق المحيطة، ثم توصلا الى تفاهم حول طلب مصر السلاح من الاتحاد السوفيتي.
وفي باندونج شارك وفد مصر برئاسة عبد الناصر مع وفود ثماني دول عربية اخرى في اعمال المؤتمر. وهذه الدول هي سوريا ولبنان والعراق والاردن والسعودية واليمن وليبيا والسودان، وجميعها كانت مستقلة فشملتها الدعوة.
ونجح عبد الناصر- كما يقول هيكل- في اقناع الوفود العربية ان تتبنى مجتمعة في المؤتمر استراتيجية التمسك بقرارات الامم المتحدة في حل مشكلة فلسطين لكي يتمكنوا من تبرير استبعاد اسرائيل من المؤتمر (66).
وطرح عبد الناصر على مؤتمر باندونج المبادىء الرئيسية لسياسة الثورة العربية في المجال الدولي. فالثورة العربية ستشن الحرب بكل ما لديها من طاقات ووسائل على الاستعمار والسيطرة الاجنبية. والثورة العربية ستعمل من أجل السلام لأن اجواءه وامكانياته توفر الفرصة الوحيدة للتقدم القومي. والثورة العربية ستسعى لتحقيق التعاون الدولي من أجل رخاء الشعوب كلها وتوفير الرفاهية لها. وبين عبد الناصر في خطابه ان السلم العالمي لا يتحقق الا بشروط محددة وتناول وهو يشرح هذه الشروط مجموعة قضايا هامة ابرز فيها دور هيئة الامم المتحدة ومسؤوليات الدول الكبرى ومستقبل التعاون بين الشعوب الآسيوية و الافريقية.
“.. ان مصر وكافة الدول الممثلة في هذا المؤتمر وغير الممثلة سواء لتدرك تمام الادراك ويؤلمها أشد الألم ما تتكفله أعباء التسليح من نفقات وجهود توشك ان تقصم ظهر الاقتصاد العالمي وتعوق النهوض الاجتماعي. وتأمل بحماسة وحرارة وقف التسلح فورا ، حتى يفيق العالم من كابوس الفزع المريع الذي يقض مضجعه من جراء هذا التسليح .
وثمة علاقة وثيقة بين رفع مستوى معيشة الشعوب وخفض نفقات التسليح .. ولا شك في أن العلوم والخبرة الفنية الحديثة اذا استخدمت لاغراض سلمية، سوف تتيح للجنس البشري من الرفاهية قدرا لا يعادله أي قدر توفر في أي زمان ومكان . فالطاقة الذرية مثلا اذا استخدمت في اغراض سلمية تهيىء للشعوب ولا سيما في البلاد المتخلفة حيث يعيش السواد الأعظم في فاقة وعوز فرصا لا نظير لها للرخاء الاقتصادي ..
.. يجب أن تكون كافة القرارات والاجراءات التي تتخذها المنظمة العالمية أساسها الميثاق ولو روعي هذا لما نزل بشعب فلسطين ذلك الظلم البين ولما وقع عليه هذا الاعتداء الذي لم يسبق له مثيل…
.. ان نظرية التفريق العنصري والسياسة التي قامت استنادا اليها ، نظرية باطلة علميا وتهـدد السلم والأمن العالمي بالخطر كما انها تتنافى مع عزة الانسان وكرامته ..
.. ان فرض الدول الكبيرة سياسة معينة لتحقيق مصالحها الخاصة له أثره الضار على الدول الصغيرة فهو يعزلها ويفرق فيما بينها. كما يضعف الروابط والتعاون الذي قد يكون قائما بينها. وبذا تقع السيطرة الاجنبية. وان دل على الدول الصغيرة ان تقوم بدورها الانشائي في سبيل تحسين العلاقات الدولية وتخفيف حدة التوتر الدولي.
.. ثمة شيء آخر هو موضوع تصفية الاستعمار التي طالما كان سببا في الاحتكاك بين الدول وما يستتبعه من قلق ..
ولقد شاهدنا منذ سنين وما زلنا نشاهد ارتفاع موجة القومية لا في بلادنا والمناطق المجاورة لها فحسب بل في عدة اقطار آسيوية وافريقية. ولقد علمتنا تجارب الحياة ان القومية اذا احبطت ترتبت عليها عواقب وخيمة ونشأت عنها مشاكل عويصة، وان الدول اذا تناولتها في حكمة وهوادة وواقعية اثمرت ثمرا طيبا من الصداقة والتفاهم والمحبة. وانا لنرجو ان نضع ذلك دائما نصب أعيننا بشأن بقية بلاد العالم التي ما زالت شعوبها متعطشة الى ارواء قوميتها..
وأراني في غير حاجة الى القول بأننا نعيش الان في عصر جديد يختلف عن العصور الماضية، فلقد استيقظ في الشعوب وعي جديد لا يمكن معه وقف تيار القومية و النهوض..
ان التعاون بين الشعوب الآسيوية والافريقية ليس عاملا على تخفيف حدة التوتر الدولي القائم فحسب ، بل هو تعاون تلك الدول- التي تمثل أكبر قارتين وسكانها أكثر من نصف سكان العالم- على التقدم وتحقيق مستوى معيشة أرفع . وتحقيق هذا الغرض لازم كما لا يخفى لهدف ثان هو السلم العالمي، فليس معنى السلم مجرد لا حرب بل انه يستوجب جهودا متضافرة متواصلة لتهيئة جو من الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وكلها مقومات لاغنى عنها لانشاء مجتمع عالمي سليم.. ” .
أكد هذا الطرح الذي طرحه عبد الناصر في باندونج تصميم مصر الثورة على استقلالها في علاقاتها الدولية وتطلع الثورة العربية للقيام بدورها في عالمها ، وهنا تكمن اهميته . فلآول مرة في تاريخ العرب الحديث – كما يقول كرانجيا- ” وقف زعيم عربي معتزا بقوته ليعلن استقلال بلاده والدور الذي يحق لها أن تؤديه على صفحات التاريخ ” (67) . وحين عاد عبد الناصر ابرز هذا التصميم في خطابه للجماهير التي كانت في استقباله .
” ان مصر اليوم قد استقلت ، وانها حين تتكلم ، فهي تتكلم عن ارادتها وبوحي من ضميرها انني لم اترك هذا الوطن ولم اغادره الا من اجل تحقيق اهدافكم وتثبيت مبادئكم واشعار العالم أجمع ان مصر اليوم لها كيان مستقل وشخصية مستقلة وانها حينما تتصرف من وحي هذا الاستقلال انما تنصرف من الداخل وهي كاملة الاستقلال . وفي الخارج ، وهي تشعر أيضا انها كاملة الاستقلال .
لقد ذهبت لأعلن باسمكم ان مصر بعد ان ذاقت طعم الحرية ستعلن رأيها مستقلا في سبيل الحق وفي سبيل الحرية وفي سبيل تحرير الشعوب والانسان “.
هكذا برز التصميم على استقلال مصر في باندونغ ليعلن انتهاء مرحلة في توجه الثورة الدولي وبداية مرحلة جديدة. فبعد ان كانت مصر الثورة في المرحلة الاولى وهي تسعى للتحرر منشغلة في المقام الاول باجراء حوار مع الولايات المتحدة الاميركية على اكثر من مستوى على أمل تحقيق مطالبها ، وتصارع خلال ذلك بقوة محاولات الاستيعاب الاميركية ، اذا بمصر الثورة في هذه المرحلة الجديدة تنطلق الى الافاق الدولية الرحبة وتكسر الحصار الاميركي وتعلن للعالم استقلالها وتوجهها للمساهمة في حل المشاكل الدولية. وهكذا بدأ البعد الدولي للثورة في التبلور منذ تاريخ باندونج حيث شاركت في صياغة مبادىء باندونج العشرة .
ويهمنا ما دمنا في مجال الحديث عن بلورة فكرة العالم الثالث ان نثبت هذه المبادىء التي أصبحت مصدر وحي لتحركات دول العالم الثالث في إلميدان الدولي ، والتي عززت ميثاق الامم المتحدة ومثلت معه تراثا مشتركا بين جميع الشعوب على اختلاف اوضاعها وفي سبيل مصلحتها المشتركة. فمبادىء باندونج العشرة تنص على:
1- احترام الحقوق الاساسية للانسان وفقا لأهداف ومبادىء ميثاق الامم المتحدة .
2- الاعتراف بالمساواة بين جميع الاجناس والامم .
3- احترام سيادة وسلامة اراضي جميع الامم .
4- عدم التدخل في الشؤون الداخليه للبلدان الاخرى .
5- احترام حق كل امة في الدفاع عن نفسها منفردة أو جماعيا وفقا لميثاق الامم المتحدة .
6- أ- رفض الاتفاقات الدفاعية الجماعية المعقودة بأي شكل وضعت فيه لخدمة المصالح الخاصة للدول ا لكبرى .
ب- رفض أي ضغط تمارسه قوة دولية أيا كانت ضد الاخرين.
7- الامتناع عن القيام بأعمال او تهديدات بالاعتداء أو باستعمال القوة ضد سلامة أراضي بلد واستقلاله السياسي .
8- تسوية جميع النزاعات الدولية بالوسائل السلمية كالمفاوضات والتوفيق والتحكيم والاحتكام الى المحاكم الدولية وكل وسيلة سلمـية تختارهـا البلدان المعنية وفقا لميثاق الامم المتحدة .
9- تشجيع تبادل المصالح والتعاون.
10- احترام العدالة والالتزامات الدولية.
ولقد تحدث عبد الناصر عن انطلاق الثورة العربية الى الآفاق الدولية بعد باندونغ وربط بين هذا الانطلاق وبين نضال الثورة قوميا فقال في عيد الثورة عام 1957:
“.. كتب علينا ان ندخل معركة رابعة في حرب تثبيت الاستقلال هي معركة تحديد معالم شخصيتنا الدولية ورسم مسلكنا في هذا العالم الذي زرعوه بالمشاكل من حولنا.
كنا نريد أن نكون اقوياء في وطننا ندافع بكفاية عن حدوده وكنا نريد ان يكون ضميرنا الدولي يقظا يشارك في الدفاع عن سلام العالم.
لم نكن نريد ان نسمع ضربات التهديد تدق ابوابنا ولا نستطيع للخطر الداهم علينا دفعا ولا ردا وكذلك لم نكن نريد ان نرى نيران الفتنة تندلع في الارض من حولنا وتحرق غيرنا وتحرقنا معهم دون ان يكون لنا نصيب فعال يصدر في كل تصرفاته عن روح من عدم الانحياز تنشد العدل وتطلب السلام على أساسه.
وهكذا تشابكت معركتان في حرب تثبيت الاستقلال . الحصول على السلاح والاشتراك في مؤتمر باندونج الذي جمع دول أفريقيا وآسيا ” .
وتمثل عبد الناصر مبادىء باندونج فتشبع بروح عدم الانحياز التي تنشد العدل وتطلب السلام على اساسه وحددت الثورة العربية مكانها في العالم ومعالم شخصيتها الدولية. وهكذا كانت باندونج بداية انطلاق الثورة العربية الى الافاق الدولية، فقد تحقق في المؤتمر تعريف الدول المستقلة حديثا في آسيا وافريقيا والعالم بالثورة العربية كما تحقق ايضا بروز عبدالناصر كزعيم لهذه الثورة وكـواحد من زعماء هذا العالم الثالث الذي بدأ بالظهور ولقد سلطت الاضواء في باندونج على الزعيم الشاب الذي وصفه أحد الكتاب وصفا طريفا على الطريقة الغربية بقوله : ” انه أقوى جاذبية من نجم سينمائي وأكثر رجولة من بطل رياضي ” (68) والذي مثل في حقيقة الامر تفتح شباب العالم الثالث . واقام عبد الناصر في باندونج صلات واسعة مع رؤساء دول افريقيا وآسيا ستنمو وتتسع في السنوات التالية مع نمو واتساع دور الثورة العربية العالمي .
ودخلت الثورة العربية أثر با ندونج امتحانا في التطبيق العملي للمبادىء التي أعلنتها وخرجت من هذا الامتحان الذي امتد خمسة عشر شهرا وقد حققت نجاحا كبيرا يوم تأميم قناة السويس . وحفلت هذه الفترة بالاحداث الهامة على المستوى الدولي .
فقد بادر عبد الناصر حال عودته من باندونج الى الاتصال بالاتحاد السوفيتي لابرام صفقة السلاح التي تفاهم عليها مع شواين لاي . وتم ابرام الصفقة مع تشيكوسلوفاكيا في اغسطس من عام 1955 واعلن عبد الناصر ذلك رسميا يوم 27 سبتمبر في خطابه في معرض القوات المسلحة . ووقف حال تهـرب انباء الصفقة- قبل اعلانه عنها- يجابه بقوة ضغوط الولايات المتحدة لحمله على التراجع . ذلك ان دالاس وقد رأى في الصفقة خروجا على سياسته الخاصة بالاحلاف وقفزا من الاتحاد السوفياتي فوق ” الحزام الشمالي ” الذي يضم دول حلف بغداد، اندفع الى الضغط على عبدالناصر، فأرسل هو واخوه الان دالاس مبعوثهما كيرمت روزفلت الى القاهرة في طلب ايقاف الصفقة وتهديد عبدالناصر ان لم يستجب ، بايقاف كل المساعدات الاميركية لمصر وايقاف التجارة وقطع العلاقات الدبلوماسية ومحاصرة مصر بحريا وكان قدوم هذا المبعوث هو الذي حدا بعبد الناصر لاعلان ابرام الصفقة رسميا قبل استقباله- كما يروي هيكل- ولم يلبث دالاس ان أوفد مبعوثا آخر هو جورج الن مساعد وزير الخارجية ولكن عبد الناصر صمد امام الضغوط وفشل المبعوثان في اثنائه عن عزمه. كما صمد أيضا بعد ذلك أمام محاول! ات الولايات المتحدة تطويقه بأساليب الترغيب حين فشلت الضغوط فلم ينجح روبرت اندرسون في زيارته للقاهرة عام 1955 التي حمل فيها رسالة من ايزنهاور ضمن مساعي الديبلوماسية السرية لحل مشكلة فلسطين ولم تلاق عروض هربرت هوفر الابن مساعد وزير الخارجية على السفير المصري بواشنطن ما تضمنته من شروط قبولا في مصر (69).
وفي اثناء هذا الحوار الساخن مع الولايات المتحدة الاميركية اعلن عبد الناصر في مايو 1956 اعترافه بالصين الشعبية. وأيا كان السبب المباشر الذي حدا به لهذا الاعلان (70) فقد جاء تعبيرا عن روح باندونج وسياسة عدم الانحياز. وواضح آن فكرة الاعتراف سبقت الاعلان بفترة ونبتت في ذهن عبد الناصر منذ مباحثاته مع شواين لاي وكانت لها مبرراتها القوية والمتصلة بروح باندونج . وهكذا فان الاعتراف لم يأت مجرد رد فعل لحادثة بعينها وان ارتبط الاعلان بهذه الحادثة. وقد كان للاعلان صداه في الغرب- كما سبق ان فصلنا من قبل- واتخذت الولايات المتحدة اجراء انتقاميا ضد مصر بمنع اية معونة مالية لبناء السد العالي وتلتها بريطانيا والبنك الدولي . ورد عبد الناصر بتأميم قناة السويس في يوليو 1956 وتصاعدت الاحداث في المنطقة.
وفي خضم هذه الاحداث الهامة اخذث فكرة العالم الثالث في النمو وشقت طريقها . وساهمت الثورة العربية من خلال مواقف عبدالناصر خلال تلك الفترة في ابراز الفكرة واخراجها الى حيز التطبيق العملي . والتقت الثورة العربية في هذا الطريق الثالث بالهند ويوغوسلافيا وجسد عبد الناصر ونهرو وتيتو هذا اللقاء الذي فرضته الظروف المحيطة بدولهم .
وكان عبدالناصر قد التقى بتيتو لقاءهما الثاني في ديسمبر 1955حين زار تيتو القاهرة وصدر عن هذا اللقاء بيان مشترك اعلن تمسكهما بسياسة الحياد الايجابي وعدم الانحياز ودعوتهما الى التعايش السلمي. وقد اوضحت المباحثات التي جرت بين الزعيمين ان عدم الانحياز هو الفكرة التي يمكن ان ينطلقا منها لتحديد مكان بلديهما من الصراع العالمي . وكان تيتو يدرك جيدا موقع يوغوسلافيا من الصراع بين الدولتين الكبيرتين ويؤمن بأن عدم الانحياز هو الاساس الحقيقي لاستقلال بلاده وسلامتها . كما كان عبد الناصر منطلقا من سعيه للحفاظ على استقلال مصر ووحدة الوطن العربي يبحث عن مخرج يبعده عن النزاع بين الكتلتين ويخلصه من ضغوط الغرب دون الوقوع تحت نفوذ الشرق فوجد فكرة عدم الانحياز المخرج والسبيل .
و في يوليو 1956 التقى عبد الناصر وتيتو ومعهما نهرو، لقاءهم التاريخي في بريوني . وكان نهرو يؤمن هو الآخر بعدم الانحياز كسياسة تتبعها الهند في خضم صراع الكتلتين في آسيا وكفكرة تستقطب دول العالم الثالث . وقد صدر عن هذا اللقاء بيان مشترك أيد قرارات مؤتمر باندونج وعبر عن روح عدم الانحياز الذي كان الموضوع الأول في المباحثات و قدر للقاء بريوني أن يسبق مباشرة تصاعد الأحداث التي بدأت يوم 20 يوليو بسحب الولايات المتحدة وبريطانيا عروضهما للمساهمة في تمويل السد وبلغت ذروتها بالعدوان الثلاثي على مصر. ومن الواضح ان اللقاء كان عاملا هاما في اتخاذ الموقف الاميركي من تمويل السد ، وقد سجل مرحلة جديدة في سياسة عدم الانحياز حيث اتخذت شكل منهج عام . وأصبحت القواعد التي وضعت في بريوني المؤلفة من اثني عشر بندا أساسا تعتمده دول عدم الانحياز في تسوية المشاكل العالمية . كما أرسى أقطاب بريوني مبدأ الاجتماعات الدورية ليبحث في المشكلات الدولية وبادروا الى الاتصال بزعماء العالم الثالث .
وخاضت الثورة العربية بقيادة عبد الناصر معركة تأميم قناة السويس وصمدت في مواجهة العدوان الثلاثي وقدر لهذه الحرب أن تكون نقطة تحول في مجرى حركة التحرير بالنسبة للعالم الثالث . وأدى انتصار الثورة العربية على قوى العدوان الى توسع السياسة الجديدة التي تبنتها وأعلنتها في باندونج والى بروز عبد الناصر كواحد من أعظم قادة التحرير. وأصبحت الثورة العربية وعبد الناصر مصدر قوة روحية ومثلا يحتذى عند ثوار العالم.
وأكدت هذه المعركة لعبد الناصر أهمية عدم الانحياز فازداد تمسكا بالفكرة وكشفت له بالمحك العملي آفاق السياسة الدولية وابعاد مشكلاتها. وقد بدأ حديثه في الاحتفال بالذكرى الاولى للنصر في بورسعيد يوم الثالث والعشرين من ديسمبر 1957 معبرا عن ذلك كله.
” اليوم في بورسعيد، نتجه الى العالم كله… ونطالب بتثبيت قواعد العدالة وحق المصير…
نتجه من بورسعيد للعالم كله ، ونطالب بأن تعطى كل دولة مستعمرة استقلالها لتحكم نفسها بنفسها… نطالب بالقضاء على التمييز العنصري في أفريقيا ، وأن يكون لأهل أفريقيا حق مساو لجميع السكان الموجودين في بلدهم…
ومصر تطلب اليوم من العالم كله أن يعمل بكل طاقته من أجل دفع شبح الحرب… ننظر اليوم من بورسعيد للعالم ، ونجد ان المحاولات التي بذلت لاعطاء أسلحة ذرية للدول أكثر، ولتخزين الأسلحة الذرية في أوروبا ، وفي تركيا… نقول ان هذا يعتبر تهديدا لنا.
وان مصر- أيها الاخوة- برغم ما قاسيناه تتبع سياسة عدم الانحياز، سياسة الحياد الايجابي، لكي توسع معسكر السلام … لأن العالم اذا انقسم الى معسكرين، وأصبحت دول العالم منقسمة، جزء منها مع
هذا المعسكر وجزء مع المعسكر الآخر فلا بد أن تقوم حرب. ولا بد أن تقاسي البشرية الأهوال ” .
وهكذا ارتفع صوت الثورة العربية مناديا بسياسة عدم الانحياز والحياد الايجابي من أجل السلام، ومعبرا عن رأيه في المشكلات ا لدولية … التمييز العنصري ، وشبح الحرب ، وتهديد ا لذرة . وكان عبد الناصر قد ازداد استشعارا لأخطار الحرب النووية من خلال انشغال صديقه نهرو الشديد بهذه الأخطار. وقد تباحثا معا عند زيارة نهرو للقاهرة يوم 10 يوليو من ذلك العالم لتخفيف حدة التوتر الدولي وخفض التسليح وتحريم الأسلحة الذرية. كما ان نهرو لم يلبث ان ناشد العالم في نوفمبر 1957 أن يستخدم الذرة للاغراض السلمية. وكان نداؤه مؤثرا وقد كتب لعبد الناصر وهو يرسل له النداء ” اننا هنا في الهند، نعاني مشاكلنا الخاصة الكبرى كما انكم في مصر تواجهون الكثير من المصاعب . وفيما تشغلني مشاكلي مباشرة فإن ذهني يتجه بالتفكير بشكل متزايد الى المشكلة العظمى التي تواجه الانسانية ” (71) .

وقد أبدى عبد الناصر تفهما وتجاوب مع الدعوة بالشكل الذي ظهرفي خطابه يوم عيد النصر، رابطا بين سياسة عدم الانحياز واستتباب السلام في العالم .
وغذت الثورة العربية السير في هذا الطريق الثالث . واستضافت القاهرة في مطلع عام 1958 أول مؤتمر لشعوب التضامن الآسيوي الأفريقي الذي أعلن توصياته بوجوب دعم التعايش السلمي وتأييد استقلال الشعوب وتأييد قرارات مؤتمر باندونج وحل المشاكل الدولية في نطاق الأمم المتحدة . و نبذ سياسة الحرب والاستعمار والأحلاف . وقوى مركز الثورة العربية في العالم بعد اعلان وحدة مصر وسوريا يوم 22 فبراير 1958 وقيام الجمهورية العربية المتحدة، فازداد تأثيرها في العالم الثالث وتعاظم دورها في الدعوة لعدم الانحياز. وتتالت الأحداث خلال تلك الفترة فأغنت تجربة الثورة العربية في هذا المجال . فقد تقدمت الجمهورية العربية المتحدة يوم 15 ابريل 1958 الى مـؤتمر اكرا الذي عقد تحت شعار ” أفريقيا للأفريقيين ” ، بثمانية اقتراحات تنحصر في وجوب تدعيم السلام والمطالبة بتطبيق مبادىء مؤتمر باندونج وقرارات مؤتمر القاهرة لتضامن الشعوب الأفريقية والآسيوية ، وتجاوب المؤتمر. وفي 28 ابريل زار عبد الناصر الاتحاد السوفيتي لأول مرة .
وكانت هذه الزيارة مناسبة لكي يطرح عبد الناصر أفكاره حول سياسة عدم الانحياز الايجابي مع احدى الدولتين الكبيرتين . كما كانت الزيارة محكا لمدى امكانية التطبيق العملي لتلك السياسة . وقد جاءت بعد أن حدث التحول الأول في نظرة الاتحاد السوفيتي الى ثورة 23 يوليو في مصر. ولسنا هنا- ونحن نركز حديثنا حول الجانب الفكري من المسيرة – في مجال تفصيل الحديث عن تطور العلاقات السوفيتية العربية ، ولذا نكتفي بالاشارة الى أن الاتحاد السوفيتي نظر بعين الشك والريبة لثورة 23 يوليو حين قامت . ثم راقب مسيرتها خلال الاعوام الثلاثة الأولى وهي تناضل ضد الاستعمار والأحلاف فحدث في نظرته شيء من التحول . وزاد اهتمامه بها بعد الدور الذي قامت به في باندونج فأقدم ساسة الاتحاد السوفيتي على ابرام صفقة السلاح . وحدث التأميم ثم العدوان ووقف الاتحاد السوفيتي موقف التأييد لمصر دوليا فتهيأ مناخ أفضل للتعاون . وان بقيت سياسة ثورة 23 يوليو القومية وعلى الخصوص في الموقف الواضح من الشيوعية والحزبين الشيوعيين في مصر وسوريا محل استياء الاتحاد السوفيتي.
ونلاحظ ونحن نستعرض ما جرى في هذه الزيارة ان عبد الناصر حرص أول ما حرص ضمن تطبيق سياسة عدم الانحياز أن يبدأها بتحديد واضح للموقع الذي يتحدث منه… فهو قادم يحمل تحية شعوب صديقة . .
” شعوب تعيش في منطقة هامة من العالم وتشعر- بحكم ما تفرضه عليها ظروف المكان الذي تعيش فيه مضافا اليها مشاعرها الذاتية المنبثقة من صميمها ان لها دورا تؤديه في سبيل صيانة الحرية والرخاء والسلام لجميع البشر “.
وهو يعبر عن عرفان هذه الشعوب للاتحاد السوفيتي على ما أظهره من فهم ، ويتطلع الى تعاون مخلص
” انني واثق ان لقاءنا سوف يدعم فهمنا المشترك ، ومن ثم سوف ينمي مجالات تعاوننا. واني لواثق أيضا ان هذه الصداقة التي ربطت شعوبنا بشعوبكم ستقوم بدورها كاملا كطاقة انسانية هائلة ، وستوجه كل قواها للمساهمة في صيانة السلام لهذا الجنس البشري الذي ملأ الأرض من حوله بمعجزات العقل والاحساس ، ومع ذلك لم يستطع حتى الآن أن يوفر لنفسه حقا بدهيا بالنسبة لأي كاثن حي … ألا وهو حق الأمن ” (72) .
ويفسر هذا الحرص تلك السياسة التي بدت في لقاء عبد الناصر الأول بخروشوف ازاء اشارة لخروشوف عن الشيوعيين في الجمهورية العربية المتحدة اعتبرها عبد الناصر تدخلا في الأمور الداخلية وطلب ايضاحا عنها ، وتبين ان خطأ الترجمة هو السبب (73).
ولقد تحدث عبد الناصر في المباحثات والخطب التي ألقاها عن المواضيع المتصلة بسياسة عدم الانحياز والحياد الايجابي وأهمها المساعدات غير المشروطة من الدول الكبرى لدول آسيا وأفريقيا ومبادىء باندونج ووقف التجارب الذرية والعدوان الاسرائيلي . واكد عبد الناصر ان الصداقة مع الاتحاد السوفيتي انما تقع ضمن تلك السياسة .
” ان سياستنا حرة تنادي بالحياد الأيجابي وعدم الانحياز الى الأحلاف العدوانية وعدم قبول القواعد العسكرية والعمل من أجل التعايش السلمي والسلام .
ان الصداقة والتعاون بين حكومة الاتحاد السوفيتي وحكومة الجمهورية العربية المتحدة وشعب الاتحاد السوفيتي وشعب الجمهورية العربية المتحدة ستجعل منا دولة قوية تصد العدوان وتقف ضد أساليب الاستعما ر ” (74) .
وحين رجع عبد الناصر من زيارته بدأ حرصه واضحا على تأكيد فكرة عدم الانحياز كأساس لسياسة الثورة العربية في الصراع الدولي . وبدا أيضا شعوره بأهمية خروج الثورة العربية الى العالم لتأخذ مكانها فيه. وقد اعتبر الزيارة دليلا على صحة هذه الوجهة التي سار فيها . ومما قاله في خطابه عقب عودته يوم 16 مايو 1958 شارحا أهم ما خرج به.
” هناك بعض الناس في أرجاء الوطن العربي يعتقدون انه لا يمكن للشعوب العربية أن تستقل . هناك بعض الناس يؤمنون الا سبيل لنا الا اذا خضعنا لكتلة من الكتل . انهم يجهلون خصائص الشعوب العربية ويجهلون مقومات الشعوب العربية ويجهلون القوة التي تنبثق منكم والتي رأيتها اليوم تجابه الحصار وتجابه الدول الكبرى .
ان محادثاتي مع زعماء الاتحاد السوفيتي انما كانت تمثل المحادثات بين الشعب العربي الحر القوي والدول الصديقة التي لا تبغي شيئا.
اننا أيها الاخوة نحن العرب لأول مرة في تاريخنا الحديث نخرج الى العالم ونشعر بكياننا ونشعر بقوتنا
ونشعر باستقلالنا ونشعر ان سياستنا تنبع من أرضنا وان دفاعنا ينبثق من منطقتنا…
لقد أعلنا سياسة الحياد الايجابي وسياسة عدم الانحياز. وقد لقيت من قادة الاتحاد السوفيتي ومن الشعب السوفيتي كل تقدير وكل احترام لهذه السياسة “.
زار عبد الناصر الاتحاد السوفيتي مرة ثانية بعد شهرين من زيارته الأولى حين تصاعدت الأحداث في المنطقة أثر ثورة 14 تموز بالعراق . كانت الأحداث قد بدأت في التوتر قبل ذلك على أرض لبنان. وبدا واضحا ان اميركا وبريطانيا على وشك التدخل المسلح في المنطقة. وهكذا قطع عبد الناصر رحلة العودة من يوغسلافيا وطار فجأة الى موسكو وعاد من هذه الزيارة بنتائج حسنة اجمالا عبرت عن مبدأ التعاون بين سياسة عدم الانحياز والاتحاد السوفيتي في مواجهة التدخل الاستعماري وكشفت عن حدود هذا التعاون ضمن معطيات الوضع الدولي . ولكن قدر للعلاقة بين الثورة العربية والاتحاد السوفيتي أن تمر بأزمة شديدة ولم تمض سنة على هذه الزيارة بفعل ما شهدته ساحة العراق من صراع بين الشيوعيين والقوميين وبفعل الوجهة التي سار فيها عبد الكريم قاسم . ولقد وضعت هذه الأزمة على المحك وتضمنت في تضاعيفها تفاصيل توضح نظرة الاتحاد السوفيتي الأيديولوجية الى القومية العربية والى عدم الانحياز وهي نظرة تجمع بين العداء والريبة، كما كشفت في مجملها عن ضرورة التعاون رغم كل الاختلافات التفصيلية على صعيد معاداة الاستعمار الغربي، وحيوية هذا التعاون للطرفي! ن “(75)
ولعل مما ساعد على الوصول الى هذه المحصلة حدة عداء الاستعمار الغربي للثورة العربية في منطقة الوطن العربي. وقد تجلى ذلك في نزول القوات الأميركية في لبنان والقوات البريطانية في الاردن يوم 15 يوليو 1958، ثم في اعلان ايزنهاور بعد شهر مشروعه الذي يقضي بوضع قوة دولية في منطقة ” الشرق الأوسط ” باسم ” قوة السلام ” وبصفة دائمة. ونلاحظ ان الولايات المتحدة حاولت مرة أخرى حين استحكمت أزمة العلاقات السوفيتية العربية عام 1959 أن تنفذ الى الجمهورية العربية المتحدة فتقدمت الى عبد الناصر بعروض كبرى للمساعدة . ولكن عبد الناصر الذي آمن بالثورة العربية وبعدم الانحياز وقف متشبثا بسياسته المعادية للاستعمار، وشن حملات عنيفة على مبدأ ايزنهاور وعلى ما تضمنه من حديث عن الفراغ في المنطقة .
وتابعت الثورة العربية سيرها في طريق عدم الانحياز وقد زادتها التجربة تمسكا به. واهتمت اهتماما خاصا بأفريقيا التي كانت تموج بحركات التحرير. وقد قام تيتو في نهاية عام 1958 برحلة الى أفريقيا مبشرا بالسلام وبمبدأ عدم الانحياز، ومثل بناء على طلب عبد الناصر الجمهورية العربية المتحدة فضلا عن تمثيله لبلده (76).
وكان عبد الناصر يقول:
” ان عدم الانحياز ليس حالة ، انما تيار يستطيع كل من يحمل فكرته أن يمثله “.
وفي 30 يناير 1959 وصل الى القاهرة آلاف من شباب آسيا وأفريقيا لحضور مؤتمر الشباب الآسيوي الإفريقي وتشبعوا بفكرة عدم الانحياز.
وقام عبد الناصر في ربيع عام 1960 بزيارة رسمية الى الهند والباكستان في نطاق تدعيم سياسة عدم الانحياز وتحدث في برلمان الهند عن مدى ما تحقق في خمس سنوات مضت على انعقاد مؤتمر باندونج بفضل جهود التضامن الآسيوي الأفريقي وسياسة عدم الانحياز، سواء في نطاق هذا التضامن الذي كان يحاول أن يثبت وجوده فأكد اليوم حقيقته ، أو في نطاق أفريقيا ووقف التجارب الذرية والحرب الباردة ومحاولات فرض الأحلاف . وأعلن :
” والآن فان أعلام الحرية ترتفع في أفريقيا ، وشعوب هذه القارة المناضلة تحصل على استقلالها الوطني واحدا بعد الآخر “.
وقد رجع من تلك الزيارة التي استقبلت بترحاب عظيم على الصعيدين الشعبي والرسمي ليتحدث باسهاب عن مدى ما عززت قناعته بالثورة العربية وعدم الانحياز. وتباحث بعد عودته مع الرئيس سوكارنو الذي زار القاهرة في 23 ابريل 1960 حول اشعاع باندونج وسياسة عدم الانحياز.
وفي صيف ذلك العام عبرت الثورة العربية عمليا عن سياستها في دعم حركات التحرير الافريقية حين نشبت أزمة الكونجو. وقد تحرك عبد الناصر بسرعة وعن ايمان في مواجهة المؤامرات الاستعمارية على الكونجو. وأعلن في رسالة لنكروما يوم 15 يوليو انه يضع طائرات الجمهورية العربية المتحدة تحت تصرف حكومة غانا الى الكونجو . كما أعلن في رسالة الى داج هامرشولد السكرتير العام للأمم المتحدة عن استعداد الجمهورية العربية المتحدة لتقديم كل ما يطلب منها لمساعدة شعب الكونجو.
وفي 12 أغسطس وافقت القاهرة على طلب همرشولد باشتراك كتيبة عربية في قوات الأمم المتحدة في الكونجو وطارت الكتيبة الى هناك بعد يومين . وتبنت الجمهورية العربية المتحدة وبقية دول عدم الانحياز موقفا واحدا قويا في الأمم المتحدة عند مناقشة الأزمة في مواجهة الاطماع الاستعمارية.
وقد شهد خريف ذلك العام حضور رؤساء دول كثيرة دورة الأمم المتحدة الخامسة عشرة. وترأس عبد الناصر وفد الجمهورية العربية المتحدة لتلك الدورة . وكان سفره مناسبة لالتقائه بكثير من الرؤساء والتباحث معهم في الامور الدولية. وهكذا اجتمع بتيتو وخروشوف ونكروما وبكاسترو وايزنهاور ونهرو والحسن وماكميلان . وألقى عبد الناصر خطابه في الجمعية العامة يوم 27 سبتمبر وناقش فيه قضايا هامة كثيرة . وقد جسدت هذه الرحلة أمرين أساسيين كان عبد الناصر يؤمن بهما في تحرك الثورة العربية عالميا . أولهما هو ايمانه بالمنظمة الدولية وبأن لها دورا هاما في التفاهم الدولي . وكان زعماء جميع دول عدم الانحياز يدركون أن الأمم المتحدة هي المكان الذي تستطيع فيه الدول الصغرى أن تؤدي دورها العالمي . وكانوا يعتقدون ان دول العالم سوف تجتمع في الامم المتحدة ، ويأملون أن ميثاقها سوف يكون شريعة العالم . والامر الآخر هو ايمانه بأهمية الاتصالات المباشرة بين روساء الدول وزعماء العالم ” لان ذلك يمنح العلاقات الدولية نظرة انسانية تستطيع دائما أن تتلمس حتى في وسط الأزمات المحتدمة اسبابا للأتصال ” (77) .
تحدث عبد الناصر في خطابه بالجمعية العامة شارحا نظرة الثورة انعربية للأمم المتحدة التي يجب أن تكون للجميع وتفتح بابها للصين الشعبية، والتي هي مبادىء الميثاق وأحكامه. وتناول بالتفصيل أزمة الكونجو وما حدث من إستغلال الاستعمار للأمم المتحدة فيها وعرض قضية فلسطين وقضية الجزائر . وشرح نضال شعوب العالم الثالث لتحقيق الحرية الاقتصادية، وطرح تصوره لدور الأمم المتحدة في حمل رسالة دفع الحرية الاقتصادية جنبا الى جنب مع الحرية السياسية… وطالب بالقضاء على الأسلحة النووية وخفض ميزانيات التسليح وازالة القواعد العسكرية ووجه نداء الى ايزنهاور وخروشوف يدعوهما للاجتماع فورا من أجل السلام . وحضر عبد الناصر قبل انتهاء الرحلة مؤتمر لأقطاب الحياد مع نهرو و تيتو وسوكارنو ونكروما . ودعا هذا المؤتمر الدولتين الكبيرتين الى بحث المشاكل المعلقة بالمفاوضات. وكان ذلك تدخلا مباشرا في الشؤون الدولية الخارجية عن قضايا العالم الثالث أكدوا به مسؤوليتهم في الشؤون الدولية العامة.
كان لهذه الرحلة أهميتها في بلورة فكرة العالم الثالث من خلال الممارسة. وقد حققت الثورة العربية فيها نتائج هامة على الصعيد الدولي وأثبتت عمليا ان لها مكانها في العالم المعاصر. وهكذا استطاعت خلال سنوات خمس مضت على انطلاقتها الدولية في باندونج أن تقطع شوطا ليس بالقليل . ولقد تحدث عبد الناصر بعد عودته عما حققته الرحلة لجماهير الشعب ثم في مجلس الأمة. وخطابه هذا في مجلس الأمة كخطابه في الأمم المتحدة يعتبران من الوثاتق الهامة في شرح النظرة الدولية للثورة العربية . ومما جاء في ختام خطابه بالأمم المتحدة :
” لقد بذلت جهدي حتى لا يطفي احساسنا الخاص بقضايانا المحلية على الاحتمالات الخطيرة في الموقف الدولي الآن . واذا كنت قد أشرت دون دخول في التفاصيل الى بعض هذه القضايا، فلقد قصرت تعرضي لها على الناحية التي تربطها عموما بالسلام وبالأمم المتحدة ومن الواضح على أي حال اننا نؤمن بأن خدمة السلام في مجاله العام هي في نفس الوقت خدمة لقضايانا.
كذلك فاننا نؤمن بأن سيادة الأمم المتحدة معناهـا سيادة المبادىء وغلبة القانون والعدل على أحلام الغزو و السيطرة .
بل اننا نؤمن ان جو السلام القائم على العدل هو خير جو يستطيع وطننا فيه أن يباشر تطوره وأن يفتح الطريق أمام آماله في تغيير أوضاعه واعادة صنع مجتمعه على أساس جديد…
وانكم تعلمون ان تيارا ثوريا وطنيا يجتاح الآن بلادنا ، بل اننا نقول ان وطننا يعيش الآن ثلاث ثورات في وقت واحد … ثورة سياسية… وثورة اجتماعية… وثورة عربية … واننا لنعلن اننا نؤمن بأمة عربية واحدة ..
واذا جاز لي أن أتقدم امامكم الأن بحلول لما يواجهنا من مشاكل فانني أجد خير ما يمكن أن أقدمه لكم هـو صورة من تفكيرنا عندما كنا تسعا وعشرين دولة آسيوية وأفريقيه اجتمعت في باندونج وناقشت مشاكل العالم وقتها ، ومع الأسف أنها نفس المشاكل التي ما زالت تواجهنا اليوم مع بعض الاختلاف في التفاصيل..
اننا نقدمها هنا طريقا للسلام وطريقا للحرية وطريقا للرخاء للبشر كلهم على اختلاف أوطانهم وألوانهم وأديانهم بلا تفرقة أو تمييز “.
وأعطت الثورة انعربية بعد رحلة عبد الناصر الى الأمم المتحدة اهتماما خاصا لأفريقيا التي كانت ترتفع فيها أعلام الحرية ، والتي كانت تخوض ضد الاستعمار معركة ضارية . فقدمت الثورة العربية ما تستطيع تقديمه لحركة التحرير الأفريقية، فضلا عن انشغالها المباشر بثورة الشعب العربي الجزائري التي كانت تمر آنذاك بفترة دقيقة . وكانت ثورة الجزائر كجزء من الثورة العربية تقدم المثل الذي يحتذى لشعوب القارة الأخرى . وقد نشط عبد الناصر في الشهرين الاخيرين من عام 1960 أفريقيا وأعلن في ذكرى تفجر ثورة الجزائر ان مساندة الجمهورية العربية المتحدة لشعب الجزائر لا تقف عند حد. كما زار السودان يوم 15 نوفمبر وبعث برسائل حول ازمة الكونجو الى عدد من رؤساء الدول الآسيوية والأفريقية.
وضمن هذه الانطلاقة الأفريقية انعقد مؤتمر الدار البيضاء في يناير 1961 وحضرته ج . ع . م . وغانا وغينيا ومالي والمغرب والجزائر (الحكومة المؤقتة) . وأعلن المؤتمر ” تصميم الدول المجتمعة على تحقيق النصر للحرية في القارة الأفريقية كلها، واقامة صرح وحدتها ” وطالب عبد الناصر بحلول عملية لمشكلة الكونجو، كما أعلن ان الصحراء الكبرى لم تعد فاصلا بين دول أفريقيا . واعتبر المـؤتمر ان اسرائيل قاعدة عدوانية استعمارية ضد الشعوب الأفريقية. واكدت دوله تصميمها على المحافظة على وحدتها في الرأي والعمل في الميدان الدولي وترسيخ أقدام هذه الوحدة وتعزيز السلام في العالم عن طريق تبني سياسة عدم الانحياز… ولقد حدد عبد الناصر طبيعة المرحلة التي تمر بها آلقارة في خطابه بالمؤتمر.
” لقد كان في فكري دائما انه اذا كان العام الذي مضى عام 1960- عام أعياد الاستقلال في أفريقيا فان هذا العام الذي بدأناه- عام 1961- يجب أن يكون عام حماية الاستقلال ودعم تعاوننا الأفريقي حتى لا نكتفي من الاستقلال بالعيد … ولقد رأينا في السابق ان ما تصورناه عيدا للانتصار كان في واقع الأمر يوم الخطر الأكبر “.
والحق ان خطرا كبيرا كان يهدد حركة التحرر الأفريقية. وما أسرع أن نجح الاستعمار في تدبير جريمة اغتيال باتريس لومومبا في أعقاب مؤتمر الدار البيضاء . وقد وقفت الثورة العربية تندد بالجريمة وأعلن عبد الناصر يوم 13 فبراير أن جريمة اغتيال لومومبا سوف تؤذي الضمير الانساني كله . وسارعت الجمهورية العربية المتحدة الى الاعتراف بجيزنجا رئيسا لوزراء الكونجو. وخرجت القاهرة في جنازة شعبية من أجل لومومبا ، واستضافت أسرته للاقامة بها وطلبت أن يبحث مجلس الأمن مؤامرة تصفية استقلال الكونجو . وكتب عبد الناصر الى جون كيندي رسالته الأولى بمناسبة اغتيال لومومبا وضمنها مشاعره تجاه المأساة الاليمة وأفكاره حول أفريقيا وذلك ضمن سياسة الاتصال المباشر التي سار عليها . وقد حدد في الرسالة ثلاث عوامل تثير قلقه وهي الجريمة التي ارتكبت وما يمكن أن ينشأ عنها من أخطار والموقف العصيب الذي صارت اليه أعمال الأمم المتحدة في الكونجو، والصدمة التي تلقتها الشعوب الأفريقية المتطلعة الى أملها بعد ليل استعماري طويل . وطرح أفكارا محددة فيما ينبغي عمله دوليا (78).
وفي نطاق الحشد لمجابهة هذا الخطر الكبير جاء افتتاح مؤتمر الشعوب الأفريقية في القاهرة يوم 24 مارس . وقد قال عبد الناصر لوفـود المؤتمر ان المعركة ضد الاستعمار مستمرة . وحدد خطآن وقع فيهما النضال الأفريقي وهما ، وهم استسلام الاستعمار وتفرق كلمة أفريقيا . وطالب بازالة القواعد العسكرية الأجنبية واستعادة الأراضي والمناجم الأفريقية .
وكانت الثورة العربية دائبة على تبني قضايا التحرر الأفريقي منذ أن تصدت لحمل مشعل الحرية في أفريقيا بعد باندونج . وقد جعلت من القاهرة المركز الأول للوطنيين الأفارقة ، فأسست فيها ” الرابطة الافريقية ” التي قامت بدور هام في مجال الكفاح السياسي لأبناء القارة المضطهدين والمنفيين من المناضلين ، وفي مجال الاعلام عن حركات التحرر. ودربت هذه الرابطة قيادات كان لها دورها في الكفاح في أوطانها . وافتتحت في القاهرة مكاتب لحركات تحرير الكاميرون وأوغندا والصومال وجنوب أفريقيا واتحاد روديسيا ونياسلاند وكينيا وموزمبيق والنيجر ونبجيريا و تشاد وزنزبار. وخصصت القاهرة اذاعة وطنية موجهة ” لأفريقيا الحرة ” تذيع باللغات الصومالية والسواحلية والأمهرية والهوسا فضلا عن الانجليزية والفرنسية . وأصبحت القاهرة مسرحا للقاءات ومؤتمرات ثورات أفريقيا . وقد عقد فيها خلال ستة شهور تمتد بين ديسمبر 1965 ويونيو 1961 عدة مؤتمرات ساهمت على مستويات مختلفة في حركة تحرير القارة من بينها مؤتمرات ” اجلوا عن أفريقيا ” ومؤتمر نساء أفريقيا والمؤتمر الثالث لشعوب أفريقيا ومؤتمر تضامن شعوب أفريقيا وآسيا . وبلورت هذه المؤتمرات تو! صيات محدودة حول ” خلق منظمة مشتركة لمساعدة حركات التحرر في أفريقيا، وضرورة القضاء على الاستعمار في أفريقيا بكل الوسائل الممكنة السلمية وغير السلمية والنظر الى الحكومات الاستعمارية في بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وهولندا واسرائيل وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة باعتبارها المخطط الأساسي لسياسة الاستعمار الجديد “. وفتحت القاهرة أبواب معاهدها وجامعاتها العلمية وكلياتها العسكرية أمام أبناء شعوب القاهرة فكان فيها عام1960 أربعة آلاف طالب أفريقي وهو يماثل العدد الذي كان يدرس في فرنسا . وكان لهذا العدد أثره الهام في مجابهة الولاء الفكري للغرب بين كثيرين من المثقفين الأفريقيين الذيرا درسوا في أوروبا (79) .
وحققت هذه الجهود التي قدمتها الثورة العربية لحركة التحرر الأفريقي نتائج مباركة. وكان عام 1960 علامة كبرى في تاريخ القارة . فالى ما قبله كان فيها عشر دول مستقلة فاستقلت خلاله سبع عشرة دولة جديدة . واعتبر ذلك العام عام افريقيا . وخلال السنوات العشر التي تلت عام 1956 ظفرت اربع وثلاثون دولة افريقية بالاستقلال كما اوصلت هذه الجهود الى بناء منظمة الوحدة الافريقية عام 1963 وسنصل للحديث عنها.
كان تصدي الثورة العربية لهذا الدور في افريقيا جزءا من سياسة عدم الانحياز والحياد الايجابي مارسته عمليا وأغنت به هذه السياسة . وقد تتالت احداث في ربيع 1961 اوصلت الى عقد أول مؤتمر للدول غير المنحازة . ففي 17 ابريل زار تيتو الجمهورية العربية المتحدة وتباحث مع عبد الناصر حول الشؤون الدولية. ونشبت خلال زيارته أزمة خليج الخنازير في كوبا ، فبعث عبد الناصر رسالة الى فيدل كاسترو يعلن فيها تأييد الجمهورية العربية المتحدة لكوبا ضد العدوان الاميركي . وقد تضمن البيان المشترك بين عبد الناصر وتيتو استنكار العدوان على كوبا ومنع استخدام القوة في حل المنازعات العالمية. وفي 4 مايو بعث الرئيسان برسالة الى رؤساء الدول غير المنحازة يطالبان فيها بعقد اجتماع لرؤساء هذه الدول . وتلقت القاهرة رسائل من عدد من رؤساء الدول تتضمن الموافقة على الحضور وتباحث عبد الناصر في القاهرة يوم 16 مايو مع سيكوتوري وسوكارنو حول المؤتمر. وحين تلقى عبد الناصر رسالة من كينيدي تضمنت وجهة النظر الاميركية في أحداث كوبا رد عليه في 18 مايو برسالة مطولة حدد فيها عدم الانحياز كما تطرحه الثورة العربية.
” اننا في سياستنا الدولية نؤمن بعدم الانحياز. وليس عدم الانحياز من وجهة نظرنا سلبية وليس إنتهازية انما معناه بالنسبة الينا تحرير نظرتنا الى المشاكل الدولية من قيود الارتباطات غير الموضوعية وجعلها نظرة مستقلة تشارك ايجابيا في دعم السلام القائم على العدل وتبدي رأيها في كل مشكلة بوحي من هذا الاعتبار “.
وافتتح الاجتماع التمهيدي لمؤتمر الدول غير المنحازة في القاهرة يوم 5 يونيو وقرر دعوة اول مؤتمر لعدم الانحياز في بلغراد في سبتمبر 1961. ووقع عبد الناصر على الدعوة مع تيتو وسوكارنو. وحدد الاجتماع خمسة شروط ينبغي تـوافرها في الدول التي تريد الاشتراك في المؤتمر. وهذه الشروط هي أن تكون سياستها مستقلة مبنية على التعايش السلمي وعدم الانحياز، أو يكون اتجاهها وديا ازاء هذه السياسة. وان تكون مؤيدة لحركات التحرر الوطني . وأن لا تكون مشتركة في أي حلف عسكري جماعي يجعلها طرفا في الصدام بين الدول الكبرى . وأن لا تكون مشتركة في أي تحالف ثنائي مع دولة كبرى . وأن لا تكون قد سمحت لدولة أجنبية باقامة قواعد عسكرية في أراضيها.
وانعقد المؤتمر الاول للدول غير المنحازة في الاول من سبتمبر ببلغراد وحضرته اثنتان وثلاثون دولة على الرغم من ان ” بعض الدول الكبرى لم يبق مكتوف اليدين ” على حد تعبير تيتو في رسالة له لعبد الناصر قبيل المؤتمر. ” فقد بدأوا يزاولون الضغط على كل رؤساء دول عدم الانحياز من أجل حملهم على عدم حضور المؤتمر أو عدم ارسال ممثليهم اليه . على أن ذلك لا يمكن ان يقال بالنسبة الى معسكر من المعسكرين انما يمكن ان يقال بالنسبة اليهما معا. ” وجاء انعقاد المؤتمر في جو احتدم فيه الصراع بين المعسكرين أثر فشل مغامرة اميركا في كوبا وفشل لقاء خروشوف وكينيدي في فيينا وتصعيد القتال في لاوس . وقد سلم السفير السوفيتي قبل يومين من الانعقاد رسالة شخصية من خروشوف جاء فيها ان الاتحاد السوفيتي سيستأنف اجراء التجارب على الاسلحة النووية وهو أمر يخالف ما تنادي به دول عدم الانحياز من وقف هذه التجارب (80) .

وحدد عبد الناصر باسم الثورة العربية مفهوم عدم الانحياز في خطابه امام المؤتمر، وشرح دور الدول غير المنحازة في خدمة السلام القائم على العدل في العالم وفي تحرير الشعوب المستعمرة وتحقيق التعاون الدولى من أجل الرخاء.
” لا ينبغي أن يكون هناك ما يوحي من قريب أو بعيد بأن الدول الملتزمة بسياسة عدم الانحياز انما تصنع بنشاطها كتلة دولية ثالثة. اننا نعيش في عالم يعاني من الصراع بين كتلتين ولا نتصور ان تدخل العملية كتلة ثالثة تزيد من حدة هذا الصراع بدلا من أن تخفف وطأته.
ان ابرز ما يجمعنا هو التحرر من أي قيد سوى ما تفرضه المبادىء ورغبة كل منا بقدر طاقته أن يخدم هذه المبادىء. والحافز الذي جمعنا اليوم هنا بالذات هـو الحافز الذي لا يمكن بغير توافره أن تتاح الحياة لأي مبدأ من المبادىء وأعني به حافز السلام . ولا توجد قوة قادرة على خدمة السلام مثل مجموعة الدول التي تتبع سياسة عدم الانحياز . فان هذه الدول التي تعيش مشاكل عالمها لا تنعزل عنها أو تنفصل، والتي لا تخضع في مواقفها من هذه المشاكل لضغط كتلة من الكتل تحدد لها مواقفها وترسم لها اتجاه خطاها والتي تصدر في كل ما تراه بشأن هذه المشاكل عن دافع السلام القائم على العدل بصرف النظر عن أي اعتبار آخر. هذه المجموعة من الدول أقدر على أن تضع في خدمة السلام بنزاهة وتجرد كل طاقاتها المادية والمعنوية وهي لذلك اقدر على الحركة الطليقة النزيهة المتجردة.
انه في جو السلام وحده نستطيع أن نطور الحياة في بلادنا وان نزيد خصوبتها الخلاقة- وفي جو السلام نستطيع ان نساعد شعوبا غيرنا كثيرة ما زالت ترسف في الاغلال “.
وطرح عبد الناصر امام المؤتمر ستة اقتراحات يتعلق أولها بوضع خطة واضحة لدعم المفاوضات بين الكتلتين في محاولة لاذابة الجليد الفاصل بينهما . ويتعلق الاقتراح الثاني بتمكين الأمم المتحدة من أداء رسالتها. ثم تنص بقية الأقتراحات على اتاحة فرص التقدم أمام الشعوب التي لم تستكمل نموها الاقتصادي والاجتماعي وان تواصل دول عدم الانحياز جهودها من أجل السلام وأن تعمل على ضرورة تصفية الاستعمار وعلى تحريك كل القوى المستعدة للخير . وقد وافق المؤتمر على الاقتراح الأول وكلف أربعة أقطاب بحمل رسالتين الى خروشوف وكينيدي تطلبان اليهما ان يجتمعا ويتفاوضا من أجل السلام العالمي (81) . وقد حمل هذا الطلب معنى كبيرا ، فللمرة الاولى في التاريخ- كما قال نهرو آنذاك- تتقدم أقل الدول قوة بمطالب- ترقى الى مرتبة الأمر- لأكتر الدول قوة في العالم . ومع أن المبعوثين الاربعة لم ينجحوا في مهمتهم الا ان الموقف العنيد لدول عدم الانحياز حيال استئناف التجارب النووية ساعد على ابرام الاتفاق الجزئي على حظر التجارب النووية بين اميركا وروسيا.

رابط التحميل
https://drive.google.com/file/d/1mb4U8MHhxBo8u81bC6bnEm_uKq1OKpUO/view?usp=sharing

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *