عبد الحق العاني
الصراع ما بعد 2003
انتهيت في الجزء السابق الى السؤال عن ما آل اليه الصراع بعد عام 2003.
لقد غير غزو الصهيونية للعراق واحتلاله قواعد الصراع وفرض ظروفاً جديدة في المنطقة. وحقيقة غزو العراق أبعد بكثير مما يبدو للعيان وأعمق مما كتب عنه الكتاب أو فهموه. ذلك لأن احتلال ما بين النهرين هو نقطة فاصلة في تأريخ المنطقة كما كان الحال على مد العصور. ولا يمكن للإدعاء بأن إيران ساهمت في، أو ساعدت على، غزو العراق أن يكون ستراً على الجريمة الأكبر وهي أن العرب، كل العرب، شعوباً وحكومات ساهموا في حصار العراق وغزوه واحتلاله. فحصار الإبادة للعراق لإثني عشر عاماً طالبت به الحكومات العربية وساهم فيه المواطن العربي الذي وقف متفرجاً. أما الغزو العسكري والاحتلال فقد انطلق من أرض عربية، لا تركية ولا فارسية!
لقد كان لإيران رغبة في دمار العراق القومي لأنها أدركت وتدرك أن العراق العربي القومي يقف أمام مشروعها الإيراني في التوسع والهيمنة وهذا ينطبق على جناحي السلطة في إيران، ولاية الفقيه والعلمانيين الفرس. وحين اقترب موعد غزو العراق واحتلاله في الحلقة التالية من مشروع الهيمنة الصهيونية على المنطقة فإن إيران وجدت في ذلك فرصة لإنهاء المشروع القومي في العراق وبناء قوة موالية لها فيه بانتظار ما ستؤول اليه الأمور. وهكذا كان.
واعتقد كل من الإيراني والصهيوني أنه يستغل الآخر لمشروعه. فقد أرسلت إيران العراقيين الذين دربتهم خلال سنين ليكونوا نواة القوة العسكرية الجديدة بعد الغزو والخراب. أما الصهاينة الذين احتلوا العراق فلم يكن لديهم من الخونة العراقيين الذين جاؤوا معهم ما يمكن أن يشكل نواة قوة عسكرية تمسك بالأرض. كما إن قرار حل الجيش العراقي هو أحد أهداف الغزو الصهيوني الأولى ذلك لأن حل أي جيش عربي هو نصر للصهيونية. لذا فقد وجدوا أن لا بد لهم من الاستعانة بالقوة المدربة والمسلحة القادمة من إيران. وهكذا قام التفاهم على المهادنة في وقت كان يطمع كل طرف أن ينتهي الأمر لصالحه. أي أن الصراع الإيراني الصهيوني على العراق انتقل منذ الأسابيع الأولى للاحتلال ولو جزئياً إلى صراع داخل العراق على العراق وليس صراعاً خارج العراق عليه كما كان قبل الغزو.
ولعل من المحزن أن يكتشف دارس التأريخ أن موقف إيران هذا من غزو العراق والذي يجب أن يفهم من جهة هدف إيران في الهيمنة على المنطقة رافقه مؤشر خطير في اكتشاف فشل المشروع القومي العربي في التجذر في العراق حيث كان يجب أن يكون. فقد صمتت المرجعية الشيعية في العراق عن التصدي للغزو والاحتلال، وهو واجب ديني شرعي استندت له المرجعية لاحقاً حين دعت للجهاد ضد الدولة الإسلامية بعد سنوات. ولا بد أن يفهم هذا الصمت على أن المرجعية اعتقدت أن الولاء المذهبي أسبق من الولاء الوطني القومي لأرض العرب، حتى وان لم تكن المرجعية الشيعية في العراق موالية للفقيه.
وصمت شيعة آخرون في أرض العرب، لا أشك في صدق انتمائهم في معركة الصراع مع الصهيونية، وللسبب نفسه كما يبدو. وهو أمر لا يمكن لي أن أقبله ولا أغفره.
فما الذي كشفه الغزو والاحتلال، ونتج عن، مما دعم الصراع على العراق؟
لقد كشف الغزو الصهيوني للعراق الكثير من الخلل في مفهوم الحكم بالحزب الجماهيري والذي ثبت عجزه في النظام الشيوعي في مرحلة متزامنة مما ليس هذا مكان عرضه. لكن أهم نتيجة كشفها الغزو والاحتلال هي أن حزب البعث لم يكن بالقوة والتماسك العقائدي الذي كان قادته يعتقدونه. فقد تهاوى حزب الملايين في ايام وتبين أن أكثر المنتمين اليه كانوا منتفعين لا مؤمنين. أما القلة القليلة التي آمنت بالمشروع القومي فقد أمكن تحييدها أو التخلص منها بسهولة.
فاذا بالعراق يتحول الى ساحة خالية سرعان ما امتلأت بحركات دينية، كانت حتى وقت قريب وهمية في وجودها وطاقاتها، الى جانب أجهزة مخابرات عالمية صهيونية في أغلبها وشركات حماية أمنية هي في حقيقتها جيوش سرية تعمل تحت الغطاء الأمني ويمكن تفعيلها في أي وقت لأي هدف تختاره الصهيونية.
وقد ظهر الإسلام السياسي المفلس على حقيقته فهو لا يمتلك أية رؤية لإقامة دولة خارج الشعارات المذهبية التي تحرك غرائز الناس. والشعارات الدينية لا تبني دولة. فقد مضى 16 عاماً على الغزو وثلاث دورات انتخابية ولم أقرأ برنامجاً سياسياً واحداً حتى اليوم لأي حزب عن الدولة المرجوة!
وتبين أن هذه الأحزاب اصبحت عربة يركبها الفاشلون للوصول الى مناصب في الدولة من أجل الإثراء الفاحش بالفساد والسرقة والرشوة. ولعل من المحزن أني شاهدت عدداً كبيراً من أصدقائي المتعلمين، وهم من الشيعة على الأغلب، يتهافتون لدعم النظام السياسي المذهبي الجديد متناسين ما كانوا يدعون من انتماءات ماركسية أو قومية أو يسارية علمانية. ولا أشك أن أكثرهم اليوم نادمون على ذلك التدافع لدعم النظام السياسي الذي أنشأته الصهيونية في العراق بعد غزو 2003.
وقد وجدت إيران أنها أمام صعوبة كبيرة لا تواجهها الصهيونية في أدارة العراق. وسبب ذلك هو اختلاف هدف الطرفين حول مستقبل العراق. فإيران كانت تريد دولة قوية تحت وصياتها تؤمن لها حدود أمنها القومي الغربية وتساعدها غلى مد هيمنتها لباقي أرض العرب. أما الصهيونية فكانت تريد دويلة ضعيفة مقسمة استهلاكية، كحال دول مجلس التعاون الخليجي، تعيش في فوضى مادام بالإمكان التحكم بتلك الفوضى وعدم خروج الأمر عن سيطرتها. فدولة الطوائف هي اسهل دولة للتحكم حيث تسعى كل طائفة ضعيفة لإكتساب ود الصهيونية من أجل بقائها باذلة في سبيل ذلك كل ما تملكه من بقية كرامة ان كان لها كرامة في الأصل. وحتى لا يطعنن أحد بهذا الإستنتاج فإني أدعو كل عراقي يريد أن يعرف حقاً ما تريده الصهيونية للعراق أن يقرأ مجموعة القوانين التي اصدرها “بريمر” الرئيس المطلق لما سمي من باب الإستخفاف بنا “سلطة الإئتلاف المؤقتة”. ومن لم يقرأ تلك القوانين بجملتها، بل ان من ليس لديه نسخة منها يمكن له الرجوع لها متى شاء، فهو ليس مهتماً بالعراق ومستقبله ولا يحق له أن يتحدث عن كل ما يتعلق بالعراق لأن من لم يفهم ما الذي تريده الصهيونية من غزو العراق واحتلاله لا يمكن له أن يفهم ما يحدث اليوم.[1]
أما إيران فلا ينفعها عراق مقسم وضعيف تتنازعه صراعات قومية أو مذهبية لأن ذلك لا بد وأن يمتد لها ويعبث بأمنها القومي بسبب حقيقة تركيب الدولة الإيرانية. لكن الخطر الأكثر مداهمة هو وصول القوات العسكرية الصهيونية الى الحدود الغربية لإيران. كما أن تحول العراق الى ساحة مفتوحة لكل أجهزة المخابرات الدولية وامكانية عبور منتسبي تلك الأجهزة بسهولة، وعلى الأخص من شمال العراق، الى داخل إيران شكل وما زال كابوساً دائماً.
وحيث إن الصهيونية هي التي احتلت العراق عام 2003 فان كل فعل جديد في العراق كان لها أما إيران فإن أغلب ما كانت تقوم به هو ردة فعل في عمل يتصدره الشعور بتهديد أمنها القومي. ولا ننسى أن العراق عام 2004 أصبح أكثر تهديداً للأمن القومي الإيراني مما كان عليه عام 2002. فقد قام المحتل الصهيوني للعراق، سواء أوقع اتفاقيات أمنية مع عملائه من الأشخاص، الذين لا يليق بي أن اكرمهم بذكر اسمائهم، أم لم يوقع، بتحويل العراق إلى واحدة من أكبر القواعد في أرض العرب. فالسفارة الأمريكية في بغداد هي أكبر سفارة لأية دولة في العالم من حيث عدد منتسبيها، وأشك ان وزارة الخارجية العراقية تعرف حقاً عدد منتسبيها. أما رجال المخابرات الصهاينة العاملين في العراق، ايا كانت جنسياتهم، فلا يعلم عددهم إلا الله! ثم هناك رجال الشركات الأمنية، وهم في حقيقة الأمر جيش المرتزقة الجاهز للعمل عند الضرورة. وأولاء لا أعتقد أن أية سلطة في العراق تعرف عددهم أو جنسياتهم أو خلفياتهم! وهناك خلايا الموساد التي وصلت كل زاوية في العراق بعد أن كانت قبل عام 2003 محصورة في شمال العراق منذ معركة هندرين في ستينيات القرن الماضي.
وهناك القواعد الأمريكية المنتشرة في كل العراق والتي تتحرك ليس فقط دون إذن من السلطة الوهمية لحكومة بغداد وانما دون علمها. فحين تحرك رتل من الآليات العسكرية من البصرة حتى الحدود الأردنية لم يسمع بالخبر رئيس الوزراء العراقي الا من وسائل الإعلام الغربية كما سمعنا نحن.
وقد يبدو هذا الاحتلال مخيفاً في أبعاده، لكن الأدهى من كل ذلك هو الهيمنة الجوية الصهيونية المطلقة على سماء العراق. فليس في العراق من مسؤول (اذا صح لنا أن نستعير هذه الكلمة العربية الجميلة) يعرف حقاً ما الذي تمتلكه الصهوينة في العراق من سلاح جوي وأجهزة تجسس واستطلاع وفي أي قاعدة وما اذا كانت الصهيونية قد وضعت سلاحاً نووياً في العراق، ووووو..
إن هذه الحقائق التي أعرفها ولا بد أن إيران تعرفها قبلي، بل وأفضل مني، هي التي تجد إيران أن عليها أن تتعامل معها من أجل حماية أمنها القومي. ولا يصح أن ننسى ونحن نحاسب إيران على ما فعلت في العراق أن إيران لم تأت بالصهاينة للعراق ليصلوا حدودها. وإنما الذين جاؤوا بالصهيونية للمنطقة هم العرب عموماً وشريحة كبيرة من أهلي العراقيين البائسين. وحين أقول هذا فاني لا أحاول أن أجد الأعذار لإيران لكني أرغب في أن يكون التحليل موضوعياً وعقلانياً. ذلك لأن مما ساهم في التدخل الإيراني في العراق هو ان العراق تحول، بفعل ابنائه، الى ساحة صهيونية على حدود بلاد فارس مما يعرض أمن تلك البلاد للخطر. كما أن الوجود الصهيوني المستبيح لأرض العراق حدد إمكانية المشروع الإيراني من الإمتداد غرباً.
سأكتب في الحلقة القادمة “ما الذي فعلته إيران امام الوجود الصهيوني المستبيح للعراق؟”
عبد الحق العاني
7 كانون الأول 2019
[1] جمعت تشريعات المحتل كلها في كتاب من ثلاثة أجزاء ونشر على موقع أمازون ويمكن الحصول عليه من الرابط التالي: