صدمت بما كتبته الأستاذة الكبيرة أمينة شفيق في مقال بالأهرام بتمجيد ديليسبس تحت عنوان ” لماذا لا نعترف بحقيقة تاريخنا ” قالت فيه : إنها تخجل كلما تتذكر يوم أن وقفت بين جموع شباب بورسعيد والمحتفل بانتصار بلاده عام 1956 على العدوان الثلاثي وإسقاط تمثال ديليسبس عن قاعدته ، وإنها كم كانت مخطئة لعدم التفرقة بين الحقائق التاريخية الدامغة والسياسات الاستعمارية ، وان ذلك التمثال كان لرجل أعمال ثاقب الفكر امتلك فكرة لمشروع ملاحي عظيم … وإنها اليوم تطالب بعودة هذا التمثال الجميل إلى موقعه ( !! )
ونحن نقول للكاتبة الكبيرة إن الذي يحكم على ديليسبس بالدرجة الأولى أساتذة وعلماء التاريخ الذين اطلعوا على الوثائق والمخطوطات والبحث الدقيق وما اخترناه منهم يشهد الجميع بعلمهم وخلقهم
فالجنازة حارة. . والميت محتال ونصاب وصدرت ضده أحكام بالسجن . . سرق مشروع قناة السويس من زوجه مهندس فرنسي و ساعد على تنفيذ المشروع لصالحها . . وكان صاحب فكرة شراء انجلترا لأسهم القناة بثمن بخس لتصبح القناة مشروع استعماري
انه فردينالد ديليسبس الذي تدور حوله معارك متجددة مابين تكريمه وعمل متحف له وإعادة وضع تمثاله على قاعدة بمدخل القناة
فتاريخ ديليسبس تناوله كثير من الكتاب والمؤرخين وعلماء الآثار والتاريخ، وهو تاريخ غير مشرف ولكنه مشوق لما فيه من قصص وعبر
ومما كتبه مؤرخ الآثار مختار السويفي عنه : أن مشروع قناة السويس لم يكن مشروعه ، بل انه استولى على التقرير المساحي الذي أعده المهندس الفرنسي ” ج . م . لابير” احد مهندسي حملة نابليون على مصر ، وقد تضمن هذا التقرير مشروعا بحفر قناة لتوصيل البحر الأحمر بالمتوسط لاختصار المسافة بين أوربا والهند وغيرها من المستعمرات الآسيوية والإفريقية ، وان ديليسبس لم يقم بحفر القناة لصالح مصر بل كان هدفه الأول خدمة السياسة الاستعمارية الفرنسية ، وهو الذي أغوى الخديوي إسماعيل ببيع حصة مصر في شركة القناة ، وتولى الوساطة في الصفقة بين الخديوي وانجلترا التي اشترت الحصة من أسهم مصر بأبخس الأثمان وأصبحت شريكا لفرنسا في ملكية الشركة ، ثم دفعته أطماعه للقيام بمشروع حفر قناة بنما لتوصيل المحيط الأطلنطي بالمحيط الهادي ، وهو المشروع الذي كشف فساده بالرشوة وإفساد الذمم ، وهى جريمة أدت إلى تصفية شركة قناة بنما التي أسسها على نمط شركة قناة السويس ، وبعد أن انكشف أمره تمت محاكمته وابنه – الذي كان يساعده – أمام محكمة فرنسية عام 1893 وصدر ضدهما حكما بالسجن خمس سنوات. . وليس من المنطقي أن يكون شخص هذا تاريخه ويتم تخليده
ويقول د . حجاجى إبراهيم – رئيس أقسام الآثار بكلية الآداب جامعة طنطا – أن ديليسبس شخص لا علاقة له بالهندسة أو العمارة استطاع أن يحتال على زوجه المهندس الفرنسي وينجيرللى بعد وفاته وسرق المشروع والذي كان يحتفظ به بمنزله ، ثم قام بنسبه لنفسه ومن الطريف أن في بور سعيد شارع شهير يحمل اسم وينجيرللى
واستغل ديليسبس صداقته بالخديوي سعيد والذي حكم مصر في 14 يوليو 1854 وعرض عليه مشروع شق قناة السويس ، ووافق الخديوي سعيد وأصدر ” فرمان ” امتياز بعقد بتاريخ 30 نوفمبر من نفس العام أي بعد توليه الحكم بأقل من خمسة شهور ! وقام ديليسبس بتكوين شركة تحمل اسم ” الشركة العالمية لقناة السويس البحرية ” وطلب من السلطات الفرنسية حث الشعب الفرنسي على المساهمة بأكثر من نصف رأس مال المشروع ، وأخذ في حث السلطات المصرية لإجبار المواطنين على الحفر بالسخرة، وبدأت أعمال حفر القناة في 25 ابريل 1859 من مدينة الفرما ( بور سعيد ) وتوفى الخديوي سعيد في يناير 1863مع حفر نصف مسافة القناة ، وتواصل الحفر في عهد الخديوي إسماعيل حتى تم الانتهاء من القناة في 18 أغسطس 1869 بعد أن لاقى نحو 125 ألف مصري حتفهم نتيجة الحفر بالسخرة، وتم افتتاح القناة في 16 نوفمبر 1869 في حفل أسطوري وتمت فيه دعوة نحو ستة آلاف شخص ، وهو الحفل الذي كلف الخزانة المصرية أموالا طائلة ، ومن الطريف أن الخديوي إسماعيل كان مغرما بالملكة اوجينى زوجة نابليون الثالث فقام بشراء وبناء أفخم القصور لمجرد احتمال مبيتها في إحداها -عقب وصولها على اليخت ” النسر ” – ومنها قصر سمي باسمها في مدينة السويس وقصر عمر الخيام بالزمالك وقصر منتجع مينا هاوس بالهرم وقد تحولت مؤخرا إلى فنادق – وقصر عابدين والذي أصبح مقرا للحكم
أما اغرب المفاجآت فقد جاءت فيما ذكره السفير محمود قاسم بان التمثال الذي كان الخديوي إسماعيل يعد لوضعه بمدخل القناة هو تمثال الحرية الموجود بنيويورك بأمريكا
فقد طلب الخديوي إسماعيل من الفنان الفرنسي الشهير بارتولدى عمل تمثال على هيئة فلاحة مصرية بملابسها القروية تحمل مشعلا بيدها كفنار يهدى السفن إلى مدخل القناة وكرمز للأصالة المصرية والتنوير والمعرفة، وان ينبعث النور من غطاء الرأس رمزا عن أن مصر حاملة وناشرة الحضارة والثقافة ، وان يكون التمثال بارتفاع لا يقل عن 100 متر ليصير اكبر من تمثال روديس والذي كان يعد احد عجائب الدنيا السبعة وكان يستخدم كفنار في العصور القديمة . . وتمت دعوة الفنان الفرنسي لزيارة الآثار المصرية ورؤية التماثيل خاصة الضخمة منها والذي انبهر بها ، وبالفعل بدأ في عمل التمثال إلا أن الضغوط الاقتصادية والسياسية التي واجهت الخديوي إسماعيل جعلته يعدل عن استكمال التمثال ، ولمواجهة بارتولدى لهذا الوضع قام بالاتصال ببعض الليبراليين الفرنسيين ممن كانوا يطالبون بان تقوم فرنسا بتقديم هدية للولايات المتحدة تعبر عن الحرية تولدى بعمل تعديلات في التمثال ليتماشى مع الهدف الجديد ومنها : في العيد المئوي لاستقلال أمريكا عام 1876 التذكير بدور فرنسا في مساعدة أمريكا على الاستقلال ، ومع مساهمة الشعب الفرنسي في التكاليف قام بار تولدى بعمل تعديلات في المثال ليتناسب مع الهدف الجديد ، فقام بتغيير وضع مشعل الفنار من الذراع اليسرى المناسبة لمدخل القناة إلى الذراع اليمنى لتتماشى مع مدخل بوغاز نيويورك ، كما قام بإجراء تعديلات طفيفة في ملامح الوجه مع الاحتفاظ بالعيون والنظرات الفرعونية السرمدية المليئة بالطيبة ، كما احتفظ بأصابع اليدين والقدمين الفرعونية للتمثال ، وقام بتعديل الرداء القروي المصري ليكون اقرب للرداء الروماني ، واحتفظ بحج التمثال ، إلا انه انتهى من عمله بعد مرور الذكرى المئوية حيث تم تثبيت التمثال على القاعدة بنيويورك في 23 أكتوبر 1886
وقد نجح ديليسبس في وضع تمثال له بمدخل القناة ببورسعيد إلى أن قامت المقاومة بنسفه بالديناميت اثر العدوان الثلاثي عام 1956 ، حيث كان يمثل رمزاً للاحتلال وللسخرة واستعباد مئات الآلاف من العمال والفلاحين الذين أزهقت أرواحهم من التعذيب في سبيل شق القناة
وبعد هذا الحادث نقل التمثال إلى احد مخازن هيئة قناة السويس قابعاً مع متعلقاته .. وظلت قاعدة التمثال خالية حتى وان اقترح الفنانين التشكيليين وضع تماثيل بديلة مناسبة
أما عن عودة تمثال ديليسبس فيقول الدكتور على رضوان (أستاذ الآثار والحضارة المصرية القديمة وعميد الآثار الأسبق – جامعة القاهرة ) .. إنني آمل أن يغلق ملف ديليسبس وتمثاله نهائيا ..فما يستحق الرجل وتمثاله أن يشغل بالنا ويصرفنا عما هو أهم وأجدى بالبحث والفحص والتأمل في وقت تحيط فيه بالأمة العربية والإسلامية حشود من الذئاب لا تشبع من الدماء ولا يفتر اهتمامها بإلغاء الأمتين إلغاء تاماً إن أمكن أو تقليص حجمها إلى ما يقرب من الصفر
إن البعض يراها ويريدها مفرنجة وذلك بتشويش جهالة مريبة فيها طمس ومسخ وعولمة ونراها بكل صدق ويقين مصرية وذلك بوثائق حضارة عتيدة فيها أصالة وشموخ وهوية .. رغم وجود من يستحقوا التكريم خاصة في مجال حفر القنوات وهو ما برع فيه قدماء المصريون
فبحسب طبيعة ارض مصر فلقد برع أهلها منذ عصورهم القديمة في شق الترع والقنوات التي تخدم وتنظم عمليات الري ومشروعات التوسع الزراعي وكان الملك العظيم سنوسرت الثالث هو صاحب الاهتمام الخاص ببلاد الشرق وكما سجل على لوح رجل الدول على أيامه المدعو سبك خو انه كان صاحب الفضل الأول في ربط النيل بالبحر الأحمر بواسطة قناة حفرها لتصل إلى منطقة البحيرات – بحيرة التمساح والبحيرات المرة –
ولذا فاننى أتوجه بالرجاء أن يتم تكريم ابن مصر العظيم سنوسرت الثالث بان نضع نسخ مقلدة من تمثاله الأشهر في الوضع واقفا فوق القاعدة الشهيرة عند مدخل القناة في بورسعيد ( الملك هنا بتاج الشمال الأحمر ) وأخرى عند مدخل القناة الجنوبية في السويس ( الملك بتاج الصعيد الأبيض ) والثالثة عند مدخل مبنى هيئة قناة السويس بالإسماعيلية الملك بالتاج المزدوج.
احتجاج بورسعيدي
وفى الوقت الذي حاول البعض الترويج للفكرة احتجت رموز بورسعيدية كبيرة من أبرزها الأديب مسعد عليوه وغيره
يقول البدرى فرغلى إن البعض يروج لوضع التمثال بحجة “أن التاريخ تاريخ” وأنا أتسائل هل التاريخ هو التاريخ الأجنبي ؟ أليس تاريخنا أيضا تاريخاً ؟ والا يعرف الجميع إن 125 ألف مصري دفنوا تحت قناة السويس وهم الأبطال الذين أحق بالتكريم ؟
إن المطالبين بعودة التمثال عن مصالح ضيقة وامتيازات فرنسية ويتجاهلون تاريخ مصر وللأسف هناك من الإعلاميين من يروج لمثل هذه الفكرة الخبيثة بعمل تمثال لديليسبس وكأنهم يبيعون تاريخ مصر ودماء أبناءها مقابل مجاملة الفرنسيين
ديلسبس دون جوان
وقد أصدرت حركة ” ثوار الآثار” وجبهة التحرير القومية مؤسسي حملة ” ضد عودة تمثال ديليسبس ” بيانا للاعتراض علي وضع تمثال جديد لديليسبس في بورسعيد.
وذكر البيان أن الحملة قامت ضد عودة التمثال حيث كان هذا الموضوع مطروحا أيام الرئيس المخلوع مبارك ، والمعروف أن وراؤه جمعية أصدقاء ديليسبس وهي جمعيه فرنسيه عالميه ذات فكر ماسوني ، وقد رصدت هذه الجمعية حوالي 50 مليون يورو للترويج للسياحة في بورسعيد كنوع من الرشوة المقنعة لوضع تمثال ديليسبس الذي انتزع امتياز استغلال القناة لمده 99 عام من الخديوي سعيد
وأن حفر قناة السويس ارتبط به أعمال السخرة والتعذيب للفلاحين المصريين من قبل الاستعمار والحكم لحفر القناة بالسخرة والإهانة مما أدي إلي موت عشرات الآلاف منهم جوعا ومرضى .
انه لو تم عمل مسابقة قومية لإنشاء صرح جمالي يعبر عن الكفاح المصري الذي ارتبط بتاريخ القناة سوف يقدم الفنانون التشكيليون أعمال رائعة وأهمها أن الفلاح المصري أولى بالتكريم بدلاً من تخليد المستعمر الجلاد والذي يجرى الإعداد لإعادة تمثاله وإقامة متحف له في سياق طمس مراحل من تاريخ مصر من اجل تحولات جديدة في المجتمع ومجاملة دولة استعمرتنا
وهناك تماثيل بالفعل تصلح لوضعها بمدخل قناة السويس ومنها تماثيل أثرية مثل سنوسرت ومنها أيضا تماثيل حديثة مثل تمثال حارس القناة للفنان صبرى ناشد، وتمثال “العبور” للفنان الراحل جمال السجينى، والذي يصور فيه كل رموز الكفاح ضد المستعمر في العصر الحديث، كما يمكن أن يقدم كبار الفنانين مثل د. محمد العلاوى ود. فاروق إبراهيم وزوسر مرزوق ومحمد رزق ومحمد سليمة وغيرهم من الفانيين التشكيليين وأساتذة النحت بكلية الفنون الجميلة أعمالا صالحة وأفيد وأكثر أثرا من تمثال ديليسبس
وسبق أن أصدرت حركة ” نحن هنا ” وهى حركة أدبية ببور سعيد بيانا حذرت فيه من استمرار تزييف الإرادة الوطنية بالضغط وبالإغواء لعودة التمثال
وأوضحت الحركة أن هذه القضية هي قضية وطن بأكمله وليست قضية فئة تقدم مصالحها الخاصة على مصلحة الوطن، وإذا كان لابد من وضع تمثال فليتم بحد متحفي بورسعيد القومي أو الحربي بشرط إيضاح مع التمثال بأنه سقط من فوق قاعدته أيدي المقاومة الشعبية ببور سعيد عقب عدوان 1956 الغاشم، فإسقاطه أيضا تاريخ ولكنه تاريخ مشرف
فما رأى الأستاذة أمينة التي كم تعلمنا منها ؟