بقلم :شادي عمر الشربيني *
* خريج معهد إعداد الكادر الناصري
“مع أن الدولة الرومانية الناطقة باللاتينية لفظت آخر أنفاسها في القرن الخامس الميلادي، فإن شيئا أخر تكون في أحشائها قدر له أن يفيد إلى أقصى حد من هيبتها وتقاليدها: وهو النصف الناطق باللاتينية من الكنيسة الكاثوليكية. لقد عاش ذلك النصف الكاثوليكي على حين ماتت الإمبراطورية لأنه كان يلجأ ويعتمد على عقول الناس، ولأنه ملك الكتب كما ملك جهازا ضخما من المعلمين والمبشرين يربط بين أجزائه، وهي أشياء أقوى من أي قانون ومن أي جيش.”
ه. ج. ويلز
كتاب :- موجز تاريخ العالم “ج1”
كان يجب أن تبدأ هذه الورقة المقدمة عن التثقيف وبلورة الناصرية أيديولوجيا بهذا الاقتباس، فهذه القطعة الجامعة تدل عن طريق رصد واقعة تاريخية مشهورة على أهمية وحيوية بل وحتمية العمل التثقيقي والفكري، وهو ما يبدوا لي مهمشا بشكل كبير في برنامج الحركة الناصرية، وكأن التاريخ لم يكن يجدد نفسه ويكمل مسيرته وصيرورته عبر الأفكار والايديولوجيات الكبرى.
إن الإنسان – بطبيعته – يرفض الجمود والبقاء على حال واحد، كائن يتطلع دائما إلى الأفضل والأعلى، ولا يكف عن الحركة والتفكير والحلم. إنه كائن مسكون بالقلق والتطلع لصعيد إنساني أعلى وأكثر تقدما يجدد فيه نفسه وحياته. وأي قراءة للتاريخ تستطيع أن ترصد أن البشرية كانت تجدد نفسها وتتجاوز أوضاعها عبر رؤى فلسفية جديدة للحياة والدنيا تتبلور في شكل ايديولوجيات تمنح الإلهام للجماهير، تجسد قلقها وتزمرها من أوضاع راهنة، وتعطيها الطاقة والقوة لتجاوز أوضاعها والاندفاع، في حركة انقلابية جذرية، إلى وضع إنساني أعلى أكثر تقدما ورحابة.
والأكيد أن أي ناصري، مخلص لمبادئه ومشروعه، يشعر بالألم ويعاني من انحدار وانحطاط الواقع العربي، يتجرع مرارة الألم والهزيمة التي أصبحت الآن الإنجاز الوحيد لحركة السياسة والمجتمع في العالم العربي. بل إنه على الأرجح فإن تلك المعاناة كانت الدافع الرئيسي ليصبح ناصريا، ومن هذا المنطلق يجب أن يدرك التيار الناصري حجم العبء والمسئولية التاريخية الملقاة على عاتقه. إنه تيار ينهض في مواجهة واقع عربي بائس ومهزوم، لذلك لا بديل له حتى يستطيع مواجهة هذا الواقع والانتصار عليه، أن يقود مواجهة جذرية وشاملة ضد هذا الواقع، والقضاء على اتجاهات تحاول أن تبرر هذا الواقع الأليم وتبرر أن تتعايش معه. بدون ذلك ستفقد الناصرية حيويتها الثورية، بل وروحها كحركة تقدمية تعمل على تهديم وتدمير واقع أليم، وإبداع وخلق مستقبل منبت الصلة عن هذا الواقع. ومن الرصد التاريخي يمكن القول أن الحركات التي نجحت في تحقيق حركتي النقض والتجديد، كان متسلحة بأيديولوجيا متكاملة الجوانب.
الطلقة الأولى في مثل هذه المواجهة، هي تجديد وبعث الإنسان العربي، إنه زمن مختلف أصبحت لا تجدي فيه أطلاق فكرية وعقائدية أنجزت مهمتها التاريخية منذ أمد بعيد واستنزفت قدرتها وحيويتها على موجهة حقائق الحياة الجديدة، ومن هنا يظهر ويتبلور أمامنا حتمية التجديد الأيديولوجي الذي ينبع من فلسفة إنسانية تؤمن أن محور وبداية التغيير هو الإنسان نفسه. فالتاريخ يؤكد في صيرورته أنه لا الفكرة – كما قال “هيجل” – أو المادة – كما قال ماركس – جدلية، بل الإنسان هو الكائن الجدلي الوحيد، هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يعي ذاته ويستطيع أن يخرج عنها ويقيمها كموضوع. لذا يصبح أي كلام عن التغيير لا يبدأ بالإنسان العربي ذاته، هو محض خيالات وعبث ينحدر إلى درجة الأوهام.
ومن هنا كان الإصرار على أن تكون عملية البلورة الايديولوجية والتثقيف هي قلب الحركة الناصرية النابض، فكل الحركات الكبرى التي أعطت الشعوب الطاقة والقوة والزخم وغيرت مجرى التاريخ، كانت تعتمد بشكل مبدأي وأولي على تثقيف الجماهير بأيديولوجية انقلابية تصور المرحلة التاريخية التي تمر بها تلك الجماهير والعلاقات التي تربط بينهم وبيتها، تثقيفهم بأيديولوجيا تنبع من الواقع وترجع إليه، أيديولوجيا ترى فيها الجماهير قوة أخلاقية يعتمدون عليها في حياتهم، ويجرزون منها أفضل ميزاتهم، تؤثر فيهم وفي الحياة المحيطة بيهم.
كلنا نعرف أن الأمة العربية تملك طاقات مادية واجتماعية وحضارية هائلة، ولكن على الرغم من كل هذا هي أمة مهزومة، مشتتة ومبعثرة، مستباحة إلى درجة الاغتصاب من الجميع…!!!
لماذا يحدث ذلك…؟؟!!!
لأنها أمة خاضعة لمجموعة من الكراسي والعروش والنخب القطرية والإقليمية التي لا تملك أفق ورؤية ومشروع للتقدم والتحرر، في الحقيقة فإنهم لا يملكون سوى التفريط في السيادة والأرض والكرامة، يتم تغطيته بإفراط في مظاهر السلطة والتكبر والاستقواء على الشعب العربي.
ولماذا هذا الخضوع المهين من جانب الشعب العربي…؟؟!!!
لأن الشعب العرب أصبح في غالبيته العظمى يعاني من فقدان الروح واحتقار الذات، يتمنى العربي لو لم يكن قد ولد عربيا، ويمزقه شعور إنه منتمي إلى أمة مهانة ومهزومة، ولا يملك في سبيل مواجهة كل ذلك سوى الاغتراب عن مجتمعه وعالمه ومحاولات يائسة وبائسة لخلع هويته التاريخية، هذا الاغتراب يتم تغطيته إما بقشرة من التدين لا تتمسك سوى بما هو أكثر الأطر رجعية وتخلفا في الدين، أو الانخراط في عملية تغريب شاملة.
هذه التركيبة من الاغتراب التي تستر بالدين أو بالتغريب، تستدعي بالضرورة انتماءات دينية وطائفية وعرقية بل وقبائلية تملئ فراغ الهوية القومية الجامعة، هكذا تتفتت الأوطان والمجتمعات العربية تحت سنابك التقسيمات الدينية والطائفية والقبلية، ويخسر الشعب العربي وحدته الشعورية بعد أن خسر من قبل وحدته السياسية، ويصبح مجرد ذرات من الغبار تكفي لبعثرتها أقل هبة من أصغر قوة استعمارية، ويكون الخروج من التاريخ قدرا محتوما لأمة فقدت الروح وغاب عنها المعنى.
من هنا نبدأ…
إنه لن يتسنى لهذه الأمة أن تعود للحياة، أن تقف وتصمد في وجه غارات البرابرة الجدد، إلا بعد أن تستعيد وحدتها وتماسكها.
من هنا نبدأ…
من هنا نعرف أن الملامح الرئيسية لبلورة الناصرية أيديولوجيا وتثقيف الناس بها، يمكن تحديدها في الآتي:
1- حتمية الوحدة:
لقد أثبتت التجربة التاريخية أن السبب الأول والمحوري لضعف الأمة العربية وهزيمتها هو تفككها وتشرذمها وبعثرتها، لذلك فإن تقديم أي نضال أخر على النضال الوحدوي محض وهم وعبث ومعاندة لا معنى لها لدرس التاريخ الماثل أمامنا جميعا.
ومن أجل هذا يجب وضع هذا النضال الوحدوي، النضال ضد القطرية، في القلب والمقدمة والصدارة، يجب أن يكون في قلب الأيديولوجيا الناصرية ومن أولويات العمل التثقيفي لحركتها هو بعث ونشر الفكر القومي، وبيان الطريق العلمي الصحيح لصالح توحيد الأمة العربية، والذي لن يتم دون إسقاط الأنظمة والمؤسسات والمصالح الاجتماعية والاقتصادية والايديولوجية…إلخ التي تقبل بل وتتعاش على التجزئة والدولة القطرية.
إن أحياء النضال الوحدوي ليس فكرة مجردة أو رغبة صرفة، ولكن الواقع العربي يكشف عند دراسته أن هناك إمكانات واتجاهات واحتمالات موضوعية ممكنة، يمكن أن تعلم نحو هذا الأحياء، إن توفر لها الوعي الصحيح الذي يستطيع استخدامها. إن توفر لها النظرية الضرورية لخلق هذا الوعي الجديد الذي يمكن به أدراك استخدام هذه الإمكانات، الاتجاهات والاحتمالات.
2- نقد الفكر الديني:
جميع حركات النهضة لم تستطع أن تشق طريقها بدون أن تبدأ بنقد الفكر الديني وتجديده من الجذور. ولا يجب أن ننسى أن الأديان الكبرى، مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، كانت ليست فقط نقد للفكر الديني الموجود في زمانها، بل وهدمه واقامة ابنية فكرية أخرى مختلفة في الجوهر والمعنى حتى وإن استعارت واستعانت ببعض الأدوات والشعائر والتشريعات والرموز من تلك الأديان التي هدمتها. لقد كانت تلك الأديان الكبرى في مراحلها الأولى تمثل تجاوز للواقع القائم وإخراج نفسية الفرد من الاستقرار والطمأنينة إلى النشاط والديناميكية، لذا تتبع ظهورها وانفجارها تشكيل أدوات حضارية جديدة تمثل نقض وتهديم جذري لما سبق من أشكال ثقافية واجتماعية وايديولوجية، مما جعل هذه الديانات، وأيضا ديانات أخرى، أداة لتجاوز ما هو موجود ومستقر، أدى للتجديد والخلق والابداع، بل وإعادة تشكيل التاريخ. ولكن بعد أن استنزفت قواها وإمكانات النمو فيها، خلال حركتها في التاريخ، تحولت إلى جزء مما هو قائم ومستقر، ونضبت قدرتها على التجديد، فتحولت إلى جزء من التقليد والجمود، وتحول رجال الدين من نخبة طليعية للتقدم إلى أدوات لشرعنة وتبرير الأوضاع القائمة ورد محاولات التجديد والخلق، وتصنيفها على أنها بدع تندرج تحت قائمة الضلالات التي هي في النار..!!!
لذلك لم يكن هناك بديل أمام جميع حركات التجديد والنهضة والتحرر، سوى أن تدخل في مواجهة مباشرة وحاسمة مع هذا الوجود الديني التقليدي، وأي حركة من هذا النوع جبنت وتراجعت عن هذه المواجهة فقدت فاعليتها وروحها الثورية. حركات التجديد والنهضة في أوروبا بدأت بالصدام مع ومواجهة الكنيسة، وأكدت نفسها وانتصرت عندما هدمت سلطة الكنيسة، أو حجمتها في أقل الأحوال، وحررت المجتمع والفكر والثقافة من قيودها، مما فتح المجال للقضاء على المجتمع الإقطاعي، والخروج من أسر القرون الوسطى بكل ما مثلته لأوروبا من ظلام وجهل وتخلف. وهكذا بدأت نهضة أوروبا بكل ما أنتجته من فكر وعلم وفن وثقافة، من تقدم هائل في التكنولوجيا وأدوات وقوى وعلاقات الإنتاج !! وهكذا يجب أن تبدأ أي حركة تغيير وتثوير تريد تحرير الإنسان ودفعه نحو صعيد أعلى.
جميع التطورات والتحولات الكبيرة، من الفيزياء والبيولوجيا إلى علم النفس والاجتماع، التي حدثت في العصر الحديث، فميزته جذريا عن جميع العصور السابقة، تعود إلى العلم ومنجزاته. وأي محاولة لتأسيس وتجذير الثقافة العلمية في العقل العربي بدون مواجهة شاملة مع الفكر الديني التقليدي، ونقضه وهدمه، هو عبث ومحاولة لقبض الرياح.
من أجل هذا التحرر من سلطة التقليد والجمود، من اجل استرجاع ثقة الإنسان العربي في ذاته وتحريرها من أساطير وأوهام سيطرت عليها أزمنة امتدت لمئات السنين، يجب أن يكون من أسس البلورة الأيديولوجية للناصرية وبرنامجها التثقيفي العام، نقد الفكر الديني من الأسس والجزور، وليس الوقوف عند مشاكل شكلية لا تقدم ولا تؤخر.
3- البناء الفلسفي:
من المدهش والمؤلم أن يقابل الكلام عن البناء الفلسفي لأيديولوجيا الناصرية بالسخرية والاستهزاء، وكأن التاريخ لم يندفع ويتحرك للإمام، بل ويعي ذاته نفسها، عبر أيديولوجيات ألهمت الجماهير وحركتها، ونبعت في الأساس والجذور من رؤى وبنى فلسفية متكاملة، استطاعت أن تمنح الظواهر والأحداث هوية في المعنى الذي تضفيه عليها.
إن هذا الاستهزاء وتلك السخرية تتجاهل أنه ليس هناك إنسان على وجه هذه الأرض يستطيع أن يعيش بدون فلسفة تقوم كقاعدة ودليل لسلوكه، فسلوك الإنسان لا يتحدد بحاجاته المادية والاجتماعية والنفسية في ذاتها، بل بهذه الحاجات كما يتصورها وعيه، كما يمثلها فكره، وهو أمر لا يمكن فصله عن التصورات والمفاهيم الايديولوجية والفلسفية التي تتسرب إلى ما يمارسه من فكر ووعي. هذه الفلسفة التي تترجم إلى أيديولوجيا هي الأداة التي ندرك بها أحداث الماضي، نكشف فيها عن طبيعته، ننظر بها إلى الحاضر نظرة تاريخية تمكننا من تجاوز الظواهر الخارجية، والامتداد إلى القوى التي تقف وراءها وتسودها، وبالتالي تهيأ للعمل السياسي وسيلة يستطيع بها تطويع الأحداث وتوجيهها نحو بناء المستقبل الذي يتطلع إليه.
ومن هنا يتضح أهمية هذه التصورات الكبرى لأي عمل ثوري، لأن هذا العمل يعني إيقاظ الوعي، وهو وعي ينتج عن إدراك طبيعة الوضع التاريخي الذي يحيط به والعلاقات الموضوعية التي تسوده.
في كل عصر تاريخي كبير يتميز بنشاط كبير، نجد، كما يكتب “هوايتهيد”، في ذروته وبين العناصر التي تقود إليه، نظرة كونية عميقة مقبولة ضمنيا، وتفرض نموذجها على مصادر السلوك السائدة. “داوسن” يكتب من الزاوية نفسها، أن “وراء كل حضارة توجد رؤية جديدة”.
إن أزمة التيار الناصري الكبرى، وهو التيار الذي فجر الثورة في المنطقة العربية وقاد عملية الانتقال إلى الحداثة والتقدم والتصنيع ومواجهة قوى الاستعمار والإقليمية والرجعية، هي أن العمل السياسي تقدم فيه على العمل الفكري، وفي أفضل الأحوال كان العمل الفكري يلهث وراء العمل السياسي ويجاريه، ولم يحاول مرة واحدة أن يسبق العمل السياسي ويضبطه ويمهد له الطريق، وكانت النتيجة، خاصة بعد رحيل القائد والمعلم جمال عبد الناصر، خضوع العمل السياسي العربي للعشوائية وغياب العقلية المنهجية التي تستطيع ان تضبط حركته وتوجهه.
إن غياب الفلسفة القادرة على قيادة وفرز أيديولوجيا متكاملة الجوانب، تمنح الجماهير الإيمان وطاقة الثورة والتمرد على قيود الإقليمية وذل التبعية، كان الكارثة الأولى والأساسية التي أدت إلى نضوب حيوية وقوة واندفاعة التيار الناصري والتيار القومي العربي بشكل عام، الكارثة التي أدت إلى ضعف مقاومة الجماهير عندما حدث التحول عن الناصرية بقيادة الثورة المضادة، لأن العمل السياسي القومي بشكل عام كان يعمل وسط فراغ أيديولوجي موحش ومخيف، فراغ أدى إلى غياب الإيمان اللازم عند الجماهير لمنحها صلابة مقاومة النكسات أو حتى الهزائم التي يعترض لها أي عمل سياسي اجتماعي ثوري في مجرى تحققه واكتماله.
جميع الثورات التاريخية الكبرى سبقها ومهد لها بل وصنعتها فلسفات تكاملت في أيديولوجية على أيدي مفكرين كبار، فلاسفة التنوير أمثال “روسو” و”فولتير” و”فلوتير” و”هولباخ” و”لامتري” وغيرهم، هم الآباء للثورة الفرنسية التي مثلت هزة ورجة عميقة للجنس البشري بأكمله. “كارل ماركس” و”فريديك انجلز” ومن ورائهم مئات المفكرين والفلاسفة الذين تتلمذوا على فكرهم ورؤاهم الفلسفية، استطاعوا أن يحاولوا مجرى التاريخ، ففي ظرف بضع عقود فقط كانت الثورات التي تعمل باسم الماركسية قد استملت السلطة في بلدان تشكل نصف بلدان العالم، فإذا كانت السياسة تعني الصراع لأجل السلطة في الدولة، عندئذ تكون الماركسية قد حققت نجاحا لا مثيل له في التاريخ.
بدون قوة الدفع الأيديولوجي للمسيحية، ما كان للكنيسة أن تستولى على الإمبراطورية الرومانية وتسخرها لخدمتها. بدون قوة الدفع الأيديولوجي للإسلام، ما كان للعرب أن يستطيعوا القضاء على الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. بدون قوة الدفع الأيديولوجي لفلسفة التنوير والليبرالية، ما كانت اوروبا تستطيع نقض المجتمع الإقطاعي والتخلص من تسلط الكنيسة وتدشين عصر العلم والعقلانية وإنجاز الثورة الصناعية. بدون قوة الدفع الأيديولوجي للماركسية، ما كان للبولشفيك أن ينتصروا على جيوش الرجعية في الداخل والخارج عام 1918 – 1920، وما كان لماوتسي تونج ورفاقه أن يستولوا على السلطة في الصين عام 1941 ويطردوا “شاي كاي شيك” وزمرته الرجعية، رغم الدعم الهائل الذي تلقاه من الإمبريالية الأمريكية، ولم يكن لفيتنام الضعيفة جدا والفقيرة جدا جدا، أن تنتصر على الولايات المتحدة القوية جدا والغنية جدا جدا، وهكذا دواليك؟!
أيضا بدون وعي أيديولوجي ثوري، مبني على أسس فلسفية تنطوي على قوة فكرية إقناعيه تجذب إليها المثقفين والمفكرين، لن يستطيع التيار الناصري أن يسترد حيويته وقوته الدافعة، لن تستطيع القومية العربية أن تلهم وتحشد الجماهير العربية وتعطيها الإيمان اللازم للتضحية والفداء من أجل الحرية والكرامة، الإيمان اللازم لتفجير طاقتها المبدعة والخلاقة، وبعث يقين المصير الواحد والرسالة الواحدة.
قناعتي ويقيني أن تأسيس فلسفة اجتماعية – سياسية واعية لمقاصد الدولة والمجتمع الكبرى، تأسيس فلسفة اجتماعية تكون المنطق الذي يسود التحولات الاجتماعية الواعية واللاواعية، هو بالتأكيد مهمة ضخمة تحتاج إلى عقل جسور نقدي منفتح على الفكر الإنساني بأكمله، ينهل ويتعلم منه، يبحث بحدة وبصيرة نافذة ويقلب الأمور على كل الوجوه، وبعد هذا فقط، بعد استيعاب وهضم القيم والأفكار والمفاهيم التي أفرزتها وأنضجتها التيارات الفلسفية والفكرية الحديثة بمختلف اتجاهاتها، يمكن حينها تقديم وتحديد رؤية فلسفية جديدة، بالتأكيد تقوم على التركيب الخلاق والمبدع بين ما سبقتها من فلسفات ومناهج فكرية، وفي النفس الوقت تتجاوزها وتشكل خطوة في تقدم العقل وتحققه في التاريخ.
جميع الرؤى والفلسفات التي شكلت القاعدة التي انطلقت منها أيديولوجيات ثورية كبرى ، بدأت من تلك النقطة، دراسة واستيعاب ما حملته تيارات عصرهم من رؤى ومفاهيم وأفكار، ثم التأليف بين عناصرها وتجاوزها في الوقت نفسه في رؤية فلسفية جديدة، تعطي تركيبا عاما يستطيع التيار الثوري أن يرجع إليه في قياس المشاكل والحلول التي يواجها، فلسفة اجتماعية سياسية تمكن الثوار من تبين الأحداث الأولية ذات الأهمية الكبرى، فلا يضيع العمل الثوري في الجزئيات الجانبية، فيعجز العمل السياسي عن تجاوز صعيد الانتهازية.
مهمة من هذا النوع، مهمة على هذا القدر من الأهمية والحيوية، على هذا القدر من الخطورة والضخامة، تحتاج إلى أنفس كبيرة خلاقة معطاءة، تجند حياتها الفكرية والشعورية والوجدانية في إنجازها.
4– الصهيونية وأمريكا… حتمية المواجهة:
تفرض الولايات المتحدة نفسها علينا كعدو واضح لاريب ولاشك فيه، وتصر دائما على تذكيرنا بل وطعننا بهذه الحقيقة ليس في كل يوم، بل وفي كل ساعة ودقيقة وثانية. وأي محاولة للتشكيك أن أمريكا تمثل العدو الأول والأخطر للأمة العربية، هي هراء لا يستحق حتى عناء الالتفاف إليه. إذن لا بديل عن مواجهة سياسية/اقتصادية وحتى عسكرية شاملة ضد الولايات المتحدة الأمريكية. إن جدية المعركة، جدية الخطر وحجم العدوان الأمريكي المهول علينا، يفرض جدية هذه المواجهة وجذريتها وشمولها.
وبصراحة فإن أي ارتداد أو تراجع عن هذه المواجهة، هو في الحقيقة استسلام وركوع، بصرف النظر عن اي تخريجات لفظية ومنطقية يحاول هذا الارتداد والتراجع تغطية نفسه بها.
ثم إن معركة بهذا الحجم، مجابه من هذا النوع، ليست بالضرورة لعنة فرضها التاريخ علينا، بل إنها، وهذا هو الأرجح، ربما تكون فرصة تاريخية لحشد وتعبئة الطاقات والإمكانات العربية، مما يحتم في هذا السبيل أتخاذ خطوات وحدوية كبرى نحو دولة الوحدة، تحرير البترول العربي ووضعه في خدمة تلك المواجهة العظمى.
مواجهات ومعارك من هذا النوع تنفتح لها الشعوب، تحفز وعيها وتفجر طاقاتها، فالإنسان لا تظهر ولا تبعث قدراته الكامنة إلا في مواجهة الخطر وعلى حافة الهاوية، لذلك قال نيتشه “عش في خطر”. مواجهات ومعارك من هذا النوع تصهر الشعوب وتصلب معدنها وتنقيه وتمنحها الاحساس والشعور بهويتها وكيانها ذاته، ويشكل تراكمها التاريخ القومي الحي الذي تفتخر وترتفع به رؤوس أجيال من وراءها أجيال. وللحق فإن كل الشعوب التي تراجعت وفضلت المهادنة والتراجع كتب عليها التاريخ المحو والاندثار.
إذن البلورة الايديولوجية للناصرية وبرنامجها التثقيفي لا بد أن يحتوي على بيان وتوضيح وتخطيط واسع لهذه المواجهة والمجابهة الشاملة، ويبين أن حتمية مواجهة بهذا العمق والخطورة والاتساع، تفرض خطوات وحدوية كبيرة حتى يمكن حشد الطاقات والإمكانات اللازمة لمواجهة من هذا النوع.
وأعتقد أن الجميع يلاحظ هنا أنه على الرغم من ان العنوان يذكر الصهيونية وأمريكا، إلا أن الحديث كله أنصب على الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك ببساطة لأن أحاديث السلام والتطبيع مع الكيان الصهيوني كان دائما أول حججها وعلى رأسها أن مواجهة إسرائيل تعني مواجهة الولايات المتحدة، وقد أردت أن أقول هنا ليكن… إذا كانت مواجهة الكيان الصهيوني والعمل على تصفيته وتحرير فلسطين كاملة، تعني مواجهة ومناطحة الولايات المتحدة، فيا أهلا بالمعارك… تلك الحروب والمعارك الكبرى التي تفجر طاقات الشعوب وتدفعها دفعا لأخذ خطوات جبارة على طريق التوحد والتحديث والتقدم.
5- بناء مجتمع جديد:
تلتقي وتشترك جميع الايديولوجيات الثورية، التي مثلت قاعدة العمل الثوري، في أنها كان توعد وتبشر بمجتمع جديد، ينقض المجتمع التقليدي ويتجاوزه، هذا الوعد والمثال كان دائما شرطا أساسيا لتكامل الحركات الثورية والاداة الأولى لكسب ولاء الجماهير وتوليد الإيمان الكافي لتحريكها لهدم واقعها الرديء، بكل ما تحمله عملية الهدم هذه من ألم وتضحية وعطاء وفداء.
الأسباب الكامنة وراء الثورات الكبرى التي جددت الإنسان والتاريخ عديدة، منها الاقتصادي، ومنها الاجتماعي، ومنها السياسي، ومنها الروحي …إلخ، ولكن أهمها هو الحلم الذي يراود ذهن الإنسان في بناء إنسانية جديدة تكمن في الوحدة والانسجام. إن صورة المجتمع الجديد هي التي تعطي للقوى المادية الاجتماعية وللتيارات السياسية، القوة السحرية التي تجذب ملايين الناس وتغير وجه العالم، وهي التي تولد الإيمان العميق الذي يثير الإرادة، ويضفي على الحركة الانقلابية قوتها الفاعلة في الأحداث، ويحدد قدرها الدراماتيكي، ويجعلها تركز ذاتها على مقاصد تستحيل في الواقع على التاريخ. يصبح المستحيل ممكنا، بذلك تحطم الحركة الانقلابية الكثير من الحواجز والعوائق أمام حركة الإنسان في تأكيد ذاته، وفي تأكيد سيادته على العالم الذي يحيط به.
لقد توحشت في المجتمع العربي ظواهر التفاوت الطبقي، الفقر، الانحلال الاخلاقي، غياب المساواة وتكافؤ الفرص. وكان الرد الأغلب بين الجماهير على كل هذا الانهيار المجتمعي، هو الفرار من المواجهة والاحتماء بحصون وقلاع الدين سواء في المسجد أو الكنيسة، وذلك بسبب غياب الرؤية والمثال الثوري القادر على منح الجماهير الأمل والأرضية التي يمكن الانطلاق منها لمواجهة كل هذا التردي والفساد.
غياب الرؤية الواضحة التي تبين آلية مواجهة كل هذا الفساد، في كيفية التخلص منه والصعود نحو مجتمع جديد يزول فيه الظلم والاستبداد، الخصام واستغلال الإنسان لأخية الإنسان، تزول فيه جميع العوامل التي تحول دون الإنسان ونمو طاقاته نموا حرا طليقا، غياب مثل هذه الرؤية ومثل هذا الوعد بمجتمع عربي جديد، دجن الجماهير، وجعلها في حالة استسلام كامل لقوى القطرية والتبعية وطبقات الاستغلال.
تفكيك المجتمع العربي، تشرذمه وبعثرته إلى أفراد لا يجمع بينهم قصد أو هدف موحد، وفر المناخ المناسب والظرف المواتي لانتشار واستشراء مثل هذه الفئات المستغلة، التي تعيش وتنمو على نزيف ثروات وإمكانات الشعب العربي.
المساواة هي كلمة البدء في مواجهة كل هذا الفساد، كل هذا الاستغلال للشعب العربي، قفد كشف “برودون” في فلسفت الثورية، بعد دراسة جميع الثورات التاريخية، أن قصد جميع تلك الثورات هو تحقيق المساواة. الأولى المسيحية، كانت ثورة في سبيل المساواة أمام الله، فالأسياد والعبيد الذين لا يتساوون في المجتمع يصبحون متساوين أمامه تعالى. والثانية، وقد حدثت في القرنين السادس والسابع عشر، كانت ثورة في المعرفة لا الإيمان، ولكنها بشرت بالمساواة أمام العقل، وكان صوتها الأول ديكارت ومونتيه. والثالثة كانت ثورة في السياسة، وقد أعلنتها ثورة عام 1789، وفيها أعلنت المساواة أمام القانون، فالأغنياء والفقراء، العلماء والجهلة، والناس من مختلف الأديان والأجناس، يقفون متساوين أمام القانون. ولكن هناك ثورة رابعة تحمل فكرة المساواة إلى صعيد أخر جديد، وهي الثورة في سبيل المساواة الاقتصادية أو مساواة الإنسان أمام الإنسان، هذه الثورة هي ثورة المستقبل، وهي التي أراد “برودون” أن يربط أسمه بها. رأى “برودون”، في كلمة أخرى، أن التاريخ عبارة عن حركة توسيع نطاق الوحدة الاجتماعية، وتذليل ما يعرقل سيرها، إذ أن المساواة ليست شيئا أخر سوى الوجه الثاني للوحدة، أو بالأحرى الأداة الأولى في تحقيق الوحدة.
إذن، فوحدة الشعب العربي من المحيط إلى الخليج تتحقق بتحقق المساواة الكاملة بين جميع أفراده في الثروة والفرص والإمكانات. ولست هنا أتكلم فقط عن الظلم الفادح في توزيع الثروة داخل كل قطر عربي على حده، بل أتكلم قبله عن خلل توزيع الثروة عبر الوطن العربي كله، والذي أدى إليه التقسيم القطري للأمة العربية، وتفتيتها إلى كيانات ميكروسكوبية، مما جعل ثروات العالم العربي تتركز في أيدي بعض العروش والكراسي، الهزيلة والهزلية في آن، وحرمان شبه كامل للأغلبية الساحقة من الشعب العربي من عائد وناتج تلك الثروة. وذلك الأمر له من التبعات ما لا يتسع المجال الآن للتعرض له، ولكننا كلنا نشعر بوطئته ونعيش آلامه بشكل يومي.
ماهي الجنة..؟؟!!
أجاب “بيكارديه” عن هذا السؤال، بأن الجنة هي مجتمع يسوده في تعدده وتعقده قصد واحد عام، ينعم بولاء وإخلاص الأفراد التام. هكذا قصد ينظم جميع المراتب وجميع الأعمال، فتشتق قيمة الأجزاء المختلفة من مركزها في النظام العام، وتعاني من الوحدة التامة بشكل عميق يجعلها سعيدة، لأنها تنسى ذاتها المبعثرة المشتتة في إطار القصد العام ذاته. فربط التعدد الاجتماعي في وحدة من هذا النوع ممكن فقط، لمجتمع يخضع نشاطه لقصد عام شامل.
لقد صنع الشعب العربي شيئا قريبا جدا من تلك الجنة عندما خاض، تحت قيادة “جمال عبد الناصر”، معركة الاستقلال ضد الاستعمار، معركة التسلح، معركة تأميم قناة السويس، معركة الحياد الإيجابي، معركة الثورة الاجتماعية…إلخ، في تلك الفترة ساد المجتمع القصد العام الشامل الذي ربط ووحد ذاته المبعثرة المشتتة في وحدة تخضع نشاطه كله لهذا القصد، ذلك قبل أن تقفز الرجعية للسلطة مرة أخرى، وتنقض على منجزات واحلام عبد الناصر وإخوانه، وتفجر وحدة المجتمع العربي من الداخل.
وأخيرا وليس أخرا، فإن مسألة بلورة الناصرية أيديولوجيا وبناء برنامج تثقيفي عام وشامل يمكنها من بناء أعادة صلتها الحارة مع الجماهير وبناءها من جديد على أسس متينة وصلبة، أمر في حاجة إلى الكثير والكثير من القول والبسط والشرح والتأكيد، ولا يمكن الإحاطة به في محاضرة واحدة بأي شكل كان.
لكن في نهاية تلك المحاضرة لا أملك سوى التأكيد على أن الحركة الناصرية تجد نفسها في النهاية مدفوعة دفعا ذاتيا إلى أن تختار، بشكل مطلق، بين موقفين، دون أي حل وسط أو إمكان تسوية بينهما. فإما أن تستمر في التأرجح في فراغ ايديولوجي يسبب تعثيرها وتجميدها، وإما ان تتجاوز ذلك فتعبر عن ذاتها في انقلابية عقائدية تجعل إمكاناتها الزاخرة تفيض إلى الخارج وتسود الحياة. إن الحركة الناصرية يجب أن تدرك أن ما تحتاجه ليس فقط تنظيمات أو أجهزة أو إصلاحات من أي نوع، وإن كانت ثورية، بل بناء فلسفة حياة جديدة، أو ايديولوجية انقلابية، لأن ايديولوجية من هذا النوع هي القاعدة التي تحتاجها في الكشف عن إمكاناتها وقواها الذاتية، في مجرى صراعها الكبير من أجل مصير جديد، من أجل إنسان عربي جديد.
.