
إذا كان التأريخ الواقعى للنكبة يبدأ يوم 15 مايو 1948 فإن كتاب قسطنطين زريق هو أول كتاب نشر يحمل هذا العنوان “معنى النكبة”، فقد صدر عن دار العلم للملايين فى بيروت فى أغسطس 1948، أو هو -لتجنب الغفلة والخطأ- أشهر ما كتب فى هذه المرحلة المبكرة، وربما يكون أهمها وأوسعها انتشارا وتأثيرا، وفوق ذلك فقد ظلت “النكبة” حاضرة فى فكر وعمل زريق حتى وفاته،
في آب/أغسطس عام 1948، وحين كانت الحرب على الفلسطينيين لا تزال مشتعلة، كان عالم التاريخ والمفكر القومي المولود في دمشق، قسطنطين زريق (1919-2000)، أول من وصف تطورات الحرب ووصفها بالنكبة في كتابه الصغير، “معنى النكبة.” بالنسبة لزريق، كانت الحرب على الفلسطينيين نكبة منذ اللحظة الأولى من ناحية نتائجها الكارثية على مشروع القومية والوحدة العربية، والتحرر والتخلص من الاستعمار، حيث أن فلسطين جزء من الأمة العربية التي كان العرب يحلمون بها. ورغم أن تصور زريق لعام 1948 كنكبة يتضمن بالتأكيد تهجير سكان فلسطين، فإن هذا لم يكن إهتمام زريق الأساس ولكنه كان جزءاً فقط من الأشياء التي جعلت من تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين أمراً كارثياً.
في آب / أغسطس عام 1967م كتب زريق أيضاً كتاب “معنى النكبة مجدداً”، متحدثاً عن النكبة التي أصابت العرب في فلسطين وفي الأراضي العربية المحتلة, مصوراً فداحتها, ومحللاً أسبابها, وباحثاً عن المخرج منها, الباعث لنهضة العرب, والمحصن لهم ضد نكبات جديدة.
وقد تفاعل مع كل أحداثها اللاحقة، فكتب عقب “نكسة 5 يونيو 1967” كتابه “معنى النكبة مجددا”، عقب أسابيع قليلة من وقف إطلاق النار فى حرب سماها العدو، وتابعته أغلب وسائل الإعلام العالمية، بـ”حرب الأيام الستة”. قسطنطين زريق وأحد أبرز دعاة القومية العربية، ولد في دمشق، والتحق بالجامعة الأمريكية في بيروت كدارس للرياضيات ثم حول مجال دراسته إلى التاريخ، حيث نال درجة بكالوريوس الآداب عام 1928، سافر بعدها إلى الولايات المتحدة ملتحقا بجامعاتها، حيث حصل على درجة الماجستير من جامعة شيكاغو عام 1928 ثم الدكتوراه عام 1930 من جامعة برنستون. توزعت الوظائف التي احتلها زريق في حياته العملية بين التدريس الجامعي والعمل الأكاديمي الإداري والمناصب الدبلوماسية، وخلف الدكتور زريق مجموعةً من المؤلفات البارزة، أهمها: “الوعي القومي”، “معنى النكبة”، “أي غدٍ!”، “نحن والتاريخ”، “هذا العصر المُتفجر”، “في معركة الحضارة”، “نحن والمُستقبل”، “الكتاب الأحمر” الذي كتبه في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي والذي اعتُبر آنذاك ميثاقًا للقومية العربية. كلمات زريق الأولى التى تحمل عنوان “توطئة وتقدمة” تبدو مفارقة اليوم، ليس الزمن هو السبب، بل الوقائع التى تعاقبت من وقتها، لذلك على القارئ أن يتذكر أن هذه الكلمات كتبت بعد أيام من الحدث، أيام فقط، هكذا كتب زريق: «لست أدعى أنى، فى هذه الدراسة المقتضبة لمحنة العرب فى فلسطين، قد “اخترعت البارود” (أو، بلغة هذا العصر: “القنبلة الذرية”)، أو أنى اكتشفت الدواء الشافى لعلاتنا جميعا، وإنما هي محاولة لتصفية تفكيرى، في هذه الأزمة الخانقة التي يترتب فيها على كل فرد من أفراد الأمة قسطه من الواجب ونصيبه من التبعية. ولا شك فى أن أول شرط لحسن القيام بهذا الواجب صحة الفكر واستواء الخطة، فإذا كان من هذه المحاولة، لبنى وطنى وللفئات القومية المناضلة منهم خاصة، فائدة فى إزالة بعض البلبلة السائدة فى جونا الحاضر، فهذه غاية ما أرجو، وإلا فليكن نصيبها نصيب النافل الكثير مما تصدره مطابعنا اليوم، وعساى، على كل حال، ألا أكون قد أخطأت المرمى فأضررت من حيث أردت النفع والفائدة». كلمات تبدو أن كاتبها لم يكن له أن يتصور مطلقا ما سيصير إليه الواقع الآن، رغم أنه استخدم أدق وأقسى الكلمات، وهو يبين فداحة النكبة: “ليست هزيمة العرب فى فلسطين بالنكبة البسيطة، أو بالشر الهين العابر، وإنما هى نكبة بكل ما فى هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشد ما ابتلى به العرب فى تاريخهم الطويل، على ما فيه من محن ومآسٍ”. سبع دول تعلن الحرب على الصهيونية فى فلسطين، فتقف أمامها عاجزة ثم تنكص فى أعقابها، قضية لم يعرف التاريخ أعدل منها وأقرب إلى الحق: بلد يغتصب من أهله ليجعل وطنا لشراذم من الخلق ينزلونه من شتى أقطار العالم ويقيمون فيه دولة رغم أنوف أصحابه والملايين من إخوانهم فى الأقطار المجاورة، أربعمائة ألف عربى أو أكثر يشردون من بيوتهم، وتنتزع منهم أموالهم وأملاكهم، ويهيمون على وجوههم فى ما تبقى من فلسطين وفى البلدان العربية الأخرى، لا يدرون ما يخبئه لهم القدر. أفكار زريق الأساسية عن القومية العربية كانت مرتكزه الفكرى فى الكتاب، فهو ينظر، بحق، إلى قضية فلسطين على أنها تخص كل عربى، باعتبار أن العرب يمثلون “أمة واحدة”، ومن هنا عرض بعض وجوه النكبة، وأهمها: الانتكاس المعنوي الذي أدى بالشعوب إلى التهرب من مجابهة الخطر، وإلى الشك بالنفس والقادة، بل والشك في استحقاقنا لمسمى أمة، وبين أن ما أدى إلى حدوث هذه النكبة هو استهتارنا بقوة العدو، وذهولنا عن ازديادها، وانخداعنا بقوتنا، وعدم فهمنا للواقع وما يتطلبه منا. كما بين أن كل مفكر في الأمة يقع عليه واجب، يتمثل في عمله على توعية الشعب وتوضيح الصورة، بشكلها الواقعي المجرد، بصدق ومسئولية. وتقديم ما عنده من آراء وتحليلات واقتراحات للمساهمة في تخطي النكبة وآثارها المدمرة، وتحويل هذه المصيبة التي حلت بالأمة إلى محفز ودافع للعمل من أجل النهوض. يريد زريق أن يكون مباشرا، واضحا، فيبدأ: “من العدل والإنصاف أن نسرع ونقول إن أسباب هذه الكارثة لا تعود كلها إلى العرب أنفسهم. فالعدو المتصدى لهم قوى الشكيمة، غزير الموارد، بعيد الأثر، قضى السنين -بل الآجيال- وهو يتأهب لهذا الصراع. وقد بث نفوذه وسلطته فى مشارق الأرض ومغاربها، واستولى على كثير من مصادر القوى فى الدول العظمى، حت دانت هذه له أو اضطرت إلى ممالأته”. ويخلص إلى: “قلت: من الحق والواجب أن نقر بقوة العدو الهائلة، فلا نحمل أنفسنا من اللوم فوق ما نستحق. ولكن من الحق والواجب كذلك أن نقر بأخطائنا ونتبين مصادر الضعف فى كياننا، وأن نعرف مدى مسئوليتنا فى هذه الكارثة التى أصابتنا”.
رابط التحميل
https://drive.google.com/file/d/1wjwlDjsO2fpqNMFvvWHZ3MqBaFJZpDnT/view?usp=sharing
عمل جيد