
-جمال عبدالناصر.. ذلك الرجل الذى حرر مصر من الطغيان ومن الاحتلال، والذى قاد العرب وأشعل القومية العربية، وهز عروش وأنظمة حكم، والذى بهر العالم عندما أمّم قناة السويس وقاوم عدوانا ثلاثيا غاشما.. مَن هو؟ وما هى خلفيته الاجتماعية والثقافية؟ ما هى مبادئه التى ثبت عليها حتى النهاية؟ ما هى جذور سياساته التى خاض بها المعركة تلو الأخرى؟
– فى ٧ فبراير ١٩٤٣ عُين مدرسا بالكلية الحربية.. ومن قائمة مطالعاته فى هذه الفترة يتضح أنه قرأ لكبار المؤلفين العسكريين من أمثال ليدل هارت وكلاوزفيتز
– التحق ناصر فى عام ١٩٢٩ بالقسم الداخلى فى مدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عاما واحدا، ثم نقل فى العام التالى – ١٩٣٠ – إلى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية
– فى ٨ مايو ١٩٥١ رُقى ناصر إلى رتبة البكباشى، وفى نفس العام اشترك مع رفاقه من الضباط الأحرار سرا فى حرب الفدائيين ضد القوات البريطانية
ولد ناصر فى ١٥ يناير ١٩١٨، فى حى باكوس الشعبى بالإسكندرية، فى عائلة فقيرة، وكان الابن الأكبر لعبدالناصر حسين، الذى ولد فى عام ١٨٨٨ فى قرية بنى مر بصعيد مصر فى أسرة من الفلاحين، ولكنه حصل على قدر من التعليم سمح له بأن يلتحق بوظيفة فى مصلحة البريد بالإسكندرية، وكان مرتبه يكفى بصعوبة لسداد ضرورات الحياة.
وفى المرحلة الابتدائية التحق جمال عبدالناصر بروضة الأطفال بالإسكندرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة بالدلتا فى عامى ١٩٢٣، ١٩٢٤. وفى عام ١٩٢٥ دخل جمال مدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه خليل حسين فى هذا الحى الشعبى لمدة ثلاث سنوات، وكان جمال يسافر لزيارة أسرته بالخطاطبة فى العطلات المدرسية، وحين وصل فى الإجازة الصيفية فى العام التالى – ١٩٢٦ – علم أن والدته قد توفيت قبل ذلك بأسابيع، ولم يجد أحد الشجاعة لإبلاغه بموتها، ولكنه اكتشف ذلك بنفسه بطريقة هزت كيانه – كما ذكر لـ«دافيد مورجان» مندوب صحيفة الصنداى تايمز – ثم أضاف: « لقد كان فقد أمى فى حد ذاته أمرا محزنا للغاية، أما فقدها بهذه الطريقة فقد كان صدمة تركت شعورا لا يمحوه الزمن، وقد جعلتنى آلامى وأحزانى الخاصة فى تلك الفترة أجد مضضا بالغا فى انزال الآلام والأحزان بالغير فى مستقبل السنين».
وبعد أن أتم جمال السنة الثالثة فى مدرسة النحاسين بالقاهرة، أرسله والده فى صيف ١٩٢٨ عند جده لوالدته فقضى السنة الرابعة الابتدائية فى مدرسة العطارين بالإسكندرية.
التحق ناصر فى عام ١٩٢٩ بالقسم الداخلى فى مدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عاما واحدا، ثم نقل فى العام التالى – ١٩٣٠ – إلى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية بعد أن انتقل والده إلى العمل بمصلحة البوسطة هناك.
وفى تلك المدرسة تكون وجدان ناصر القومى؛ ففى عام ١٩٣٠ استصدرت وزارة إسماعيل صدقى مرسوما ملكيا بإلغاء دستور ١٩٢٣؛ فثارت مظاهرات الطلبة تهتف بسقوط الاستعمار وبعودة الدستور.
ويحكى جمال عبدالناصر عن أول مظاهرة اشترك فيها: «كنت أعبر ميدان المنشية فى الإسكندرية حين وجدت اشتباكا بين مظاهرة لبعض التلاميذ وبين قوات من البوليس، ولم أتردد فى تقرير موقفى؛ فلقد انضممت على الفور إلى المتظاهرين، دون أن أعرف أى شىء عن السبب الذى كانوا يتظاهرون من أجله، ولقد شعرت بأننى فى غير حاجة إلى سؤال؛ لقد رأيت أفرادا من الجماهير فى صدام مع السلطة، واتخذت موقفى دون تردد فى الجانب المعادى للسلطة.
ومرت لحظات سيطرت فيها المظاهرة على الموقف، لكن سرعان ما جاءت إلى المكان الإمدادات؛ حمولة لوريين من رجال البوليس لتعزيز القوة، وهجمت علينا جماعتهم، وإنى لأذكر أننى – فى محاولة يائسة – ألقيت حجرا، لكنهم أدركونا فى لمح البصر، وحاولت أن أهرب، لكنى حين التفت هوت على رأسى عصا من عصى البوليس، تلتها ضربة ثانية حين سقطت، ثم شحنت إلى الحجز والدم يسيل من رأسى مع عدد من الطلبة الذين لم يستطيعوا الإفلات بالسرعة الكافية.
ولما كنت فى قسم البوليس، وأخذوا يعالجون جراح رأسى؛ سألت عن سبب المظاهرة، فعرفت أنها مظاهرة نظمتها جماعة «مصر الفتاة» فى ذلك الوقت؛ للاحتجاج على سياسة الحكومة.
وقد دخلت السجن تلميذا متحمسا، وخرجت منه مشحونا بطاقة من الغضب.
ويعود ناصر إلى هذه الفترة من حياته فى خطاب له بميدان المنشية بالإسكندرية فى ٢٦/١٠/١٩٥٤ ليصف أحاسيسه فى تلك المظاهرة وما تركته من آثار فى نفسه: «حينما بدأت فى الكلام اليوم فى ميدان المنشية سرح بى الخاطر إلى الماضى البعيد.. وتذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير، وتذكرت فى هذا الوقت وأنا أشترك مع أبناء الإسكندرية، وأنا أهتف لأول مرة فى حياتى باسم الحرية وباسم الكرامة، وباسم مصر.. أطلقت علينا طلقات الاستعمار وأعوان الاستعمار؛ فمات مَن مات وجُرح مَن جُرح.
ولكن خرج من بين هؤلاء الناس شاب صغير شعر بالحرية وأحس بطعم الحرية، وآلى على نفسه أن يجاهد وأن يكافح وأن يقاتل فى سبيل الحرية التى كان يهتف بها ولا يعلم معناها؛ لأنه كان يشعر بها فى نفسه، وكان يشعر بها فى روحه وكان يشعر بها فى دمه، «لقد كانت تلك الفترة بالإسكندرية مرحلة تحول فى حياة الطالب جمال من متظاهر إلى ثائر تأثر بحالة الغليان التى كانت تعانى منها مصر؛ بسبب تحكم الاستعمار وإلغاء الدستور».
وقد ضاق المسئولون بالمدرسة بنشاطه ونبهوا والده فأرسله إلى القاهرة، وقد التحق ناصر فى عام ١٩٣٣ بمدرسة النهضة الثانوية بحى الظاهر بالقاهرة، واستمر فى نشاطه السياسى فأصبح رئيس اتحاد مدارس النهضة الثانوية.
وفى تلك الفترة ظهر شغفه بالقراءة فى التاريخ والموضوعات الوطنية؛ فقرأ عن الثورة الفرنسية وعن روسو وفولتير، وكتب مقالا بعنوان «فولتير رجل الحرية» نشرها بمجلة المدرسة، كما قرأ عن نابليون والإسكندر ويوليوس قيصر، وغاندى، وقرأ رواية البؤساء لـ فيكتور هوجو، وقصة مدينتين لـ شارلز ديكنز وغيرها.
كذلك اهتم «ناصر» بالإنتاج الأدبى العربى؛ فكان معجبا بأشعار أحمد شوقى وحافظ إبراهيم، وقرأ عن سيرة النبى محمد وعن أبطال الإسلام، وكذلك عن مصطفى كامل، كما قرأ مسرحيات وروايات توفيق الحكيم؛ خصوصا رواية عودة الروح التى تتحدث عن ضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم، ودفعهم نحو النضال فى سبيل الحرية والبعث الوطنى.
وفى ١٩٣٥ فى حفل مدرسة النهضة الثانوية لعب الطالب جمال عبدالناصر دور يوليوس قيصر؛ بطل تحرير الجماهير فى مسرحية شكسبير، فى حضور وزير المعارف فى ذلك الوقت، كما أنه بدأ فى كتابة قصة «فى سبيل الحرية» عن معركة رشيد عام 1807، لكنه لم يستكملها.
وقد شهد عام ١٩٣٥ نشاطا كبيرا للحركة الوطنية المصرية التى قام فيها الطلبة بالدور الأساسى؛ مطالبين بعودة الدستور والاستقلال.. ويكشف خطاب من ناصر إلى صديقه على فى ٤ سبتمبر ١٩٣٥ مكنون نفسه فى هذه الفترة، فيقول: «لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس، ونفضنا بشائر الحياة واستقبلنا غبار الموت؛ فأين من يقلب كل ذلك رأسا على عقب، ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم أن كانت مالكة العالم؟! أين مَن يخلق خلفا جديدا لكى يصبح المصرى الخافت الصوت، الضعيف الأمل، الذى يطرق برأسه ساكنا صابرا على اهتضام حقه، ساهيا عن التلاعب بوطنه، يقظا عالى الصوت عظيم الرجاء، رافعا رأسه يجاهد بشجاعة وجرأة فى طلب الاستقلال والحرية؟… قال مصطفى كامل: (لو نقل قلبى من اليسار إلى اليمين أو تحرك الأهرام من مكانه المكين أو تغير مجرى النيل؛ فلن أتغير عن المبدأ)… كل ذلك مقدمة طويلة لعمل أطول وأعظم؛ فقد تكلمنا مرات عدة فى عمل يوقظ الأمة من غفوتها، ويضرب على الأوتار الحساسة من القلوب، ويستثير ما كمن فى الصدور، ولكن كل ذلك لم يدخل فى حيز العمل إلى الآن.
وبعد ذلك بشهرين، وفور صدور تصريح « صمويل هور» – وزير الخارجية البريطانية – فى ٩ نوفمبر١٩٣٥، معلنا رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية فى مصر؛ اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال فى البلاد، وقاد ناصر فى ١٣ نوفمبر مظاهرة من تلاميذ المدارس الثانوية واجهتها قوة من البوليس الإنجليزى؛ فأصيب جمال بجرح فى جبينه سببته رصاصة مزقت الجلد ولكنها لم تنفذ إلى الرأس، وأسرع به زملاؤه إلى دار جريدة الجهاد التى تصادف وقوع الحادث بجوارها، ونشر اسمه فى العدد الذى صدر صباح اليوم التالى بين أسماء الجرحى.
وعن آثار أحداث تلك الفترة فى نفسية جمال عبدالناصر، قال فى كلمة له فى جامعة القاهرة فى ١٥ نوفمبر ١٩٥٢: «وقد تركت إصابتى أثرا عزيزا، لا يزال يعلو وجهى فيذكرنى كل يوم بالواجب الوطنى الملقى على كاهلى كفرد من أبناء هذا الوطن العزيز.. وفى هذا اليوم وقع صريع الظلم والاحتلال المرحوم عبدالمجيد مرسى؛ فأنسانى ما أنا مصاب به، ورسخ فى نفسى أن علىّ واجبا أفنى فى سبيله أو أكون أحد العاملين فى تحقيقه حتى يتحقق، وهذا الواجب هو تحرير الوطن من الاستعمار، وتحقيق سيادة الشعب، وتوالى بعد ذلك سقوط الشهداء صرعى؛ فازداد إيمانى بالعمل على تحقيق حرية مصر».
وتحت الضغط الشعبى؛ وخاصة من جانب الطلبة والعمال صدر مرسوم ملكى فى ١٢ ديسمبر ١٩٣٥ بعودة دستور ١٩٢٣.
وقد انضم ناصر فى هذا الوقت إلى وفود الطلبة التى كانت تسعى إلى بيوت الزعماء تطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر، وقد تألفت «الجبهة الوطنية سنة ١٩٣٦ بالفعل على أثر هذه الجهود.
وقد كتب ناصر فى فترة الفوران هذه خطابا إلى صديقه على فى 3 سبتمبر ١٩٣٥، قال فيه: «يقول الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، فأين تلك القوة التى نستعد بها لهم؟! إن الموقف اليوم دقيق ومصر فى موقف أدق…».
ووصف ناصر شعوره فى كتاب «فلسفة الثورة» فقال: «وفى تلك الأيام قدت مظاهرة فى مدرسة النهضة، وصرخت من أعماقى بطلب الاستقلال التام، وصرخ ورائى كثيرون، ولكن صراخنا ضاع هباء وبددته الرياح أصداء واهية لا تحرك الجبال ولا تحطم الصخور».
إلا أن اتحاد الزعماء السياسيين على كلمة واحدة كان فجيعة لإيمان ناصر، فإن الكلمة الواحدة التى اجتمعوا عليها كانت معاهدة ١٩٣٦ التى قننت الاحتلال؛ فنصت على أن تبقى فى مصر قواعد عسكرية لحماية وادى النيل وقناة السويس من أى اعتداء، وفى حال وقوع حرب تكون الأراضى المصرية بموانيها ومطاراتها وطرق مواصلاتها تحت تصرف بريطانيا، كما نصت المعاهدة على بقاء الحكم الثنائى فى السودان».
وكان من نتيجة النشاط السياسى المكثف لناصر فى هذه الفترة الذى رصدته تقارير البوليس، أن قررت مدرسة النهضة فصله؛ بتهمة تحريضه الطلبة على الثورة، إلا أن زملاءه ثاروا وأعلنوا الإضراب العام، وهددوا بحرق المدرسة؛ فتراجع ناظر المدرسة الإنجليزى فى قراره.
ومنذ المظاهرة الأولى التى اشترك فيها ناصر بالإسكندرية شغلت السياسة كل وقته، وقد حكى لى أنه تجول بين التيارات السياسية التى كانت موجودة فى هذا الوقت؛ فانضم إلى حزب «مصر الفتاة» لمدة عامين، ثم انصرف عنه بعد أن اكتشف أنه لا يحقق شيئا، كما كانت له اتصالات متعددة بـ«الإخوان المسلمين» إلا أنه قد عزف عن الانضمام لأى من الجماعات أو الأحزاب القائمة؛ لأنه لم يقتنع بجدوى أى منها، فلم يكن هناك حزب مثالى يضم جميع العناصر لتحقيق الأهداف الوطنية.
كذلك فإنه وهو طالب فى المرحلة الثانوية بدأ الوعى العربى يتسلل إلى تفكيره، فكان يخرج مع زملائه كل عام فى الثانى من شهر نوفمبر؛ احتجاجا على وعد «بلفور» الذى منحت به بريطانيا لليهود وطنا فى فلسطين، على حساب أصحابه الشرعيين.
لما أتم ناصر دراسته الثانوية وحصل على البكالوريا فى القسم الأدبى، قرر الالتحاق بالجيش، ولقد أيقن بعد التجربة التى مر بها فى العمل السياسى، واتصالاته برجال السياسة والأحزاب التى أثارت اشمئزازه منهم، أن تحرير مصر لن يتم بالخطب بل يجب أن تقابل القوة بالقوة، والاحتلال العسكرى بجيش وطنى.
تقدم ناصر إلى الكلية الحربية فنجح فى الكشف الطبى، ولكنه سقط فى كشف الهيئة؛ لأنه حفيد فلاح من بنى مر وابن موظف بسيط لا يملك شيئا، ولأنه اشترك فى مظاهرات ١٩٣٥، ولأنه لا يملك واسطة.
ولما رفضت الكلية الحربية قبول ناصر، تقدم فى أكتوبر ١٩٣٦ إلى كلية الحقوق فى جامعة القاهرة، ومكث فيها ستة أشهر إلى أن عقدت معاهدة ١٩٣٦، واتجهت النية إلى زيادة عدد ضباط الجيش المصرى من الشباب، بصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو ثروتهم؛ فقبلت الكلية الحربية دفعة فى خريف ١٩٣٦، وأعلنت وزارة الحربية عن حاجتها لدفعة ثانية؛ فتقدم جمال مرة ثانية للكلية الحربية، ولكنه توصل إلى مقابلة وكيل وزارة الحربية اللواء إبراهيم خيرى، الذى أعجب بصراحته ووطنيته وإصراره على أن يصبح ضابطا؛ فوافق على دخوله فى الدورة التالية؛ أى فى مارس ١٩٣٧.
لقد وضع ناصر أمامه هدفا واضحا فى الكلية الحربية وهو أن يصبح ضابطا ذا كفاية، وأن يكتسب المعرفة والصفات التى تسمح له بأن يصبح قائدا، وفعلا أصبح «رئيس فريق»، وأسندت إليه منذ أوائل ١٩٣٨ مهمة تأهيل الطلبة المستجدين، وطوال فترة الكلية لم يوقع على جمال أى جزاء، كما رُقى إلى رتبة أومباشى طالب.
تخرج جمال عبدالناصر فى الكلية الحربية بعد مرور ١٧ شهرا، أى فى يوليو ١٩٣٨، فقد جرى استعجال تخريج دفعات الضباط فى ذلك الوقت لتوفير عدد كافٍ من الضباط المصريين؛ لسد الفراغ الذى تركه انتقال القوات البريطانية إلى منطقة قناة السويس.
وقد كانت مكتبة الكلية الحربية غنية بالكتب القيمة، فمن لائحة الاستعارة تبين أن جمال قرأ عن سير عظماء التاريخ؛ مثل بونابرت والإسكندر وجاليباردى وبسمارك ومصطفى كمال أتاتورك وهندنبرج وتشرشل وفوش. كما قرأ الكتب التى تعالج شئون الشرق الأوسط والسودان، ومشكلات الدول التى على البحر المتوسط، والتاريخ العسكرى.. وكذلك قرأ عن الحرب العالمية الأولى، وعن حملة فلسطين، وعن تاريخ ثورة ١٩١٩، ومن خطاباته إلى والده أحدهما يرجوه فيه سرعة إرسال مصاريف الكلية الحربية، وآخر يعبر فيه عن اضطرابه لمرضه.
التحق ناصر فور تخرجه بسلاح المشاة، ونقل إلى منقباد فى الصعيد، وقد أتاحت له إقامته هناك أن ينظر بمنظار جديد إلى أوضاع الفلاحين وبؤسهم.
وفى عام ١٩٣٩ طلب جمال عبدالناصر نقله إلى السودان؛ فخدم فى الخرطوم وفى جبل الأولياء، وفى مايو ١٩٤٠ رقى إلى رتبة الملازم أول.
لقد كان الجيش المصرى حتى ذلك الوقت جيشا غير مقاتل، وكان من مصلحة البريطانيين أن يبقوه على هذا الوضع، ولكن بدأت تدخل الجيش طبقة جديدة من الضباط الذين كانوا ينظرون إلى مستقبلهم فى الجيش كجزء من جهاد أكبر لتحرير شعبهم، وقد ذهب جمال إلى منقباد تملؤه المثل العليا، ولكنه ورفقاءه أصيبوا بخيبة الأمل؛ فقد كان معظم الضباط «عديمى الكفاءة وفاسدين»، ومن هنا اتجه تفكيره إلى إصلاح الجيش وتطهيره من الفساد، وقد كتب لصديقه حسن النشار فى ١٩٤١ من جبل الأولياء بالسودان: «على العموم يا حسن أنا مش عارف ألاقيها منين واللا منين.. هنا فى عملى كل عيبى إنى دوغرى لا أعرف الملق ولا الكلمات الحلوة ولا التمسح بالأذيال».
شخص هذه صفاته يُحترم من الجميع ولكن.. الرؤساء.. الرؤساء يا حسن يسوءهم ذلك الذى لا يُسبح بحمدهم، يسوءهم ذلك الذى لا يتملق اليهم؛ فهذه كبرياء وهم شبّوا على الذلة فى كنف الاستعمار، يقولون: كما كنا يجب أن يكونوا، كما رأينا يجب أن يروا.. والويل كل الويل لذلك.. الذى تأبى نفسه السير على منوالهم.. ويحزننى يا حسن أن أقول إن هذا الجيل الجديد قد أفسده الجيل القديم متملقا، ويحزننى يا حسن أن أقول إننا نسير إلى الهاوية؛ الرياء – النفاق الملق – تفشى فى الأصاغر نتيجة لمعاملة الكبار، أما أنا فقد صمدت وما زلت؛ ولذلك تجدنى فى عداء مستحكم مستمر مع هؤلاء الكبار…».
وفى نهاية عام ١٩٤١ بينما كان «روميل» يتقدم نحو الحدود المصرية الغربية، عاد جمال عبدالناصر إلى مصر، ونقل إلى كتيبة بريطانية تعسكر خلف خطوط القتال بالقرب من العلمين.
ويذكر جمال عبدالناصر: «فى هذه المرحلة رسخت فكرة الثورة فى ذهنى رسوخا تاما، أما السبيل إلى تحقيقها فكانت لا تزال بحاجة إلى دراسة، وكنت يومئذ لا أزال أتحسس طريقى إلى ذلك، وكان معظم جهدى فى ذلك الوقت يتجه إلى تجميع عدد كبير من الضباط الشبان الذين أشعر بأنهم يؤمنون فى قراراتهم بصالح الوطن؛ فبهذا وحده كنا نستطيع أن نتحرك حول محور واحد هو خدمة هذه القضية المشتركة».
وأثناء وجوده فى العلمين جرت أحداث ٤ فبراير ١٩٤٢ حينما توجه السفير البريطانى – السير مايلز لامسبون – ليقابل الملك فاروق بسراى عابدين فى القاهرة، بعد أن حاصر القصر بالدبابات البريطانية، وسلم الملك إنذارا يخيره فيه بين إسناد رئاسة الوزراء إلى مصطفى النحاس، مع إعطائه الحق فى تشكيل مجلس وزراء متعاون مع بريطانيا، وبين الخلع؛ وقد سلم الملك بلا قيد ولا شرط.
ويذكر ناصر، أنه منذ ذلك التاريخ لم يعد شىء كما كان أبدا؛ فكتب إلى صديقه حسن النشار فى ١٦ فبراير ١٩٤٢، يقول: «وصلنى جوابك، والحقيقة أن ما به جعلنى أغلى غليانا مرا، وكنت على وشك الانفجار من الغيظ، ولكن ما العمل بعد أن وقعت الواقعة وقبلناها مستسلمين خاضعين خائفين، والحقيقة أننى أعتقد أن الإنجليز كانوا يلعبون بورقة واحدة فى يدهم بغرض التهديد فقط، ولكن لو كانوا أحسوا أن بعض المصريين ينوون التضحية بدمائهم، ويقابلوا القوة بالقوة؛ لانسحبوا كأى امرأة من العاهرات.
أما نحن.. أما الجيش فقد كان لهذا الحادث تأثير جديد على الوضع والإحساس فيه؛ فبعد أن كنت ترى الضباط لا يتكلمون إلا عن النساء واللهو، أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس فى سبيل الكرامة.
وأصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا– مع ضعفهم الظاهر – ويردوا للبلاد كرامتها ويغسلوها بالدماء، ولكن إن غدا لقريب. حاول البعض بعد الحادث أن يعملوا شيئا بغرض الانتقام، لكن كان الوقت قد فات، أما القلوب فكلها نار وأسى.. عموما فإن هذه الحركة أو هذه الطعنة ردت الروح إلى بعض الأجساد، وعرفتهم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها، وكان هذا درسا ولكنه كان درسا قاسيا».
رُقى ناصر إلى رتبة اليوزباشى فى ٩ سبتمبر ١٩٤٢، وفى ٧ فبراير ١٩٤٣ عُين مدرسا بالكلية الحربية.. ومن قائمة مطالعاته فى هذه الفترة يتضح أنه قرأ لكبار المؤلفين العسكريين؛ من أمثال ليدل هارت وكلاوزفيتز، كما قرأ مؤلفات الساسة والكتاب السياسيين مثل كرومويل وتشرشل. وفى هذه الفترة كان ناصر يعد العدة للالتحاق بمدرسة أركان حرب.
وفى ٢٩ يونيو ١٩٤٤ تزوج ناصر من تحية محمد كاظم – ابنة تاجر من رعايا إيران – كان قد تعرف على عائلتها عن طريق عمه خليل حسين، وقد أنجب ابنتيه هدى ومنى وثلاثة أبناء هم خالد وعبدالحميد وعبدالحكيم.. لعبت تحية دورا مهما فى حياته، خاصة فى مرحلة الإعداد للثورة واستكمال خلايا تنظيم الضباط الأحرار؛ فقد تحملت أعباء أسرته الصغيرة عندما كان فى حرب فلسطين، كما ساعدته فى إخفاء السلاح حين كان يدرب الفدائيين المصريين للعمل ضد القاعدة البريطانية فى قناة السويس فى ١٩٥١، ١٩٥٢.
شهد عام ١٩٤٥ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية حركة «الضباط الأحرار»، وقد بحثت كثيرا علنى أجد ولو ورقة واحدة عن هذا التنظيم بلا جدوى، وتذكرت أنه كان تنظيما سريا، ومن الطبيعى ألا يسطر حرف واحد عنه حتى لا ينكشف أمره، لذلك فإننى أعتمد فى هذا الجزء من الكتاب على ما ذكره ناصر بنفسه عن «الضباط الأحرار»، فيقول: «لقد ركزت حتى ١٩٤٨ على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور فى مصر مبلغ استيائى، والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافى للإقدام على التغيير اللازم، وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين، نحاول أن نخرج مثلنا العليا العامة فى هدف مشترك وفى خطة مشتركة».
وعقب صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين فى ١٩٤٧، عقد الضباط الأحرار اجتماعا واعتبروا أن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد هذا الانتهاك للكرامة الإنسانية والعدالة الدولية، واستقر رأيهم على مساعدة المقاومة فى فلسطين.
وفى اليوم التالى ذهب ناصر إلى مفتى فلسطين، الذى كان لاجئا يقيم فى ضاحية مصر الجديدة بالقاهرة؛ فعرض عليه خدماته وخدمات جماعته الصغيرة كمدربين لفرقة المتطوعين وكمقاتلين معها، وقد أجابه المفتى؛ بأنه لا يستطيع أن يقبل العرض دون موافقة الحكومة المصرية. وبعد بضعة أيام رفض العرض، فتقدم ناصر بطلب إجازة حتى يتمكن من الانضمام إلى المتطوعين، لكن قبل أن يبت فى طلبه أمرت الحكومة المصرية الجيش رسميا بالاشتراك فى الحرب؛ فسافر ناصر إلى فلسطين فى ١5 مايو ١٩٤٨.
لقد كان لتجربة حرب فلسطين آثار بعيدة على ناصر، فعلى حد قوله: «لم يكن هناك تنسيق بين الجيوش العربية، وكان عمل القيادة على أعلى مستوى فى حكم المعدوم، وتبين أن أسلحتنا فى كثير من الحالات أسلحة فاسدة، وفى أوج القتال صدرت الأوامر لسلاح المهندسين ببناء شاليه للاستجمام فى غزه للملك فاروق!
وقد بدا أن القيادة العليا كانت مهمتها شيئا واحدا؛ هو احتلال أوسع رقعة ممكنة من الأرض بغض النظر عن قيمتها الاستراتيجية، وبغض النظر عما إذا كانت تضعف مركزنا العام فى القدرة على إلحاق الهزيمة بالعدو خلال المعركة أم لا.
وقد كنت شديد الاستياء من ضباط الفوتيلات أو محاربى المكاتب؛ الذين لم تكن لديهم أية فكرة عن ميادين القتال أو عن آلام المقاتلين.
وجاءت القطرة الأخيرة التى طفح بعدها الكيل؛ حين صدرت الأوامر إلىّ بأن أقود قوة من كتيبة المشاة السادسة إلى عراق سويدان، التى كان الإسرائيليون يهاجمونها، وقبل أن أبدأ فى التحرك نشرت تحركاتنا كاملة فى صحف القاهرة! ثم كان حصار الفالوجا الذى عشت معاركه خلال ستة أشهر؛ حيث ظلت القوات المصرية تقاوم، رغم أن القوات الإسرائيلية كانت تفوقها كثيرا من ناحية العدد؛ حتى انتهت الحرب بالهدنة التى فرضتها الأمم المتحدة فى ٢٤ فبراير ١٩٤٩».
إننى أذكر كيف ساعدت قرارات مجلس الأمن اليهود على أن يحققوا أهدافهم، فكانوا يعززون مواقعهم وتمكنوا من خطوط الجيش المصرى مستغلين قرارات الهدنة.
رُقى جمال عبدالناصر إلى رتبة صاغ أثناء حرب فلسطين فى 7 يوليو 1948، وجرح مرتين أثناء الحرب، ونقل إلى المستشفى، ونظرا للدور المتميز الذى قام به خلال المعركة؛ فإنه منح نيشان «نجمة فؤاد العسكرية » والمشبك فى عام ١٩٤٩.
وفى فلسطين شعر ناصر بأن الشعوب العربية ضحية لمؤامرة أخفت عنها عمدا حقيقة ما كان يجرى، وضللتها.. ويقول فى كتابه «فلسفة الثورة»: لقد كنت أحس أننى أدافع عن بيتى وعن أولادى، وكان ذلك عندما التقى فى تجوالى بين الأطلال المحطمة ببعض أطفال اللاجئين تحت الحصار، وأذكر بينهم طفلة صغيرة كانت فى عمر ابنتى، وكنت أراها وقد خرجت إلى الخطر مندفعة تبحث عن لقمة عيش أو قطعة قماش.
وكنت دائما أقول لنفسى: قد يحدث هذا لابنتى! كنت مؤمنا أن الذى يحدث لفلسطين يمكن أن يحدث لأى بلد فى هذه المنطقة، ما دام مستسلما للعناصر والقوى التى تحكمه.
وبعد رجوعه إلى القاهرة أصبح جمال عبدالناصر واثقا أن المعركة الحقيقية هى فى مصر؛ فبينما كان ورفاقه يحاربون فى فلسطين، كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التى اشتروها رخيصة وباعوها للجيش.
من جريدة صوت الأمة