عبد الحليم قنديل
رغم النكسة في يونيو 67 كانت المفاجأة الكبرى، وهي الخروج التاريخى الأسطوري المعجز لملايين الشعب المصري، وقد بدا تلقائيا زاحفا، جعل الكلمة للشعب وحده، وسط حطام وركام الهزيمة، وأعاد تكليف عبد الناصر بالمهمة التي كانت تبدو مستحيلة، وهي إعادة البناء من نقطة الصفر، ولم يكن لأحد وقتها، لا جمال عبد الناصر ولا غيره، إلا أن يخضع لكلمة الشعب الثائر الهادر في الميادين، بينما كانت الحرب لم تتوقف بعد، وكان الطريق مفتوحا أمام قوات العدو إلى القاهرة نفسها، وفي لحظة الهول الذاهل، كانت مصر تولد من جديد، وتستعصي على القبول بأقدار الهزيمة، وتنهض من رمادها ببركة جماهير 9 و10 يونيو 1967.
وبالطبع، كان بالوسع تجنب الهزيمة العسكرية، لو أن جمال عبد الناصر عالج الأوضاع المشوهة في قيادة الجيش مبكرا، وكان الزمن ممتدا للتصحيح، وعبر عشر سنوات تلت النصر الباهر على عدوان 1956، وفي غمرة تطورات هائلة، رفعت اسم عبد الناصر إلى مقام الأسطورة، لكنه لم يلتفت إلى خلل وسوس ينخر في قيادة الجيش، كان عنوانه عبد الحكيم عامر صديق عبد الناصر، الذي جمع حوله «شلة الأنس» من المنتفعين عديمى الكفاءة، على طريقة شمس بدران وغيره، وفي صورة ورم سرطاني، مال عبد الناصر للأسف إلى تأجيل استئصاله، وإن لجأ لعلاج وقتي، أضاف للقيادة رئيسا محترفا للأركان من نوع الفريق أول ـ فيما بعد ـ محمد فوزي، الذي حاصرته شلة عامر، وجعلته بلا دور، وكانت المفارقة فيما بعد، أن هزيمة 1967 نفسها وما تبعها من مضاعفات، هي التي وضعت ختاما لوضع الشلة العاجزة، وتقدمت بدور محمد فوزي، الذي لعب دور الساعد الأيمن لعبد الناصر في عملية إعادة بناء الجيش، وفي خوض حروب الاستنزاف، التي خلقت لمصر جيلا كاملا من الجنرالات الذهبيين، من أول الفريق الشهيد عبد المنعم رياض، إلى الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان الجيش في حرب أكتوبر 1973، فقد كنا بصدد ملحمة مصرية بامتياز، كان عبد الناصر فيها عنوانا للمقدرة الجبارة على التصحيح الذاتي، وعلى جرأة النقد الذاتي الصريح النافذ، وإعادة بناء جيش يليق بمصر العصرية، التي كانت قطعت أشواطا ممتازة في التصنيع الشامل، وفي خلق مجتمع جديد من قلب المجتمع القديم، وفي تعبئة مليون ضابط وجندي على خط النار، وفي استظهار التفوق الكامن في بنية الوطنية المصرية المعاصرة، وفي قفزات التقدم المتكامل في البنية العسكرية والبنية الصناعية، بما جعل مصر إلى ما بعد حرب أكتوبر 1973 عنوانا لجدارة اللحاق بالعصر، فقد كانت مصر حتى وقتها رأسا برأس مع كوريا الجنوبية، في معدلات التنمية الحقيقية والتصنيع الشامل والاختراق العلمي والتكنولوجي.
وقد لايتسع المقام لتفاصيل ضرورية، المهم فيما جرى هو المفارقة، التي انتهت بنا إلى ما نحن عليه، فقد كانت هزيمة 1967 عسكرية محضة، وكانت مصر بعدها قادرة على تجاوز العار العسكري حتى في ظل النظام السياسي والاقتصادي على جوانب النقص والعوار فيه، وكان عبد الناصر متنبها لها، وكان يعد لتصحيح وطفرة ثورية ديمقرطية شاملة، بعد إزالة آثار عدوان 1967، لكنه رحل فجأة في 28 سبتمبر 1970، ومصر لا تزال على الجبهة، ولم يكن في موقعه، وقت أن تقدم جيشه العظيم للعبور وهزم الهزيمة، وكانت تلك هي مفارقة الأقدار، التي جعلتنا ننتصر على الهزيمة العسكرية الخاطفة، لكنها حولت نصر أكتوبر العظيم إلى «نصر مخطوف»، فقد خذلت السياسة نصر السلاح، بل جعلت ما بعد النصر العسكري هزيمة حضارية شاملة، ولم يكن السادات مخيرا فيما يريد قبل حرب العبور، كان ظل عبد الناصر ممدودا، وكان السادات ينحني راكعا أمام تمثال نصفي لجمال عبد الناصر، وكانت التعبئة شاملة، ولم يكن بوسعه الإفلات من قدر الحرب، التي ما أن حدثت، حتى كانت المأساة تزحف وتبتلع معنى النصر العسكري، فقد اعتبرها السادات فرصته السانحة للانقلاب على اختيارات الثورة واختيارات عبد الناصر، وبدأ الانهيار العظيم بفك تعبئة جيش المليون، وبانفتاح «السداح مداح»، وإطلاق دواعي التفكيك الكامل لنظام ثورة جمال عبد الناصر، وبإطلاق حملة التكفير بعبد الناصر وعصره، وكانت أشبه بستار كثيف من الدخان، تقدمت تحته طلائع مشاة الثورة المضادة، من القوى الرجعية الكامنة في صلب النظام نفسه، ومن تيارات اليمين الديني، التي أفسح لها السادات في مجالات الحركة، مستعينا بها ضد خصومه الناصريين، ومن فوائض «البتروـ دولار» بثاراتها المجنونة ضد اسم عبد الناصر، ومن أدوار المخابرات الأمريكية التي زحفت على الدائرة الضيقة المحيطة بالسادات المذعور بعد انتفاضة 1977، وانتهت إلى عقد معاهدة العار، وإلى إدمان اقتصاد التسول والمعونات الأمريكية وغيرها، وإلى التجريف الذري لقلاع مصر الصناعية، وإطلاق موجات من النهب العام، سرقت فيها مصر كما لم يحدث في تاريخها الألفي، ودخلت إلى نفق انحطاط طويل، وإلى عصور من ركام، دفنت السادات نفسه تحت أنقاضها، وساقت مصر إلى أتعس مراحلها، بالحكم البليد الراكد الطويل للمخلوع مبارك، وسحقت المجتمع، وحولته إلى غبار بشرى هائم، خلع مبارك في ثورة احتجاج عارمة، لكنه لم يخلع نظامه، وخلع حكم الإخوان، وهم «القرين» لا «البديل» من بعده، ودون أن يصل دم الذين عبروا في حرب أكتوبر إلى غايته حتى الآن، فقد داس الذين «هبروا» على دم الذين عبروا، وهذا جوهر المأساة التي عاشتها وتعيشها مصر.
والتقاء تواريخ الهزيمة والنصر هذا العام، حتى إن كان بمصادفة دورات الزمنين الهجري والميلادي، يعيد طرح السؤال القديم الجديد، وعنوانه ظاهر بلا التباس، ومفاده السؤال عن توقيت ومعاني هزيمتنا بالضبط، فقد أثبتت مصر عبد الناصر أنها أكبر وأعظم من الهزيمة العسكرية، حتى لو كانت في فداحة وهول ما جرى في 1967، وكان قرار مصر أن تنتصر، وقدمت مثالا أسطوريا في التعبئة العسكرية، وفي مواصلة أشواط وقفزات التنمية والتصنيع بالوقت نفسه، إلى أن عبرت على خطوط النار، وأثبتت أن الأمم الحية لا تميتها هزيمة عسكرية مهما بلغت فداحتها، وما كادت معجزة النصر تحدث، حتى كانت المأساة في انتظارنا، وجرى استخدام النصر العسكري في تسويغ الهزيمة السياسية، فقد ثأرت مصر لنفسها عسكريا، لكن من آل إليهم الأمر وقتها، قادوها إلى هزيمة شاملة، وتلاعبوا بشعارات التجديد، وقادونا إلى التبديد، وجعلوا من يوم انتصارنا مقدمة لانهيارنا، لم يجددوا النظام، بل أحالونا إلى ركام، فقدت فيه مصر وهجها، وحطمت مثالها ومشروعها للنهوض، وخرجت من موقعها الطبيعي في قيادة أمتها العربية، وتركت سيوف الأعداء سالكة فينا، وبأوهام السلام الذي يجلب الرخاء، وكانت النتائج على ما تعرف وترى، فقد حصلت مصر على قروض ومنح لا ترد في أربعين سنة بعد نصر أكتوبر، بلغت في جملتها ما يزيد على 300 مليار دولار، جرى نهبها بالجملة، وانتهت بمصر إلى أوضاع غاية في الشذوذ، جعلت من المصريين أفقر شعب في المنطقة، وجعلت لديهم أغنى طبقة في المنطقة بالوقت ذاته، وحولت أوضاع المصريين إلى جحيم اجتماعي، جعل تسعين بالمئة من المصريين تحت خط الفقر الدولي، ولا يحوزون في جملتهم سوى فتات ربع ثروة مصر، بينما تسعة في المئة يملكون ربعا آخر، وعلى القمة الاجتماعية واحد في المئة من المصريين، يملكون وحدهم نصف إجمالي الثروة المصرية، وقد بدأت سيرة هؤلاء عقب نصر 1973، وبما عرف وقتها باسم «القطط السمان»، الذين تحولوا بعدها إلى حيتان، شفطوا ثروة مصر واقتصادها، واستولوا على أصولها وأرضها في دورات التفكيك والتجريف، ولا يزالون يواصلون حرب النهب العام من مواقع مؤثرة في البرلمان والحكومة والجهاز الإداري، ويحولون الدولة إلى «طابونة» باعتراف الرئيس السيسي نفسه، وهم أبناء وأحفاد عصابة النهب الأولى التي أطلقها السادات بعد معجزة العبور الحربي، ومكنت الذين «هبروا» من دوس دماء الذين عبروا، وخوض حرب الأربعين سنة لتجويع وإذلال المصريين.