
كان عبد الناصر صورة طبيعية غير مصطنعة نفذت إلي قلوب الجماهير العربية العريضة ووجدانها وفي اقطار لم يكن لعبد الناصر اي سلطان عليها، بل كانت حكوماتها تسعي للقضاء علي صورته في وجدان الناس
كان رثائي للرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر1970 بعنوان « وكأنك كنت تعلم.. «، سردت فيه ما توقعه وما تبناه من افكار وآراء واقتراحات والآن وبعد خمس وأربعين سنة اقول ايضا وللمرة الثانية : وكأنك كنت تعلم.. فقد قلت بمناسبة احد اعياد العمال : « كل المصانع ملك للشعب، ملك لك وملك لولادك وملك لإخواتك وملك لأهلك وملك لعيلتك الصغيرة، وملك لعيلتك الكبيرة. وطلعنا من الخطة الخمسية إنتاج، وحققنا نسبة مئوية كبيرة من الإنتاج، رايح لمين الإنتاج دا؟ لا حيدخل في جيب فلان ولا حيدخل في جيب علان، عندنا رئيس الجمهورية ما حيلتوش حاجة، ومالوش عيلة، مالوش دعوة، ومافيش عيلة حتحكمنا (تصفيق)، عندنا ابن رئيس الجمهورية زي ابن أي واحد، عندنا مجتمع مافيهش طبقات، بتذوب فيه الفوارق بين الطبقات، رئيس الجمهورية مين؟ رئيس الجمهورية أبوه واحد موظف أصله من عامة الشعب، كان بياخد ٢٥ جنيه، ماكانش ملك ولا كان سلطان أبداً! (تصفيق) وبكره حييجي لكم مين رئيس جمهورية؟ واحد منكم ماحدش يعرف، ماحدش حيحكمكم بعد ما استرديتم بلدكم إلا أنتم. دا اللي احنا حققناه، واللي احنا بنحارب من أجله، الرجعية بتحارب من إيه؟.. كما قلت في عيد الثورة التاسع في ميدان الجمهورية :
« إن أي فرد – أيها الإخوة المواطنون – ليس مخلداً، وليس هناك فرد من الأفراد مهما بلغت قيمته في أمته إلا صفحة من تاريخ هذه الأمة.. الشعب هو الخالد المتجدد.. الشعب هو الباقي.. الشعب هو الخالد المتجدد والشعب هو الباقي، وهو صانع التاريخ كله.
كما قلت يوم 23يوليو1967: « ان نضال الشعب المصري بدأ قبل عبد الناصر وسوف يمضي بعد عبد الناصر والأمة العربية سعت إلي وحدتها قبل عبد الناصر وستسعي بعد عبد الناصر، ولقد كنت أقول دائماً، ومازلت أقول: إنني لست قائد هذا الشعب، وقصاري ما يمكن أن أتمناه لنفسي من شرف أن أكون تعبيراً عنه في مرحلة معينة من نضاله المستمر قبل أي فرد وبعد أي فرد.. وقلت يوم 23يوليو 1968: إسرائيل تريد التفاوض المباشر، وتوقيع معاهدة صلح، ونحن نرفض هذا الكلام، إذن إسرائيل حصلت علي نصر عسكري ولم تستطع حتي الآن أن تحقق الهدف السياسي؛ توقيع معاهدة صلح مع أي من الدول العربية المحيطة بها.
إذن إسرائيل لا تنسحب.. تنسحب ليه من الأراضي اللي هي محتلاها بعد أن تمكنت من نصر عسكري ساحق؟ إسرائيل تبقي – زي ما هم ما بيقولوا – علي أمل أن تتغير الأوضاع أو تتغير الأنظمة، وتيجي أنظمة تقبل أن توقع معاهدة صلح مع إسرائيل.. تتغير الأوضاع ازاي؟ إن إسرائيل تعلم ان الاحتلال راسخ علي قلب كل فرد من أبناء الأمة العربية.. الاحتلال يمثل تمزق، الاحتلال شيء غير طبيعي.. كالكابوس بالنسبة لنا جميعاً، وتعتقد أن هذا قد يؤثر في جبهاتنا الداخلية، بما يمكنها من أنها – هي طبعاً والقوي الإمبريالية الاستعمارية التي تعمل من ورائها – تؤثر علي الجبهات الداخلية، وقد تستطيع إنها تغير الأنظمة وتجيب أنظمة تقبل أن تصل إلي صلح مع إسرائيل. طالما إسرائيل تعلم ان احنا لسه ما وصلناش إلي القوة العسكرية الهجومية الساحقة تبقي إسرائيل في أماكنها علي أساس أن تحقق النصر السياسي بتغيير الأنظمة.
كما قلت : «ولقد كنت أقول لكم دائماً: إن الأمة هي الباقية، وأن أي فرد مهما كان دوره، ومهما بلغ إسهامه في قضايا وطنه، هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية».
وقلت أيضا في يوم 25 أبريل 1968 : «الموضوع مش هو مسألة جلاء إسرائيل عن سيناء وحدها، يمكن لو كانت دي هي المسألة. أقدر احصل عليها بكرة بتنازلات.
أنا بقول للمثقفين يفكروا ما ينفعلوش، أنا بقول لو العملية سيناء بس عايز.. برضه تفهموا كلامي.. لو العملية سيناء بس سهلة.. العملية مصيرنا؛ مصير العرب.. علشان لو كنا عايزين نسترد سيناء ممكن بتنازلات بنقبل شروط أمريكا وشروط إسرائيل، نتخلي عن الالتزام العربي ونترك لإسرائيل اليد الطولي في القدس والضفة الغربية وأي بلد عربي، ويحققوا حلمهم اللي اتكلموا فيه من النيل إلي الفرات، وقال عنك اعداؤك كلاما اري ان يسجل للتاريخ. فقد كتب يوجين جوستين نائب رئيس وكالة المخابرات المركزية الامريكية ما نصه : «مشكلتنا مع ناصر انه بلا رذيلة مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء، ولا خمر، ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه او رشوته، او حتي تهويشه، نحن نكرهه ككل، لكننا لانستطيع ان نفعل تجاهه شيئا، لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد، انه لعنة جميلة». والمؤرخ البريطاني ارنولد توينبي كتب سنة 1967 يقول « ان امة رفضت الهزيمة برفضها الاستسلام لأهداف العدوان وفي مقدمتها الاطاحة بناصر لهي امة قادرة علي دحر العدوان والصمود امام الغزوات».. وكتب الصحفي الامريكي سالزبرجر في النيويورك تايمز سنة 1970 عقب وفاة عبد الناصر : ليس لدي ناصر خطوط مفروضة علي تفكيره او موضوعة مقدما لكنه يدير اموره حسب الظروف المحيطة به وهو شخصية عالمية تتسم بخيال خصب مقرون بشعور عاطفي، ان هذا المصري جم النشاط يعيد إلي ذاكرة العرب ملايين العرب القائد صلاح الدين الأيوبي الذي ظهر كأسطورة في قلب الصحراء من 800 سنة ليهزم ريتشارد قلب الأسد والصليبيين. الواقع انه لم تظهر شخصية عربية تمتعت بحب جماهيرالشرق الأوسط مثل شخصية ناصر الذي تتطلع بلاده إلي القيام بالدور الحائر الذي يبحث عن بطل في الشرق.» الجنرال الإسرائيلي بيليد واعترافاته حول أسباب حرب 1967 : والشهادة فيما أقول وفيما أقدر، تأتي من العدو – من الجنرال الإسرائيلي «بيليد» أحد قادة حرب1967 وهو الذي غزا القدس فقد دعا هذا الجنرال إلي مؤتمر صحفي في فبراير 1972 وفاجأ الكل بما لم يخطر علي بال أو خيال أحد فلقد أعلن أنه ضاق ذرعا بسلسلة الأكاذيب والأساطير التي يعيش عليها الشعب في إسرائيل منذ قيام الدولة وأنه قرر أن يستجيب لنداء ضميره وأن يعلن :
« إن ذروة الغش والخداع كانت في حرب 1967 التي أقنعنا شعبنا والعالم أنها كانت دفاعية ضد خطر داهم قادم من مصر والتي لم تكن في حقيقتها سوي حرب عدوانية قمنا بها لحساب الولايات المتحدة الأمريكية التي قررت أن عبدالناصر وحلفاءه السوفييت قد تجاوزوا كل الخطوط الحمراء وإذا لم يردعوا الآن سوف تفوت الفرصة». وتحدي « بيليد « جنرالات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن يقر أحدهم أن الحرب كانت دفاعية – ولم يرد أحد حتي الآن – وكانت أكبر فضيحة في تاريخ إسرائيل وأعمق شرخ في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ، وأعلن « بيليد « أنه لا يمكن لدولة أن تعيش للحرب وبالحرب وفي حالة حرب دائمة وأن ما تحتاجه إسرائيل هو السلام، والسلام الآن كما أعلن عن قيام الحركة التي غيرت الخريطة الإسرائيلية السياسية واعتزل ليدرس الحضارة العربية».
واذا استرسلت فسوف اكتب الكثير وأريد ان اصل لختام المقال مضطرا واقول:
ان ماهو باق، صورة جمال عبدالناصر وما اصبحت ترمز اليه من الاحساس بالكرامة والحرية وروح التحديث والشعور بالمكانة الدولية، فقد استطاع ان يمثل اغلبية شعب مصر تمثيلا صادقا وان يدافع عن الاماني القومية دفاعا حقيقيا واستطاع بذلك ان يتحول إلي رمز للحركة الوطنية المعاصرة فتبايعه عبر هذه الحركة شعوب الامة العربية بزعامة لم يحصل عليها من قبل اي انسان آخر لا من حيث اتساع افقها وشمولها، ولا من حيث نوعيتها، تنبثق من الشعب من مجموع طبقاته وفئاته وأفكاره وهي تنبثق من اماني الشعب، من مطالبه التي نادي بها من اكثر من قرن، ومن احلامه التي اخذت تتراءي له منذ ان لفته كوابيس التخلف والاستعمار والتفرقة والفقر ومن تراثه وكيانه القومي ومصالحه العامة..
الاخبار 2اكتوبر2015