
بالرغم من كل ما كتب وقيل عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وعن فترة حياته وحكمه وزعامته المصرية والعربية والعالمية وإنجازاته وإخفاقاته، فما زال هناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن ذلك كله، وسوف نحاول هنا أن نلقي بعض الضوء على ما نعتبره دروساً مستفادة من التجربة الناصرية.
وأول هذه الدروس المستفادة هو أن انحياز القائد السياسي او الزعيم إلى الجماهير العريضة من الشعب تضمن له مكانة لا تضاهى في الذاكرة الجمعية لأبناء شعبه وأمته، ليس فقط خلال حياته، بل وبعد مماته، وهو الأمر الذي يدل عليه حقيقة أن مئات الآلاف من المشاركين في ثورات وانتفاضات الربيع العربي، داخل مصر وخارجها، من الذين رفعوا صور جمال عبد الناصر ورددوا مقتطفات من كلماته وشعاراته هم ممن لم يروا جمال عبد الناصر مباشرة نظراً لأنهم ولدوا أصلاً بعد رحيله بسنوات، ولكنهم رأوا فيه من حقق لآبائهم وأجدادهم العزة والكرامة والفخار القومي والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والنضال من أجل الوحدة العربية الشاملة. ولا نعني بالانحياز للجماهير هنا الانقياد لها واتباع رغباتها اياً كانت، بل قيادتها وبلورة أولوياتها وخريطة طريقها وتشكيل الطليعة لها لفتح الطريق أمامها للكفاح من أجل تلبية متطلباتها واحتياجاتها.
وثاني الدروس التي نعرض لها هنا للتجربة الناصرية هو أن الأساس لشعبية القيادة السياسية هو دائماً ما يكون من خلال تبني مواقف من شأنها مراعاة الأبعاد والمطالب الاجتماعية والاقتصادية للسواد الأعظم من الشعب وليس لأبناء النخبة أو الصفوة فقط، بل إن معيار الزعامة الحقيقية والمستدامة لأي قيادة ينبع من إقرار نظام اقتصادي واجتماعي يمنح تكافؤاً للفرص فيما بين المواطنين ويسمح بتمكين المواطنين مجتمعياً من جهة التقدم إلى والحصول على فرص العمل والكسب والارتزاق والخضوع المتساوي أمام القانون، بالإضافة إلى تبني سياسات عامة من شأنها من جهة ضمان تحقيق توزيع أكثر عدالة وإنصافاً للدخل والثروة والموارد فيما بين المواطنين، ومن جهة أخرى توفير المخصصات المالية والفنية والبشرية المدربة والمؤهلة بما يحقق تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنين مثل التعليم والرعاية الصحية والمسكن الملائم والملبس المناسب ووسيلة النقل العامة الكريمة وغيرها، إما بلا مقابل أو بتكلفة تكون في متناول أيديهم ولا تمثل ضغطاً مبالغاً فيه على مواردهم المحدودة أصلاً.
أما ثالث الدروس المستفادة فيتعلق بحقيقة أن المدخل للعب دور نشيط وفاعل وقيادي على الصعيدين الإقليمي والدولي لأي دولة يرتهن بمدى ودرجة الاستقلال الوطني الذي تحظى بها هذه الدولة، ونعني بالاستقلال الوطني هنا أمرين يرتبطان ببعضهما البعض ارتباطاً عضوياً وهما استقلال القرار الوطني واستقلال الإرادة الوطنية، فبدون الاثنين معاً يستحيل من الناحية العملية أن تسعى الدولة إلى أو تدعي لعب دور ريادياً، سواء إقليمياً أو عالمياً. فعبر الاستقلال الوطني تتجه القيادة السياسية لتبني السياسات التي من شأنها أن تحقق المصالح الوطنية للدولة وتلبي متطلبات أمنها القومي، وما يترتب على ذلك تلقائياً من تعاظم الدور الوطني في الدوائر الإقليمية المحيطة على تعددها، ومن ثم تتصاعد قيمة الدولة ووزنها وتأثيرها وتصبح رقماً صعباً على الصعيد الدولي تسعى الاطراف الأخرى إلى التحالف معها أو على الأقل تجنب عدائها.
ورابع الدروس المستفادة والمستخلصة من أي دراسة موضوعية وتتبع المنهج العلمي، بجانب الالتزام الوطني والقومي، للتجربة الناصرية فهو ما يتصل بما أظهرته تلك التجربة والتطورات اللاحقة عليها في مصر بما لا يدع مجالاً للشك بأنه من المستحيل حماية المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتحقق بنضال الشعوب تحت قيادة زعامة ذات رؤية وطنية واجتماعية شاملة دون وجود مشاركة سياسية حقيقية للمواطنين ومؤسسات سياسية لكل منها شخصيتها المستقلة وينظم القانون، برضاء الشعب، وجودها واختصاصاتها والعلاقات فيما بينها ويضمن عدم طغيان أي منها على المؤسسات الأخرى في الدولة، وذلك كله في ظل نظام سياسي ديمقراطي يقوم على أسس احترام الحريات والحقوق الأساسية الفردية والجماعية للمواطنين وسيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات، وباختصار فلا حرية لوطن بدون حرية مواطنيه. فكل الإنجازات الاجتماعية التي حققتها القيادة الناصرية لجماهير الشعب المصري تم الارتداد عليها وإهدارها والتحرك في عكس اتجاهها في ظرف سنوات، طالت أو قصرت، بعد وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بسبب غياب التنظيم السياسي الذي يستطيع الدفاع عن هذه المنجزات، حيث ثبت أن التنظيم السياسي والشعبي القائم كان قد تم تحويل اتجاهه بشكل شبه كامل بدون مقاومة تذكر وبدأ نفس التنظيم يدافع عن سياسات متناقضة مع السياسات التي تم تأسيسه أصلاً للدفاع عنها.