
قبل ثورة يوليو، خلال مراحل التعليم العام، لم يتلق جيلى من أساتذته العلوم المقررة، وحدود السلوكيات فحسب؛ بل علمونا أن الفهم هو جوهر الحياة، وكانوا يبذلون جهدًا لمعاونتنا على إدراك وفهم الموجود فى حياتنا، وأيضًا غير الموجود الذى بدونه يصبح وجودنا ناقصًا، وراحوا يدفعوننا إلى القراءة بوصفها مفتاح إنتاجنا لذواتنا وعيًا وإدراكًا، فيمنحنا تواصلاً مع الممكنات لتأسيس تصورات لذلك الناقص فى حياتنا، استشعارًا بضرورته وتحفيزًا لممارسة السعى إلى وجوده، فى ظل الفوز بوعى متزايد لممكناتنا، وإثرائه الحس العام بمؤنة من القيم، من خلالها يتجلى استهداف مواجهة السالب المنتج للنقص، الذى يجعل وجودنا ناقصًا رغم استحقاقنا له، حرص أساتذتنا على تشجيعنا على طرح التساؤلات التى من خلالها يفتحون ممرات بين موضوعات الدرس، تتمفصل مع معطيات الواقع كى تنير العلاقة بين الوعى والوطن والدرس، وأيضًا كانوا يحذروننا من الاستجابة للخوف أو التخويف، فى مواجهة حيل انتهاك الحقيقة بوصفها محض حيل خادعة، ويشحذون إرادتنا للتصدى لمحاولات إنكار الحقيقة، لما يمثله هذا الإنكار من استدعاء حالة التوتر بين النفى والإثبات التى تهدد القناعة بالزوال؛ إذ انتهاك الحقيقة وإنكارها يشكلان تسلطًا لأوهام تحريفية، تستهدف انتزاع اليقين من أصحاب الحقوق المغتصبة، تعطيلاً للوعى الجماعى القادر على التغيير واسترداد الحقوق، وأهمها حق حرية الوطن، الذى رهانه الوجود الفعال لمواطنيه، صحيح أن أساتذتنا حرصوا على تتويج المعرفة فوق السلطة، والصحيح كذلك أنه بفضل اقتدارهم واستمرار جهودهم فى مساعدتنا على استيعاب تلك المفاهيم، تحررت حالتنا السكونية تجاه واقعنا؛ لذا خرجنا للتضامن مع تظاهرات حشود زملائنا من المدارس الأخرى، نهتف ضد الاستعمار البريطاني، ونعرى بالهتافات فساد معاونى الاستعمار، وتحديدًا الملك الخاضع لتعليماته، وكذلك الحكومات التى راحت بازدواجية تسوق الأوهام للشعب، وعلى الجانب الآخر تمارس كل ما يضادها بانتهاك استحقاقاته بكل وسائل الخداع والمناورة. فى 23 يوليو عام 1952 كان المنعطف الجذرى الذى تبدى بقيام ثورة الجيش المصري، بقيادة مجموعة من الضباط، التى ارتكز هدفهم على تحقيق سلطة الحق، تجسيدًا لأحلام الشعب المصرى وتطلعاته فى حرية وطنه، واسترداد حق إرادته الحرة. لقد بدأت الثورة بعزل الملك الذى اتخذ من الدولة مؤسسة شخصانية على حساب مصالح المجموع، تقاسمًا مع الاحتلال البريطاني. صحيح أن عزل الملك قد أسس بداية اعتصام جيلى وارتباطه بالثورة، ومتابعة خطواتها، والصحيح كذلك أن مسيرة إنجازاتها لمشروعها الوطنى العقلانى سياسيًا واجتماعيًا وصولاً إلى ثماره المرحلية بتحقيق سلطة الحق ووطن المعنى، قد عزز عمق ذلك الارتباط عمليًا؛ إذ فى سبتمبر عام 1952 حققت الثورة مبدأ عدالة الاستحقاق التى بدونها تفقد المساواة قدرتها على حماية الحقوق، حيث صدر قانون تحديد الملكية الزراعية، بحد أقصى مائتى فدان، ويوزع ما يزيد على ذلك على صغار الفلاحين. ولأن الأحزاب السياسية خلال تاريخها كانت تعانى استعصاء توافقها الذاتي، فوقعت أسيرة لعبة التوازن المختل، التى كان الاحتلال البريطانى والملك يديرانها إحكامًا للهيمنة، ولأن الأحزاب فى مشهدها السائد تربط القيمة بالفرد الذى يمتلك؛ لذا اعترضت على قانون تحديد الملكية الزراعية، وراحت تمارس صراعًا ضاجا ممتدًا، تغذيه أوهامهم بأن ما كان قائمًا فى الماضي، سيبقى فى المستقيل، وأن الثورة عمل عرضي، وأنهم سيفرضون أنفسهم بوصفهم بداهة تأسيسية غير قابلة للمراجعة، وذلك ما يلزم الثورة بارتجاع انتكاسى عن هذا القانون، ولأن ما يطرحونه محض تسويغات مبنية على الحق بالملكية المطلقة خارج شرعية الحق إجمالاً، استيلاءً وانفرادًا بالحكم؛ فإذ بمجلس قيادة الثورة يصدر قرارًا فى يناير 1953 بإلغاء الأحزاب، الذى أعقبه إعلان فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات، وصدور الدستور المؤقت، إيذانًا بمولد حقبة حضارية لمشروعية انتقالية تكسر احتكار علاقات القوة إبرازًا وترسيخًا لعلاقات العدالة، كما صدر أيضًا قرار فى العام نفسه باسترداد أموال الشعب وممتلكاته من أسرة محمد على بالمصادرة، وتبع ذلك أيضًا إلغاء النظام الملكى وإعلان النظام الجمهوري، تحقيقًا لوطن المعنى الذى تقاس كل نظمه، وقوانينه، وسلطاته بقدر ما تعكس معنى إيجابيًا على مواطنيه، اكتسابًا للحرية، والحقوق المدنية، إلى الحقوق السياسية، والحقوق الاجتماعية، وفى أكتوبر 1954 وقع جمال عبد الناصر مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة على الاتفاقية النهائية لجلاء القوات البريطانية عن مصر، بعد احتلال دام 72 عامًا، وفى مايو عام 1955 أصدر عبد الناصر أمرًا عسكريًا برفع الرقابة عن الصحف فى جميع المسائل التى تتعلق بنظام الحكم. صحيح أن ثورة يوليو كانت مهمومة بتحقيق دولة العناية، فوزًا بالحق الاجتماعى الذى تحرسه الحقوق المدنية والحقوق السياسية، وصحيح أيضًا أن وعيها النقدى لم يسترخ أمام تراكم الماضي؛ إذ ظلت تمارس توزيع عقود الملكية على أصحاب المساكن الشعبية، وكذلك توزع الأراضى على الفلاحين، لكن الصحيح كذلك أن الثورة على الجانب الآخر انطلقت فى مسيرة مشروع التصنيع، إيمانًا بأن المواطنة استحقاق يفرض عدالة توزيع فرص الحياة والتقدم للجميع؛ لذا قامت بإنشاء مشروع السد العالي، ومصنع الحديد والصلب، ومعمل تكرير البترول، تحقيقًا للتقدم الذى تتعاظم الحاجة إليه بقدر ما يتضاعف حس افتقاده، انتصارًا للوتيرة التقدمية واستحضارًا لكل ما ينقص الوطن، وفوز المواطن بوعى متزايد لممكناته، واستشعاره بجدارته.
صحيح أن ثورة يوليو -وفقًا لمنطق الثورات- دفعت بأحداث غير منتظرة، وأيقظت مواجهة حاسمة بين العقل والواقع، وفتحت منافذها على مختلف معطيات المعرفة، وأنتجت وعيًا جماعيًا قادرًا على إنتاج مشروعات التقدم، وصحيح أيضًا أننا ندين لعبد الناصر وجيشنا العظيم، بأنهم لم يدركوا الواقع المستبد فحسب؛ بل تخطوا بنا هذا الاستبداد بشجاعة اقتدار تنطوى على دلالة معنى الوطن، وصحيح أننى واحد من جيل عايش عهد ما قبل الثورة، ولم نستطع حتى أن نحلم باستحقاقاتنا؛ لذا كنا نحب عبد الناصر، ونحترمه، ونثق به ولا نختلف عليه، لكننا كنا نختلف معه، وتحديدًا مع معاونيه؛ كشفًا للتجاوز حرصًا عليه. وأذكر أنه فى عام 1966، صدر «ميثاق المثقفين» الذى نشرته زمجلة الاشتراكي» بمقدمة تؤكد أن أمانة الفكر والدعوة قد أنجزت ذلك الميثاق. وعندما أطلعت عليه أدركت أنه كتاب زمشاكل الأدب والفنس الذى ألفه ماوتسى تونج، وترجمه إلى العربية كمال عبد الحليم، وذلك ما يعنى أن هناك من يمحون ذاكرة الناس، وتبدى انفراطهم العبثى فى الإعلان عن ندوة بالاتحاد الاشتراكى لعرض الميثاق على المثقفين، فذهبت ومعى بعض من جيلي، وطلبت الكلمة فى بداية الجلسة التى ضمت جمعًا كبيرًا من المثقفين، وتساءلت: كيف نهرب من الاشتغال على مستقبل ذاتى التقدم، إلى استنساخ كتاب وندعى أننا وضعناه؟ ورحت أقرأ نصوص الميثاق المنشور، وما يطابقها من الكتاب؛ فإذا بأصوات المثقفين تتعالى تأييدًا لما طرحته، فتفرض فشل الندوة. وتم إلغاء الميثاق بعد ذلك. تحية متجددة لجيشنا فى ذكرى ثورته.