Jul 29, 2017
الأوضاع العربية الرسمية وشبه الرسمية بائسة وتمثل عبئا على المستقبل والمصير. من كان يتصور أن يصل البؤس إلى درجة الشراكة والعمل في خدمة الحركة الصهيونية وتلبية مطالبها، وتغليب مصالحها على كل المصالح الوطنية والقومية والإنسانية، وهي حالة شاذة من الخروج السافر على القيم والمبادئ السياسية والأخلاقية والدينية؛ ووصل الأمر حد الإقبال الطوعي على خدمة العدو والتضحية من أجله، وتنفيذ مطالبه؛ بتجريم المقاومة، وإدانة حق الدفاع المشروع عن النفس، والتصدي للعدوان، الذي تقره الشرائع الوضعية والسماوية، وتزكية ما يقوم به من فتن بين أبناء البلد الواحد، والاستجابة لتحريضه على قتال الأشقاء والاشتباك مع الجيران، وهي حالة معبرة عن اللامعقول واللامنطق السائد في زمن السقوط، ونوع من العبث غير المسؤول ومن التدني غير المسبوق.
لا تتوقف كثير من أجهزة الصحافة والإعلام عن تبرير السقوط وتزيينه في أعين الناس، ومن وجهة نظرها فإنه العمل المتاح والواقعي، أما حقيقته فإنه ضرب من الجنون وعدم التمييز. ولهذا تستمد الجرأة، التي تحلى بها المقدسيون وشجاعتهم وبلاؤهم الحسن وتضحياتهم؛ تستمد قيمتها من منع الرضوخ لمحاولات الترغيب أو الترهيب، وعدم الاستجابة لأي مساومة أو تفريط. وهناك من يسوق ذلك السقوط بدعاوى اعتبارات الواقع ومتغيرات الزمان، وكأنهأ تعمل بمعزل عن إرادة أصحاب الشأن وأصحاب القرار، الذين لو نظروا في المرآة لهالهم بشاعة وجوههم الشائهة، وما ألحقوه من أضرار بـ«القارة العربية»، وهذه المرآة تؤكد دوما أنهم وراء ما يحدث، وذكَّرنا هذا الحال بأبيات من شعر الإمام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا
والوضع الرسمي العربي هو المتسبب في تعقيد أوضاع فلسطين وأوضاع المنطقة، وهو المساهم الأكبر بإضافة نكبة العراق إلى نكبة فلسطين، وتدمير ليبيا، وتمزيق سوريا، وأنسى الناس ما جرى في الصومال من اقتتال، وما حدث للسودان من تقسيم.
وفي زمن المد الوطني والقومي، الذي ليس ببعيد، احتلت فلسطين مكانتها الطبيعية، وأضحت قضيتها هي قضية العرب المركزية، واجتمعت على نصرتها «قارة عربية»؛ بمسلميها ومسيحييها، وبكل من استقر على أرضها من ملل ونحل، وبما لها من تأثير فاعل ومتميز في الحضارة الإنسانية؛ كانت حاضنة للرسل ومهدا للرسالات؛ سواء ما انطلق منها، أو التي عبرت من أرضها أو تلك التي استقرت فيها.
فالخليل ابراهيم عليه السلام؛ وُلد في «أور» فيما بين النهرين (العراق)، ارتحل وصال وجال، وغطى منطقة المشرق العربي وشبه جزيرة العرب، وانتهى به المقام في فلسطين، ومات ودفن بالقرب من «مدينة الخليل» التي حملت اسمه.
والمسيح عليه السلام إبن قرية «بيت لحم» الفلسطينية، وبالقرب منها أقيمت كنيسة القيامة في المكان الذي شهد معجزات السيد المسيح، وبالنسبة للنبي محمد (صلعم) فقد أُسْرِي به «من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى»؛ أي من مكة إلى القدس، وكان الأقصى قبلة المسلمين الأولى؛ قبل إنتقالها إلى مكة.
منح التاريخ فلسطين وما زال يمنحها ما لم يمنحه لمكان آخر؛ منحها قيمة روحية عليا ومكانة دينية خاصة. وجاء زمن جعل منها بوصلة هادية للبشر جميعا؛ خاصة أولئك الذين ينشدون الحق ويتطلعون إلى العدل، ويتمسكون بالمثل العليا، ويُؤثِرون السلامة والعدل والمساواة، وحتى حين وقعت في أسر الاستيطان الصهيوني لم تفقد قيمتها ولا المكانة التي كانت لها، بل تأكدت وتعمقت، وشدت الأنظار بما فيها من تسامح وتعايش بين الأجناس والعقائد والألوان، ومن مظاهره ما استقر فيها من قرون وذلك بإسناد مهمة الإشراف على كنيسة القيامة لعائلتين مسلمتين؛ باتفاق وإقرار قساوسة ورهبان جميع المذاهب المسيحية، وبقيت فلسطين بلدا لا يميز بين إنسان وآخر؛ بسبب أصله أو عرقه أو عقيدته أو جنسه؛ ذكرا كان أم أنثى، الكل سواسية، واستمرت هذه سمة لهذا الجزء المتميز من العالم حتى جاءه الغزو الصهيوني؛ بعنصريته واستعلائه وتحقيره للبشر. ولعب أخطر الأدوار في بث الكراهية وسط الفلسطينيين وبين العرب والمسلمين، وضد القوى المناصرة للحق، والرافضة للاستيطان والاحتلال، وضد عرى العلاقة القوية التي ربطت بين كل هؤلاء.
كشفت ملحمة الأقصى عن وجهين كل منهما نقيض للآخر؛ الوجه الأول ملحمي قاده المقدسيون، وجذب إليه كل الفلسطينيين، وأنصارهم في كل مكان. والوجه الآخر بائس؛ عاكس لحال الانحدار والسقوط الرسمي العربي، وكانت الغالبية العظمى لا تتوقع حدوث مثل ذلك بعد درس النكبة سنة 1948، وقيام الدولة الصهيونية؛ فرضا بالحديد والنار والتآمر، وبالتدليس القانوني والإمكانيات الاقتصادية والمالية والعسكرية والعلمية، التي تكفلت بها دول ومنظمات ومؤسسات وروابط «صهيو كونية»؛ متحكمة في أغلب قادة وحكام العالم. ولم يكن لذلك أن يؤثر على ذلك النحو لو كانت «القارة العربية» تتمتع بلياقتها السياسية والعسكرية والعلمية، ولو كان العالم الإسلامي في حال غير حاله المزري الراهن، ولعب الضعف العربي والانقسام الإسلامي دورا كبيرا في رفد ذلك الكيان الغريب بالقوة، ووفر له جهدا وإمكانيات وأموالا وبشرا وعتادا وسلاحا، بجانب أن ما ترتب على عدم الاكتراث الرسمي بالاختراق الصهيوني للمؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية والتعليمية والأكاديمية العربية والإسلامية والافريقية؛ ما ترتب على ذلك من وجود خلايا سرطانية؛ تحاصر «القارة العربية» وتنهش لحمها وتقضي عليها تباعا، وتشل حركتها.
وانتهى العصر الجامع الذي عاشته «القارة العربية»، وكانت تلبي فيه نداء فلسطين مهما كان بينها من خلاف؛ وبداية نهايات ذلك العصر كان إعلان «القرار الفلسطيني المستقل»؛ للابتعاد عن الدائرة العربية الحاضنة، وتقليص المجال الحيوي للدول الإسلامية والإفريقية والآسيوية واللاتينية، وكانت كلها سندا وعونا، وكان ذلك ترجمة للتوجه الرسمي الفلسطيني شبه الانعزالي؛ كي يصبح جزءا من نظام رسمي عربي متراجع ومتهافت، واستعداده لتقديم التنازلات منذ ما بعد حرب 1973.
وحتى لو نجح من يختزلون القضية الفلسطينية في دائرة الصراع حول المسجد الأقصى، إلا أن الطبيعة والمكانة الخاصة للأقصى قادرة على تحويله إلى وعاء جامع؛ معبر عن القضية الفلسطينية برمتها، وعن المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعن أقطار «القارة العربية» المقسمة والمحتلة.
ورغم تلاشي تأثير التضامن العربي، واتساع مدى ومجالات حروب الطوائف والمذاهب والعشائر والمناطق؛ جاء غباء سلطات الاستيطان والاحتلال وتصرفاتها العنصرية والوحشية ليشعل نيران الغضب في كل فلسطين، وتابعنا بوادر أمل؛ يرد للأقصى اعتباره، ويعيد لفلسطين مكانتها، ويدفع إلى يقظة أمة طال سباتها، وعليها أن تنفض عن كاهلها ما تراكم من غبار التفريط والإذعان. والصور الملحمية للأطفال والفتيات والسيدات الفلسطينيات العزل، وهم يتصدون ببسالة لوحشية وسفالات الجنود الصهاينة، الذين تقهقروا أمام فتيات صغار وخافوا من أطفال في سنوات العمر الأولى. وهكذا فغالبا ما تكون اليقظة الفلسطينية بداية ليقظة عربية وتحرك إسلامي وعالمي
لا تتوقف كثير من أجهزة الصحافة والإعلام عن تبرير السقوط وتزيينه في أعين الناس، ومن وجهة نظرها فإنه العمل المتاح والواقعي، أما حقيقته فإنه ضرب من الجنون وعدم التمييز. ولهذا تستمد الجرأة، التي تحلى بها المقدسيون وشجاعتهم وبلاؤهم الحسن وتضحياتهم؛ تستمد قيمتها من منع الرضوخ لمحاولات الترغيب أو الترهيب، وعدم الاستجابة لأي مساومة أو تفريط. وهناك من يسوق ذلك السقوط بدعاوى اعتبارات الواقع ومتغيرات الزمان، وكأنهأ تعمل بمعزل عن إرادة أصحاب الشأن وأصحاب القرار، الذين لو نظروا في المرآة لهالهم بشاعة وجوههم الشائهة، وما ألحقوه من أضرار بـ«القارة العربية»، وهذه المرآة تؤكد دوما أنهم وراء ما يحدث، وذكَّرنا هذا الحال بأبيات من شعر الإمام الشافعي:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب
ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا
والوضع الرسمي العربي هو المتسبب في تعقيد أوضاع فلسطين وأوضاع المنطقة، وهو المساهم الأكبر بإضافة نكبة العراق إلى نكبة فلسطين، وتدمير ليبيا، وتمزيق سوريا، وأنسى الناس ما جرى في الصومال من اقتتال، وما حدث للسودان من تقسيم.
وفي زمن المد الوطني والقومي، الذي ليس ببعيد، احتلت فلسطين مكانتها الطبيعية، وأضحت قضيتها هي قضية العرب المركزية، واجتمعت على نصرتها «قارة عربية»؛ بمسلميها ومسيحييها، وبكل من استقر على أرضها من ملل ونحل، وبما لها من تأثير فاعل ومتميز في الحضارة الإنسانية؛ كانت حاضنة للرسل ومهدا للرسالات؛ سواء ما انطلق منها، أو التي عبرت من أرضها أو تلك التي استقرت فيها.
فالخليل ابراهيم عليه السلام؛ وُلد في «أور» فيما بين النهرين (العراق)، ارتحل وصال وجال، وغطى منطقة المشرق العربي وشبه جزيرة العرب، وانتهى به المقام في فلسطين، ومات ودفن بالقرب من «مدينة الخليل» التي حملت اسمه.
والمسيح عليه السلام إبن قرية «بيت لحم» الفلسطينية، وبالقرب منها أقيمت كنيسة القيامة في المكان الذي شهد معجزات السيد المسيح، وبالنسبة للنبي محمد (صلعم) فقد أُسْرِي به «من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى»؛ أي من مكة إلى القدس، وكان الأقصى قبلة المسلمين الأولى؛ قبل إنتقالها إلى مكة.
منح التاريخ فلسطين وما زال يمنحها ما لم يمنحه لمكان آخر؛ منحها قيمة روحية عليا ومكانة دينية خاصة. وجاء زمن جعل منها بوصلة هادية للبشر جميعا؛ خاصة أولئك الذين ينشدون الحق ويتطلعون إلى العدل، ويتمسكون بالمثل العليا، ويُؤثِرون السلامة والعدل والمساواة، وحتى حين وقعت في أسر الاستيطان الصهيوني لم تفقد قيمتها ولا المكانة التي كانت لها، بل تأكدت وتعمقت، وشدت الأنظار بما فيها من تسامح وتعايش بين الأجناس والعقائد والألوان، ومن مظاهره ما استقر فيها من قرون وذلك بإسناد مهمة الإشراف على كنيسة القيامة لعائلتين مسلمتين؛ باتفاق وإقرار قساوسة ورهبان جميع المذاهب المسيحية، وبقيت فلسطين بلدا لا يميز بين إنسان وآخر؛ بسبب أصله أو عرقه أو عقيدته أو جنسه؛ ذكرا كان أم أنثى، الكل سواسية، واستمرت هذه سمة لهذا الجزء المتميز من العالم حتى جاءه الغزو الصهيوني؛ بعنصريته واستعلائه وتحقيره للبشر. ولعب أخطر الأدوار في بث الكراهية وسط الفلسطينيين وبين العرب والمسلمين، وضد القوى المناصرة للحق، والرافضة للاستيطان والاحتلال، وضد عرى العلاقة القوية التي ربطت بين كل هؤلاء.
كشفت ملحمة الأقصى عن وجهين كل منهما نقيض للآخر؛ الوجه الأول ملحمي قاده المقدسيون، وجذب إليه كل الفلسطينيين، وأنصارهم في كل مكان. والوجه الآخر بائس؛ عاكس لحال الانحدار والسقوط الرسمي العربي، وكانت الغالبية العظمى لا تتوقع حدوث مثل ذلك بعد درس النكبة سنة 1948، وقيام الدولة الصهيونية؛ فرضا بالحديد والنار والتآمر، وبالتدليس القانوني والإمكانيات الاقتصادية والمالية والعسكرية والعلمية، التي تكفلت بها دول ومنظمات ومؤسسات وروابط «صهيو كونية»؛ متحكمة في أغلب قادة وحكام العالم. ولم يكن لذلك أن يؤثر على ذلك النحو لو كانت «القارة العربية» تتمتع بلياقتها السياسية والعسكرية والعلمية، ولو كان العالم الإسلامي في حال غير حاله المزري الراهن، ولعب الضعف العربي والانقسام الإسلامي دورا كبيرا في رفد ذلك الكيان الغريب بالقوة، ووفر له جهدا وإمكانيات وأموالا وبشرا وعتادا وسلاحا، بجانب أن ما ترتب على عدم الاكتراث الرسمي بالاختراق الصهيوني للمؤسسات السياسية والاقتصادية والمالية والتعليمية والأكاديمية العربية والإسلامية والافريقية؛ ما ترتب على ذلك من وجود خلايا سرطانية؛ تحاصر «القارة العربية» وتنهش لحمها وتقضي عليها تباعا، وتشل حركتها.
وانتهى العصر الجامع الذي عاشته «القارة العربية»، وكانت تلبي فيه نداء فلسطين مهما كان بينها من خلاف؛ وبداية نهايات ذلك العصر كان إعلان «القرار الفلسطيني المستقل»؛ للابتعاد عن الدائرة العربية الحاضنة، وتقليص المجال الحيوي للدول الإسلامية والإفريقية والآسيوية واللاتينية، وكانت كلها سندا وعونا، وكان ذلك ترجمة للتوجه الرسمي الفلسطيني شبه الانعزالي؛ كي يصبح جزءا من نظام رسمي عربي متراجع ومتهافت، واستعداده لتقديم التنازلات منذ ما بعد حرب 1973.
وحتى لو نجح من يختزلون القضية الفلسطينية في دائرة الصراع حول المسجد الأقصى، إلا أن الطبيعة والمكانة الخاصة للأقصى قادرة على تحويله إلى وعاء جامع؛ معبر عن القضية الفلسطينية برمتها، وعن المقدسات الإسلامية والمسيحية، وعن أقطار «القارة العربية» المقسمة والمحتلة.
ورغم تلاشي تأثير التضامن العربي، واتساع مدى ومجالات حروب الطوائف والمذاهب والعشائر والمناطق؛ جاء غباء سلطات الاستيطان والاحتلال وتصرفاتها العنصرية والوحشية ليشعل نيران الغضب في كل فلسطين، وتابعنا بوادر أمل؛ يرد للأقصى اعتباره، ويعيد لفلسطين مكانتها، ويدفع إلى يقظة أمة طال سباتها، وعليها أن تنفض عن كاهلها ما تراكم من غبار التفريط والإذعان. والصور الملحمية للأطفال والفتيات والسيدات الفلسطينيات العزل، وهم يتصدون ببسالة لوحشية وسفالات الجنود الصهاينة، الذين تقهقروا أمام فتيات صغار وخافوا من أطفال في سنوات العمر الأولى. وهكذا فغالبا ما تكون اليقظة الفلسطينية بداية ليقظة عربية وتحرك إسلامي وعالمي