الرئيسية / قصة ..العشقُ المرّ

قصة ..العشقُ المرّ

بسام شفيق أبو غزالة

 

(1)

 

  • الله! معقول؟ لا، مستحيل!

قالها وهو يُحملقُ بالفتاةِ الشابّةِ التي تمرُّ من أمامِهِ في المتجرِ، تجرُّ معَها طفلاً صغيراً لا بدَّ أنه ابنُها. عجِبَ أنْ يكونَ مثلُ هذا الشبهِ بين هذه الفتاةِ الجميلةِ الرشيقةِ وابنةِ عمِّهِ التي كان يُحبُّها في صِغَرِهِ قبلَ نيِّفٍ وأربعين عاما. لا يُمكنُ أن تكونَ هي، فهذه الصبيَّةُ الجميلةُ تبدو في العشرين من عمرِها. لكنَّها قطعةٌ منها أو تكاد.

قطعةٌ منها؟ أيُعقلُ ذلك؟ ولمَ لا؟ تشجَّعَ للفكرةِ، فاتَّجَهَ صوبَها، وقال:

  • معذرةً، يا ابنتي، أعتقدُ أنني أعرفُك.
  • تعرفُني؟ (قالت باستغراب.)
  • إيه.. ربما.. أتعرفين الحاجَّ صايل العثمان؟
  • الحاجَّ صايل العثمان؟ نعم، نعم، هذا جدِّي. (قالتها وقد اتسعتْ حدقتا عينيها.)
  • جدُّكِ لأبيك أم لأمِّك؟
  • بل لأمي؟
  • أنتِ ابنتُها، إذن؟ أعني بنتَ زينبَ بنتِ الحاجّ صايل؟
  • نعم. أتعرفُ أمِّي؟
  • أعرفُها؟ بل، أعرفُ كلَّ عشيرتها. الحاجّ صايل ابنُ عمِّ والدي.
  • لكنْ… كيف عرفتَ أنني بنتُ زينب؟
  • من الشبه. تُشبهينَها كأنَّكِ قطعةٌ منها!
  • صحيح! معظمُ الناسِ يقولون إنني أُشبهُ أمي.
  • نعم، أظنكِ تشبهينها كثيراً، وهذا ما حدا بي إلى أنْ أسألَكِ عنها. ووالدُكِ… من الديرة أيضا؟ أعني ديرةَ بني مسعود، طبعاً.
  • لا، والدي، رحمه الله، من نابلس. مَن حضرتُك؟
  • أنا اسمي جابر، جابر المسعودي، ابن الحاجّ نوّاف البدوان المسعودي.
  • الحاج نوّاف؟ آه، طبعا، هذا عمُّ أمِّي.
  • أمُّكِ؟ ما أخبارُها؟ أين هي؟ ومن هو والدُك؟
  • والدي، رحمه الله، هو حامد العلي، تُوفِّيَ قبل سنوات. أما أمِّي، فهي الآن في ضيافتي. جاءتْ إلى الكويتِ قبل أسبوع. كان من المفروضِ أنْ تأتيَ معي إلى السوق، لكنَّها بقيتْ في البيتِ مع ابنيَ الرضيع.
  • صحيح؟ يا لَسوءِ حظِّي! ليتَها كانتْ معكِ، لكنتُ رأيتُها. أين هي؟ أعني أين تقيمون؟
  • في السالمية.
  • آه، حيثُ أقيم.

ثم نظرَ إلى الطفلِ الذي معها، وسألها، مُرَبِّتا على رأسِه:

  • هذا المحروسُ ابنُكِ طبعاً.
  • نعم، ابني الكبير.
  • ما شاء الله، ما شاء الله، من أبوه؟
  • سامر العلي، من أبناء عمومتي، مهندسٌ في شركة مقاولات.
  • أنعِمْ وأكرِمْ، أنعِمْ وأكرِمْ. وأنتِ يا ابنتي، ما اسمُك؟
  • أنا اسمي عبير.
  • عاشت الأسماء. هل يُمكنني أن أكلِّمَ بنتَ عمِّي؟ أعني الوالدة، لم أرَها منذ الهجرة، منذ الـ48.
  • طبعاً، طبعاً، سأخبرُها حين أعود. أعطِني رقمَ هاتفِك، وسأعطيكَ رقمَنا. … لحظة … أظن أنني أحملُ بطاقةَ زوجي، عليها هاتفُ بيتنا. (أخرجت البطاقةَ من حقيبتِها وأعطته إياها.)
  • شكراً، شكراً، يا ابنتي. خذي أيضاً بطاقتي، أعطِها للوالدة، عليها أرقامُ هواتفي. أنا أعملُ جرّاحاً في الصَّباح .. مستشفى الصَّباح. سأتصلُ بعد الظهر، حين يعودُ زوجُك، لأتعرَّفَ عليه أيضاً.
  • أهلا وسهلا، تشرفنا، عمّو. سأُخبرُ الوالدةَ بلقائنا طبعا.
  • شكراً يا ابنتي، لكنني سأتصلُ أنا أيضاً. إيه… هل تحتاجين إلى مساعدة؟ أعني هل معك سيارة؟
  • نعم، نعم، سيارتي معي. شكراً، عمّو!
  • إذن، إلى اللقاء، سلِّمي على الوالدة.

 

 

 

(2)

 

 

وقد يَجمَعُ اللهُ الشتيتينِ بعدما يظنان كلَّ الظنِّ ألا تلاقيا!

خرجَ جابر من المتجرِ مذهولاً لهذه المصادفةِ الرائعة، وساقَ سيارتَه إلى منزلِهِ وهو سارحٌ فيما حدثَ له الساعة.

أخذتْهُ أحلامُ يقظتِه عبرَ سني حياتِه، وأخذَ يُناجي نفسَه وقد سيطرَ عليه العَجَبُ:

إذن، هذا ما ظننتُ. إنها بنتُ زينب. نسخةٌ عنها طبقُ الأصل. سبحانَ الله! آه، يا زينبُ الرقيقةُ السمحة! منذ متى لم أرَ وجهَكِ السمح؟ أيتُها الغزالةُ التي كانت أزهارُ الربيعِ تموجُ على السهلِ حين تَمُرِّينَ بها، أيتُها النسمةُ البحريةُ التي كانت عصافيرُ القريةِ كلُّها تُفيقُ في الفجرِ عند هبوبِك، أيتُها النجمةُ التي لم تفارقْ سمائيَ طوالَ هذا العمر! أما زلتِ يا زينبُ تذكرين صديقَ طفولتِك، جابرَ ابنَ عمِّكِ؟ هذا الشقيَّ الذي لم يُنِلْهُ القدَرُ وعدَكِ بأن تبقَيْ له وحدَه، هذا الشقيَّ الذي لم يُعطِهِ القدَرُ فرصةً واحدةً ليفيَ بوعدِه لك. لكنَّكِ بقيتِ مقيمةً في مقلتيهِ منذ الهجرةِ، لم تغادريهما قطّ. وهذا سرُّ حياتِه. فرّقتْنا الهجرةُ، يا زينبُ، ولم أعثرْ لك بعدَها على أثر. أين حملتْكِ رياحُ الشتات؟ إلى نابلس؟ وتزوّجتِ هناك، وأنجبتِ أولادا وأحفادا؟ أنا، يا زينبُ، لم أتزوّجْ قطّ. هكذا شاءَ لي القدرُ. لعلِّي ما استطعتُ أنْ أستسيغَ امرأةً غيرَك، أو لعلَّ النساءَ كنَّ يَرَيْنَكِ في مقلتيَّ، فيعلمْنَ أنْ لا مكانَ لهنَّ فيهما. مجنون؟ ربما. لكنني حقاً كنتُ سأظلمُ من أتزوَّجُها، لأنني لن أرى في وجهِها إلا وجهَكِ السمحَ. أنا طبعاً لا أعاتبُكِ أنكَ تزوّجتِ من غيري، لا أعاتبُكِ أبدا. إذ كيف تنتظرين من لا تعرفين له مكانا؟ لا أعاتبُكِ، يا زينبُ، بل أرجو أن تكوني سعيدةً في حياتِك. أأسعدكِ زوجُك قبلَ وفاتِه؟ أرجو ذلك. كم سأفرحُ لو أعلمُ أنكِ سعيدةٌ في حياتِك! لا أريدُ منكِ شيئاً سوى أن تتذكريني، أن تتذكري بساتينَ “الديرة”، حيثُ كنا نلعبُ معاً، أن تتذكري جدولَ الماءِ، حيث كنتُ أنصبُ الفخَّ للحساسين، ثم أعطيكِ كلَّ ما جمعتُ من صيدٍ في ذلك اليوم، مُكتفياً ببريقِ عينيكِ الفرحتين حين تأخذينَ العصافيرَ وتركضين بها إلى أُمِّك. أتذكرينَ يوم طوَّرْتُ الفخَّ إلى شبكةٍ فصرتُ أصيدُ الحساسينَ بالجملة؟ يومَها صنعتْ لنا أمُّكِ كفتةً بالصينيةِ من لحمِ تلك الحساسينِ وعظمِها الطريّ. لو تعلمينَ كيف كنتُ أوهمُكِ أنني آكلُها بنهم، ولكنِّي حقيقةً لم أكنْ آكلُ منها أكثرَ من لقمةٍ أو لقمتينِ كيْ أتركَ لكِ كاملَ الصينية. كنتُ أُمتِّعُ نظري بمرآكِ تلتهمينها بشهيَّةٍ بالغة. أكنا متوحِّشَيْنِ، نصطادُ الحساسينَ لنأكلَها؟ عذرُنا يومَها أننا كنا صغاراً لا نُدركُ أنَّ اللهَ خلقَ الحسُّونَ ليتمتَّعَ الناسُ بألوانِه وزقزقتِهِ لا بلحمِه! ما كان أجملَ طفولتَنا في القريةِ قبلَ الهجرةِ، يا زينب! كنتُ أكبُرُكِ ببضعِ سنينَ، وكنتِ تنظرين لي بإعجابٍ بالغٍ، فأزدادُ حماسا في كلِّ ما أفعل.

أتذكرينَ، يا زينبُ، يومَ صنعتُ لك طيّارةَ الورقِ وطيّرتُها في سماءِ القرية، ثم حينَ أعطيتُكِ طرفَ خيطِها لتتمتّعي أنتِ بتطييرِها، هبّت ريحٌ قويةٌ نوعاً ما، فعاندتكِ الطيّارةُ وأفلتَتْ من يدِكِ الطريّة؟ هربتْ منكِ الطيارةُ وحطَّتْ في بستانِ الحاجّ يونس. بكيتِ يومَها حزينةً، أو ربَّما مُحرَجةً، لا أدري. قلتُ لكِ لا تبكِ يا زينب، فداكِ الطيّاراتُ كلُّها. ثمّ قفزتُ إلى بستانِ الحاجِّ يونس لأجلبَ الطيّارة، فاعترضَ الحاجُّ يونس سبيلي ونهرَني. رحمَه الله، كم كان مضرِبَ المثلِ في البخلِ والنكد! لم يكنْ يضحكُ لرغيفِ الخبزِ الساخن! صاحَ بي:

– “كفاكم ولدنةً يا شياطين!”

فاستعطفتُهُ أنني لا أريدُ سوى أن أستردَّ الطيّارة من على شجرةِ التين التي سقطت عليها، ولم يكن باستطاعتي أن آخذ شيئاً من ثمارِ تلك الشجرةِ لأن الوقتَ كان ربيعاً لا صيفاً، والتينُ لا ينضج ثمرُه إلا في الصيف. وافقَ الحاجّ يونس أخيراً، على ألا أكرِّرَ فعلتي المشؤومةَ تلك. وعدتُهُ، طبعاً، ألا أكرِّرَها، وتسلقتُ شجرةَ التينِ التي وقعتْ عليها الطيّارة، والحاجُّ يونس يراقبُني في كلِّ حركاتي وسكناتي. لا أدري ما حدث بعد ذلك، لعلي صعدتُ على غصنٍ لم أنتبه أنه ضعيف، فانكسرَ الغصنُ الذي وقفتُ عليه، وتعلقتُ بغصنٍ آخرَ، لكني حين لم أستطع أنْ أصعد أكثر، آثرتُ أن أقفزَ على الأرضِ، لكنني وقعت على حجرٍ فالتَوَتْ قدمي تحتَ جسدي، وشعرتُ بألمٍ شديدٍ كاد يخنقني. حمدتُ اللهَ أن الحاجَّ يونس ظنَّ قدميَ انكسرت فشفعتْ لي عنده، وإلا ما سلمتُ من توبيخِهِ لي لأنني كسرتُ غصنَ تينتِه الغالية! لكنّه وبّخني على أيِّ حالٍ لأني وقعتُ عن الشجرة، فصاح بي:

  • “شياطينُ الجنِّ سبقتموها، يا عفاريت!”

تساءلتُ في نفسي: “ألم يكونوا عفاريتَ مثلَنا حين كانوا صغارا، أم أنهم هكذا خُلقوا، متجهِّمين لا يعرفون اللعب؟”

لكنّ النكدَ حين يستبدُّ ببعضِ الكبارِ يجعلُهم ينسَوْن طفولتَهم! حين وقعتُ على الأرضِ، هرولتِ صوبي، يا زينبُ، فزعةً والخوفُ يأكلُ وجهَكِ الطفلَ، وأنتِ تسألينَ بجزعٍ وعيناكِ الفزعتان لا تفارقان وجهَ الحاجِّ يونس المتجهم، وكأنك تستعطفينه أن يعفو عني. قلتِ لي جزعة:

  • “طمئنِّي، هل أنتَ بخير؟”

طمأنتُكِ ونهضتُ بسرعةٍ، ومشيتُ معكِ إلى الدارِ مُتّكئاً على كتفِكِ أُجرجرُ قدمي، وبقيتْ الطيارةُ على التينةِ تنوشُها الريح. أخذتِ تبكين، فقلتُ لك:

  • “لا تبكي، يا زينبُ، سأصنعَ لك طيارةً غيرَها.”

لكنّك قلتِ لي وأنتِ تجهشين باكيةً:

  • “لا أريدُ الطيّارة، فداكَ كلُّ الطيّارات!”

لا تدرينَ يومَها أنّني ما عدتُ أُحِسُّ بوجعِ قدمي لسماعِ كلماتِكِ تلك. اضطربَ قلبي في أضلعي، فقلتُ لك:

  • “لا تخافي، يا زينب، هاهي رجلي سليمة.”

وتحاملتُ على نفسي حتى وصلتُ إلى الدار. قصصتُ لأمي ما حدث لي، فضحكت ربما لتخفيَ جزعَها، وقالت: “بسيطة يا ابني، أنت رجل. والآن سيأتي أبوك ويأخذُكَ إلى أبي حمدانَ المجبّر، وإن شاء الله سليمة.” بعد قليلٍ جاء أبي، فلما رأى رجلي، حاول أن يجسَّها، لكني صرختُ من الألم. فقالت له أمي، “خذه لأبي حمدان العوض، هو أدرى منا.” أركبني أبي على ظهر الحمارِ وأخذني إلى مُجبِّرِ القرية أبي حمدانَ العوض. حمِدَ اللهَ والدي حين قالَ له المُجَبِّرُ إنها مجرّدُ التواءٍ مؤلمٍ، وليست كُسرا. بلى، كانت مؤلمةً، خاصَّةً حين جسَّها المُجبِّرِ ليُقوِّمَها. لحسنِ الحظِّ أنكِ لم ترَيْني وهو يُقوِّمُها. ماذا كنتِ تفعلين لو رأيتِني حين كانت روحي تكادُ تخرجُ من أحشائي، والمُجَبِّرُ يقول لي:

  • “يا ولد، لا تبكِ كالبنات، أنتَ رجُل.”

لم أفهمْ ساعتَها كيف أكونُ ولداً ورجُلاً معا. عندَها تذكّرتُكِ، فسكتُّ حتى لا تَسْمَعِي أنيني، مع أنكِ كنتِ بعيدةً في الدار. لكنَّ الوجعَ ذهبَ ثانيةً حين رأيتُ بريقَ عينيكِ وأنتِ تنظرينَ مُشفقةً إلى رجلي في الجبيرة. قلتُ لك:

  • “لا تخافي يا زينب، فداكِ، سأصنعُ لك طيّارةً أخرى.”

بلى، حين صحّت رجلي وأزال لي المجبّرُ الجبيرة، صنعتُ لكِ طيّارةً أكبر، وربطتُّ بها دناديشَ ملوَّنةً وطيّرتُها لك. لكنّكِ حين أمسكتِ بها، عاندتكِ هي الأخرى فأفلتَ الخيطُ من يدكِ. كنتُ وقتَها مستعداً للأمر، فقفزتُ وأمسكتُ بالخيط، لكني حين فعلتُ، لامستْ شفتايَ وجهَكِ الغضَّ، فلم أستطعْ إلا أنْ أقطفَ منه قبلةً لا يزالُ طعمُها في فمي حتى الساعة. كم احمرَّ وجهانا ساعتَها! لعلّنا شعرْنا بالذنبِ، أو خفنا من الأهل. لكنّني يومئذٍ رأيتُ السماءَ تكتسي بلونِ الأرجوانِ على غيرِ عادتِها، وفجأةً نوّرت أزهارُ الحقولِ، وأخذتْ أشجارُ البساتينِ تتموّجُ مُبتسمةً لنا، ورأيتُ الحساسينَ تزقزقُ فرحةً بنا، وتغوصُ إلى قناةِ الماءِِ تستحمُّ فيها ضاربةً بجنحانِها الماءَ جذلى، فشعرتُ بفرحٍ يغمرُني لم أشعرْ بمثلِه من قبلُ قطُّ. لكنّ هذا الفرحَ عادني اليومَ حين التقيتُ ببنتِكِ الطيبةِ، عبيرَ، هذا الصباحَ وأخبرتْني أنك ضيفةٌ عندَها في الكويت، ووعدتْني بأن نلتقيَ بعد هذا الدهرِ الطويل.

حين عُدتُ إلى الدارِ، تفرّستُ في وجهِ أمِّي. كنتُ أظنُّ أنّها لا بدَّ عرفتْ بأني قبّلتُ وجنتك، وكان مثلُ هذا محرّما في تقاليدِنا يومئذ. صحيحٌ أنها لم ترَنا، لكني كنتُ دائماً أخشى من العصفورةِ أنْ تُخبرَها أو أنْ تُخبرَ أمَّكِ بكلِّ شيء. كم كانت فتّانةً تلك العصفورةُ أيامَ الطفولة، لا تحفظُ سرًّا أبدا! خفتُ أن يمنعوني من اللعبِ معكِ، لكنَّ أمِّي كانت منهمكةً في إعدادِ طعامِ العَشاء، ولم يبدُ على وجهِها شيءٌ، فحمدتُ اللهَ وتعشّيْتُ مطمئنّا. أما زلتِ تذكرينَ تلكَ القبلةَ، يا زينب؟ لا أدري. أما أنا، فلم أنسَها قطُّ، وكلّما تذكرتُها وخَزَ الألمُ مضجعي. كم كنتُ أتمنى لو كبرنا سويًّا في الديرة ولم تعصفْ بنا رياحُ النكبةِ ولم يُشتِّتنا التهجيرُ القسريّ. قتلَ اللهُ اليهودَ السكناج، كم قتلوا أحلامَنا وشرّدونا في فيافي الأرض. بل قتل اللهُ هذا العالَمَ المُجرمَ الذي يتحكّمُ به الأقوياء. بل قتل اللهُ كلَّ حاكمٍ عربيٍّ تقاعسَ عن خدمةِ أمتِه وتهاونَ في الحفاظِ على منعتِها.

هل تعلمين، يا زينبُ؟ بعد شتاتِنا ومذلتِنا أشعرُ بأنني انقلبتُ إلى وحشٍ كاسرٍ كلّما تذكرتُ اليهودَ السكناج. لو أقابلُ واحداً منهم، فلن أستمتعَ بشيءٍ أقلَّ من شقِّ صدرِه وأكلِ كبدِه! كان لي صديقٌ أمريكيٌّ في الجامعةِ كنتُ شرحتُ له قضيتَنا وأخذتُه معي لزيارتِنا في مُخيَّم عينِ الحلوة، حيث أُلقيَ بنا، فأصبح من أشدِّ تلاميذِ الجامعةِ تضامناً معنا. هو نفسُه قال لي ذات يوم:

  • “هل تعلمُ يا جابر، لو أُصبنا بمثلِ نكبتِكم، لحملتُ رشاشاً وقتلتُ كلَّ يهوديٍّ أراه أمامي.”

قلتُ له:

  • “وأنا سأفعل، لكنْ أين أجدُ هؤلاء اليهود؟ في لبنان يهودٌ عربٌ التقيتُ بواحدٍ منهم له دكانٌ في سوق الطويلةِ، لكني لم أشعرْ تجاهَه بأيّةِ ضغينة. أنا لستُ ضدّهم كيهودٍ خاصةً العربَ منهم، لكنّ اليهودَ الأوربيين شيءٌ آخر. هم الذين احتلوا ديارَنا وأخرجونا منها.”

قال لي:

  • “نعم أتفهّمُ كلامَك، لكنْ، بعد أن اطلعتُ على قضيّتِكم أصبحتُ أشعرُ بحماسةٍ لو رأيتُ بعدها يهوديًّا لقتلته.”

قلتُ له:

  • “حين تعودُ إلى الولاياتِ المتحدةِ هل ستفعلُها؟”

ضحك وقال:

  • “من يدري؟ إن فعلتُها فسأقولُ للشرطةِ إني أثأرُ لصديقي جابر ولأهلِه الذين أفقرهم تهجيرُهم القسريُّ من بلادِهم، واستضافوني بكرمٍ كبيرٍ في مخيّمِ اللاجئين في عينِ الحلوة!”

لكني قلتُ له:

  • ليتك يا صاحبي تحتجُّ لدى حكومةِ بلادِك التي تدعم الاحتلالَ الإسرائيليَّ بأكثرَ مما يدعمُ المحتلون السكناجُ أنفسَهم، وتحولُ دون عودتٍِنا إلى بلادِنا، ككلِّ اللاجئين في العالم.

فقال لي مكسوفاً:

  • أعلم طبعا، وأنا آسفٌ جداً لموقفِ حكومتِنا الكريه. لكن شعبَنا لا يُدركُ ما يحدثُ خارج هذه الجزيرةِ الكبيرةِ المعزولةِ عن العالم، التي اسمها أميركا. شعبُنا، يا صاحبي، كالغنم، ما يهمُّه في حياتِه هو أكلُه وشربُه ومتعتُه في الحياةِ، والسياسيون هم الذين يُقررون سياسةَ بلادِنا الخارجية. السياسيون عندنا، يا جابر، هم حثالةُ شعبِنا، صنْعَتُهم الكذبُ والاحتيالُ في سبيلِ الفوزِ بمقاعدِهم وتسييرِ مصالحِهم، وشعبُنا غافلٌ عن مساوئهم.

 

آه، يا زينب، كم بحثتُ عنكِ في الأرض، ولم أعثرْ لك على أثر. سمعتُ من الأهلِ أنكم التجأتم إلى نابلس، لكنَّ السفرَ إلى هناك مستحيلٌ علينا لأن الوثيقةَ الفلسطينيةَ لا تُقبَلُ في بعضِ الدولِ العربية. لماذا؟ لا أدري. كان أبي، رحمَهُ الله، يقولُ:

  • “فلننزرعْ هنا في لبنانَ حتى يقضيَ اللهُ لنا بالعودةِ إلى البلاد.”

لكننا، لا نزالُ منزرعين في بلادِ اللجوءِ، وقد مضى على تهجيرنا اثنان وأربعون حولا، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله!

أتذكرينَ تلكَ الليلةَ الكريهةَ حين دخلَ السكناجُ القرية؟ كان الكبارُ يُقاتلون ببنادقَ صدئة، واليهودُ بالرشاشاتِ الحديثةِ التي زوّدهم بها البريطانيون. هكذا كان أبي يقول. استُشهدَ عمي مثقال وهو يُدافعُ عن البلدِ، ثم عمي حسين وهو يُدافعُ أيضا، وأصيبَ والدي بشظيَّةِ قنبلةٍ ألقاها وحوشُ السكناجِ على حوشِ دارِنا محاولين اقتحامَها من الخلفِ، لكنه نجا من الموتِ، لأن الشظيةَ أصابت كتفَهِ على بُعدِ أصابعَ من قلبِه. ثم استسلمَ الناسُ حين لم يجدوا شيئاً يصدُّون به قطعانَ السكناج. جاء الصهاينةُ خنازيرَ كاسرةً وأرعبونا بالرشاشات. لا أنسى ما حييتُ كيف فجّروا دارَ أبي صالح العُمر على رؤوسِ أصحابِها حين رفض أبو صالح أن يفتح لهم بابَ دارِه. ما أقبحَ وجوهَهم! حتى هذا اليوم، كلّما تذكرتُ وجوهَهم، أُصبتُ بالغثيان. كانوا يقتلون الناسَ على هواهم، ويتلذَّذون بما يفعلون. لن أغفرَ لهم ما حييتُ، وليتَ عندي أولاداً أعلِّمُهم الحقدَ عليهم. هل علَّمتِ أولادَك أنَّ فلسطينَ لنا، وعلينا جميعاً أنْ نستردَّها؟ لا بدّ أنكِ فعلت.

 

 

(3)

 

 

حينَ عزمَ الناسُ على الهربِ من بطشِ اليهود، بحثتُ عنكِ وعن أهلِكِ في دارِكم، فوجدتُها مُقفلةً بالمفتاح. وحين سألتُ خالي عيّاش عنكم، قال لي ووجهُه أصفرُ كالكركم:

  • “ركبوا سيارةَ شحنٍ وشرَّقوا.”

قلتُ لوالدي وقد شرَّقَ قلبي وراءكم:

  • “لمَ لا نُشرِّقُ مع دار عمي صايل، يابا؟”

لكنّ السكناجَ ساقونا بالرشاشاتِ غرباً إلى يافا، وهناك، في بحرِها الذي سَحَرَني يوما، ألقَوْا بنا في قاربٍ أخَذَنا إلى الشمال. كنا كالسردين في ذلك القارب. كانت الشمسُ شديدةَ الحرارةِ، على ما أذكر. لكنّ ما أخافني أن الموجَ أخذ يتلاعبُ بالقاربِ ونحن في البحر، وأخذ الناسُ يتقيأون ما في جوفِهم من طعام. شعرتُ بغثيانٍ، فتكوّرتُ على نفسي، متألما خائفا. لم أتقيّأ كالآخرين، ربما لأنه لم يكن في جوفي طعام أتقيأه. لكني شعرتُ بمغصً شديد. كانت المرةَ الأولى والأخيرةَ التي ركبتُ فيها البحر. لذلك لا أزالُ أجفلُ من ركبِ البحر. كثيراً ما دُعيتُ هنا في الكويتِ إلى قواربَ فخمةٍ لبعضِ الأصدقاءِ، خاصةً من المرضى الذين أجريتُ لهم عملياتٍ جراحيةً ناجحةً في المستشفى. كان بعضُهم يُقيم ولائم على قاربِه، أو يختِه، كما يُسمونه، وحين أُدعَى، كنت أعتذرُ بشدةٍ وأقولُ لهم بصراحةٍ إن عقدةً نفسيةً استولت عليّ من ركوبِ البحرِ منذ أُلقيَ بنا في ذلك القاربِ الذي هاجرْنا على متنِه إلى لبنان. كانوا يستغربون جوابي غيرَ مُدركين حقيقةَ هذه العقدةِ النفسيةِ عندي. فأُضطرُّ أن أصفَ لهم الهولَ الذي أخافني في ذلك القاربِ مع الظرفِ الكريهِ الذي كنا فيه في تلك الرحلةِ الكريهة.

أخيراً، رسا بنا القاربُ في مرسىً حجريٍّ، فقال والدي ورجالٌ آخرون:

  • “هذه صيدا.”

كانت تلك أولَ مرةِ أسمعُ باسم صيدا، لكنه اسمٌ بقي ملتصقا بي طوالَ حياتي.

في شاطئ صيدا نزلنا من القارب نجرُّ معنا أمتعتنا القليلةَ إلى المجهول. كان على الشاطئ جمعٌ غفيرٌ من الناسِ أخذوا بكلِّ أريَحيةٍ وعطفٍ يُساعدوننا في الخروجِ من القارب. سمعت امرأة تقول:

  • يا ويلي عليهم هالفلسطينية، الله يساعدهم!

لم أفهمْ ما كانت تعنيه، سوى أن تلك المرأةَ كانت مشفقةً على حالنا. كنتُ أصغرَ من أن أفهمَ أننا كنا حقيقةً نمرُّ بتحوّلٍ جذريٍّ في حياتنا. كنتُ أصغرَ من أن أُدركَ أننا فقدنا قريتنا، وبلادَنا كلَّها. لم يعدْ بإمكاننا أن نعودَ إلى دارِنا في قريتنا، ديرة بني مسعود. كنتُ أصغرَ من أنْ أُدركَ أن أملاكَنا استولى عليها اليهودُ السكناجُ الذين أجبرونا على الهجرةِ من قريتِنا بالرشاشاتِ، وأستولَوْا على بساتيننا وأراضينا التي أفنى أبي وأعمامي أعمارَهم في زراعتِها والعنايةِ بها لأنها كانت مصدرَ رزقِهم الوحيدَ، فأصبحنا فقراءَ يتصدّقُ علينا الناس. كان الناسُ في صيدا متعاطقين معنا بصدقٍ: كانوا يأتوننا بالماء والطعام، ويُصرُّون على أن نأخذه. وكان أبي والرجالُ الكبارُ يتعففون عن أخذه، أدركتُ حين كبرتُ أنهم كانوا يشعرون بالمهانةِ أن يتصدقَ الناسُ عليهم، وقبل أيامٍ فقط كانوا ميسوري الحال، يتكرّمون على الناس ولا يحتاجون لمن يتكرّمُ عليهم. لكنني أعترفُ أنّ أولئك الناسَ في صيدا كانوا في غايةِ الكرم معنا، كنتُ أشعرُ أنهم يُلحُّون علينا إلحاحَ الإخوةِ كي نقبلَ منهم ما يُقدمونه لنا من طعام وشرابٍ وحلوى. بعد ذلك أنزلونا في إحدى المدارس، كنا أربعَ أُسَرٍ في غرفةٍ واحدةٍ تفصلُنا ستائرُ من الخيش. كنتُ أصغرَ من أن أُدركَ أن حياةَ مئاتٍ منا، نحن الذين أصبحنا نُسمَّى لاجئين، كانت صعبةً خاصةً حين كنا ننتظرُ دورَنا لاستخدامِ مراحيضِ المدرسة، التي لم تكن تكفي لهذا العددِ الكبيرِ من اللاجئين. لكنْ، أخيرا جاءنا الفرج. نعم الفرج. فالفرجُ نسبيٌّ يا زينب. بل أدركتُ حين كبرتُ أن معظمَ ما في الحياةِ نسبيّ. الفرجُ نسبيٌّ، والحزنُ نسبيٌّ، والفرحُ أيضاً نسبيّ. أعني، وهذا تفكيري الآن، لا حين كنتُ صغيرا، لو عدنا إلى قريتِنا وبيوتِنا لكانت عودتُنا فرجاً بعد محنةِ اللجوء، لكن الفرجَ الذي أعنيه هنا، هو أننا نُقلنا من تلك المدرسةِ إلى مخيمٍ أُعطيتْ فيه كلُّ أُسرةٍ منا خيمةً مستقلة. نعم، أتانا الفرجُ إذ نقلونا إلى خيامٍ نصبوها لنا، عوضاً عن دورِنا وبساتينِنا في البلد. أتساءلُ اليومَ، إن كانت الدولُ التي تُسيطرُ على هيئةِ الأممِ شريكةً في المحنةِ التي أُنزلت بنا. لا أشكُّ طبعاً في أن الدول الإمبرياليةَ هي التي جاءت باليهودِ السكناجِ إلى ديارِنا وساعدتهم في الاستيلاءِ عليها وتهجيرنا.

سمعتُ الكبارَ يُسمُّون المكانَ الذي نُصبت فيه خيامُنا “عَينَ الحلوة”، فاستبدَّ بيَ الفرحُ لسماعِ الاسم، إذْ ظننتُهم يعنونكِ أنتِ به. قلتُ لنفسي، ما دامتْ عينَ الحلوة فسوف أراكِ هنا قطعا. ذلك أني لم أكنْ أرى في الدنيا كلِّها حلوةً غيرَك؟ لو كان خيالي صحيحاً لكان، بالنسبةِ لي على الأقل، فرجاً عظيما. لكنّهم خيَّبوا ظني. سألتُ أبي عنكم، فاغرورقتْ عيناه ولم يُجب. سألتُ أمّي أيضا، فبكتْ هي الأخرى ولم تُجبْ. لم أفهمْ هذا الصمتَ، يا زينب؟ كان الذهولُ سيدَ الموقف. لا يُسألُ أحدٌ عن أحدٍ إلا يبكي. ثمّ خرجتْ أمي عن صمتِها لتقولَ كلّما سألتُها عنكِ:

  • “الناسُ بالناس والقطةُ بالنَّفاس!”

لم أفهمْ ما كانتْ تعنيه بقولِها هذا، لكني اكتأبتُ. شعرتُ بوحشةٍ مُرّة. كنتُ أريدكِ أنتِ. أين أخذوكِ مني؟ بدأ الذهولُ ينحسرُ شيئاً فشيئاً عن لسانِ أمي. أخذتْ تقولُ كلما اجتمعتْ بنساءِ المُخيّم:

  • “اليهودُ شتتونا، وملوكُ العربِ باعونا. يا ربِّ انتقمْ منهم جميعا.”

ما كانت تقولُهُ أمّي لنساءِ المخيَّمِ كانَ في الحقيقةِ ترديداً لما تسمعُه من أبي. كان رجالُ المُخيَّمِ يجتمعون بعدَ العصرِ في مقهىً في المخيّم، وكنتُ أُنصِتُ لحديثِهم. لم يكنْ أحدٌ يعرفُ أين ألقتْ رياحُ النكبةِ بأقاربِهم. كانوا كلُّهم يتسقَّطونَ أخبارَ أقاربِهم من الإذاعاتِ العربية:

  • “نحن بخير، اطمئنُّوا وطمِّئنونا عنكم.”

عَلِمَ أبي من بعضِ أهلِ المخيَّمِ أنه سمعَ في الإذاعةِ رسالةً من أبيكِ إلى أبي أنكم موجودون في نابلس، وتُريدونَ أن تطمئنُّوا عنا. بكتْ أمي حين سمعتْ الخبرَ من أبي، وسألتْه عن دار خالي عيّاش، فقالَ لها إنه لم يسمعْ عنهم شيئا، لكنَّه سيذهبُ غدا مع أبي غسان الطيراوي إلى الإذاعةِ في بيروتَ ليُرسلَ لهم ولأهلِكَ رسالة. لكنَّ أمِّي بكتْ كثيرا، حتى أبكتنا كلَّنا. سألني ابنُ الجيرانِ لماذا كانت عينايَ محمرّتين، فلم أعرفْ ما أقولُه له؛ خجلتُ من أنْ يعرفَ أنني كنتُ أبكي. ليتَه يراني بعد هذا العمرِ، كلُّ شيءٍ أصبحَ اليومَ يُبكيني، يا زينب. هاأنذا أتذكَّرُكِ الآن وتكادُ حنجرتي تتفصّدُ من القهرِ، وعينايَ مغرورقتان بالدمع، بالرغم من فرحي بلقائك المتوقَّع.

كان مَنْ في المخيّمِ خليطاً من قرى فلسطين، أو هكذا كان أبي يقول. كانت خيمتُنا بين خيامِ القادمين من قرى يافا. وهؤلاء قليل، فأغلبُ أهلِ المخيَّمِ كانوا من شمالِ فلسطين. لأوّلِ مرةٍ يا زينبُ أسمعُ أنّ هناك قرىً غيرَ قريتِنا. أحدُ أولادِ المخيّمِ قال لي إنهم من “سُحماتا”، وآخرُ قال إنهم من “ترشيحة” وثالثٌ من “الراس الأحمر”. حتى فلسطين لم أكنْ أسمعُ بها. كنتُ أعرفُ أننا نعيشُ في قريةٍ يُسمِّيها الكبارُ “ديرة بني مسعود”، ثمَّ عرفتُ أنّ هناك قريةً كبيرةً جداً، أكبرَ من “الديرة”، اسمُها يافا، وكان أبي وأعمامي يُسمُّونها “المدينة”، يذهبون إليها ليبيعوا فيها جنَى أرضِهم، ومنها يشترون ما يريدون. كان هذا عالَمي، وكنتِ أنتِ القمرَ الذي يتربَّعُ في سمائه.

أتذكرين يومَ أخذَني أبي معه إلى يافا؟ رأيتُكِ تختلسينَ النظرَ إليَّ وقد أركبَني أبي على ظهرِ حمارِه، وعقدَ على رأسي الحطّةَ والعقالَ مزهوًّا بي، فشعرتُ أنني أصبحتُ واحداً من رجالِ “الديرة”! تمنَّيْتُ لو كنتِ معنا، لكنني كنتُ أُدركُ أنّ هذه المتعةَ حكرٌ على “الرجالِ” دونَ “النساء”. في مثلِ هذه المناسباتِ كنتُ أراني أكبَرَ منكِ، ولعلَّكِ كنتِ ترينني فارسَ أحلامِك. الله، ما كان أجملَ يافا يا زينب! أتذكرين كيف وصفتُها لك حين رَجَعْنا إلى القرية؟ لم تصدِّقيني حينَ قلتُ لك إنني رأيتُ فيها أكثرَ من مائةِ سيارةٍ، بل أكثرَ من مائةِ مائةِ سيارةٍ، كلُّها أسرعُ من مهرةِ خالي عيّاش. كانت السياراتُ في يافا تسيرُ على طريقٍ مرصوفٍ بشيءٍ أسود. قال لي أبي إنه يُسمَّى القارَ أو الإسفلت. سألتُه: “وماذا يكونُ هذا الإسفلت؟” فقال “إنه مادة سوداء لزجة تؤخذُ من النفط وتُستعمل لرصف الشوارع.” لم تكن طرقاتُ قريتِنا تُرصفُ بمثلِ هذه المادة، فلم أُعرْها اهتمامي، لكنني تمنيت لو تكونُ طرقاتُ القريةِ هكذا. ثم تذكرتُ أنها لا تصلحُ لفرسِ خالي عياش، التي ستنزلقُ عليها قطعا. كنتُ لا حظتُ أن الدوابَّ في يافا كانت تسيرُ على طرفِ الطريق غيرِ المرصوف بهذه المادة السوداء. لكنني رأيتُ حنطوراً يجرُّه حصانٌ، يسير فوق الإسفلت. كان حصاناً رشيقا ولم ينزلق على الإسفلت الناعم. فقلتُ في نفسي، لا بد أن هذا الحصانَ من أهل يافا، وهو متعودٌ على السيرِ على الإسفلت كسياراتٍ أهلِ المدينة. أما السفنُ في بحرِ يافا فشيءٌ لم ترَهُ عينُك قطّ. كانت هناك سفنٌ كبيرةً في مكانٍ بعيدٍ في البحر، وهناك سفنٌ أخرى صغيرةٌ، قال أبي إنها تُسمى قواربَ لا سفنا. بعضُ هذه القواربِ كان يعلوها قماشٌ أبيض، قال أبي إن هذا القماشَ يُسمَّى شراعاً يساعدُ تلك القواربَ على الإبحارِ فوق الماءِ بدل استخدامِ المجاديف. لكنَّكِ أخيراً صدّقتِني حينَ سألتِ أباكِ، فامتلأتْ عيناكِ حسرةً، خاصّةً حين قلتُ لكِ إنّ أبي اشترى لي قرطوسَ بوظة. الله ما كان أطيبَها! لم أذقْ في حياتي أطيبَ منها. لحستُ من البوظةِ قليلا، ثمّ أنّبَني ضميري ألا تُشاركيني فيها، فحاولتُ أن أخبِّئَ بقيَّتَها لكِ، لكنّها بدأتْ تسيحُ، فقالَ لي أبي:

  • “كُلْها بسرعةٍ وإلا ساحَتْ على ثيابِك.”

التهمتُها وأنا أتحسَّرُ أنني لم أستطعْ أن أحتفظَ لكِ بشيءٍ منها. ولسوءِ الحظِّ أنّ البوظةَ لم تكنْ تُباعُ إلا في يافا. هكذا قال أبو الوليد البقال، لأنَّ البوظةَ تُحفظُ في البرَّادِ، والبرَّادُ يعملُ بالكهرباء، وليس في قريتِنا لا برادٌ ولا كهرباء. لم أفهمْ يومَها ماذا كانَ أبو الوليدِ يعني بالبرّادِ أو بالكهرباء، غيرَ أني وعدتُكِ أنْ آخذَكِ حين أكبرُ إلى يافا لأشتريَ لك من تلكَ البوظةِ اللذيذة. لكنْ، لسوءِ الحظِّ، كبرتُ في الغربةِ وكنتِ بعيدةً عني، وأصبحتُ لا أرى يافا إلا في الأحلام. ذاتَ يومٍ رأيتُ ولداً في صيدا يبيعُ البوظة. اشتهيْتُها طبعا، لكني لم أُحاولْ شراءها لأنَّ النقودَ لم تكنْ تعرفُ سبيلاً إلى جيبي، ولم أجرؤْ أنْ أطلبَها من أبي، لعلمي أنه لا يكادُ يجدُ ثمنَ الخبزِ لنا.

حتى البصلُ لم نكنْ نجدُه في خيمتنا في عين الحلوة إلا رؤوساً معدودةً يجلبُها أبي معه حين يعودُ من عملِه آخرَ النهار. أتذكرين ذلك البائعَ المتجوِّلَ الذي مرَّ بنا ذاتَ يومٍ في القريةِ وعرضَ علينا أن يبيعَنا ما كان يحملُ من حلوى؟ لم يكنْ معنا مالٌ نشتري به تلك الحلوى، وكنا نلعبُ في بستانِنا حول كومةٍ كبيرةٍ من البصلِ كان أبي قلعَها من الأرضِ وكوَّمها ريثما يأخذُها ليبيعَها في يافا. فقال لنا البائعُ إنه يقبلُ أن يأخذَ بصلاً بدلَ النقود. ففرحنا، وأخذنا نغرف له ما أرادَ من البصل. وهكذا استبدلْنا البصلَ بالحلوَى، فشعرتُ كأننا أخذنا الحلوَى مجانا. آهِ يا زينبُ كم كانت الحياةُ هنيّةً رحبةً في الديرة. لم نكنْ نعرفُ الفقرَ يومَها. لكنَّ الهجرةَ أفقرتْنا، بلى أذلَّتنا أيضا! كلّما تذكّرتُ أننا أُجبرنا على تركِ دارِنا وأراضينا بالقوةِ، فار الدمُ في عروقي حتى كنت أكادُ أُنتِّفُ شعري وأنا أتساءلُ بحرقةٍ: لماذا؟ لماذا؟ لماذا نسكتُ على هذا الظلم؟ علينا أن نعملَ للعودةِ بكلِّ الوسائل. تلك بيوتُنا وتلك قريتُنا ولا حقَّ لأحدٍ أن يغتصبَها منا. لكنني حين كبرتُ أدركتُ أن العالمَ لا يختلفُ عن غابةٍ يأكلُ القويُّ فيها الضعيف ويفرضُ قانونَه. فحتّامَ يبقى العربُ ضعفاءَ يتجبّرُ بهم الأقوياء؟

أكلتُ البوظةَ في المناسباتِ القليلةِ جداً في صغري، وأكلتُها كثيراً بعد أن كبرتُ واشتغلتُ. لكنّ ضميري كان يؤنِّبُني في كلِّ مرةٍ لأنّكِ لا تشاركينني في تلكَ البوظة. غيرَ أني لم أذقْ حتى الآن بوظةً أطيبَ من بوظةِ يافا التي وعدتُكِ بها، وسوف نستعيدُ يافا يوماً وأشتري لك بوظتَها قطعاً، بإذنِ الله.

كنتُ وأصحابي من أولادِ المخيَّمِ نمرُّ بمحلاتِ الحلوى، وما أكثرَها في صيدا، ثمَّ نقفُ أمامَ زجاجِ واجهاتِها، فيأخذُ كلٌّ منا في مغازلةِ أحدِ الأصنافِ، مُمنِّياً نفسَه بأكلِه ذاتَ يومٍ، بينما يسيلُ لعابُه من بين شفتيه. هل تصدِّقينني لو قلتُ لك إنني لم أكنْ أفعلُ ذلك إلا تقليداً للأولاد، فلم أكنْ أشتهي شيئاً إلا أنْ أراكِ أنتِ. بلَى كنتُ أجاملُهم فقط، لكنني، بغيابِكِ عني، لم أكنْ أشتهي من الحلوى شيئا. كنتُ أراكِ أحلى ما في الدنيا. كنتِ حلاوتي المفقودةَ، يا زينبُ.

 

 

(4)

 

 

الله ما كان أجملَ يافا، يا زينب! لكنَّني كرهتُ غدرَ بحرِها يوم رُمينا فيه. بحرُها هو الذي حملَنا من يافا، وفي صيدا قذفَ بنا، وأصبحَ الناسُ يُسمُّوننا لاجئين. بلى، منذ ذلك اليومِ كرهتُ البحر. حين احتلَّ اليهودُ “الديرةَ”، قتلوا عميَّ الاثنينِ وبعضَ جيرانِنا، وكادوا يقتلون أبي، فخافَ الناسُ على أرواحِهم. وإذ كانوا لا يملكون ما يُدافعون به عن أنفسِهم، فمن استطاع شرّقَ مثلكم، ونحن ساقنا اليهودُ إلى يافا مشياً على الأقدام. في يافا، كان الناسُ يتصايحون مذعورين كأنّهم في يومِ الحشر. عند الشاطئِ كانت قواربُ تحملُ الناسَ إلى البحر، وقد حملَنا أحدُ هذه القواربِ إلى صيدا، كما قلت. حاولتُ أن استفسرَ من والدي عما يحدثُ، لكنّه كان مُنهمكاً في إيجادِ مكانٍ لنا على القاربِ، وهو يصيحُ بي وبأخي الأكبرِ أن نُعينَه في مساعدةِ أُمِّنا والصغارِ على ركوبِ القارب، الذي أرعبني حين أخذ يتموّجُ تحتنا في عرضِ البحر، فقد كانت تلك أولَ مرةٍ أركبُ فيها قارباً يطفو فوق الماء. ثم، كما قلتُ، حين اشتدّ الموجُ، أُصيب معظمُ الناس بالغثيان ورجّعوا ما كان في جوفِهم من طعام قاؤوه فوق موج البحر.

كنتُ في البدايةِ أتوسّمُ خيراً في بحرِ صيدا. كنتُ أقفُ على شاطئه وأقولُ: “من هنا جئنا، ومن هنا سوفَ نعود.” صحيحٌ أنها كانت محضَ أحلامٍ، لكن الحقيقةَ كثيراً ما تبدأ بحلم. نعم، حين نحلمُ باستردادِ وطنِنا يمكنُنا تحقيقُ هذا الحلمِ بالعملِ الجادِّ وبالنضالِ القاسي.

صحيحٌ أنّ رؤوسَنا اشتعلت شيباً، والموتَ اقتنصَ كبارَنا، ولا نزالُ ننتظرُ العودة. غيرَ أني لا أيأسُ أبداً، يا زينبُ. أعلمُ يقينا أننا عائدون، فإنْ لم نعدْ نحنُ، فسوفَ يعودُ أولادُنا، لأنه لا يصحُّ إلا الصحيحُ، وفلسطينُ بلادُنا وعلى السكناجِ أنْ يرحلوا عنها كما رحلَ الفرنجةُ الصليبيون من قبلِهم. لم يزلْ مفتاحُ دارِنا عند أخي الكبيرِ في صيدا، أعطتْه له أُمِّي يومَ توفّيَ أبي لأنه أصبحَ كبيرَنا بعد أبي، وأوصتْه أن يحافظَ عليه كما يحافظُ على أولادِه، فعلَّقَهُ في صدرِ الدار، وأصبحَ أيقونةً نتبرَّكُ بها، نُقبِّلُهُ كما يُقبِّلُ حجيجُ مكةَ الحجرَ الأسود. مفتاحُ دارِنا أصبحَ رمزَ عودتِنا، وسوف نعودُ، لا ريب في ذلك، يا زينب.

في المخيَّمِ عرفتُ أننا من عربِ فلسطين، وأنَّ عينَ الحلوةِ وصيدا في بلدٍ آخرَ اسمُه لبنان. لكنّ أبي وصحبَه في مقهَى المُخَيَّمِ كانوا يقولون إن خنزيرينِ من بريطانيا وفرنسا قطَّعا البلادَ دويلاتٍ صغيرةً ليتحكَّمُوا بنا، وكانت بلادُ العربِ من قبلُ بلداً واحدا. لم أكنْ أفهمُ كيف يستطيعُ خِنزيرانِ أن يُقطِّعا البلادَ، ظننتُهما من خنازيرِ الجنّ، خِلتُهُما أكبرَ من الجبل. ولم أعرفْ إلا حين كبرتُ قليلا أنّ هذين الخنزيرينِ ليسا سوى رجلين، أحدُهما بريطانيٌّ والآخرُ فرنسيّ، وهما بشرٌ مثلُنا. فقلتُ لأبي:

  • “ما داما بشراً مثلنا، فلننتقمْ منهما وممن أرسلَهما لنا.”

لكنّ أبي ضحكَ وقال:

  • “الله كبيرٌ، يا ابني، الله كبير!”

لم أقتنعْ بجوابِ أبي، فلما أصبحتُ في المدرسةٍ الثانويةِ، علمتُ أن هذين الرجلين يُمثِّلان دولتيهما: المدعو سايْكْس يُمثِّلُ بريطانيا والمدعو بيكو يُمثِّلُ فرنسا،([1]) وأنّ هاتين الدولتين أرادتا اقتسامَ الهلالِ الخصيبِ فيما بينهما بعد أن تنتصرا على الدولةِ العثمانية. كانت هاتان الدولتان الاستعماريتان واثقتين من النصرِ على الأتراكِ، لأن الشيخوخةَ أخذتْ تفتُّ عضدَ الدولةِ العثمانيةِ. نعم، أرادتْ هاتان الدولتان الاستعماريتان أن ترثا الوطنَ العربيَّ، الذي كان خاضعاً لسلاطين بني عثمان باسم الدين. بل زادت بريطانيا على ذلك بأنْ قدّمت لليهودِ الأوربيين، ممثَّلين بالحركةِ الصهيونيةِ، ما سُمّي وعدَ بلفور، الذي، وبكلِّ وقاحةٍ، وعدتْ به هؤلاء اليهودَ بمنحِهم أرضَ فلسطينَ ليقيموا عليها وطناً قوميًّا لهم، وكأنّ فلسطينَ ملكٌ للتاجِ البريطانيِّ يتصرّفُ بها على هواه. لكنّ هذا هو حكمُ القويِّ، يا زينب. ومن يقبلْ الضعفَ لنفسِه يقبلْ الهوانَ والمذلةَ وتفتيتَ الأوطانِ.

بعد ذلك، انضممتُ إلى “حركةِ القوميين العرب”، لأنَّ صديقي مروانَ قال لي إنّ حركتَهم سوف تُقاتلُ كلَّ من فتّتَ ديارَ العربِ وجلبَ السكناجَ إلى بلادِنا، وإنهم سوف يُقاتلون السكناجَ الصهاينةَ ويُخرجونَهم من فلسطين. سألتُه بسذاجةٍ:

  • “وديرةُ بني مسعود أيضا؟”

فقال:

  • “طبعاً، طبعاً، كلُّ ذرةٍ من ترابِ فلسطين.”

لم أنمْ تلك الليلةَ من فرحي. أيقنتُ أنني سوف أراكِ أخيراً، وسوفَ أحدِّثُكِ عن صيدا وعينِ الحلوة ولبنان، وقبلَ كلِّ شيءٍ سوفَ آخذُكِ إلى يافا لأشتريَ لكِ بوظتَها اللذيذة، وأريكِ بحرَها الجميلَ، وإنْ كان قد حَمَلَنا إلى ديارِ الغربة. ما كانَ له أنْ يقبلَ. ولو أني كنتُ أعذرُه أحيانا، لأنه لو رفضَ أنْ يَحملَنا لقتلنا السكناجُ وتخلّصُوا منا، كما فعلوا بأهلِ الطنطورةِ ودير ياسين.

لا بدَّ لنا من العودةِ إلى الديرة، يا زينب. نعم، لا بدَّ منها، فاللاجئُ ذليلٌ في غيرِ بلدِه. ذليلٌ إنْ شاء أو لم يشأ.

لا أنسَى، يا زينبُ، يومَ عادَ أبي ذاتَ يومٍ باكيا. كانت تلك أوَّلَ مرةٍ أراه يبكي، بل يُجهشُ في البكاء، وكنتُ أوَّلَ مرةٍ أراه ضعيفاً يكادُ ينهارُ، وما كان في نظري إلا مثالاًَ للقوةِ والعنفوان. لعلِّي يومَها أحسستُ بضعفِنا كلِّنا. انقبضَ صدري، وتولَّد فيه الحقدُ على حالِنا. فبالرغمِ من الهجرةِ، وبالرغمِ من ضيقِ ذاتِ اليد، وبالرغمِ من بيتِنا المُزري في المخيَّم، بالرغمِ من كلِّ ذلك، كنتُ دائماً أُحسُّ بأننا مخاتيرُ القرية. هكذا كان حالُنا في البلد، وهكذا كان شعوري دائماً قبل الهجرةِ وبعدَها. صحيحٌ أنّ السكناجَ استولَوْا على قريتِنا وبيوتِنا، وطردونا بالرشاشاتِ منها. لكنني كنتُ أرى الأمرَ عَرَضاً زائلاً، وسوف نعودُ قريبا، أسياداً كما كنا.

كان أبي يعملُ مزارعاً في أحدِ بساتينِ الحمضياتِ في صيدا. صحيحٌ أنه كان يحزُّ في نفسِه أنْ يعملَ أجيراً في أرضِ غيرِه، لكنني سمعتُ منه أكثرَ من مرةٍ أنْ لا عيبَ في العملِ الشريفِ، وأنّ الأمرَ مؤقتٌ، وعلينا أن نتحمّلَ حتى نستعيدَ بلدَنا وأرضَنا، التي سنعود إلى فلاحتِها ورعايتِها كما كنا نفعلُ نحن وآباؤنا قبلَ أن يغتصبَها اليهودُ السكناج. لكنّه في ذلك اليومِ عاد مُتجهِّماً، يكادُ الدمُ ينفرُ من وجهِه. وحين سألتْه أمِّي جزعةً من منظرِه، لم يتمالكْ نفسَه، وانفجر باكياً بحرقةٍ، حتى ظننتُ أنّ أحدَ الأعزاءِ عليه قد مات فجأة. ثم قال بصوتٍ متهدِّج:

  • “تركتُ العمل.”

فقالت له أمي:

  • “عزا يا ابنَ عمي، الرزقُ على الله، غدا تجدُ عملاً آخر، ولا شيءَ يساوي بكاءك.”

تمالك نفسَه قليلاً، وقال:

  • “معكِ حقّ، يا فاطمة، معكِ حق. الرزقُ على الله.”
  • “لكنْ، ما الذي يجعلُكَ تبكي بحرقةٍ هكذا؟ عسى أن يكونَ خيرا؟
  • ما آلمني، يا فاطمة، أنّ أصحابَ المزرعةِ لا يُدركون أنني كنت مَلاّكاً مثلَهم، وكنتُ في البلادِ ميسورَ الحالِ ربما أكثرَ منهم. بل كنتُ أحسنَ من أبيهم. لكنّهم لم يعرفوني إلا مزارعاً أجيراً عندهم.”

فقالت له أمي:

  • “دعهم يظنون كما يشاؤون، يا بو بدوان. أنت ابنُ المخاتير حتى لو عملت عند أيٍّ كان من خلقِ الله!”

فقال لها:

  • “لا والله، يا بنتَ الحلال، لا عيبَ إلا العيب. لكنّ المذلّةَ تكسرُ النفس.”

عندئذٍ ازداد الجزعُ على وجهِ أمي، فسألتْه:

  • “خيراً، إن شاء الله؟ ما الذي حدث؟”

قال لها:

  • “الذي حدث أنّ أولادَهم كانوا يُقيمون وليمةً لبعضِ أصحابِهم، وبكلِّ بساطةٍ جاءت بنتُ صاحبِ المزرعةِ تأمرُني بصلافةٍ أنْ أُقدِّمَ العصيرَ والقهوةَ للضيوف. وجمتُ لطلبِها، ولم أستسغْ أنْ تنظرَ لي وكأني خادمٌ حقيرٌ عندهم. والله لو أنها طلبت مني بلطفٍ أن أساعدَها، ما توانيتُ لحظة. فأولادُ صاحبِ المزرعةِ كأولادي. لكنها كانت صلفةً في طلبِها. فقلتُ لها:
  • “يا بنتي، أنا في سنِّ والدك، وأنا مزارعٌ هنا لا خادم.”

فزجرتْني أمامَ الضيوفِ، وكأنها تريدُ أن تتباهى بصلفِها أمامهم، وقالت:

  • “اعملْ ما أقولُه لك!”

ثم أضاف والدي قائلا:

  • “لم أجدْ إلا أنْ أبلعَ الإهانةَ على مضض، وأن أُغادرَ المكانَ فورا.”

استغفرتْ اللهَ أمي وقالت:

  • “بسيطة يا بو بدوان، بسيطة. الذي لا يعرفُك يجهلُك! غداً تجدُ رزقاً آخرَ، بإذنِ الواحدِ الأحد. اغسلْ وجهَك الآن، وفوِّضْ أمرَك لله. سأغلي لك فنجانَ قهوة، ولا كان من يُهينُ ابنَ المخاتير.”

 

في اليومِ التالي، جاء صاحبُ المزرعةِ إلى المخيمِ يسألُ عن أبي، هاشًّا باشًّا. فرحب به أبي، لكنْ يبدو أنه وجد حرجاً في أن يدعوه إلى داخل بيتِنا الحقيرِ، فأخرج كرسيَّ قشٍّ وطلبَ من صاحبِ المزرعةِ أن يجلس عليه أمام الباب. وطلب من والدتي أن تصنعَ لهما فنجانَي قهوة. تمنّع الحاجُّ بهاء، صاحبُ المزرعةِ، لكنه أخيرا جلس وجلس معه أبي على حفةِ مصطبةٍ أمام البيت. لم يكد يستوي الحاجُّ بهاء على الكرسيِّ حتى بادر الوالدَ بقولِه:

  • خيراً إن شاء الله، يا بو بدوان؟ سمعتُ أنّ الأولاد أزعلوك أمس؟
  • لا، بسيطة، يا حاجّ!
  • بسيطة إن شاء الله. ما الذي حدث؟ أريدُ أن أعرفَ منك.
  • لا شيء. ثق بالله، يا حاجّ، أنني أُعزُّ أولادَك كأولادي. وأنت تعرفُ احترامي لك ومعزتَك عندي، فلم أجدْ منك إلا الخير. لا أدري، يا حاجّ، إن كنتَ تعلم أننا كنا نملك أراضٍ واسعةً في البلاد، وكان لي بستانٌ كبيرٌ في قريتِنا في فلسطين، فيه كل أنواع الحمضياتِ وغيرُها، يعني، بلا مؤاخذه، كنا ميسوري الحال في البلاد، بل كان والدي مختارَ القرية. معاذَ الله، أنا لا أنتقصُ من قدركم، طبعا. وعملي عندك، خاصةً حين تعرفتُ على أخلاقِك وكرمِ نفسِك، كان لا يختلفُ عن عملي في بستاني في قريتنا قرب يافا. ولولا الحاجةُ، ما عملتُ أجيراً عند أحد.
  • معاذ الله يا بو بدوان، أن أعاملك كأجير. وأنت تعرف ذلك.
  • صحيح، صحيح. أنا لا أنكرُ حسنَ معاملتِك لي. بل لا أنسى، يوم عزاءِ المرحومِ والدكم، حاولتُ أن أُقدَّمَ القهوةَ للمعزين لشعوري أن والدك والدي، رحمهما الله. لكنك أجلستني معك بين أصحابك، وطلبتَ من النادل أن يُقدِّمَ هو القهوة للناس.
  • فما الذي أزعلكَ، إذن، حتى تركتَ المزرعةَ فجأة؟ علمتُ من ابني حسام أنّ ابنتي غادة خاطبتك بصلافة، وهو ما أزعلك، حسب قول حسام.
  • بنتُكَ يا حاجّ، مثل بنتي. لا أزعلُ منها.
  • لكنها أحياناً تخرجُ عن حدودِ الأدب. أعلمُ ذلك. وقد جئتُ خصِّيصاً لأعتذر لك. فلا تؤاخذْها، أرجوك. المزرعةُ مزرعتُك، يا بو بدوان، وسامحنا.
  • أستغفر الله، يا حاجّ. مجيئُك إلى هنا أكثرُ مما أنتظر.

 

وهكذا طيّبَ الحاجّ بهاء خاطرَ أبي وعاد أبي معه إلى المزرعة.

 

 

(5)

 

 

فرحنا كلُّنا بعودةِ أبي إلى عملِه، وإلا، لكدنا لا نجدُ قوتَ يومِنا، لولا ما تُقدِّمُه وكالةُ الغوثِ من مساعدةٍ شهريةٍ شحيحة. لكنّ يبدو أنّ والدتي أدركتْ أنّ الاعتمادَ على عملِ أبي قد ينطوي على مخاطرةٍ أحياناً وبوسعِها هي أيضاً أنْ تعمل. فذاتَ يومٍ عادت إلى البيتِ وفي يدِها أكياسٌ مملوءةٌ بمؤونةٍ للبيت، وفي جيبها بعضُ نقودٍ دفعت بها لأبي. فسألَها بدهشة:

  • “من أين لكِ هذا؟”

فقالت له ضاحكة:

  • “هو من عندِ الله؛ إن الله يرزقُ من يشاءُ بغيرِ حساب!”

نظرنا إليها، حتى جلستْ بالقربِ من والدي، وقالت له:

  • “اسمع يا بو بدوان. العملُ الشريفُ لا يعيبُ صاحبَه. بعضُ نساءِ المخيِّم يعملن خادماتٍ في البيوت. قالت لي جارتُنا أمُّ خليل إنها تعرفُ أناساً محترمين تذهبُ لتغسلَ لهم ملابسَهم، وشجعتني أنْ أفعلَ مثلَها. الغسلةُ الواحدةُ لا تستغرقُ أكثرَ من ثلاثِ ساعات، ثم تتغدَّى عندهم، وتأخذُ ما يكتبُه اللهُ لها. ذهبتُ معها إليهم، فدلُّوني على جيرانِهم، وغسلتُ لهم غسيلَهم، وأعطَوْني ما كتبه اللهُ لي.”

 

لم يُعلِّقْ أبي، لكني شعرتُ أنه كان محتاراً بين قبولِ عملِ أمِّي وبين أن يتعرّض مرةً أخرى إلى تركِ عملِه، بالرغم من محبة الحاجِّ بهاء واحترامِه له. لكنني أدركتُ المرارةَ في نفسِه فعزّ عليّ، وهو ما أشعرني أنا أيضاً بمسؤوليةٍ كبيرةٍ عليَّ القيامُ بها تجاهَ أهلي. فقرّرتُ أنْ أعملَ بطريقةٍ أو بأخرى. لم يكنْ ممكناً طبعاً أنْ أتركَ المدرسةَ لأتفرّغَ للعمل، هذا إن وُجد. لكنّ حسنَ طالعي أننا كنا في العطلةِ الصيفيةِ حين ساعدَني أحدُ أولادِ المُخيّمِ في العملِ مثلَه بائعاً متجوِّلاً للبوظة. وهكذا كان. ذهبتُ معه إلى معملِ البوظة، فأعطَوْني صندوقاً ثقيلاً مملوءاً بالبوظة، ورحتُ أدورُ به في شوارعِ صيدا من الصباح إلى المغرب. وهكذا أخذتُ أكسبُ من عملي كلَّ يومٍ ليرةً أو أكثرَ أُعطيها لأبي حين أعود. كان العملُ مُرهقاً لكنني كنتُ سعيداً بأني كبرتُ وأصبحتُ أساعدُ أبي في مصروفِ البيت.

ذات صباحٍ، كنتُ أحملُ صندوق البوظة، وأُدلِّلُ عليها في أحد الشوارعِ حين سمعتُ من ينادي:

  • “يا بيّاعَ البوظة، يا بيّاعَ البوظة!”

نظرتُ إلى حيثُ سمعتُ الصوت، فرأيتُ امرأةً تلوِّحُ لي من شرفةِ منزلِها. لوّحتُ لها قبل أن أدنوَ منها فسألتْني:

  • “كم قالبَ بوظةٍ معك؟”

فقلت لها:

  • “لم أستفتحْ بعد، عندي مائة قالب.”

فطلبتْ مني أن أصعدَ إلى الشقة، وكانت في الطبقة الثالثةِ من العمارة. كانت المرأةُ تنتظرُني عند بابِ شقتِها، وحين وصلتُ، طلبتْ أن أبيعَها كلَّ ما في الصندوق، نظرتُ لها غيرَ مُصدِّق. لكنَّ وجهَها كان جادّا حين سألتْني عن ثمنِ القالبِ الواحدِ إذا اشترتْ مني كلَّ ما معي في الصندوق. احترتُ، وأنا لا أزالُ غيرَ مُصدِّق. فقلتُ لها،

  • “بصراحة، أنا أبيعُ القالبَ بعشرةِ قروش وأربحُ قرشين اثنين منه. أي أني أربحُ بكامل الصندوق ليرتين.”

ثم قلتُ لها:

  • “ربِّحيني بالصندوقِ ليرةً واحدةً إذا شئت.”

فقالت:

  • “بل يكفيك نصفُ ليرة ربحاً. نصفُ ليرة من غير تعبٍ، نعمةٌ في ساعةِ الصبحِ هذه!”

فقلتُ لها:

  • “حاضر، يا سيدتي، خذي الصندوق بتسع ليرات وأعطيني فوقَها نصف ليرةٍ حلالاً لي.”

لم أكدْ أقولُ هذا حتى خرجَ رجلٌ من داخلِ البيتِ وهو يزمجر. لم أفهمْ سببَ غضبِه، إذ ظننتُه يريدُ أن يؤنّبَني أنا، لكنّه فاجأني إذ أنّبَ زوجتَه قائلاً لها:

  • “يعني تريدين أن تتشاطري على هذا الولدِ الفقير؟ اتقي الله!”

وأخرجَ من جيبِه عشرين ليرة وقال،

  • “تعالَ يا ابني، خذ هذه كلَّها لك، ثمناً للصندوق.”

تحرّجتُ، ورددتُ له عشرَ ليرات، وقلت له،

  • “لا، يا عمي، ثمنُ الصندوقِ عشرُ ليرات، لا عشرون.”

ضحك، وقال،

  • “لا يا ابني. خذ العشرين ليرةً كلَّها حلالاً زلالاً لك.”

لم أُصدّقْ ما رأيتُ وسمعتُ، وعُدتُ مُسرعاً إلى معملِ البوظةِ، وسلّمتُ صاحبَ المعملِ العشرين ليرةً، وقصصتُ له كيف أنّ جماعةً اشترَوْا كلَّ ما معي دفعةً واحدة، وقلتُ له إنهم أعطوني هذه العشرين ليرةً بدلَ عشر، فضحك صاحبُ المعملِ وأخذ مني عشرَ ليراتٍ فقط، وأعادَ لي العشرَ الأخرى وأخرج من جيبِه ليرتين هما أجرتي على بيعِ الصندوق. حاولتُ، ولو مُتردِّداً أن أُعيدَ له الليراتِ العشرَ الأخرى، لكنه ضحك ثانيةً وقال لي:

  • “ضع العشرَ الأخرى في جيبك، هذه حلالُك يا ابني!”

وملأ لي الصندوقَ ثانية. كدتُ أطيرُ من الفرحِ وأردتُ أن أعودَ للمخيمِ مُسرعاً لأبشَِّر أمِّي بما كسبتُ، لكني تحرّجتُ من صاحبِ العملِ أن أرفضَ ملءَ الصندوق. فتحملتُه حتى آخرِ النهار، حين عدتُ إلى المخيمِ وفي جيبي أربع عشرةَ ليرةً.

 

 

 

(6)

 

 

 

في المدرسةِ كنتُ الأوّلَ في الصفّ. كنتُ أدرُسُ كثيراً لأنّ أبي كان دائما ما يقول لنا إننا لم نعدْ نملكُ من الدنيا إلا عقولَنا. فإن استعملناها وتعلّمنا، فالعلمُ سبيلُنا الوحيدُ للعيش؛ وإلا أصبحنا مَداساً للأرجل. فقلتُ لنفسي: لا كانَ من يدوسُني برجلِه! فلمّا أكملتُ المدرسةَ بتفوُّقٍ أرسلتْني وكالةُ الغوثِ للدراسةِ في الجامعةِ الأميركية في بيروت، وهناك اخترتُ دراسةَ الطب.

كانت بيروتُ أكبرَ من صيدا. وكانتْ الجامعةُ جميلةً جداً ومُطلةً على البحر، ومن أمامِ بوابتِها يمرُّ قطارٌ يُسمونه “الترام”، كنتُ أهتدي بِسِكَّتِهِ حين أنزلُ إلى وسطِ البلد، أي ما يسمونه ساحةَ البرج أو ساحةَ الشهداء. لا شكَّ في أنَّ بيروتَ جميلةٌ، يا زينب، لكنّ يافا أجملُ منها. لا تُصَدِّقي، يا زينبُ، أنّ في الدنيا مدينةً أجملَ من يافا، ولا بوظةً أطيبَ من بوظتِها.

كان وجودي في الجامعةِ نعمةً كبرى، خاصةً أنني حصلتُ على بعثةٍ دراسيةٍ تؤمِّنُ لي معيشتي في بيروت ومن ضمنِها أقساطُ الجامعة. حين ذهبتُ إلى الجامعة، شعرتُ بشيءٍ من تأنيبِ الضميرِ لأنني أُنزلتُ في مسكنِ الطلابِ في الحرمِ الجامعيِّ، وكان قطعاً أفضلَ بكثيرٍ من مأوى أهلي في المخيم، فهذا المأوي لا أستطيع وصفَه. بدأ بخيمةٍ عشنا فيها في أولِ أيام الهجرة. كنا نعاني فيها من مطر الشتاءِ خاصةً، حين لم يكن بإمكانِنا اتقاءُ نقطِ المطرِ التي كانت تسيح علينا من كل طرفٍ في الخيمة. وكان على والدي، رحمه الله، أن يفعلَ ما فعل جيرانُنا بأنْ يخرجَ ذات ليلةٍ باردةٍ ويحفرَ شبهَ خندقٍ حول الخيمةِ لمنع تسربِ ماءِ الشتاءِ إليها، بعد أن أغرقت السيولُ فراشنا المفروشَ على الأرض. حمدنا الله أننا، رغم إصابتنا بأمراض الزكامِ، قاومتْ أجسادُنا تلك الأمراضَ ونجينا منها، بينما توفيَ بعضُ جيراننا من وطأةِ تلك الأمراضِ على أجسادِهم التي كانت مناعتُها ضعيفةً بسبب سوءِ التغذية. ثم تطورت الخيمةُ إلى غرفةٍ بناها والدي بمساعدةِ الجيران من اللبن، وسقَفَها بألواحِ الزنك. كانت أفضلَ قليلاً من الخيمة، لكنها لم تكن شيئاً بالمقارنةِ بالمنازل الحديثةِ مهما كانت متواضعة. في الشتاء التالي بعد هذا البناء، شعرنا بالفرقِ بينه وبين الخيمة. لكن سقفَ الزنك، لم يكنْ ليحميَنا تماما من تسرب ماء المطر إلى الداخل. كذلك لم يكن يحمينا من شدةِ البرد. غير أن والدي ووالدتي كانا يشكران الله على نعمتِه، على أي حال.

مقارنةً بحال سكنانا في المخيم، كان منزلُ الطلابِ في الجامعةِ كأنه قصر. كان مدفّأً تدفئةً مركزيةً في الشتاءِ، وكان في الغرفةِ أربعةُ أسرةٍ، سريرٌ لكلٍّ تلميذٍ، بينما كنا في المخيمِ ننامُ على الأرضِ، وكانت والدتي ترفع الفراشَ عن الأرض كلَّ صباحٍ لتترك لنا مساحةً نتحرك فيها. أعني أن السريرَ وحده في منزلِ الطلابِ كان ترفاً لم نكنْ نعرفُه في المخيم. كم كنت أتمنى لو استطعت نقلَ أهلي إلى منزل الطلابِ في الجامعة، أو على الأقل في الشتاء. كانت تلك الأمنيةُ محضَ خيالٍ جامح. لذلك كنتُ أشعرُ بتأنيبِ ضميرٍ لتمتعي بتلك النعمةِ دون والديَّ وإخوتي الصغار. كنا نتناول طعامنا ثلاثَ وجباتٍ مُشبِعةٍ تماما من مطعمِ الجامعة. وإذ كانت وجبتا الغداءِ والعشاءِ تتضمنان إما بعضَ الحلوى أو بعضَ الفاكهةِ، خطر ببالي أن آخذ في كلِّ وجبةٍ حبةَ فاكهة، وكانت إما موزةً أو برتقالةً أو تفاحة. وكنت أجمعُ ما أستطيعُ من تلك الفاكهةِ إلى نهايةِ الأسبوع، لأحمل ما جمعتُ منها إلى أهلي في المخيم. وكم كنت أشعرُ بالسعادةِ حين كنت أجلسُ مع أهلي وأشاهدُهم يأكلون ما جلبتُه لهم من فاكهةٍ بشهيةٍ كبيرةٍ. كان منظرُ إخوتي الصغارِ وهم يلتهمون الفاكهةَ بنهمٍ أكبرَ متعةٍ عندي.

في السنةِ الثانيةِ، سمحت لنا الجامعةُ بأن نسكنَ خارجَ الحرمِ الجامعيّ. فاتفقتُ مع صديقين، تعمدتُ أن يكونا لاجئين فلسطينيين مثلي، على استئجار شقةٍ مفروشةٍ قريبةٍ من الجامعة. كانت بعثةُ وكالةِ الغوثِ تمنحنا مصروفاً شهريًّا نغطِّي به أجرةَ السكنِ وكلفةَ الطعام. وبالرغم من أنّ ذلك المصروفَ كان متواضعاً بالمقارنةِ بمصروفِ بعثاتِ النقطةِ الرابعةِ التي كان تلاميذُ آخرون يحصلون عليها، إلا أنني استطعتُ أن أقتصدَ قليلا في مصروفي بحيث كنتُ اشتري بعض الفاكهةِ حين أذهبُ لزيارةِ أهلي في المخيم في عطلةِ نهايةِ الأسبوع. لذلك لم أتوقفْ عن عادةِ حمل كيسٍ من الفاكهةِ معي. وحين أعودُ إلي بيروت في نهايةِ عطلةِ الأسبوع، كنت أعطي والدتي كلّ ما يتبقى معي من مالٍ قليلٍ، بعد أن أترك معي أجرةَ الحافلةِ من صيدا إلى بيروت، ومن وسط البلدُ كنتُ أركبُ الترامَ إلى الجامعةِ بنصفِ قرش.

لا شكَّ، يا زينبُ، أنّ السعادةَ مسألةٌ نسبية. أقولُ هذا وقد عرفتُ اليومَ الرفاهيةَ الماليةَ التي يتمتعُ بها الكويتيون وكثيرٌ من العاملين في الكويت، وأنا منهم، إلى حدٍّ ما. وبحكمِ عملي كطبيبٍ، ألتقي بكثيرٍ من الناسِ على مختلفِ أوضاعِهم. كنتُ في البدايةِ أدهشُ حين أرى رجلاً غنيًّا جداً لكنه غيرُ سعيدٍ في حياته. في حياتِنا البائسةِ في المخيم، كنا نظنُّ أن تعاستَنا ستتبدد لو استطعنا أن نعيشَ كالآخرين من الناسِ في منازلَ مُرفَّهةٍ أو شبهِ مُرفَّهة، وكان معنا ما يكفي من المال لنشتري طعاماً أفضلَ من طعامِنا، وملابسَ أفضلَ من ملابسِنا. لكن السعادةَ التي كان يشعرُ بها إخوتي الصغارُ حين كنتُ آتيهم بكيسِ الفواكهِ ذاك كانت لا توصف. بالرغمِ من ذلك، حين أرى اليوم التعاسةَ على وجه ثريٍّ يملكُ كلَّ ما يحتاجُه الإنسانُ من مالٍ لشراء ما يخطرُ ببالِه وما لا يخطرُ، أتذكّرُ السعادةَ في وجوهِ إخوتي الصغارِ وهم يلتهمون حباتِ الفاكهةِ التي كنت أجلبُها لهم من بيروت.

ما دمتُ أُكلمُكِ عن السعادةِ، يا زينبُ، فاسمعي ما حدث لي ذات يوم، جعلني أتمنى لو أستطيعُ أن أنالَ سعادةَ الانتقام. لكنه كان انتقاماً خياليًّا وكانت السعادةُ منه خياليةً أيضاً، أُفضِّلُ عليه انتقامَنا ممن هجّرونا من ديارنا واغتصبوها اغتصابا:

ذات يومٍ كنتُ أتمشَّى في سوقٍ في وسطِ بيروت، قريبٍ من ساحةِ البرجِ يُسمُّونه سوقَ سرسق، وهو سوقٌ قديمٌ مكتظٌّ بالناس، بحيث لا يكادُ المرءُ يجدُ فيه موقعاً لقدمه. كنتُ أمشي ببطءٍ بسببِ الازدحامِ في السوقِ، وخاصّةً لأني لم أكنْ أقصدُ التسوقَ، بل استكشافَ المكان. فجأةً، إذا برجلٍ يدفعني بعنفٍ من خلفي بكلتا يديهِ ويقولُ بلهجةٍ حادّةٍ: “تحرّك!” نظرتُ خلفي، فإذا هو علجٌ عملاقٌ تكادُ عيناه تشتعلان بالشرر. لم أفهمْ معنى تصرفِه الأحمقِ هذا وهو يرى ازدحامَ السوق. لكني شعرتُ بإهانةٍ بالغةٍ، زاد أثرُها عليّ أن حجمَه لم يكنْ ليسمحَ لي بالعراكِ معه، خاصةً أنني كنتُ صغيراً وحديثَ العهدِ ببيروتَ وزعرانِها، ولشعوري بأنه من أهل هذا السوق. لهذا، لم يكنْ أمامي إلا أن أبتلعَ إهانتي، كما ابتلعنا نكبتَنا في فلسطينَ واغتصابَ وطنِنا ودورِنا وأراضينا. لكنني إلى الآن أشعرُ بغصةٍ الإهانةِ كلّما تذكرتُ الحادث، تماماً كما أشعرُ بغصةٍ لا تُفارقُني كلما تذكرتُك وتذكّرتُ طفولتَنا في الديرة. وأنا إلى الآن أتمنى أن آخذ بثأري من ذلك العلج. ثم قلتُ مُحدِّثاً نفسي: “ما قيمةُ هذا العلجِ المتخلّفِ حتى أطلبَ ثأري منه؟ الثأر الصحيحُ هو الثأرُ من اليهودِ السكناجِ الذين شردونا من ديارِنا وفرضوا علينا مذلةَ الشتاتِ والغربة.”

 

 

 

(7)

 

 

كانَ في الجامعةِ خليطٌ كبيرٌ من التلاميذِ من كلِّ بلادِ العالم. خطرَ ببالي أن تكوني أنتِ أيضاً جئتِ إلى الجامعة. ما كدتُ أتحمَّسُ للبحثِ عنكِ حتى تذكرتُ أنكِ أصغرُ مني، وأمامَكِ بضعُ سنوات لتتخرَّجي من المدرسة. فلأنتظرْ، لعلّنا نلتقي على غيرِ موعد. لكنْ، يومَ ظننتُ أنّ موعدَ قدومِكِ إلى الجامعة قد حان، بحثتُ عنكِ ولم أجدْكِ، فحزنتُ كثيرا. كانَ هاجسي أنْ أجدَكِ بطريقةٍ ما، وكانَ دائماً ينتابُني شعورٌ بأننا سنلتقي بمحضِ صدفة. ثمَّ يمرُّ العامُ تلوَ العامِ ولا نلتقي، فأنطوي على حسرتي. وها أنا ذا أجدُكِ بصدفةٍ عجيبةٍ ولو بعدَ هذه السنينَ الطويلة. المهمُّ أنني أخيراً وجدتُك، رغمَ أني لا أزالُ غيرَ مُصدِّقٍ حتى أراكِ بعينيّ.

كنتُ في الجامعةِ متفوِّقا كما كنتُ في المدرسة. لكنني أيضا كنتُ نشيطا في حركة القوميين العربِ وفي النادي الثقافيِّ العربيِّ في بيروت. غيرَ أنّ ما كان يُنغِّصُ علينا حياتَنا محاولةُ “المكتبِ الثاني” حدَّ حرِّيَتِنا، خصوصاً في المخيَّم. “المكتبُ الثاني”، يا زينب، هو الاسمُ الملطَّفُ، أو ربَّما الفرنسي، لدائرةِ المخابراتِ، كما تُسمَّى في بعضِ الدولِ العربية. كم كنتُ أتحسَّسُ لذكرِ اسمِ المكتبِ الثاني وصلَفِ رجالِه. ذاتَ يومٍ قلتُ لصديقٍ بريطانيٍّ لي كان زميلاً لنا في الجامعةِ إني أكرهُ الشرطةَ ورجالَ المخابرات. فتعجّب وقال: “لماذا؟ هم موظفون في الدولةِ مثلُ غيرِهم من الموظفين.” حاولتُ أن أُفهمَه أنهم يتجبّرون بنا بلا سبب، لكنّه استهجن كلامي. وحين كبرتُ وأدركتُ، تبيّن لي أن الشرطةَ والمخابراتِ مكروهةٌ عند العرب وحدَهم، لأنهم فعلاً يتجبّرون بالناسِ دفاعاً عن الأنظمةِ المستبدةِ العميلة. وفي الغالبِ ينالُ الفلسطينيون النصيبَ الأكبرَ من جبروتِهم. لماذا؟ لا أدري، ربما لأنهم يستضعفوننا. لكنني أدركتُ أن هذه الأنظمةَ لا تملكُ من أمرِ نفسِها شيئاً، فهي مرتهَنةٌ لدى المستعمِرين وما يريدون؛ المستعمِرُ يُنصِّبُ الحاكمَ المواليَ له في كرسيِّ الحكمِ، ويحميه من شعبِه، وهو الذي يعزلُ الحاكمَ ليأتيَ بغيرِه حاكماً مطيعاً خانعا. معظمُ الأنظمةِ العربيةِ، للأسفِ الشديدِ، أنظمةٌ وظيفيةٌ تؤدِّي للمستعمرين خدماتِها، والمصيبةُ أنّ هذه الأنظمةَ تحتفلُ في كلِّ سنةٍ بأعيادِ استقلالِها، وإن هو إلا استقلالٌ شكليٌّ لا قيمةَ له. أليس هذا أمراً مؤسفا، يا زينبً؟ متى نتحررُ تحرُّراً حقيقيًّا؟ رحمَ اللهُ جمال عبد الناصر، نظامُه يكادُ يكونُ الوحيدَ الذي استقلَّ فعلا عن بريطانيا؛ وحين أمّم قناةَ السويس هاجمتْه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فيما سُمِّيَ العدوانَ الثلاثيِّ. في هذا العدوانِ على مصر، قامت مظاهراتٌ صاخبةٌ في المخيّمِ وفي صيدا تأييداً لمصرَ وشجباً للعدوانِ عليها. في إحدى تلك المظاهراتِ أعجبني خطابٌ لأبي ماهر اليماني، أحدِ قياديّي حركةِ القوميين العرب قال فيه إنّ إسرائيلَ ليست سوى كتيبةٍ متقدّمةٍ للاستعمارِ في بلادِنا، لها وظيفةٌ مُحدَّدةٌ هي تفتيتُ الوطنِ العربيِّ بالتآمرِ عليه. تفكّرتُ في هذا الكلامِ، فوجدتُ فيه منطقاً تامًّا، وأدركتُ جيداً ما كان أبي وأصحابُه في المخيّمِ يقولونه عن بريطانيا، التي جلبتْ يهودَ أورُبا إلى فلسطينَ وساندت الحركةَ الصهيونيةَ حتى قويت واحتلّت وطنَنا وطردتنا من بيوتِنا وقُرانا. ما مصلحةُ بريطانيا في إقامةِ هذه الدولةِ الصهيونيةِ لو لم تكن تريدُها جزءاً من الاستعمارِ الغربيِّ مُهمتُها تفتيتُ الوطنِ العربيِّ للهيمنةِ عليه، عملاً بمبدأ “فرِّقْ تسُدْ”؟ بعد تلك المظاهرةِ في صيدا، زار أبو ماهر اليماني مخيمَ عين الحلوةِ، إذ كان له أقرباءُ في المخيمِ يقطنون قريباً منا. وقد رافقتُ أبي حين ذهبَ للقائه. كان أسمرَ البشرةِ، سمحَ الوجهِ، جذابَ الكلام، تشعُّ الطيبةُ من عينيه، وقد قال لي والدي إنه كان أحدَ المناضلين النقابيين في فلسطين. يومَها أُعجبتُ به إعجاباً شديداً، لدماثتِه وصدقِه وابتسامتِه التي لم تكنْ تغادرُ وجهَه، وأظنُّني لاحقاً رحبتُ بفكرةِ الانضمامِ إلى حركةِ القوميين العربِ لإعجابي به. وفي الجامعةِ، رتّبتْ لنا الحركةُ زيارةً إلى أقصى جنوبِ لبنان، حيث وقفنا على الحدودِ نُشاهدُ أرضَ فلسطينَ المحتلة. وهناك خطب فينا أبو ماهر، لكنني هذه المرةَ كنتُ قد تعرفتُ عليه أكثر.

ذاتَ يومٍ، وجدتُ في صندوقِ بريدي في الجامعةِ رسالةً من المكتبِ الثاني يريدونني أن “أُشرِّفَهم” بزيارةٍ في مكتبِهم في البرجِ – أعني ساحةَ الشهداءِ – لأقابلَ ضابطاً نسيتُ اسمَه. وهذا الضابطُ الذي يريدُ أن يتشرّفَ بمشاهدةِ طلعتي البهيةِ هو المسؤولُ عن “رعاية” شؤونِ اللاجئينَ الفلسطينيين. مَن مثلُنا، يا زينب؟ نعم، هناكَ من يرعَى شؤونَنا! وإذ كنتُ أعرفُ ما يفعلُه بنا زبانيتُه في عينِ الحلوةِ وسائرِ مخيَّماتِ اللاجئين، انتابني قلقٌ من هذه الدعوةِ، لأنهم كلَّهم سفلةٌ لا يستحقونَ إلا الصفعَ على قفاهم. أبديتُ لبعضِ أصدقائي قلقي من تلك الدعوةِ، لكنْ، لحسنِ الحظِّ، أنّ أحدَهم قال لي إن أخاه يعملُ في طيرانِ الشرق الأوسطِ وهو يعرفُ ذلك الضابطَ الجلفَ، وكثيراً ما يجلبُ له الهدايا من شركةِ الطيَران. ووعدني صديقي أن يطلبَ من أخيه أن يُرافقَني إلى ذلك الضابط في ساحةِ البرج. كان ما كان، إذ اصطحبني أخو صديقي في تلك الزيارةِ الكريهةِ. حين وصلنا إلى مكتب ذلك الضابط، دخل أخو صديقي إلى مكتبِه وأنا وراءه، وكان، في سبيلِ مساعدةِ الضابطِ على الابتسامِ، جلبَ له بعضَ الهدايا التي تُوزِّعُها الشركةُ على من تطلبُ ودَّهم.

حين دخلنا مكتبَ هذا الضابطِ “الكريم”، استقبلَنا بودٍّ كبيرٍ، مُقبِّلاً وجنتَيْ صاحبي باشتياقٍ مُصطنَعٍ، معاتباً إياه على طولِ غيابِه. كذلك بادله صاحبي رياءً برياءٍ بدا لي ضرورةً لا بدّ منها يتبادلُها الكثيرُ من الناسِ فيما بينهم حين الحاجة. فذكّرني هذا اللقاءُ بقولِ شاعرٍ عباسيٍّ يُلقَّبُ بذي اللسانين، على ما أعتقد:

ألستَ تراني أزورُ الوزيرَ فأمدحُه ثم أستغفرُ

وأُثني عليه ويُثني عليَّ وكلٌّ بصاحبِ يسخرُ

يبدو أنّ طباعَ الناسِ لا تتغيّرُ من عصرٍ إلى آخر، ولو أنني لا أعلمُ إن كان صاحبي استغفرَ ربَّه لما بذلَ للضابطِ من رياء. أما الضابطُ، فلا أظنُّه يعرفُ الاستغفارَ على أيِّ حال، خاصةً أن وجهَه لا يدلُّ على ذلك. كان مربوعَ القامةِ أقربَ إلى قصرِها، ذا عينين لا تدلانِ على ذكاءٍ، بل على رجلٍ مأمورٍ يُنفذُ أوامرَ رؤسائه بصَلَفٍ يُرضيهم. هكذا قرأتُ وجهَه، أو أنّ عقليَ الباطنَ أرادَ أن يقرأه هكذا. لكنّ عقليَ الباطنَ نادراً ما يُخطئُ القراءة. ما كدنا نجلسُ حيث أشار لنا الضابطُ أمامَ مكتبِه، حتى ابتدره صاحبي بتعريفِه عليّ وعلى سببِ اصطحابِه لي. فما كان من الضابطِ إلا أن افتعلَ الغضبَ بتكشيرةٍ كانت بعضاً من أدواتِ مهنتِه يلبسُها على وجهِه متى شاء ويخلعُها متى شاء، خاصةً حين دفعتُ له القصاصةَ التي تدعوني لزيارتِهم. زمجرَ الضابطُ وأنّبني على “زعرنتي” السياسيّةِ دون أنْ يُحدِّدَها، وذكّرني بأنني “ضيفٌ” في لبنانَ عليَّ احترامُ فضلِ إيوائي وإيواءِ بقيةِ اللاجئين الفلسطينيين بالتزامِ النظامِ وتجنُّبِ تعكيرِ أمنِ البلدِ الذي “أطعمَنا من جوعٍ وآمنَنا من خوف!” لم أفهم طبعاً عن أي تعكيرٍ أمنيٍّ كان يتكلمُ ولم أُردْ أن أخوضَ معه في جدلٍ عقيمٍ، خاصةً أنني كنتُ أبحثُ عن سلتي من غير عنب، كما يقولُ المثل. غاظني طبعاً أنه قال إن بإمكانِه أن يحملَني كالصرصورِ ويُلقيَ بي خارجَ الحدود، مُمثِّلاً ذلك بضمِّ أصبعَيْ السبابةِ والإبهامِ في يدِه كما يفعلُ المرءُ حين يحملُ حشرةً ما بطرفَيْ إصبعيه. لكنني لم أملكْ إلا أنْ أكظمَ غيظي، مع أني، حقيقةً، ضحكتُ في سريرتي على تصرُّفِه.

لا أذكرُ أنني التقيتُ بهذا الضابط سابقاً. ولقد بدا لي بقصرِ قامتِه وعضلاتِه المفتولةِ وكأنّه لا يصلحُ إلا سجّاناً أو واحداً من “قبضاياتِ” علبِ الليلِ في الزيتونة، أي أنه كان، في نظري، الرجلَ المناسبَ في المكانِ المناسبِ، بالرغمِ من أن هذه الحكمةَ قليلاً ما تُتَّبَعُ في لبنانَ خاصةً، وفي معظمِ الدولِ العربية عموماً، حيثُ المحسوبيةُ والفسادُ سيِّدا المواقف. بل لعلّه نال وظيفتَه لأنه ينتمي لطائفةٍ ما في لبنانَ لا يشغلُها إلا من ينحدرُ من تلك الطائفة. فهكذا ركّبت فرنسا لبنانَ تركيباً طائفيًّا يقومُ على ما أسمَوْه التوازنَ الطائفيَّ في كلِّ شيءٍ تقريبا، أعني التوازنَ الذي رأت فيه فرنسا توازناً يخدمُ مصلحتَها الاستعمارية. والطريفُ أنني حين ذهبتُ لأسجّلَ دخولي للجامعةِ سألتني موظفةُ التسجيلِ عن ديانتي وطائفتي. وإذ وجدتُ في السؤالِ غرابةً لم تستهوني، كدتُ لا أُفصحُ لها عن ديانتي، لكنني زعمتُ، مُصرًّا على الزعمِ، بأنني لا أعرف طائفتي. والحقيقةُ أنّ في هذا الزعمِ بعضَ الصحة. لكنني، لعدمِ قبولي الفكرةَ، أنكرتُ معرفتي حتى لو بدوتُ أمامَها غرًّا أبله. كم كنتُ أودُّ لو كانت عندي الجرأةُ لأقولَ لها إنني مُنحتُ البعثةَ الجامعيةَ لأنني متفوقٌ في المدرسةِ، لا لأنني من الدين الفلاني أو من الطائفةِ الفلانية. لكنّ وجهَ تلك الموظفةِ كان أكدرَ من أنْ أستطيعَ زيادةَ الكلامِ معها حتى لو لم تخنّي الجرأة.

يبدو أن صاحبي كان يتوقعُ هذا التأنيبِ من ضابطِ المكتب الثاني، فحاولَ تخفيفَ الجوِّ بالإشادةِ بمناقبي، مُشيراً إلى أنني زميلُ أخيهِ الصغيرِ في “الطبية”، قائلاً إنَّ هؤلاءِ الشبابَ يندفعون وراءَ حماسِهم، لكنّهم لا يملكون أخيراً إلا أنْ يعقلوا فيُدركوا مصلحتَهم.

لم يُعجبْني هذا الكلامُ طبعاً، وتمنّيْتُ لو استطعتُ أنْ أُحاضرَ على الضابطِ بما فعلتْه معاهدةُ سايكس-بيكو بالعربِ، إذ لولاها لكان لبنانُ وفلسطينُ بلداً واحداً وجزءاً من بلادِ الشامِ والهلالِ الخصيبِ الذي اقتسمه البريطانيون والفرنسيون فيما بينهم غنيمةً من غنائمِ الحرب العالميةِ الأولى. لكنني، رغمَ شعوري بالامتعاضِ، كنتُ، كما قلتُ، أريدُ سلَّتي من غيرِ عنبٍ والخلاصَ من همِّه. ولعلَّ الضابطَ قرأ على وجهي شيئاً مما يدورُ في رأسي، فقال، محاولاً تلطيفَ الجوِّ، إكراماً لصاحبي لا لي، طبعاً: “يا ابني انتبهْ لدروسِك، ودعْكَ من السياسةِ، فليس منها إلا وجعُ الرأس.” ثمّ قلبَ سحنتَه مائة وثمانين درجةً وأخذَ في غايةِ المودّةِ يحدِّثُ صاحبي، مُستفسراً عن عملِه وأوضاعِه، إلى آخرِ تلك المجاملاتِ، التي تسمعُها أذنُه اليُمنى وتلفظُها اليُسرى. عندها قدّمَ له صاحبي الهدايا التي جلبَها معه، والتي كانت أوَّلَ ما وقعَ عليه نظرُ ذلك الضابطِ حينَ دخلنا مكتبَه. عندَئذٍ زادت أساريرُه انفراجاً، وتقنّعَ بابتسامةِ فرحٍ بدتْ غريبةً على ذلك الوجهِِ الذي عرفَه أهلُ المخيماتِ عابساً أبداً لسببٍ أو لغيرِ سبب. لا شكَّ، يا زينبُ، في أنَّ رجالَ الأمنِ عند عربِ هذا الزمنِ جنسٌ يختلفُ عن جنسِ البشر. أو لعلَّهم كذلك في كلِّ عصرٍ ومصر، أو في الأمصارِ العربيةِ وحدَها، على الأقلّ. أخيراً، وبعد أنْ شربنا القهوةَ التي طلبَها لنا شكراً على هدايا صاحبي، استأذنّاهُ بالانصرافِ، فقامَ يُودِّعُنا إلى البابِ، ولم ينسَ أن ينصحَني ثانيةً، بضربةٍ قويَّةٍ من كفِّهِ على كتفي، بالعنايةِ بدروسي، “لأنَّ الطبَّ ليس مزحة،” كما قال. الطريفُ في الأمرِ أن شقيقَ صديقي قال لي في طريقِ العودةِ إلى راس بيروت: “ارمِ وراءَ ظهرِك، كلُّهم كلاب!” وضحك وضحكتُ معه رغمَ مرارةِ صدري.

ستضحكينَ، يا زينبُ، إن قلتُ لكَ إن تلكَ الحادثةَ ذكَّرتْني بك. فبالرغمِ من طمأنةِ شقيقِ صديقي لي أن أنسَى ما قاله ذلك الضابط، ورغمَ تحويلِ الأمرِ إلى نكتةٍ حين روَى للأصحابِ قصةَ مقابلتِنا معه، تألمتُ كثيرا، من غيرِ أنْ أُظهرَ ألمي لأحدٍ. تذكَّرتُ يومَها كم تألمتُ حين وقعتُ من على شجرةِ التينِ يومَ سقطتْ عليها طيارةُ الورق، وحاولتُ أن أُخفيَ عنكِ ألمي. لكنَّ ذلكَ الألمَ، حتى حين كادت روحي تخرجُ من جسدي عندما حاولَ المجبِّرُ تقويمَ التواءِ قدمي، كان ألماً جسدياً زالَ بزوالِ سببِه. أما هذا الألمُ، فكان معنويّاً لا يزالَ يلازمُني هو وأمثالُه إلى اليوم. يومَئذٍ أيقنتُ أنّ هناكَ من يُشاركُ السكناجَ الصهاينةَ في عدائهم لنا. إنها العواصمُ القُطريةُ العميلةُ في الوطنِ العربيِّ وأجهزةُ أمنِها. كثيراً ما كنا نبحثُ هذه القضيةَ في “الحركة” ونُقرِّرُ أنَّه لا بدَّ لتحريرِ فلسطينَ من أنْ يمرَّ عبرَ العواصمِ العربيةِ. ثمَّ أخذتُ أتفكَّرُ في أمرِ مراقبةِ دوائرِ الأمنِ لحركاتِنا وسكناتِنا، حتى خرجتُ بنتيجةٍ مُريحةٍ: أنْ لا أكترثَ لما يُمكنُ زبانيةَ الأمنِ أن يفعلوه بنا. قلتُ لنفسي، وكنتُ أقولُها لرفاقي في “الحركةِ”: “إنهم ليسوا أكثرَ من كلابٍ تنبحُ وتعضُّ. فإن نَبَحتْ علينا، فلن ننبحَ عليها، وإن عضّتنا، فعليها أنْ تدفعَ الثمنَ عاجلاً أو آجلا.” وكانَ أنْ دفعَ هذا الضابطُ الغبيُّ حياتَه ثمناً لتجبُّرِهِ بنا. دفعَها في الحربِ الأهليةِ التي يكتوي بنارِها لبنانُ اليوم. لكني حينَ سمعتُ بخبرِ اغتيالِه، لم أشمتْ به، بل أشفقتُ عليه. ربَّما لشعوري أن هؤلاء منحرفون يستحقون الإصلاحَ لا القتل. وفي نهايةِ المَطاف، أعتقدُ أن هؤلاء من لحمِنا ودمِنا، والمجرمةُ الكبرى هي الإمبرياليةُ الغربيةُ التي ما فتئت تعملُ على تخريبِ بلادِنا ومجتمعِنا. فبريطانيا وفرنسا، يا زينب، هما اللتان شطَّرتا الهلالَ الخصيبَ، ليسهلَ عليهما السيطرةُ علينا. كما أن بريطانيا هي التي ارتكبت جريمةَ الدهرِ بحقِّنا حين جلبتْ يهودَ أوربا إلى فلسطينَ وأمدَّتْهم بالسلاحِ، أو غضّت الطرْفَ عن تسليحِهم وتدريبِهم ليستعدّوا لطردِنا من ديارِنا ليقيموا عليها دولةً تكون كتيبةً متقدِّمةً للاستعمارِ في المشرقِ العربيّ، وخليةً سرطانيةً تنهشُ لحمَنا وتُفتت أُمّتَنا العربية.

ما دمنا في ذكرِ المكتبِ الثاني، لا أنسى مأساةَ دار أبي حمد الراجح في المخيم. هؤلاء من قريةِ الراس الأحمر في الجليل، وبعد الهجرةِ بقليل، تسلّل أبو حمد إلى الأرضِ المحتلةِ ليجلبَ صيغةَ زوجتِه من بيتِهم في الراس الأحمر، كما علمتُ من والدي. لم يكن أبو حمد الوحيدَ الذي كان يتسلّلُ إلى الجليلِ. لكنّ حظّه أنه حين قطع الحدودَ عائداً إلى لبنان، تصدَّت له دوريةٌ من الجيشِ اللبنانيِّ وأطلقت عليه النارَ حين حاول الهربَ منها فأردته قتيلا. علم بأمرِه أهلُ المخيّمِ حين هاجم المكتبُ الثاني المخيّمَ وعاثوا خراباً ببيتِه بحجّةِ التفتيش. وأظنُّهم هم من أخبروا أهلَه بوفاتِه، فشقّت زوجتُه ثوبَها هلعاً وخرج أولادُه الصغارُ يولولون في أزقةِ المخيّم. كان الناسُ يقولون إنّ الجيشَ صادر صيغةَ امرأتِه فوق قتلِه ولم يردَّها لها ولأولادِه. لم يكنْ أبي متأكِّدا من ذلك بعد وفاةِ أبي حمد. لكنّه كان حديثَ الناس في المخيّم. وحين جلبوا جثتَه إلى أهلِه، كان الحزنُ يُهيمنُ علينا جميعاً حين شيّعناه إلى مثواه الأخير. سمعتُ أنّ مثلَ هذه الحوادثِ تكرّرت كثيراً في مخيمات اللاجئين في لبنان، وأن كثيراً من المتسللين نجحوا في العودةِ إلى قراهم في الجليلِ، حيث استقروا، خاصةً منهم مَن تسلّلَ عائدا في أوّلِ الاحتلال.

ظننتُ، حين استدعاني المكتبُ الثاني، أنهم رصدوني في مظاهرةٍ صاخبةٍ قام بها تلاميذُ الجامعةِ تأييداً للثورةِ الجزائرية. نعم، شاركتُ في تلك المظاهرة، وما كان لي أنْ أتخلَّفَ عنها. لكنّ ما أغاظني أنّ الذين تولَّوْا قيادةَ المظاهرةِ كانوا بعضَ رفاقنا اللبنانيين، وبالرغمِ من ذلك لم يستدعِ المكتبُ الثاني أياً منهم للتحقيق. فهل استضعفوني لأني لاجئٌ فلسطينيّ؟ أعتقد ذلك، للأسف الشديد.

 

 

 

(8)

 

 

أنا آسفٌ، يا زينب، أظنُّني أطلتُ عليكِ في الكلام. أعلمُ أني أتكلّمُ كثيراً، وأعلمُ أني أكلِّمُ نفسي، لكني حقيقةً أفضفضُ عن ما في قلبي، الذي كاد يختنقُ من غيابِك الطويل. لكنني، حين التقيتُ بابنتِكِ عبير، عرفتُ الفرحَ هذا الصباحَ كما لم أعرفْه من قبلُ قطُّ. هل تعلمين أنّ أمي كانت تضحكُ حين كنتًُ أتكلّمُ في صغري وتقول: “بالع راديو، يا ابني!” نعم كنتُ كثيرَ الأسئلةِ أيامَ صغري. كان كلُّ ما في الدنيا يحيِّرُني. لماذا هُجِّرنا من بلدِنا؟ أطبيعيٌّ أنْ يغزوَ الأغرابُ بلداً ويُجبروا أهلَه على الشتات؟ أخيراً، لماذا لم أعدْ أراك؟ أين ذهبتم وانقطعت عنا أخبارُكم؟ لماذا لم نهاجرْ معا؟ جاء والدُكِ ذات يومٍ إلى صيدا ونزلَ عندنا في المخيّم. سألتُه عنكِ بشغفٍ بالغٍ، فكان يُجيبُني ببرودٍ كأنّ أسئلتي لم تكنْ همَّه الأكبر. كنتُ أستغربُ برودَه، وحين كبرتُ أدركتُ أنّ شغفي بك لم يكنْ إحدى أولوياتِ الأهل، فهم في وادٍ وأنا في وادٍ آخر. كانوا يتكلّمون عن أوضاعِهم المعيشيةِ، وعما إذا كنا سنعودُ إلى البلدِ أو أنّ الشتاتَ قدرٌ كتبه اللهُ علينا فلا رادَّ له؟ كم كنتُ أتساءلُ: لماذا أنزل اللهُ علينا هذه النكبةَ من دون خلقِ الله؟ حين سألتُ الكبارَ، قال بعضُهم: “لحكمةٍ يعلمُها الله”؛ وبعضُهم أكّد أنها لمعصيةٍ ارتكبناها على غيرِ علمٍ، أو ربما بعلم. لم يُقنعني كلامُهم، بل أقنعني قولُ رفيقي مروان في الحركةِ: هذا مخطَّطٌ خبيثٌ فرضه علينا المستعمرون البريطانيون. فقد جلبوا يهودَ أوربا وغرسوهم في خاصرةِ الوطنِ العربيِّ ليفتتوه ويحُولوا دون قيامِ الوحدةِ العربية، ولا حلّ لنا إلا بالتحررِ من نيرِ المستعمرين، وبالوحدةِ، وبقتالِ السكناجِ الصهاينةِ الذين اغتصبوا وطنَنا وأخرجونا منه. “ما أُخذ بالقوةِ لا يُستَردُّ بغيرِ القوة.” هكذا قالها جمال عبد الناصر مُصيباً، وبهذا آمنّا. حين ذهبتُ إلى الجامعةِ، كنتُ أقولُ هذا لوالدي ولأصحابِه في مقهى المخيّم حين كنتُ أتعمّدُ الذهابَ إلى المخيّمِ في عطلةِ نهايةِ الأسبوع لأبقيَ على اتصالٍ خاصةً بأصدقاءِ أبي في المقهى، وكانوا يقتنعون بكلامي بعد أنْ كبرتُ في عيونِهم حين أصبحتُ تلميذاً في الجامعة يستحقُّ أن يُعيروه آذانَهم. كان أبو الحسن الديراني يُشجِّعُني ويقول:

  • “والله صحيحٌ يا ابني.”

ثم يعودُ ليُعيرَ نظرَه إلى أصحابِه قائلا:

  • “أرايتم العلمَ كيف يصنعُ بصاحبِه؟ ما شاء الله على ابنك يا بو بدوان، انظر كيف أنضجته الجامعة وأصبح يتكلّمُ في السياسةِ حديثاً عاقلاً بعيدَ النظر، ولا يزالُ في العشرين من عمره المديد.”

كانت عينا أبي، بطبيعةِ الحال، تُشرقان سروراً لتعليق أبي الحسن، الذي استأنف كلامه قائلاً:

  • “نعم، يا ابني، كان الإنكليز يُعدمون العربيَّ إذا وجدوا في حوزتِه مُسدساً أو حتى رصاصةً واحدةً، وكانوا يغضُّون الطرْفَ حين تجلبُ السفنُ الأسلحةَ لليهودِ وينقلونها فوراً إلى المستعمرات.”

 

 

(9)

 

 

حين زارنا والدُكِ، سمعتُه يقولُ إنكم تعيشون أيضاً في مخيّمٍ للاجئين في نابلس اسمُه مخيّمُ عين بيتِ الماء، نحن في عين الحلوة وأنتم في عين بيتِ الماء، وماءُ البحرِ هو الذي حملنا إلى لبنان. لعنَ الله هذا الماءَ، ليتَنا ركبنا معكم في سيارةِ الشحنِ وشرّقنا برٍّا إلى نابلس، بدلَ أن نركبَ البحرَ إلى لبنان. كلّما تذكّرتُ هذه الإمكانيةَ طار عقلي من الغيظ. لعلّ الفارقَ بيننا كان محضَ دقائقَ معدوداتٍ، لكنها دقائقُ حرمتني منكِ ولعلّها غيّرتْ مجرى حياتَيْنا.

نعم، كانت محضَ دقائق! هل تعلمين أنّ الولاياتِ المتحدة قتلت من اليابانيين في مدينتي هيروشيما وناغازاكي حوالي ربعِ مليونِ نسمةٍ خلال دقائقَ معدوداتٍ يومَ قصفتهما بقنبلةٍ ذريّة لكلِّ مدينة؟ ما هذا الإجرام؟ لكنّ الإجرامَ لدى المستعمرين لا يعني شيئاً. كلُّ شيءٍ عندهم مُباحٌ في سبيلِ تحقيقِ مصالحِهم. الأمريكان قتلوا ربعَ مليونِ يابانيٍّ ليُجرِّبوا قنبلتَهم النوويةَ عليهم ليس إلا، لأن اليابانَ كانت قد خسرت الحربَ قبل قصفِها بالسلاحِ النووي بشهرين، هذا ما يؤكدُه المختصون. وفي فيتنام ارتكبت الولاياتُ المتحدةُ ما لم تعرفْه البشريةُ من مجازر. أما بريطانيا فتعرفين ما فعلته بنا في فلسطين، وأما فرنسا فتعرفين أيضاً إجرامَها بحقِّ إخواننا الجزائريين. كلُّهم مجرمون لا يعرفون الإنسانية، وعلينا ألا نستسلمَ لهم.

لكنْ، دعينا من هذا. حين كنتُ صغيراً كنتُ أفكِّرُ دائما بك، على أنك بنتُ عمِّي وصديقتي التي حرمني اليهودُ منك. وحين كبرتُ، أصبحتِ في نظري رمزاً لفلسطينَ كلِّها، فقدتُك وفقدتُ قريتَنا وفقدتُ وطنَنا كلَّه، فهل عَجَبٌ أن تكوني رمزاً للوطنِ المفقود. بل كنتُ أحياناً أُسمِّي فلسطينَ باسمِك، زينب. ما الفرق؟ لهذا تحمّستُ للانضمامِ لحركةِ القوميين العربِ. كانوا في الحركة يطلقون شعار “ثورة، تحرر، ثار،” كنتُ أريد أن أثورَ على واقعِنا وأنْ أحرِّرَكِ من الشتاتِ وأن أثأرَ لغيابِكِ عني من السكناجِ الصهاينةِ الذين احتلوا وطننا الذي أصبحتِ أنتِ رمزَه. كلامٌ ربما ستضحكين لسذاجتِه حين نلتقي. اضحكي ما شئتِ، نعم أنا لا أزالُ ذلك الطفلَ الساذجَ الذي كان يدبُّ معكِ على أرضِ “الديرة،” قريتِنا الجميلة. لم يغيّرْني كبرُ السنِّ، ولولا خشيتي من أعينِ الناسِ وألسنتِهم، لتصرفتُ كالأطفال، لأنّ ذلك الطفلَ الذي كان في ثوبي أيامَ الديرةِ لا يزال يحتلُّ وجداني. لذلك لم أصدِّقْ أنكِ غائبةٌ عني، وهاهو القدرُ يضحكُ لطفولتي ويجمعُني بك حين جمعني بابنتِك عبير. وخلالَ ساعاتٍ كأنها الدهرُ كلُّه سأراك لحماً ودماً. فهل ما زلتِ زينبَ الطفلةَ البريئةَ التي تعلقتُ بها في الديرة؟ ما الذي سيغيّرُك؟ أنا في جوهري لم أتغيّرْ، ولا أخالُك إلا مثلي لم تتغيَّري.

كنتُ دائما أُزعجُ الوالدَ، رحمه الله، باسئلتي التي لا تنقطع. كان يضحكُ لأسئلتي حين كنتُ صغيرا، وحين كبرتُ، تصاحبنا، وأصبحتْ أسئلتي انضجَ وتثيرُ بيني وبين الوالدِ حواراً جميلا وتُرسِّخُ بيننا صداقةً رائعة.

كنتُ أعودُ من الجامعةِ وقد اكتنزتُ مواضيعَ للحوارِ مع الوالدِ وأصحابِه في مقهَى المخيّم، فأصبح رجوعي إلى المخيّمِ فرصةً جميلةً أحاورُ فيها أصحابَ أبي في المقهَى، أولئك الذين أصبحوا أصحابي، مع أنهم في سنِّ أبي. فكّرتُ في تجنيدِهم للحركة، ثم قلتُ في نفسي: إنهم كبروا في السنِّ وعلينا نحنُ الشبابَ أنْ نقومَ بواجبِنا تجاهَ وطنِنا.

ذات يوم أذهلني أبو نزار الصاوي حين روَى لنا كيف دخلَ اليهودُ إلى الطنطورة، قريتِهم، وفتكوا بأهلِها دون تمييز، نسيتُ التاريخَ، لكنْ أظنُّه قال إنها كانت في شهرِ أيّار سنةَ 1948، وقال إنهم أفاقوا على صوتِ انفجاراتٍ في القرية، تبيّن لهم أنها قصفٌ من البحر. خرج الناسُ من بيوتِهم ليُفاجأوا بهجومٍ من الهاغاناه من كلِّ الجهات، فسقطت القريةُ في أيديهم. لا بدَّ أنكِ تعرفين، يا زينب، أنّ الهاغاناه هي العصابةُ المسلّحةُ اليهوديةُ التي لم تكنْ محضَ عصابةٍ، كما نُسميها، بل كانت جيشاً منظَّماً، مسلَّحا، عاليَ التدريب، تفوقُ كلَّ الجيوشِ العربيةِ التي زعمت أنها جاءت لتُنجدَ فلسطين. كانت قياداتُ الجيوشِ العربيةِ منبطحةً للتاجِ البريطانيِّ الذي جلبَ السكناجَ وسمحَ بوجودِ الهاغاناه وبتسليحِها وتدريبِها. في الطنطورةِ، كما قال العمُّ أبو نزار، أخذ اليهودُ يُطلقون النارَ عشوائيًّا على الناسِ في طرقاتِ القريةِ وبيوتِها. يظنُّ العمُّ أبو نزار أن اليهودَ انتقموا من أهلِ الطنطورةِ لأن مختارَها كان قد رفض عرضاً منهم لاستسلامِ القريةِ، لأنه، ومعه بعضُ رجالِ القريةِ، شعروا بأنّ الغايةَ من استسلامِهم كانت تهجيرَهم منها. هذا ما قاله للعمِّ أبي نزار ابنُ عمِّه، الذي كان مع المختارِ حين فاوضَ اليهود. وقد هاجمَ اليهودُ القريةَ بعد أسبوعٍ من تلك المفاوضات.

قال لنا العمُّ أبو نزار، ودموعُه تملأُ عينية، إن اليهودَ جمعوا مئاتِ الرجالِ على الشاطئ، وكان هو منهم، ثم أخذوا يختارون عشرةَ رجالٍ مكتوبةٍ أسماؤهم لديهم، يظنُّ العمُّ أبو نزار أنهم من اشتركوا في ثورةِ الـ36. كان اليهودُ يجرُّون من يختارونهم إلى بقعةٍ بعيدةٍ ويُعدمونهم بدمٍ باردٍ رمياً بالرصاص، ثم يأخذون مجموعةً أخرى ليقتلوهم كما فعلوا بالأولى. وقد استمرَّ الحالُ حتى جاء بعضُ اليهودِ من مستوطنةٍ يهوديةٍ مُجاورةٍ للطنطورة، قال العمُّ أبو نزار إن اسمَها زخرون يعقوب، وطلب مختارُها من الهاغاناه إيقافَ القتل، ربما بسببِ العلاقةِ الجيدةِ بحكمِ الجيرةِ بين مختارِ تلك المستوطنةِ ومختارِ الطنطورة. عندئذٍ، أمرَ بعضُ المسلحين العمَّ أبا نزار، كما قال لنا، بالوقوفِ هو ورجل اسمُه سلمان الريشة، الذي كان يجلسُ إلى جانبِه هناك. قال العمُّ أبو نزار: “تَشاهدْنا، إذ ظنَنّا أنّ دورَنا للقتلِ قد جاء. لكنهم أمرونا بحفرِ حفرةٍ كبيرةٍ، ولم يكنْ أمامَنا إلا أنْ نصدعَ للأمر. ثم أُمرونا أن نجرَّ الجثثَ إلى تلك الحفرةِ ونُهيلَ الترابَ عليها.” قال العمُّ أبو نزار: “أنا شخصيًّا دفنتُ مائةً وعشرين جثةً، كانت بينها جثةُ ابنِ خالي أحمد المصطفى. كنا أنا وصاحبي ندفنُ الجثثَ ببطءٍ لاعتقادنا أنهم سيقتلوننا بعد انتهاءِ مهمتِنا وسيلقون بجثتينا في الحفرةِ التي حفرناها لأهل قريتِنا. لكنْ، ربما كتبَ الله لنا عمراً جديداً فلم يقتلونا، بل أخذونا أسرى. وبعد فكِّ أسرِنا، خرجتُ أبحثُ عن عيالي كالمجنونِ، حتى وجدتُ زوجتي وطفليَّ الصغيرين وأمَّ زوجتي في قريةِ الفريديس القريبة. سألتُها عن والدي ووالدتي، فقالت إنها لا تعلمُ عنهما شيئا، بحثتُ عنهما وعن إخواني ولم أجدْهم يومئذ، لكني لاحقاً عثرتُ على والديَّ وعلى أخي الأكبرِ في الشام إلى حيثُ لجأوا.” وهكذا تشتت أسرتُهم، هو في صيدا وأخوه ووالداه في الشام، ولا سبيل للمِّ شملِهم. نعم، هذا هو الشتاتُ الفلسطينيُّ الذي اقترفته بنا بريطانيا واليهودُ السكناجُ الذين جلبتهم من أوربا إلى وطنِنا ليغتصبوه.

لا تتصورين، يا زينب، كم أثّرت بي رواية العمِّ أبي نزار. لم أستطعْ أنْ أنامَ تلك الليلةَ، وفي الصباحِ قلتُ في نفسي، “لا بدّ لنا من الانتقام؛ لا بدَّ لنا من العملِ على استردادِ بلادِنا بالقوةِ، فلا تحريرَ بغيرِ القوة.”

 

 

 

(10)

 

 

أخيراً، يا زينب، تخرَّجْتُ من الجامعةِ، وفرحتُ أنني أستطيعُ أن أعملَ وأنْ أساعدَ أهلي. لكنني فوجئتُ بأنّ الأطبّاءَ الفلسطينيين لا يُسمَحُ لهم بالعملِ في لبنان. أُسقِطَ في يدي، ولم أدرِ ما أفعل. كانَ أخي الكبيرُ بدوان، يعملُ مُدرِّسا في وكالةِ الغوثِ، لكنَّ الوكالةَ ليست لبنان، وعلى الأطباءِ، كيْ يأخذوا ترخيصَ مزاولةِ المهنةِ في لبنان، أن يكونوا أعضاءَ في نقابةِ أطباءِ لبنانَ، والنقابةُ لا تقبلُ لعضويَّتِها غيرَ اللبنانيين، فلا مكانَ لنا فيها ولا ترخيص. أقنعني بعضُ أصدقاءِ أبي أن أبدأ في معالجةِ المرضَى في المخيم من بيتنا. فعلتُ ذلك، لكني كنتُ أخجلُ من أنْ أتقاضى أتعاباً من أهلِ المخيم، ولو أنني فرحتُ بممارسةِ مهنتي، وتلقِّي دعاءِ الناسِ بدلَ نقودِهم. والحقيقةُ أنّ رفضي أخذَ أتعابٍ على قيامي بمهنتي كان شعوراً بالواجبِ تجاهَ أهلِ المُخيّمِ، وأنا أعرَفُ الناسِ بحالِهم، كذلك لأني بطبعي لا أكترثُ أصلاً بالمال. لكنّ خجليَ الحقيقيَّ كان لعجزي عن مساعدةِ والدي في مصروفِ البيت، وقد كبرتُ وتخرّجتُ طبيباً من الجامعة. غير أنّ والدي وأخي بدوان كانا كريمين معي، بطبيعةِ الحال، ولم أسمعْ من والدي أيَّ تذمّر، بل كان فخوراً بي. أما الطريفُ في عملي هذا، فكان حين يأتيني بعضُ المرضَى بزوجِ زغاليلَ أو ببضع بيضاتٍ باضتها دجاجاتُه ذلك الصباح. كنتُ أتمنّعُ عن أخذِ مثلِ هذه “الكشفية”، لاعتقادي بأن هؤلاء المرضى الفقراءَ أولى بها مني. لكنّ هؤلاء المرضَى كانوا يعدونها هديةً لي منهم ومن العيبِ ردُّ الهدية، خاصةً أن “النبيَّ قبِلَ الهدية”، كما كانوا يقولون! حقًّا، ما أجملَ بساطةَ شعبِنا، يا زينب!

ثمّ جاء الفرجُ بعد يأس، إن كان في الغربةِ فرج. فذاتَ يومٍ أعطتني إحدى الممرضاتِ في مستشفى الجامعةِ إعلاناً يطلبُ أطباءَ ومهناً طبيةً أخرى للعملِ لدى دائرةِ الصحةِ في إمارةِ أبو ظبي. ذهبتُ للمقابلةِ في اليوم المحدَّدِ في إحدى شركاتِ التوظيفِ في شارع الحمرا. كان هناك عددٌ كبيرٌ نسبياً ينتظرُ المقابلة، لكنني فوجئتُ بعد أيامٍ بأنهم اختاروني وحدي من بينِ من قابلوهم. كان يترأسُ اللجنةَ طبيبٌ بريطانيٌّ علمتُ أنه كان مديرَ دائرةِ الصحةِ هناك، وكان بقيةُ أعضاءِ اللجنةِ من تلك الإمارة، على ما بدا لي. وقد توطّدت علاقتي بهذا الطبيبِ لاحقاً لأننا انسجمنا معاً في العمل، وكان أيضاً يعطفُ جداً على الفلسطينيين ويكرهُ الصهاينة. قال لي ذات يوم إنه خدم في الجيشِ البريطانيِّ في فلسطينَ قبل دخولِه كليةَ الطبِّ، وكان يشمئزُّ جدًّا من صلفِ اليهودِ الصهاينةِ ومن تواطؤِ حكومةِ بلادِه معهم. وقد رأى بأمِّ عينِه الفاجعةَ التي أوقعتها بريطانيا بالفلسطينيين. ولعلّ هذا ما جعل علاقتي به قوية، بالإضافةِ إلى مستواي العلميِّ وإخلاصي في العمل، طبعا. ذاتَ يومٍ أرسلَ لنا هذا الطبيبُ، رئيسُنا في العمل، أنه وصديقٌ له كان يعملُ طبيباً لإحدى شركاتِ النفطِ، يودان أن يأتيا في يوم جمعةٍ إلى مدينةِ العين، حيثُ كنت أعمل، وأنهما يودان تسلُّقَ جبل حفيت، وهو جبل قصيرٌ نسبيًّا في العين. طلبتُ من مطبخ المستشفى أن يُحضّرَ لهما ولنا طعام الغداءِ ويرسلَه وقتَ الغداء إلى المكان الذي سيصعدان الجبلَ منه. أما أنا، فبدل أن ألبس قبعةً تقيني من وهج الشمس، آثرتُ أن ألبس كوفيةً بيضاء وعقالاً، كما كان والدي وأعمامي يلبسون في فلسطين، وكما يلبسُ أيضاً أهلُ العين. حين رآني الدكتور فيليب، وهو اسمُه، ضحك لكوفيتي وقدّمني إلى صاحبه قائلا: “هذا البدويُّ هو الدكتور جابر، طبيبُنا في المستشفى، من الجامعةِ الأميركيةِ في بيروت.” لا أدري لماذا استغرب لباسَ رأسي، أو لعله أعجبه، غير أني رأيتُه اللباسَ الطبيعيَّ لعربيٍّ مثلي. لكننا ضحكنا سويًّا وهو ما أذاب الجليدَ بيني وبين صاحبِه طبيبِ شركةِ النفظ. كنتُ الوحيدَ من بين موظفي المستشفى الذي شارك الضيفين في تسلقِ الجبل. كنتُ أقفز فوق صخور الجبل الهشةِ قفزاً لفت نظر الدكتور فيليب، الذي قال معلقاً “أنت غزالٌ رشيق يا جابر.” لكنه لم يكنْ يعلمُ أن سببَ رشاقتي يعودُ إلى أنني كنت أتخيلكِ تصعدين الجبلَ معي، يا زينب!

لم أكنْ أعرفُ شيئاً عن أبو ظبي أكثرَ من أنها مدينةٌ ساحليةٌ صغيرةٌ في أسفلِ الخليجِ العربيّ، حسبَ ما تعلّمنا في المدرسة. وكبقيّةِ أهلِ الخليجِ، كان أهلُها يُمارسون صيدَ اللؤلؤ. وكانت لا تزالُ يومَ ذهبتُ إليها محميَّةً بريطانية، لذلك فهي واحدةٌ من التي كان يستنهضُها “أحمد سعيد” في “صوتِ العربِ” للخلاصِ من الاستعمارِ البريطانيِّ، حين كان يُزمجرُ بصوتِهِ الجَهْوَريِّ من إذاعةِ صوتِ العربِ في القاهرة: “إلى عربِ الخليجِ والجنوبِ، إلى كلِّ عربيٍّ يُحاولُ المستعمِرونَ قهرَه…” ثم يَعقُبُ ذلك الصوتَ المُدَوِّي نشيدُ “الله أكبرُ …!” آه يا زينبُ، كم كنا نلتهبُ حماسةً حين كنا نسمعُ صوتَ العربِ أو خطاباتِ عبد الناصر. هل تُصدِّقين أنَّ خطاباتِ عبدِ الناصر كانت فرصةً لي لألتقيَ بك؟ اضحكي ما شئتِ على شطحاتِ خيالي. لكنْ، حين كانَ الناسُ يُحْدِقُون بالمذياعِ ليُنصتوا لخطاباتِ عبدِ الناصر، وأنا منهم طبعا، كنتُ أتخيَّلُكِ أنتِ أيضاً تُنصتين لها مثلي، فأشعرُ كأننا في مكانٍ واحد. خيالٌ مجنونٌ، نعم، لكنه كان خيالاً يُؤنسُني.

غيرَ أنّ الحزنَ يومَ المقابلةِ كان يُعشِّشُ في خلايا جسدي، فلم يكنْ قد مضى على هزيمةِ حزيرانَ سوى بضعةِ أشهر. كم توهَّمْنا يوم اندلعتْ الحربُ أننا أصبحنا قابَ قوسينِ أو أدنَى من العودة. لم يخطرْ ببالِ أحدٍ ألا تنتصِرَ جيوشُ العربِ، خاصةً الجيشَ المصريَّ. لكنها انهزمتْ جميعا. تلك كانتْ الحقيقةَ المرّة. ليتكِ رأيتِ تلاميذَ الجامعةِ كم كانوا مُتحمِّسين للحربِ وللانتصاراتِ الملفَّقةِ. وضعوا في ساحةِ الجامعةِ لوحاً أسودَ وأخذوا يُسجِّلون عليه عددَ الطائراتِ الصهيونيةِ التي أسقطَها العرب. كلّما أُعلِنَ عن إسقاطِ طائرة، سُجِّلتْ على اللوحِ كما تُسجَّلُ الأصواتُ في الانتخاباتِ، وقبلَ ذلك كان يعلو الهتافُ حتى يصلَ أقصَى المغربِ العربيّ. جاء أحدُ أساتذةِ الجامعةِ، ولم يكنْ محسوباً على التيارِ الوطنيِّ، وقال على استحياءٍ: “لا نسمعُ إلا عن طائراتٍ أُسقطتْ، أليس هناك أرضٌ تُحَرَّر؟” سؤالٌ وجيه. لكننا كنا غارقين في سكرةِ الوهم، وكنتُ واثقاً من أنّ هذا الأستاذَ من الطابورِ الخامسِ وأنه يريدُ بتعليقِه ذاك تحويلَ الانتصارِ إلى هزيمة، ولولا أنه أستاذٌ في الجامعةِ، وعلينا احترامُه، ما تورَّعْنا عن ضربِه. آه، يا زينبُ، بالرغمِ من أنّ هذا، يومَئذٍ، كان محضَ تفكيرٍ لم أتفوَّهْ به، إلا أنني اليومَ أشعرُ بتأنيبِ ضميرٍ لهذا التفكير، وكم أودُّ أنْ أعتذرَ لذلكَ الأستاذِ بعد أنْ رأينا النتيجةَ المُفجعةَ أنَّ بقيةَ فلسطين، بل وأجزاءَ أخرى من الوطنِ العربيِّ، أصبحتْ في قبضةِ اليهودِ، وأنّ المعركةَ حُسمتْ لصالحِ العدوِّ في الساعاتِ الأولى من اليومِ الأول. أيْ أنَّ الطائراتِ التي كنا نَعُدُّها ونهتفُ لسقوطِها كانت كذباً في كذب. لماذا يكذبُ البشرُ، يا زينب، لماذا؟ لكنني لاحظتُ أن الناسَ في الضفةِ الغربيةِ وغزّةَ لم يُهاجروا، بلْ بقوا منزرعين في وطنِهم. لعلّهم أخذواْ عبرةً من هجرتِنا نحن. يقولُ الكبارُ عن هجرتِهم في الـ48 إنه كان يؤكَّدُ لهم أنهم سيعودون إلى بيوتِهم خلالَ أسبوع. لذلك حمل الناسُ مفاتيحَ دورِهم معهم. وها قد مضى اثنانِ وأربعونَ عاما على لجوئنا القسريِّ، ولا بصيصَ أملٍ في العودةِ، إلا تصميمَنا، طبعا. نعم، صدِئت مفاتيح البيوت، لكنها لا تزالُ تحثُّنا على القتالِ في سبيل عودتنا.

بعدَ هزيمةِ حُزيرانَ، قررتْ “حركةُ القوميين العربِ” أنْ يتحوَّلَ إقليمُ فلسطينَ فيها إلى تنظيمٍ مستقلٍّ سُمِّيَ “الجبهةَ الشعبية لتحريرِ فلسطين”. جُنَّ جنوني يومَها، لأنني كنتُ أمقتُ تلكَ التنظيماتِ الإقليميةَ الفلسطينيةَ التي أخذتْ تظهرُ كالفُقع قبلَ نكبةِ حُزيْران وخاصّةً بعدَها. كانَ لنا زميلٌ في الجامعةِ عضوٌ في أحدِ تلك التنظيماتِ، وكانَ يؤمنُ إيماناً قطعيًّا بأنّ العربَ لن يُحرِّروا فلسطين، وأنّ علينا، نحن الفلسطينيين، أن نعتمدَ على أنفسِنا. كم كان يبلغُ صراخُنا عَنانَ السماءِ كلّما تناقشنا في هذا الموضوع. كنتُ مؤمناً إيماناً عميقاً، ولا زلتُ كذلك طبعاً، بأنَّ أقلمةَ القضيةِ قتلٌ لها؛ وأنّ قضيةَ فلسطين مسؤوليةُ العربِ كلِّهم، لا الفلسطينيين وحدَهم. صحيحٌ أنّ الكثرةَ من الدولِ العربيةِ كانت، رغمَ استقلالِها الظاهرِ، تُهيمنُ على قرارِها السياسيِّ الإمبرياليةُ الغربيةُ، فلا تستطيعُ أصلاً أن تُعاديَ الدولةَ الصهيونيةَ إلا كذباً وادعاءً؛ لكنّنا في “الحركةِ” كنا مُدركينَ لهذه الحالِ، فما فتئنا نقولُ إنّ تحريرَ فلسطينَ يجبُ أنْ يمرَّ عبرَ العواصمِ العربية. لذلك فاجأتني قيادةُ الحركةِ حين ارتكبتْ المحظور. أظنُّ أنّ شيئاً من هذا، وفوقَه نكبةُ حزيران، أصابني باكتئابٍ جعلني راغباً في الابتعادِ عن بيروتَ للعملِ في أيِّ مكانٍ آخر، وفي جوفي غثيانٌ مؤلمٌ لا يُفارقُه. ولا أنكرُ طبعاً حاجتي وحاجةَ أهلي للمالِ الذي لن أنالَه من مهنتي في لبنان، فلا بدّ لي من الاغتراب في دولِ الخليجِ.

هلْ توجعُ رأسَكِ السياسةُ، يا زينب؟ أعلمُ أنني أكلِّمُ نفسي، لكنّها ليست المرَّةَ الأولى التي أخالُكِ فيها أمامي تُنصتين لي بجوارحِكَ، كما كنتِ تفعلين في “الديرة”. أكادُ لا أصدِّقُ، يا زينب، أنني اليومَ أو غدا سوف أراكِ لحماً ودما. كيفَ رأيتُ ابنتَكِ الطيبةَ بهذه الصدفةِ الربّانية؟ كان يُمكنُ أنْ أغضَّ الطرْفَ عنها، لكنَّ شيئاً في داخلي دفعني دفعاً إلى الحديثِ لها. كم أخشَى الآن أن يحدثَ لي عارضٌ لم أحسبْ حسابَه فلا أتمكّنُ من رؤيتِك. أتعلمينَ، يا زينبُ، أنني منذ قذفَنا البحرُ في صيدا وأنا أعيشُ هذا الهاجس؟ أخشَى الساعةَ الآتية، وما يمكنُ أن تُخبِّئَهُ لنا. ونكبةُ حزيرانَ أكَّدتْ لي هواجسي. هل سمعتِ بروائيةٍ فرنسيةٍ اسمُها فرانسواز ساغان؟ لها روايةٌ اسمُها “مرحبا أيُّها الحزن“. منذُ قرأتُ عنوانَ هذه الرواية، ومن دون أنْ أقرأها، ظننتُ الكاتبةَ تعنيني بهذا الاسم. فالحزنُ عشّشَ في صدري منذُ ألقَوْا بنا في المركبِ الصغيرِ الذي انتزعَنا من يافا، وفي صيدا لفظنا. منذُ ذلكَ اليومِ لا أنتِ ولا “الديرةُ” تغيبانِ عن بالي لحظةً واحدةً، وكلّما تذكَّرْتُكما انتابني حزنٌ يأخذُني إلى عالمٍ آخر. تصغرُ الدنيا في عينيَّ، ولا أعودُ أطلبُ منها شيئا ما دمتما بعيدتين عني. جزعتُ جداً يومَ توفِّيَ أبي، لكنني مع مرورِ الوقتِ اعتدتُ على غيابِه وعددتُه أمراً طبيعيا. نعم، حانَ وقتُ رحيلِه فرحلَ، وكلُّنا سيحينُ وقتُنا وسنرحلُ؛ لا مناصَ من ذلك. أمّا أن تُنتَزَعي أنتِ و”الديرةُ” مني انتزاعاً، فأمرٌ لا يتقبَّلُه عقلي إلى اليوم. لا، لا يتقبَّلُه عقلي مطلقا. هاهيَ عيني تدمعُ، يا زينبُ. كلّما تقدَّمَ بي العمرُ ازدادت عاطفتي ضعفاً، ولم تعدْ عيني تقوَى على كبتِ دمعِها. وهل استطاعتْ “الديرةُ” أنْ تحتفظَ بأهلِها أمامَ هولِ التهجير؟ بلى، يا زينبُ، لم يعدْ عندنا ما نخسرُه، فمرحباً أيُّها الحزن، لكنه الحزنُ الحافزُ على العملِ لاستردادِ وطنِنا، لا على الاستسلام للواقعِ المرّ.

 

 

 

(11)

 

 

أخيرا ارتحلتُ إلى أبو ظبي. اتصلَ بي مكتبُ التشغيلِ وطلبَ مني وثيقةَ السفرِ للحصولِ على تأشيرةِ الدخولِ، وبعدَ أيّامٍ ردَّها لي وأعطاني معها تذكرةَ السفرِ. قلَّبتُ الوثيقةَ، فرأيتُ أنَّ التأشيرةَ صادرةٌ عن السفارةِ البريطانيةِ في بيروت. يا للهول! إذن، كانَ عليَّ أن استأذنَ التاجَ البريطانيَّ للسفرِ إلى بلدٍ من بلادِ العرب، أن استأذنَ ذلك التاجَ الذي جلبَ لنا اليهودَ إلى فلسطينَ ليُخرجونا منها. لكنَّ هذا التاجَ الكريمَ لم ينسَنا. هاهو ذا يَسمحُ لنا بالعملِ في إحدى محميّاتِهِ العربيةِ كي لا نموتَ جوعاً بعدَ أنْ سَلَخَنا عن أرضِ وطنِنا. كدتُ أمزِّقُ الوثيقةَ والتذكرةَ، لولا أنْ هدّأ نزقي الأهلُ والأصحاب. هكذا إذن، سأذهبُ إلى حيث يبسطُ التاجُ البريطانيُّ ظلَّه في ديارِ العرب.

في يومِ السفرِ، شيَّعتني ثلَّةٌ من الأهلِ والأصدقاءِ إلى مطارِ بيروتَ، حيث حملتني طائرةُ “الشرقِ الأوسط” إلى البحرين. هناك أُنزِلتُ في فندقٍ صغيرٍ لليلةٍ واحدةٍ، وفي الصباحِ الباكرِ أُعِدْتُ إلى المطارِ لأركبَ طائرةً صغيرةً إلى أبو ظبي، لأن مطارَها كانَ يومَئذٍ مهبِطاً صغيراً لا يصلحُ للطائراتِ الكبيرة. لا بأس. لكنَّ أطرفَ ما استُقبِلتُ به في مطارِ البحرين في ذلكَ الصباحِ كان صوتَ زعيقٍ لاثنين يتشاجران، قطعتْهُ صرخةُ أحدِهِما: “هذا الفلسطينيّ التشلب!” يا فتّاحُ يا عليمُ، يا رزّاقُ يا كريم! إذن، لقد كان أخونا في العروبةِ يتشاجرُ مع فلسطينيٍّ كلبٍ، وليس مع كلبٍ فلسطينيٍّ طبعا، لأن الصهاينةَ لم يكونوا حريصينَ على تهجيرِ كلابِ فلسطين؛ وحدَهم البشرُ من هُجِّروا، لتتحوَّلَ فلسطينُ ملعباً لخنازيرِ العالم. سألتُ نفسي: أيكونُ هذا أوَّلَ الغيثِ لي في الخليج؟ ضحكتُ طبعا، لأنَّ أصدقائي البحرانيينَ في الجامعةِ كانوا كلُّهم قوميين مثلنا، ويُحبُّونَ فلسطينَ كما يُحبُّونَ البحرين. لكنّهم، بطبيعةِ الحالِ، لم يكونوا على وئامٍ مع حكومتِهم. فلا بدَّ، إذن، أنَّ هذا الذي يصيحُ من جماعةِ الحكومةِ، لا من جماعةِ أصدقائي. أو لعلَّ العينَ الحمراءَ التي استقبلني بها ضابطُ المكتبِ الثاني في بيروتَ شجَّعته على شتمِ ذلكَ الفلسطينيِّ “التشلب”!

لحسنِ الحظِّ أنَّ أهلَ أبو ظبي لم يكونوا على شاكلةِ ذلك الصائحِ في مطارِ البحرين. كانوا طيبين جداً. وهناك تعرفتُ على رَوْعةِ البداوةِ والباديةِ، وعشقتُهما. أظنني عشقتُ البداوةَ، يا زينبُ، لأنّ فيها صفتَكِ الأثيرةَ عندي: الفطرةَ التي لا صنعةَ فيها. ألم يقلْ المتنبِّي، “حُسْنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ، وفي البداوةِ حُسْنٌ غيرُ مجلوبِ؟” لم أرَكِ منذُ دهرٍ، فهلْ ما زلتِ على فطرتِكِ الأولى؟ أنا لا أزالُ كما تعرفينني، لم أتغيَّرْ في جوهري. شابَ رأسي قليلاً، وكبُرتْ ملامحي، لكنني حقيقةً أشعرُ بأنني لا أزالُ في داخلي ذلكَ الصبيَّ الذي كان يلهو مع ابنةِ عمِّهِ في بساتين “الديرة” وعلى جدولِ الماءِ حيثُ كنا نصيدُ الحساسين. مازلتُ لا أرى في الدنيا من هي أجملُ منك، يا زينب. ليتَ الصهاينةَ ما كانوا وليتنا ما افترقنا، لكنتُ أفنيتُ نفسي في إسعادِك. لكنَّ البداوةَ، للأسفِ الشديدِ، محكومٌ عليها بالفناء. ففي أثناءِ عملي في أبو ظبي، كانت شركاتُ المقاولاتِ تُفقدُ المكانَ براءتَه لتُحوِّلَه إلى الحضارةِ المجلوبِ حسنُها، والناسُ فرحون بهذه الحضارةِ وبفقدانِ فطرةِ البداوةِ البريئة. ما أحبَّ الناسَ بمظاهرِ المدنيةِ الحديثة! لا أدري، لعلَّهم هم على صوابٍ، ولعلِّي أنا الغريبُ الوحيدُ بينهم. لكنْ، لو كان بيدي لقضيتُ على كلِّ مظاهرِ المدنيةِ المُفتعَلَة. أتساءلُ أحياناً: إذا كانتْ السعادةُ جوهرَ ما يصبو إليه الإنسانُ، فما الذي ربحَهُ من هذه المدنيةِ الحديثة؟ أعترفُ أنَّ تقدمَ الطبِّ هو الربحُ الحقيقيُّ للإنسانية. لكنَّ المأساةَ، يا زينبُ، أنّ التقدَّمَ العلميَّ متَّصِلٌ بعضُه ببعض. فتقدُّمُ الطبِّ لا يكونُ من غير تقدُّمِ الأسلحةِ الفتاكة. أهذا ما يُسمَّى بالتوازنِ في الطبيعة؟ ربّما. لكنَّ بضعَ قنابلَ نوويّةٍ كاللتين ألقتهما الولاياتُ المتحدةُ المجرمةُ بلا مبرِّرٍ وبدمٍ باردٍ على اليابان، كفيلةٌ بجلبِ يوم القيامة!

 

 

 

 

(12)

 

 

كان تعييني في مستشفىً صغيرٍ في بلدةِ العينِ، اسمُه مستشفى المويجعي، أظنُّ اسمَه الصحيحَ هو “المويقعي” لأن أهلَ تلك البلدِ يلفظون القافَ جيما, وقد سمعتُ بعضَ المرضى العُمانيين يلفظون اسمَه “المويقعي”، بالقاف، فتأكّد ظني. كانت العينُ بلدةً صغيرةً أقربَ إلى البداوةِ، وكانت ضمنَ مجموعةٍ من القرى أكبرُها قريةُ العين، التي سُمِّيت المجموعةُ باسمِها. وهذه القرى تقعُ في واحةِ البُرَيْمي، واسمُ إحداها البُرَيْمي، لكنّ قريةَ البُرَيْمي كانت تابعة لـ”السيّد”، أي لسلطنةِ عُمان، وقد اعتاد الناسُ على تسميةِ هذا السلطان بالسيّد، لأسبابٍ دينية قديمة، على ما أظنّ.

كان المستشفَى تجميعاً لغرفٍ هي بعضٌ من بيتٍ كان يسكنه شيخُ أبو ظبي الأسبق، وقد أضيفت له بعضُ الغرفِ الضروريةِ لمستشفى بُنيَ على عجل؛ وكانت العياداتُ وغرفُ المرضى في دائرةٍ تُحيطُ بما يُفترَضُ أن يكونَ حديقةً للمستشفى، لكنّ أشجارَ الحديقةِ كانت أشجاراً صحراويةً، لندرةِ المياهِ، بطبيعةِ الحال.

كان المستشفى صغيراً لا يتسعُ لأكثرَ من 50 سريرا، قسمٌ منه للنساءِ والآخرُ للرجال. ضحكتُ ذات مساءٍ حين استُدعيتُ لعلاجِ امرأةٍ أصيبت عقبَ ولادتِها بحمَّى النفاس. وحين دخلتُ عليها في غرفةِ العنايةِ المُركَّزةِ، صاحت، “خلِّ الريّال يخوز، خلِّ الريّال يخوز!” أي أبعدوا الرجل، الذي هو أنا، من الغرفة. لم يكنْ يومئذٍ في المستشفى طبيبةٌ نسائيةٌ تُعنَى بالنساءِ، فقلتُ لها: “يا سيدتي أنا الذي سيُنقذُ حياتَك من الخطر.” وإذ كانت حالتُها واضحة، تركتُها بعد أن أخبرتُ الممرضةَ بما عليها أن تفعل.

كان المستشفى يبعدُ عن مركزِ بلدةِ العينِ خمسةَ كيلومترات. وإلى جانبِه بستانُ نخيلٍ ومجرى ماءٍ، يسمونه فَلَجاً، وكثيراً ما كنا نذهبُ في أيّامِ العطلِ إلى هذا البستانِ حيث نشوي اللحمَ على حافةِ مجرَى الماء.

أذكرُ أنْ كان عندنا حارسٌ بدويٌّ كبيرٌ في السنِّ اسمُه مبارك، لا عملَ حقيقيًّا له، وأظنُّ توظيفَه كان لمنحِه عملاً يرتزقُ منه، فقد كان يعملُ خادماً عند بعضِ الشيوخ، وكان يتفاخرُ أنه كان يحملُ الشيخَ الفلانيَّ والشيخَ الفلانيَّ وغيرَهما على كتفِه حين كانوا صغارا. كان مبارك ذا لحيةٍ بيضاءَ كثةٍ يلوِّنُها كلَّ حينٍ بلونِ الحناءِ، وهي عادةٌ كانت متبعةً لدى رجالِ تلك البلادِ من كبار السن. كذلك كان مبارك، كغيرِه من هؤلاء الرجال، يلوّن رموشَ عينيه بالكحل، وهو ما كان يُثيرُ تعجبي، لاختلافِ هذه العادةِ عن عاداتِنا. عادةُ الحنّاءِ كانت مُتبعةً عندنا أيضاً، لكنّ عادةَ تكحيلِ الرجالِ لعيونِهم لم أرَها إلا عندهم. قلتُ لمبارك ذات يوم ضاحكاً: “يا مبارك، لمَ تُكحّلون عيونَكم كالنساء؟” فقال لي بلهجةٍ تقريريةٍ: “هذا، يا بوي، قانونُنا!” كان صديقي مبارك يتكلّمُ بلثغةٍ ذاتِ لكنةٍ أعجميّةٍ لفتت نظري، ثمّ علمتُ لاحقاً أنه من أصلٍ بلوشي لا عربيّ. وحول كتفِه الذي حمل عليه صغارَ الشيوخِ كان يلفُّ بندقيةً قديمةً يُسميها “التَّفَق”. لا أدري ما أصلُ هذا الاسم، وقد جاءنا ذاتَ يومٍ من غيرِها؛ وحين سألتُه عنها، قال بلهجةٍ حزينةٍ مستسلمةٍ: “الشيوخ، يا بوي، سحبوها مني!” وقد علمتُ أنّ ذلك كان جزءاً من إجراءاتٍ تنظيميةٍ، منها ترقيمُ السياراتِ، إذ كنا في البدايةِ نسوقُ سياراتِنا من غير تسجيلٍ أو لوحاتِ أرقام. ألم أقلْ لكِ إني فُتنتُ حقًّا ببساطةِ تلك البلاد؟ كانت علاقتي بمبارك متميّزةً جداً، إذ كنتُ أخصُّه برعايةٍ خاصةٍ لكبرِ سنِّه وبساطتِه؛ فكان كثيراً ما أجدُه نائما على أرضِ غرفتي في المستشفى، مستمتعاً ببرودةِ المُكيِّف فيها. ولم أكنْ لأحفلَ بإغلاقِ بابِها، لشعوري بالأمانِ المطلقِ هناك، ولكي أمتِّع نفسي بهذا الشعورِ الذي يكادُ لا يكونُ إلا في ذلك المكان. مقابلَ ذلك، كان مبارك يكادُ لا يتحركُ بعيدا عن غرفتي، التي كانت فوق مكتبِ الإدارة. وكان حريصاً على أن يأتيَني بماءِ الفَلَجِ طازجاً مرتين في اليوم، ويضعَه في ثلاجتي، ثمّ يحرصُ على أنْ يأتيَني إلى العيادةِ ليُخبرَني بأنه “عقَّ” الماءَ القديمَ، بالرغمِ من أني لم أكدْ أشربُ منه شيئاً، وملأ المطرةَ بماءٍ جديدٍ من الفلج، فأُثني عليه بصوتٍ عالٍ كان يملأه فرحاً ويُشعرُه بالإنجازِ العظيم. ذاتَ يومٍ استدعى مبارك لي السائسَ الباكستانيَّ الذي كان يرعَى خيولَ شيخةٍ مقيمةٍ في بيتٍ قريبٍ من المستشفى، وقد عرض عليَّ السائسُ ترحيبَه وترحيبَ سيّدتِه الشيخةِ إن كنتُ أودُّ ركوبَ تلك الخيولِ. أعتقدُ أنّ الحارسَ مبارك هو الذي تطوّعَ، من غير علمي، لأنْ يقولَ لذلك السائس إنني راغبٌ في امتطاءِ تلك الخيول حين سألتُه عنها. رحبتُ بذلك طبعاً، وأخذتُ أُمارسُ هوايةً لم أمارسْها منذ هُجِّرنا من الديرة، حين كنتُ أركبُ مهرةَ خالي عياش من غير سرج. أتذكرين ذلك يا زينب؟ أتذكرين يومَ وددتِ أن تركبي خلفي على الفرس كيف حزنتِ كثيراً إذ رفضَ خالي ذلك لأنكِ كنتِ صغيرةً جداً وخاف عليكِ أن تقعي. لكنْ، لا بأسَ عليكِ، سنعودُ إلى “الديرة” وسأشتري لك فرساً خاصةً بك، وليمتْ اليهودُ بغيظهم!

ذاتَ يومٍ، جاءني سائقٌ بدويٌّ من سوّاقي المستشفى، وكان اسمُه سُليِّم العامري، يدعوني للعشاءِ في مضاربِهم في مكانٍ في الصحراءِ يُقالُ له الوقن. فتقبّلتُ الدعوةَ شاكراً لطفَه. سألتُه عن الوقتِ اللازم للرحلةِ، فقال لي: “ساعة!” ثمّ قال إنه سينتظرُنا هناك لكنه سيُرسلُ لنا ابنَ عمِّه ليدلَّنا على الطريق. نسيتُ أنَّ ساعةَ البدويِّ قد تعني يوماً كاملاً، كقولِهم “مضربَ العصا”، الذي قد يعني مائة ميل. اصطحبتُ معي أحدَ الممرضين والمسؤولَ عن السواقين، وأخذتُ سيارةَ دفعٍ رباعيٍّ تابعةً للمستشفى كنتُ أسوقُها بنفسي، وإلى جانبي ابنُ عمِّ سُليِّم. غادرْنا المستشفَى الساعةَ السابعةَ مساءً، إذ قدّرتُ أننا سنصلُ إلى مضاربِ العوامرِ في الثامنةِ، حسبَ وصفِ سليّم، ويمكنُنا العودةُ في العاشرةِ تقريباً لنكونَ في المستشفى في الحاديةَ عشرة. لكنَّ الطريقَ طالت واسودَّ الليلُ علينا. غيرَ أنّ ما أثار عجبي وإعجابي معاً أنّ صاحبَنا الدليلَ كان يعرفُ الطريقَ ليلاً معرفةً غريبة. كان عليَّ أنْ أسألَه إن كان يهتدي بالنجومِ، كما كنا نسمعُ عن العربِ الأقدمين، لكنَّ السؤالَ لم يخطرْ ببالي حينئذ، لأني كنتُ مشدوداً إلى قيادةِ السيارةِ في رمالِ الباديةِ الملتحفةِ بسوادِ الليل. وهكذا سرينا بين حلكةِ الليلِ والكثبانِ الرمليةِ الصاعدةِ الهابطةِ، التي لولا الدفعُ الرباعيُّ في السيارةِ، ما تحركنا فيها قيدَ أُنملة. الطريفُ في الأمرِ أن الدليلَ كان يُوجِّهُني شرقاً أو غربا، والليلُ حالكُ السوادِ، كما قلتُ، فلم أكنْ لأتبيّنَ أمامي الشرقَ من الغربِ ولا الشمالَ من الجنوبِ، فطلبتُ منه أن يوجِّهَني إما يميناً أو يِسارا، وهو ما لم يعتدْ عليه. فكان في كلِّ مرةٍ يخطئُ ويقول “شرقا” أو “غربا”، فأسألُه ضاحكاً، “يميناً أم يساراً؟” فيضحكُ خجلاً ويُصحِّحُ نفسَه. ما أثار ضحكي أنه فعلاً كان يجدُ صعوبةً في تحديدِ اليمينِ من اليِسارِ، مثلما كنتُ أجدُ صعوبةً، بل مُحالا، أن أُحدِّدَ الشرقَ من الغربِ في حلكةِ ذلك الليل.

أخيراً، بعد أربعِ ساعاتٍ أو أكثرَ، بلغنا مضاربَ العوامرِ من أهلِ سليّم، لنجدَ أنهم انتظرونا طويلاً حتى ظنُّوا أننا لن نأتي، فسبقونا إلى أكلِ العشاء. لكنّهم ذبحوا ذبيحةً أخرى وأعدُّوها لنا سريعاً. إزاءَ هذا التأخير، لم نجد بُدًّا من أنْ نقضيَ الليلَ عندَهم، في عراءِ الصحراء، ولقد قدّموا لكلٍّ منا لحافا نفترشُه على الرملِ وآخرَ نتغطَّى به.

في هدأةِ ليلِ الباديةِ المعزولةِ عن عالَمِ المدنِ الصاخبةِ، حيث لا يكادُ المرءُ يسمعُ شيئاً سوى همس نسماتٍ تتحركُ على استحياءٍ، لم أكدْ أضعُ رأسي على المخدة، حتى غفوتُ بعمقٍ ولم أُفقْ إلا في الصباحِ الباكر لأرى فوقي سماءَ الصحراءِ العربيةِ بوجهِها الطلقِ كوجهِكِ، يا زينبُ؛ سماءً صافيةً سمحةً كروحِك التي ترفضُ أن تتلبّدَ بالغيوم. نهضتُ من فراشي وقد امتلكني سحرُ الصحراءِ، وتمشيتُ مبتعداً قليلاً عن مجتمعِ العشيرةِ بين كثبانِ الرمل. لكنني لم أكدْ أبتعدُ بين الكثبانِ، حتى اختلطَ المكانُ عليَّ ولم أعرفْ كيف أعودُ إلى حيثُ مضاربُ القوم، فأدركتُ عندئذٍ كيف يتوهُ في الصحراءِ من لا يعرفُ أسرارَها. لكنني صعدتُ إلى أعلى الكثيبِ لعلي أُشرفُ على المكان، ومن هناك بدت لي ما يُمكنُ أن أسميَه “القريةَ” التي آوتنا، فانحدرتُ صوبَها. حين وصلتُ، كان “خليفةُ”، شيخُ العشيرةِ، في انتظاري. وبعد أن تبادلنا تحيةَ الصباحِ، أخذني ليُعرِّفُني على معالمِ مضاربِهم، التي لم تكنْ سوى أشجارٍ صحراويةٍ متفرقةٍ اعتادت على الهجيرِ والعطش، فتحوّرت أوراقُها شوكاً يقاومُ جفافَ الصحراء. كانت تقيمُ تحت كلِّ شجرةٍ إحدى أُسرِ العشيرة، حيث ألقت ببعضِ متاعِها على الأغصان. بعد ذلك قُدِّم لنا الفطورُ، أو الريوق، كما يُسمونه، وكان خبزاً رقيقاً كالشراكِ عندنا، مدهوناً بالسمنِ والسكر، ومعه كوبُ شاي. قبل الريوق، جلبتْ إحدى النساءِ وعاءً مملوءاً بحليبِ ناقةٍ حلبتْها للتوِّ، وأدارته علينا، فكان كلُّ واحدٍ منا يرتشفُ منه قليلا ثمّ يمرّرُه إلى الجالسِ إلى جانبِه. لم تكنْ المرةَ الأولى التي أشربُ فيها حليبَ النوق، فقد كنتُ اعتدتُ طعمَه اللذيذَ المائلَ إلى الحلاوةِ عند بعضِ الأصدقاء من أهلِ العين، خاصةً في بيوتِ الشيوخ. وبعد أن أفطرنا وتحدّثنا قليلاً مع أصدقائنا العوامر، استأذنّا في العَودةِ إلى العين، وقد اصطحبَنا في طريقِ العودةِ صديقي الأثيرُ السائقُ سليِّم، صاحبُ الدعوة.

في الطريقِ كانت الصحراءُ قد جلتْها شمسُ الصباح؛ وقد توقفنا عند بئرِ ماءٍ، يُسمّونه هناك “الطوي”، كان يتحلّقُ حولَها بدوٌ آخرون قال لي سليِّم إنهم من عربِ الشوامس، وقد احتفَوا بنا احتفاءً أفرحَ نفسي. تلك هي سجيةُ العربِ، يا زينب، طِيبةٌ لا يختلفُ عبيرُها أينما شرّقتِ أو غرّبتِ في الوطنِ العربي. لكنّ حظَّ هذه الأمةِ السيئَ أوقعَها في براثنِ الفرنجةِ الحاقدةِ عليها منذ غزانا فرنجةُ العصورِ السالفة. عند البئرِ كانت صبيّةٌ من القومِ تنشلُ الماءَ بجدٍّ ونشاطٍ، فابتسمتُ لها وحيّيتُها، فما كان منها إلا أن ردّت التحيةَ بدلالٍ ظاهرٍ، وقدّمتْ لي دلوَها لأشربَ منه، فشكرتُها وشربتُ حتى ارتويت، وهي تُمعنُ النظرَ في وجهي ولا تُفارقُ الابتسامةُ عينيها الدعجاوين البرّاقتين. فأنشدتُ في سرِّي قول الشاعر:

أقاحيةٌ فرعاءُ، دعجاءُ عينُها –  كأنّ مها نجدٍ جُمِعْنَ بها عَيْنا.

لكنّ تلك المهاةَ كانت عُمانيةً لا نجدية!

ما لم نحسبْ حسابَه أننا لم نحملْ من الوقودِ للسيارةِ ما يكفي ذهابَنا وعودتنا. فما كدنا نتحركُ مسافةً غيرَ بعيدةٍ من بئر الماء، حتى نفد الوقودُ في خزان السيارة وتوقفت بنا في الصحراء. لكنّ السائق سُليّم، قلّل من أهميةِ الأمر، قائلاً إننا سنأخذُ بعض الوقود من المارين بنا، خاصةً أننا كنا على مقربةٍ من بئر الماء، إلى حيث يُتوقَّعُ أن يقصدَها أغلبُ عابري الصحراء. والحقيقة أننا لم نكدْ نتوقفُ حتى مرت بنا سيارةٌ كانت تحمل معها مزيدا من الوقود. وحين رآنا سائقُها توقف، وتبين لي أنه يعرف سليّم. وما كان منه إلا أن أعطانا وعاء من الوقودِ يحتوي على عشرين لترا صببناه في خزان وقودِ سيارتنا. لا أظنُّ أنه طلب ثمناً لهذا الوقودِ، ربما لرخص سعره أو ربما لمعرفتِه بسليّم. على أيِّ حال، استأنفنا رحلةَ العودةِ إلى العين فالمستشفى، التي كانت أسرعَ من رحلةِ الذهاب، ربما بسبب وضوحِ النهار، أو أن سليّم أخذنا في طريقٍ أقربَ من تلك التي سلكناها مع ابنِ عمِّه.

استمتعتُ جداً بهذه الزيارةِ، وبطيبةِ أصدقائي العوامرِ، الذين أصبحوا يزورونني في المستشفى ويُقبِّلونني أنفاً إلى أنف، كما هي العادةُ في تلك البلاد. وأصبحَ موظفو المستشفى يعرفونهم بأنهم “ربعُ الدختر جابر.” نعم، يا زينب، لقد فتنتني البداوةُ في طيبةِ أهلِها وفطرتِهم كما كنتُ مفتوناً بطيبتِكِ وفطرتِك. ومنذ ذلك الحين، يا بدويتي الرعبوبَ، لا ألتقي بدويا إلا عددته من “ربعي.”

نسيتُ أنْ أقولَ لكِ إننا في الطريقِ توقفنا عند نقطةِ حدودٍ تحرسُها شرطةُ “السيد”، فقد كان سليِّم قال لي إننا، في طريقِنا إلى مضاربِهم في الوقن، التابعةِ لإمارةِ أبو ظبي، سنقطعُ أرضَ “السيدِ”، أي جزءاً من أرضِ عُمان. سألتنا الشرطةُ العُمانيةُ بلطفٍ بالغٍ عن مقصدِنا، فقلتُ لهم إننا نعملُ في مستشفى العين، وفي طريقِنا لزيارةِ أصدقائنا العوامرِ في الوقن. لفت نظري هذا الحاجزُ، ليتبيّنَ لي فيما بعد أنّ الإنكليز قسّموا المنطقةَ هناك بحيث يتداخلُ بعضُها في بعضِها الآخر. وكفلسطينيٍّ خبرَ خبثَ الإنكليز، لم أجدْ تفسيراً لذلك سوى المكرِ الذي اعتدنا عليه من أولئك المستعمرين المجرمين، فرنجةِ هذا الزمن.

لكنّ الطريفَ أن رحلتنا إلى مضارب العوامرِ في الوقن باتت حديثَ من نعرفُهم من أهلِ العين، الذين كانوا يستمتعون بإلقاءِ أسئلتهم عليَّ، وهو ما أشعرني أنهم كانوا يعجبون لما لمسوه مني من افتتانٍ بهم وببداوتِهم. كنت أقول لهم إنني عشقتُ فطرةَ البداوةِ، لكني خجلتُ أن أقولَ لهم إنها تذكُّرني بك وبفطرتِكِ الرائعة. والحقيقةُ أنني كنتُ مستمتعاً جداً بعلاقتي مع أهل تلك البقعة من بلادِ العرب، فتوطدت علاقتي مع معظمِ أهل العين.

ذات يومٍ، ذهبتُ مع سائقٍ جديدٍ من سواقي المستشفَى لزيارةِ عيادةٍ في البلدةِ تابعةٍ لنا. لم يكنْ السائقُ من أهلِ العينِ أو جوارِها، حسبَ ما قدّرتُ من لهجتِه، وأظنُّه كان عُمانيًّا ممن عملوا في إحدى دولٍِ الخليجِ، التي قد تكونُ الكويت. ما لفت نظري أننا في طريقِنا إلى سوقِ العينِ مررنا بحكمِ الطريقِ بمنازلِ الشيوخ. ففاجأني السائقُ حين قال، وهو ينظرُ إلى بيوتِ الشيوخِ: “ماذا يهمُّ الشيوخ؟ “البيب” (أي الأنبوبُ) يصبُّ في دارهم!” كان يعني بالأنبوبِ أنبوبَ النفط، طبعاً. لم أُعلّقْ، لكني تساءلتُ في نفسي إن كانت هذه أولَ الثورة. غيرَ أنّ أهلَ البلدِ، حقيقةً، كانوا قانعين بحياتِهم، بل حامدين ربَّهم على نعمةِ النفطِ الذي ينصبُّ أنبوبُه “في دارِ” شيخِهم، ثم عليهم. لعلّ صاحبَنا هذا كان ذا علاقةٍ بثوارِ ظفارَ الذين كانت ثورتُهم لا تزالُ محتدمةً في ذلك الوقت. لكنّ الزمان، كما أعتقد، سيتغيّرُ حتماً وسيمكسُ التغيُّرُ استحقاقَه.

مما لفت نظري أيضاً الحريةُ الواسعةُ التي كان البدوُ ينعمون بها. ذات يومٍ كنتُ في زيارةٍ لأحد الشيوخِ، وكان يجلسُ في مجلسِه مجموعةٌ من أهلِ العين. وقد اتفق أنْ دارَ الحديثُ عن اغتيالِ الفلسطينيِّ سرحان بشارة سرحان لروبرت كندي في الولايات المتحدة. فوجئتُ أن الجالسين، وكلُّهم، باستثنائي، من أهل العينِ، تهجَّموا جميعُهم، ومعهم الشيخُ نفسُه، على سياسةِ الولاياتِ المتحدةِ مع العرب، وقد أكّدوا جميعاً على أنّ روسيا هي صديقتُنا الحقيقيةُ وأن أميركا وبريطانيا أعداءُ العرب. تفكّرتُ يومئذٍ إن كانت أحكامُنا على هؤلاءِ القومِ صحيحةً حين كنا ننعتُهم بالرجعية. صحيحٌ أن الحضارةَ الحديثةَ لم تصلْهم بعد. لكنّ فطرتَهم الوطنيةَ لا علاقةَ لها بالحضارةِ الحديثة. بل تساءلتُ إن كانت هذه “الحضارةُ” ستكونُ على حسابِ وطنيّتِهم، حين يكثرُ رزقُهم من النفطِ الذي قد يُفسدُهم مالُه، وقد رأينا كيف أفسدَ المالُ بعضَ مناضلينا في بعضِ الفصائلِ الفلسطينية. أكان ذلك محضَ صدفةً أم كان متعمَّدا؟ أنا، يا ابنةَ عمي، لا أومنُ كثيراً بالصدفِ، بل بالتخطيطِ بعيدِ المدى، وقد ابتُلينا بعدوٍّ متمدِّنٌ، وسمةُ المدنية الحديثة التخطيطُ بعيدُ المدى. “لكنّ غداً لناظرِه قريبُ!”

 

 

 

(13)

 

 

بعد حين، بدأتُ أتوجَّسُ من تغيُّرِ الحالِ في لبنانَ بما يُنذرُ بالحربِ الأهليةِ التي كانت. فقرَّرْتُ أن أعودَ للجامعةِ لأتخصَّصَ، ولأكونَ أيضا إلى جانب الأهل. والحقيقةُ أنني، بالرغم من سعادتي البالغةِ في أبو ظبي وطيبةِ البداوةِ فيها، بدأ يُساورُني شعورٌ بتأنيبِ الضمير، لكونِ الأهلِ والرفاقِ يُقاتلون وأنا في خليجِ النفطِ أجني المال، مع أنه لم يكن ذلك المالَ الوفيرَ، الذي كنتُ أمكسُ منه جزءاً لأهلي، وجزءاً أرسلُه للجبهةِ الشعبية، وأُبقي لنفسي أقلَّ القليل، فأنا متقشفٌ بطبعي، خاصّةً أني كنت أقيمُ في المستشفى حيث كان يقدَّمُ لنا المسكنُ والطعام.

كانت الحربُ الأهليةُ في لبنانَ تجربةً قاسيةً عليّ. كنتُ أسمعُ تساؤلَ بعضِ اللبنانيينِ أنْ لماذا عليهم هم وحدَهم دفعُ ضريبةِ العملِ الفدائيِّ، خاصّةً بعد اضطرارِ الفدائيين إلى الخروجِ من الأردنِّ بعدَ معاركِهم مع الجيشِ الأردني. سؤالٌ وجيهٌ أمامَ هذا التشرذمِ العربيّ؛ غيرَ أنه ضربٌ من الكفرِ لمن يعدُّ القضيةَ الفلسطينيةَ قضيّةً عربية. لكنَّ هذا لا يكفي. لماذا لبنانُ وحدَه، أينَ بقيةُ العربِ؟ غيرَ أنَّ ذلكَ التساؤلَ كانَ حقيقةً يصدُرُ عن فئةٍ لا ترَى في العدوَّ الصهيونيَّ عدوّا. وهذا أمرٌ مؤلمٌ، بل مجرم. صُعِقْتُ لمجزرةِ “عين الرمانة” التي وقعت في نيسان 1975، فقد استُشهدَ فيها ستةٌ وعشرون شابًّا، كنتُ أعرفُ ثلاثةٌ منهم معرفةً شخصية. لم أنمْ تلكَ الليلةَ التي علمتُ فيها باستشهادِهم. أُفكِّرُ بهم تارةً، وأفكِّرُ بأهلهم، الذين كانوا كأهلي، تارةً أخرى. كنتُ يومَها لا أزالُ أعملُ في أبو ظبي، وربما كان ذلك أشدَّ قسوةً عليَّ من أن أكونَ في لبنان. وبعد عودتي إلى الجامعةِ تلاحقتْ الأحداثُ، وكان مستشفَى الجامعةِ ملاذاً للجرحَى الذين كانوا يعتصرون القلب. وجدتُني مندفعاً إلى التخصُّصِ في الجراحةِ لأمدَّ يدي لكلِّ جريحٍ يؤتَى به إلى المستشفى. لكنَّ الحديثَ عن تلك التجربةِ يرفعُ ضغطي ويُفقِدُني صوابي.

أحمدُ الله أن جاء بي قدَري إلى الكويتِ، وإلا، فكيف لي أنْ أراك. لكنَّ مجيئي إلى هنا أوقعَني في ورطةٍ وأشعرني بتأنيبِ ضمير. ألم أقلْ لكِ إنّ هاجسَ الخوفِ مما يُخبِّئُه لي المستقبلُ الآتي مبرَّرٌ تماما؟ في بدايةِ العام 1982، جاءني عرضٌ للعمل في مستشفى الصباح بعقدٍ لسنتين كنتُ في حاجةٍ ماسَّةٍ إليه. لذلك قبلتُ العرضَ. لكنَّ المشكلةَ التي لا أزالُ أعاني منها حدوثُ الاجتياحِ الصهيونيِّ للبنانَ في تلك السنةِ وأنا بعيدٌ عن الأهل، ثمّ ما تلا ذلكَ من تأزُّمِ الوضعِ في لبنانَ بحيثُ لم يعدْ في إمكانيَ العودةُ لأنني أحملُ وثيقةَ سفرٍ انتهَى تاريخُها وترفضُ السفارةُ اللبنانيةُ تجديدَها. كانت العودةُ مستحيلةً بغيرِ وثيقةٍ ساريةٍ في ظلِّ الأوضاعِ التي أورثَها خروجُ الفدائيين من لبنان، خاصّةً مذبحةَ صبرا وشاتيلا في شهرِ أيلول من ذلك العام، تلك التي كان يُمكنُ أن تكون في مُخيّمِ عين الحلوة، حيث يُقيمُ الأهل. شعرتُ أنّ هذه هي الهجرةُ الحقيقيةُ لي. فيومَ هُجِّرْنا من فلسطينَ كنتُ أصغرَ من أن أعيَ المأساةَ على حقيقتِها. أما اليومَ، فمرارةُ التشرُّدِ لا تُغادرُ جوفي. لكنَّ رؤيتَكِ التي أنتظرُها هي السعدُ الآتي. آه، يا زينبُ، كم يراودُني الخوفُ من فرحتي هذه. أحقًّا أورثَنا الأهلُ هذا الخوفَ، أم هو في صلبِ ثقافتِنا؟ ألا يقولُ الناسُ حين يؤخَذون بالضحكِ والحبورِ، “اللهم اكفِنا شرَّ هذا الضحك؟!” أفلا بدَّ من شرٍّ كامنٍ في كلِّ فرحٍ نفرحُهُ وضحكةٍ نُخرجُها من جوفِنا؟

 

 

 

(14)

 

 

 

  • ماما، ماما! التقيتُ في السوقِ بابنِ عمِّك!
  • ابن عمي؟
  • نعم، طبيبٌ يعملُ جرّاحاً في مستشفى الصَّباح، اسمُه جابر. (ثم أعادت قراءة الاسم من بطاقتِه وقالت:) نعم، اسمُه الدكتور جابر نواف المسعودي.

 

انعقدَ لسانُ زينبَ للفجاءة، ثم تساءلت:

  • معقول؟ جابر ابن عمي نواف؟
  • نعم هو بلحمِه ودمِه. هكذا قال لي. هذه هي بطاقتُه: الدكتور جابر نواف المسعودي، قسم الجراحة، مستشفى الصباح. أعطاني هذه البطاقةَ وأعطيتُه بطاقةَ سامر، فيها رقمُ هاتفِ بيتنا، وسنكلِّمُه بعد الظهرِ ليزورَنا حين يعودُ سامر من عمله.

 

روت عبيرُ لأمِّها تفاصيلَ لقائِها بجابر، فقالت:

  • حين كنتُ في الجمعيةِ التعاونية، تقدم مني رجلٌ وسيمٌ كبيرٌ في السنِّ نوعا ما وقال لي “أعتقدُ، يا بنتي، أنني أعرفك.” فجفلتُ منه في البداية، لكنّ وجهَه دعاني إلى الاطمئنانِ، فسألتُه: “من أين تعرفني؟” حينئذٍ سألني إن كنتُ أعرف الحاجّ صايل العثمان. فقلت له: “هذا جدي!” فسألني إن كان جدي لأبي أو لأمي، فقلتُ له إنه جدي لأمي. فقال لي: “أنت إذن بنتُ زينب.” دهشتُ لأنه كان يعرفُ اسمك، فقلت له: “أتعرفُ أمي؟ نعم أنا بنتُ زينب.” وهكذا دار الكلام بيني وبينه إلى أن سأل عنكِ وأعطيتُه بطاقةَ سامر التي عليها رقم هاتف منزلنا. وتواعدنا أن نتهاتف بعد المغرب حين يعود سامر من عمله لأنه يحبُّ أن يتعرّف عليه. وتوتة، توتة، خلصت الحدوتة. فهل تحبين أن تلتقي بابن عمك الجراحِ في مستشفى الصباح، يا بنت الملاح؟”

سألتها زينب:

  • “وكيف عرفك؟ لا بد أنه ذو فراسةٍ عجيبة. هكذا كان في صغرِه.”
  • “قال إنني أشبهُك شبهاً كبيرا.”
  • “صحيح. الحمدُ لله أنك تشبهينني حتى أستدلَّ بك على ابنِ عمي بعد هذا الدهرِ الطويل من الفراق.”
  • “لكن ابن عمِّكِ، يا ماما الحلوة، وسيمٌ جدا.”

 

كانت زينبُ تُنصتُ باهتمامٍ بالغٍ لابنتِها وودّت لو تسألُها ألفَ سؤالٍ عن ابنِ عمِّها، لكنّ الأسئلةَ تراكمت على لسانِها حتى عقدته، ولم يكنْ لها سوى أن تتركَ لابنتِها أن يتدفَّقَ لسانُها بالخبرِ المُفرحِ على إيجازِه. ثم سألتْ، وابتسامةٌ تشي بما اعتراها من فرحٍ كان يومضُ على شفتيها:

  • أحقاً وعدكِ بزيارتِنا؟
  • نعم، نعم. قال إنه سيهاتفُنا قبل المغربِ حين يعودُ سامر إلى البيت. أظنُّ دار خالي نواف أقربَ أقربائِكم، أليسوا كذلك؟
  • طبعاً يا بنتي، طبعاً. هو ابن عمِّي وأهلُه عزوتُنا وأقربُ الناس لنا، لكنّ الهجرةَ فرّقتنا. لعن اللهُ اليهودَ ويومَهم. أعرفُ أنهم يُقيمون في لبنان. ذهبَ والدي، رحمَه الله، إلى لبنان مرتين وزارَهم في صيدا، لكنهم لم يستطيعوا زيارتَنا لأنهم يحملون وثيقةَ سفرٍ فلسطينيةً لا تسمحُ لهم بزيارةِ الأردن، كما فهمتُ من والدي. ياربِّ يا كريمُ، أفرجها علينا.

 

 

(15)

 

 

 

بعد الغداء، دخلتْ زينبُ غرفتَها لتصفوَ لنفسِها، وهناك ارتحلت إلى ذكرياتِ طفولتِها:

آه يا جابر، يا ابنَ عمِّي، أيُّ ريحٍ حملتْكَ في تالي العمرِ هذا؟ لو تعرفُ الكربَ الذي طعنَ قلبي واستقرَّ فيه منذ يومِ التهجيرِ الكريهِ ولم يخرجْ منه حتى اليوم. فوجئتُ يومَها بأبي يأتي إلى الدارِ مُسرعاً ويقولُ لأمي:

  • “لملمي الأولادَ وما تستطيعين حملَه. السيارةُ تنتظرُ في الخارج.”

لم أفهمْ ما يحدثُ، لكني فرحتُ أننا سنركبُ سيارة. كانت سيارةَ شحنٍ مليئةً بأمتعةِ أهلِ القريةِ وأولادِهم. ألقَوْا بنا وبما تيسّر لأهلي حملُه في السيارةِ وصعدوا. سألتُ أمِّي: “ودار عمي نواف، يُمّه؟” فقالت وهي تلهثُ إنكم ستتبعوننا في سيارةٍ أخرى. كدتُ أقفزُ من السيارةِ لأركبَ معكم في سيارتِكم، لولا أنّ السيارةَ كانت عاليةً ومليئةً بالعفشِ وبالناس. تحركتْ سيّارتُنا، لكنني لم أشاهدْ سيارتَكم تتبعُنا، فحزنتُ وتقوقعتُ على نفسي. كنتُ كلَّ خمسِ دقائقَ أقفُ لأستطلعَ سيارتَكم إن كانت وراءنا، لكنّ أمِّي كانت تشدُّني من ثوبي لأجلس. غيرَ أني أخيراً غفوتُ في حضنِ أمي ولم أصحُ إلا على أصواتِ صراخ. ارتعبتُ حين رأيتُ وجهَ أمّي مرتعبا. كان أبي وبقيةُ الرجالِ واقفين خارجَ السيارةِ وحولَهم جنودٌ يهودٌ مُسلَّحون يتصايحون معهم. صاحت أمُّ حسين الراضي، وكانت تقفُ ممسكةً بسياجِ السيارة: “يا ويلي على الشبابِ، يا ويلي! سِترَكَ يا ربّ! سِترَكَ يا ربّ! انظروا هناك وراءَ شجرةِ التوت!” اشرأبّت أعناقُنا ننظرُ إلى حيث أشارت أمُّ حسين، التي حملتني لكي أرى من فوق سياجِ الشاحنةِ التي تحملنا، فإذا بثلاثةِ شبابٍ مضرَّجين بدمِهم مُلقَىً بهم تحت شجرةِ توتٍ عبرَ الشارع. قالت النساءُ إنهم مجاهدون قتلهم اليهود. رحمهم الله وصبَّر أهلَهم! ثم رجعَ أبي وبقيةُ الرجالِ إلى السيارة التي عادت تتحرك. بعد قليل، توقفت السيارةُ في أرضٍ مزروعةٍ بالزيتون وفيها حشدٌ من الناس. سمعتُ الكبارَ يقولون إننا في زيتونِ اللدّ. لم أفهم ما هي اللدُّ في ذلك الوقت. خرج سائقُ السيارةِ وقال للرجال: “أنزلوا أمتعتَكم هنا لنرى ما سيحدث.” نزلنا من السيارة وكنتُ خائفةً جداً، ومنظرُ القتلى الثلاثةِ قد استولى على عقلي، فالتصقتُ بأمِّي ممسكةً بثوبِها، وهي تحاولُ أن تحتويني وأخوتي بيدِها اليُسرَى، بينما حملتْ أخي الصغيرَ فارس، بيدِها اليمنَى. وضعَ أبي متاعَنا وساعدتْه أمي، وأنا لا أجرؤ على أن أتركَ ثوبَها من شدةِ الخوف. لا أدري كيف انقلبتْ فرحتي بركوبِ السيارةِ خوفاً هزَّ كياني. لعلي شعرتُ بأنها رحلةٌ غيرُ طبيعية، ربما لأنّكم لم تكونوا معنا. كانت عيناي تبحثُ عنك، يا جابر، لكنّك لم تظهر. وكلّما سألتُ أمّي عنكم، كانت تستغربُ أنكم لم تلحقوا بنا. سمعتُها تسألُ دارَ خالتي عنكم، فاشرأبّت عنقي لعلِّي أسمعُ منهم جواباً شافياً. لكنهم أيضاً لم يكونوا يعرفون. كنتُ ألوذُ بالبكاءِ لسببٍ ولغيرِ سببٍ، إلى درجةِ أن أمِّي أخذت تنهرني: “كفاكِ نكداً، يا بنت!” وخالتي حوريّة تقول لها: “رفقاً بها، يا مريم، يا ويلي عليها، خايفة ومستوحشة.” لم أفهمْ ما كانت تعنيه خالتي بقولِها “مستوحشة”. لكنني اليوم أُدرك أنني فعلاً كنتُ مستوحشةً لكَ وللقرية لأنّني توجستُ خيفةً من تلك الرحلة. لم أستمتعْ بركوبِ السيارةِ من غيرِك، ولم أفهمْ معنى إلقاءِ أغراضِنا بين الزيتون، وقضاءِ عدةِ ليالٍ هناك في العراء. كان قلبي يُحدِّثُني أننا لن نعودَ إلى بيتِنا، وهو للأسفِ ما كان. أذكرُ أن الدنيا كانت صيفاً، لأنني سمعتُ الناسَ يقولون، “اللهُ ستر أنّ الدنيا صيف. لو كانت شتاءً لغرقنا في المطر ومتنا من البرد.”

ذاتَ ليلةٍ أفقنا مرتعبين من صوتِ انفجارات. صحوتُ وأخذتُ أصرخُ خوفاً، واندسستُ في حضنِ أمي. كانت أمي أيضاً مرتعبةً وتُتمتمُ بالقرآن والأدعية، ومثلَها كانت النساءُ من حولِنا. سمعتُهم يقولون إنها غارةٌ من طيارةٍ يهوديةٍ أسقطت قنابلَها على الناس تحت بستانِ الزيتونِ القريبِ منا. لم يكنْ أبي موجوداً، وحين عاد، كان يلهثُ وكان وجهُه مُربَدًّا، فازددتُ رعباً وتشبّثتُ بثوبِ أمي. سمعتُه يقول: “لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله .. عائلةٌ بأكملها راحت .. دارُ فلاح الحسين .. كلُّهم ماتوا .. الله يرحمهم .. سقطت القنبلةُ على فراشِهم وهم نائمون.” لم أكنْ أفهم شيئاً مما يُقال، لكنني كنتُ أزدادُ رعباً وتعلُّقاً بحضنِ أمي.

في الصباحِ أخذَ الكبارُ يجمعون متاعَهم ويُلقون به وبنا في سيارةِ شحنٍ أخرى. بعد ساعاتٍ وصلنا إلى مدينةٍ أخرى، قالوا إن اسمَها نابلس. أنزلونا من سيارةِ الشحنِ وأدخلونا في مبنىً كبيرٍ فيه غرفٌ كبيرة قالوا إنها مدرسة. كانت الغرفُ مقسَّمةً بالخيشِ، وسكنّا في قسمٍ من إحدى هذه الغرف، وبالقربِ منا دارُ خالي، ودارُ خالتي، وإلى الجانبِ الآخرِ  دارُ عمي المختار. كنتُ تواقةً للسؤالِ عنكم، لكنني كنت وجِلةً لأنّ أمي وأبي وجميعَ الكبارِ كانت وجوهُهم متجهِّمة، ولا يُطيقُ الواحدُ منهم نفسَه.

بعد مدةٍ، لا أذكرُ إنْ كانت طويلةً أو قصيرةً، سمعتُ الكبارَ يقولون إننا سنذهبُ إلى المخيّم. لم أفهمْ ما يعنيه المخيّم. لكنّنا أخلينا المدرسةَ وأخذونا إلى مكانٍ فيه خيمٌ كثيرة. كان هذا هو المخيّم. وزّعوا على كلِّ أسرةٍ خيمةً، فكانت خيمتُنا قربَ خيمةٍ أعطيت لدار خالي وأخرى لدار خالتي والثالثةُ لدارِ عمي المختار. فرحتُ قليلاً إذ خلتُ أنكم لا بدَّ ستكونون معنا في ذلك المخيّم. لكنّ فرحتي لم تتمَّ، فلم أعثرْ على اثرٍ لكم، وحين سألتُ أبي عنكم قال إنه لا يعلم. ثم سمعتُ عمي المختارَ يقولُ إنه سمع أن الذين تأخّروا ساقَهم اليهودُ إلى يافا وألقَوْا بهم في البحر. بكيتُ وحدي إذ ظننتُ أن اليهود أغرقوكم في البحر. ثم سمعتُ الكبارَ يقولون إن الذين ذهبوا إلى يافا أخذوهم بالبحر إلى بيروتَ أو إلى غزةَ أو إلى مصر. لم أكنْ أفهم ما هي بيروت ولا ما هي غزة ولا ما هي مصر. كنتُ صغيرةً ولم أسمعْ بهذه الأسماءِ من قبل. سألتُ أمي، فصاحت بي، “كفاكِ أسئلةً، يا بنت. جننتِني!” فحملتْني خالتي حوريّة وضمتني إلى صدرِها، وقالت وهي تضحك، “مستوحشة لحبيبها جابر! مش هيك يا حبيبتي يا زنوبيا؟” فدفنتُ رأسي في صدرِها وبكيت. وسمعتُ النساءَ يتضاحكن عليّ، فتشبثتُ بصدرِ خالتي.

مرت الأيامُ رتيبةً في المخيّم. كان والدي كلَّ يومٍ يقول: “يا ربِّ أفرجْها علينا. الأيامُ تجري ونحن مكانَنا.” كان يذهبُ مع بقيةِ الرجالِ إلى المدينةِ للعمل، ويعودُ في آخر النهارِ ومعه بعضُ حاجياتِ المعيشة. كان في أدنى المخيّمِ نبعُ ماء، ثم علمتُ أن المكان اسمه “عين بيت امّا”، وحين كبرتُ أدركتُ أنّ اسمَه الصحيح كان “عين بيت الماء.” كان النساءُ والأولادُ يحملون الصفائحَ والجرارَ ويذهبون ليملأوها من النبع. كان أبي يذهبُ كلَّ شهر إلى مكانٍ اسمُه “الوكالة” لأخذِ مؤن الشهر. ثمّ أدركتُ حين كبرتُ أنها “وكالة الغوث” وأنها توزِّعُ علينا آخرَ الشهر قوتَ يومِنا الذي يُسمونه “المؤن”. ذاتَ يومٍ، كاد أبي يموتُ من الغيظِ لأنه نسي ما اسماه “بطاقةَ المؤن” في جيبِ قميصِه، ولم تنتبهْ أمي له حين غسلت القميص. جُنَّ جنونُ أبي وصاح بأمّي يلومُها على غسلِ البطاقة، لكنها بدورِها صاحت به ولامته كيف ينسَى تلك البطاقةَ في جيبِ قميصِه ويُلقيه بين الثياب المعدة للغسل، وهو يردُّ عليها بأنها هي التي غلطت حين لم تُفتشْ جيبَ القميص. علمتُ فيما بعد أنّ أبي وجد صعوبةً كبيرةً في استبدالِ تلك البطاقةِ المُقدَّسة. سمعتُ النساءَ يقلن لأمّي إنّ بطاقةَ المؤنِ مهمةٌ جدا للمؤنِ ولمدرسةِ الأولاد. كانت أمّي تبكي قبل استخراجِ أبي بطاقةً ثانيةً، لكنّ خالي كان يقول لها: “المهمُّ، يا مريمُ، ألا تُضيعوا مفتاحَ الدار. حافظوا عليه لتفتحوا دارَكم حين نعودُ إلى الديرة.” وهي وأبي يقولان له: “أعوذُ بالله، شياطينُ الجنّ لا تنتزع منا المفتاح.” لم أكنْ أفهمُ كثيراً من أحاديثِهم، لكنني بدأتُ أدركُ حين كبرت. أصبح المفتاحُ شعارَ العودة. لكنّ العودةَ طالت، يا جابر، طالت كثيرا. مرَّ الأسبوعُ وراء الأسبوع، والشهرُ وراء الشهرِ، والسنةُ وراءَ السنةِ وما زلنا ننتظرُ العودة.

 

 

(16)

 

 

كبرتُ قليلاً، وأخذني أبي إلى المدرسة حيث سجّلني فيها. يومَها أخرجَ للمسؤولةِ بطاقةَ المؤن الجديدةَ، وبناءً عليها قبلوا تسجيلي. نعم، تبيّن أن تلك البطاقةَ ساحرة. كلُّ حياتِنا مرتبطةٌ بها. بطبيعةِ الحال، يا ابن عمي، لم تكن هذه الأفكارُ تمرُّ بخاطري في ذلك الوقت، بل تنامت في عقلي حين كبرت.

نعم، أخيراً فتحت المدرسة أبوابَها. ارتعبتُ في البدايةِ من فكرةِ الانفصالِ عن أهلي لأقضيَ النهارَ في المدرسة. كانت أمي تُمسكُ بيدي وتأخذني هي إلى المدرسةِ، وحين نصلُ، كنت أستفرغُ ما في جوفي من طعامٍ لخوفي من تلك المدرسة. لكنني بعد قليلٍ انسجمتُ فيها وأصبحتُ أذهبُ إليها برفقةِ بناتِ المخيّم. وزاد حبِّي لها لأنّ المعلمةَ كانت دائماً تقولُ عني إنني تلميذةٌ متميّزة، وأحياناً كانت تطلبُ من التلاميذِ أن يُصفقوا لي حين أجيبُ إجابةً صحيحةً على سؤالِها. كنتُ أتمنَّى أن تكونَ أنتَ تسمعُها وهي تقول: “شاطرة زينب. صفقوا لها.” وكنتُ في مثلِ ذلك اليومِ أعودُ إلى الخيمةِ فرحةً وأبشِّرُ أمِّي بأنّ المعلّمةَ قالت: “صفقوا لها”. وحين يعودُ أبي من المدينةِ كنتُ أقفزُ إليه لأبشِّرَه أيضاً بشطارتي وبأن المعلمةَ طلبت من الأولادِ والبناتِ أن يُصفقوا لي، فيحملُني ويرفعُني إلى صدرِه مزهوًّا بي. آه يا جابر، كم كنتُ أتمنَّى لو كنتَ معنا في المخيّمِ لأبشرَّكَ أنت أيضا. أما الفرحةُ الكبرى، فكانت في آخرِ السنةِ يومَ قالت لي المديرة إنها تريدُ أن ترى أبي أو أمي. وحين ذهبا إلى مديرةِ المدرسة، أعطتْهما شهادتي وقالت لهما:

  • “أردتُ أن أهنئكما ببنتكما. ما شاء الله. لم تكنْ الأولى في صفِّها فقط، بل هي شعلةُ ذكاء، وأرجو أن تستمرَّ كذلك.”

في عودتنا إلى المخيمِ، حملني أبي على كتفه، وشعرتُ أنه مزهوٌّ بي، وفي المخيّمِ أخبر جميعَ الأقاربِ والجيران. والجميعُ كانوا يقولون: “إن شاء الله في البلاد.” أو يقولون: “بالعودةِ إن شاء الله.”

كانت الأيامُ تمضي والناسُ يتعجّبون كيف لا يعودون إلى البلادِ كما وعدَهم الحكامُ العرب. لم أكنْ أفهمُ ما تعنيه عبارةُ “الحكام العرب”. كنتُ أتساءل ما هؤلاء “الحكامُ العرب” وما شأنُهم بعودتِنا؟ وحين كبرتُ، قال لي أبي إن هؤلاء الحكامَ أكّدوا لنا أننا سنعودُ إلى قرانا حين تنتهي الحربُ مع اليهودِ. لم أفهمْ كلامَ والدي، لكنني كنتُ دائما متفتحةَ العقلِ على ما يدورُ حولَنا، وحين كبرتُ قليلاً أصبحتُ أُدركُ، ولو إلى حدٍّ ما، ما حلّ بنا.

حين بلغتُ العاشرةَ، أصبحتُ في الصفِّ الرابع الابتدائيِّ. وذات يومٍ جاءت إلى المدرسةِ مجموعةُ نساءٍ من نابلس قيلَ لنا إنهنَّ من الاتحادِ النسائيِّ، وقد جئنَ ليشرحنَ لنا ما أسموه “القضيةَ الفلسطينية”. لم أفهم كثيراً ما كانوا يعنون بهذا الاسم، لكنه أثار فضولي، خاصةً أن مديرةَ المدرسةِ اختارتني لأُلقيَ أمام هؤلاء السيداتِ قصيدةَ عبد الرحيم محمود التي مطلعُها:

سأحملُ روحي على راحتي

وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياةٌ تسرُّ الصديقَ

وإما مماتٌ يغيظُ العدى

 

كانت مديرةُ المدرسةِ استدعتني قبل يومين إلى مكتبِها، وقالت لي:

  • “يا زينبُ، أنتِ أنبهُ تلميذاتِ المدرسة، وأريدُكِ أن تحفظي هذه القصيدةَ عن ظهرِ قلبٍ لتُلقيها بعد يومين أمامَ زائراتٍ سيزرنَ مدرستَنا.”

فرحتُ طبعاً باختيارِ المديرةِ لي وحين عدتُ إلى البيتِ بشّرتُ أمِّي بما قالته لي المديرة، وحين عاد أبي من عملِه قفزتُ إليه وقلتُ له أيضا ما طلبتْه المديرةُ مني. وعكفتُ على إلقاءِ القصيدةِ أمامَ أبي وأمي، حتى حفظتُها عن ظهرِ قلب. وفي اليومِ التالي، ذهبتُ إلى مكتبِ المديرةِ لأقولَ لها إنني حفظتُ القصيدةَ، فاثنت عليّ واستدعت معلمةَ اللغةِ العربيةِ، ثم قالت لي، “اصعدي على هذا الكرسيِّ وألقي علينا القصيدةَ، يا زينب.” فصعدتُ خجلةً على الكرسيِّ وألقيتُها بصوتٍ عالٍ. ثم علّقت المديرةُ على حركاتِ يديَّ وطلبتْ مني أن أعيدَ إلقاءَ القصيدةِ كما أشارت عليّ، ففعلتُ. فأثنت المديرةُ والمعلمةُ كلتاهما عليَّ وطلبتا مني أن أُكرِّرَ إلقاءها في البيتِ حتى أكونَ مستعدةً لإلقائها أمامَ الضيوف.

عشقتُ القصيدةَ، سواءٌ من كلماتِها أو من سيرةِ الشاعرِ، الذي علمتُ أنه كان يُدرِّسُ في كلية النجاح الوطنيةِ في نابلس، وأنه التحق بالمدافعين عن فلسطين سنة 1948 واستُشهد وهو يُقاتلُ اليهود، فرأيتُ أنه حقّق بالفعلِ ما قالَه في القصيدة. ومنذ ذلك اليوم شعرتُ بأنّ شيئاً في نفسي أخذ يتنامَى تجاهَ قضيتِنا. كنتُ أُسائلُ نفسي عن حالِنا في المخيِّمِ وأستمعُ إلى قصصِ اللجوءِ التي يرويها الكبارُ من حولِنا، وقد استمعتُ من أبي وأمي قصةَ اضطرارِنا إلى تركِ قريتِنا، ديرةِ بني مسعود، وكيف جاءنا اليهودُ السكناجُ وأجبرونا على تركِ بيوتِنا بالرشاشات. كنتُ يومَ الهجرةِ أصغرَ من أن أستوعبَ ما كان يجري، لكنّ رواياتِ الكبارِ أعادت تشكيلَ ذاكرتي، فأدركتُ حقيقةَ ما حدثَ لنا.

بعد يومين وصلتْ إلى المدرسة الزائراتُ اللواتي قالت المديرةُ إنهن آتياتٌ من الاتحادِ النسائي ليحدِّثننا عن نكبةِ فلسطين. تكلمتْ أحدى النساءِ كثيرا، لكني لم أستوعب كلامَها لأن عقلي كان مشغولاً برهبةِ إلقاءِ القصيدةِ عليهن. وحين انتهت تلك السيدةُ من كلامِها، وقفتْ المديرةُ تشكرُ جميعَ أولئك النساءِ على زيارتِهنّ للمدرسةِ وقالت لهن:

  • “هذه زينب صايل العثمان، تلميذةٌ لاجئةٌ من يافا، ستُلقي علينا قصيدةَ الشهيدِ عبد الرحيم محمود.”

وأشارت لي، فقفزتُ فرحةً إلى أحدِ الكراسي لألقي   َ القصيدة. عندئذٍ، صفقتْ لي الزائراتُ والمديرةُ والمعلماتُ، كما تبعهنّ في التصفيقِ بناتُ المدرسة، فشعرتُ بزهوٍ وخجلٍ معا. بعد ذلك ألقيتُ القصيدة، فصفقت لي الزائراتُ والمديرةُ والمعلماتُ، أكثر من قبل. وأكثرُ ما أثارني أنّ إحدى النساءِ لم تتمالك نفسَها بعد إلقائي القصيدة، فبكت بحرقةٍ، وتقدمتْ مني واحتضنتني بمحبةٍ بالغةٍ وقالت لي،

  • “نعم يا حبيبتي، إما حياةٌ تسرُّ الصديقَ وإما مماتٌ يغيظُ العدا.”

منذ ذلك الحين، شعرتُ أنّ القصيدةَ جزءٌ مني، وأنّ عليَّ أن ألتزمَ بكلماتِها، بل جعلتني أحبُّ الشعر حبًّا جمّا. منذ ذلك الحين، يا جابر، شعرتُ أنّ شيئاً في نفسي تغيّر في نظرتي للحياة. شعرتُ أنّ علينا ألا نستسلمَ للقدرِ وأنّ علينا أن نحملَ أرواحَنا على أكفِّنا ونقاتلَ حتى نستردَّ وطنَنا. قلتُ هذا الكلامَ لأبي فدمعتْ عينُه وهو ما أثارني أكثر، إذ لعلّها المرةُ الأولى التي أرى الدمعَ في عيونِ أبي.

لم تكتمل فرحتي بما حدث في المدرسة. ذلك أن أخي الأصغر فارس استُشهد بعد ذلك بأيام فوقع استشهادُه علينا وقعَ الصاعقة. والقصةُ أن دوريةً عسكريةً يهوديةً مرت من أمام المٌُخيّمِ، وفي العادةِ، دائماً ما كان شبابُ المخيّمِ وجميعُ شبابِ المدينةِ يتعرضون للدورياتِ العسكريةِ برجمِها بالحجارة. وحين تبتعدُ الدوريةُ كان الشبابُ يعودون إلى ألعابِهم. لكن جنودَ هذه الدوريةِ أطلقوا النارَ على الشبابِ، فاصيبَ أخي فارس برصاصةٍ استقرت في صدره، فاستُشهد فوراً قبل وصولِه إلى المستشفى الوطنيِّ القريبِ نسبيًّا من المخيم.

والحقيقةُ أن أخي كان ذاهباً إلى العين يريدُ أن يملأَ صفيحةً بالماءِ أعطته إياها أمي. حين بلغ أمي خبرُ استشهادِه ، أخذت تلطم وجهَها وتصيح:

  • “الحقُّ عليّ!، أنا التي قتلتُه، الحقُّ عليّ!، أنا التي قتلتُه!”

فتقول لها خالتي:

  • “لا تقتلي نفسك يا مريم، كيف قتلتِه وقد قتله اليهودُ أمام خلقِ الله.”

فتردُّ عليها:

  • “ليتنا متنا من العطش وبقي فارس سالما. أنا التي طلبتُ منه أن يعبئَ لنا الصفيحةَ من ماء العين، وليتني ما فعلت.”

فتردُّ عليها المعزياتُ في الدار:

  • صلي على النبي، يا مستورة. هذا قضاءُ الله، لا إله إلا هو، والحمدُ لله أنه مات شهيدا!”

لا أدري إن كان لي أن اقولَ إن ما هوّن الأمرَ علينا أن مظاهرةً عنيفةً جرت في نابلس تنديداً باستشهادِ أخي فارس، وجاء إلى المخيّمِ آلافُ المعزّين، أو فلأقلْ المهنئين باستشهادِه، وُعلِّقت صوره في كلِّ مكان على جدرانِ المدينة. كنتُ حين أرى صورَه معلقةً على جدرانِ المدينةِ ومكتوباً عليها عبارةُ “الشهيد البطل فارس صايل المسعودي” تتنازعني عواطفي بين الفخر به والحزن عليه معا.

لا أدري إن كنتَ، يا جابرُ، تذكر أخي فارس. فقد كان عمرُه شهرين يومَ أُجبرنا على الرحيل من قريتٍِنا. وحين استُشهد كان عمرُه تسعةَ عشرَ عاماً، وقد نالَ بعثةً دراسيةً من وكالةِ الغوثِ ليدرسَ الهندسةَ في بيروت، لكنّ القدرَ كان له بالمرصاد. حين كبر كان شابًّا وسيماً يُشبهُ أبي في صغرِه. رحمه الله، لا أزال أبكيه إلى اليوم. هذه حالنا، يا ابنَ عمي. قتلتنا الهجرةُ، ومنذ أُجبرنا على ترك ديارِنا لم نرَ يوماً مفرحا في حياتِنا. لكنني فرحةٌ جدًّا أنني سأراكَ في تالي العمر، يا ابنَ عمي الحبيب.

 

 

(17)

 

 

سنةَ 1955، قامت مظاهراتٌ عنيفةٌ في نابلس وبقيةِ مدن الأردنِّ ضدّ شيءٍ اسمُه حلفُ بغداد. وقد اشترك فيها تلاميذُ المدارس. سألتُ أبي عن هذا المُسمَّى “حلفَ بغداد”، فقال لي:

  • “هذه، يا ابنتي، مؤامرةٌ استعماريةٌ بريطانيةٌ على العرب. جمعت بريطانيا في حلفِها هذا كلاًّ من العراقِ وإيرانَ وباكستانَ وتركيا، و أسمته حلفَ بغداد، وتريدُ أنْ تضمَّ الأردنَّ إليه، لأنّ الأردنَّ لا يزالُ تابعاً للتاجِ البريطانيّ. ونحن، يا ابنتي، لا نريدُه ولا نريدُ أيَّ شيءٍ من طرف بريطانيا، فهي سببُ نكبتِنا وإخراجِنا من بلادنا.”

سألتُ والدي:

  • “كيف يكون الأردنُّ تابعاً للتاجِ البريطانيِّ وقد أخذَ استقلالَه سنة 1945، حسب ما درسنا في المدرسة؟”

فضحك وقال،

  • “لا تصدِّقي يا ابنتي هذا الهراء. هذا استقلالٌ شكليٌّ ولا يزالُ الأردنُّ يأخذُ المساعدةَ من بريطانيا، ولا مالَ يُعطَى لوجهِ الله بلا ثمن، والثمنُ أن تكونَ سياسةُ الدولةِ متوافقةً مع المصالحِ الاستعماريةِ البريطانية، وهذه لن تتوافقَ مع مصالحِ العرب إطلاقا!”

 

لم أفهم في ذلك اليومِ طبعاً فحوى ما قاله أبي. لكن ذهني تفتح كثيرا، وكلّما كبرتُ، كانت السياسةُ جزءاً لا يتجزأُ من تفكيري وتفكيرِ معظمِ بناتِ مدرستي.

تحمّستُ من كلامِ والدي، وأقبلتُ على المظاهراتِ. وقد ازدادت حدتُها حين استُشهدت تلميذةٌ اسمُها رجاء أبو عماشة من مخيّم عقبة جبر في أريحا وهي ترفعُ العلمَ الأردني على مبنى القنصليةِ التركيةِ في القدس. سمعتُ أن الشهيدةَ رجاء أصلُها من قريةِ سَلَمة، القريبةِ من قريتِنا، ديرة بني مسعود. فازدادت حماستي في المظاهرات، وكانت الفتياتُ يحملنني فوق أكتافِهن وأنا أهتفُ فيهنّ ضدّ حلفِ بغداد. كانت معنا في المدرسةِ فتاةٌ أكبرُ مني بصفين، اسمُها عليا الحَمَد. حين شعرتْ بحماستي، دعتني للانضمامِ لحزبهم، حزبِ البعثِ العربيِّ الاشتراكيّ، وشرحتْ لي أهدافَ الحزبِ، فاقتنعتُ بها وانضممتُ لهذا الحزبِ فورا، لكنني كنتُ أشعرُ بتوبيخِ ضميرٍ لأني لم أخبرْ أهلي بانضمامي لهذا الحزب، لأنّ صديقتي عليا شدّدت على أنّ عملَ أعضاءِ الحزبِ يجبُ أن يكونَ سريًّا للغاية. استهوتني فكرةُ الوحدةِ العربيةِ والحريةِ والاشتراكيةِ، لأنّ وحدةَ العربِ تعني قوتَهم، وبالقوةِ نستردُّ بلادَنا. والحريةُ تعني أن نتخلّصَ من التبعيةِ لبريطانيا التي جلبت اليهودَ من أوربا وزرعتهم في بلادِنا وهجّرتنا منها، والاشتراكيةُ تعني توزيعَ الثروةِ توزيعاً عادلا بين الناس. لا أدري يا جابر، إن كانت لك تجربةٌ حزبيةٌ مثلي. بصراحةٍ، أنا لاحظتُ أنني اكتسبتُ كمًّا كبيراً من الثقافةِ السياسيةِ بدخولي حزبَ البعث. لاحظتُ ذلك حين كنتُ أناقشُ صديقاتي وصديقاتِ والدتي، بل حتى حين كنتُ أكلّمُ والدي في السياسة. بل شعرتُ بأن مستوى نقاشي قرّبني جدًّا من والدي. كنتُ أشعرُ بالفرحِ في عينيه حين أكلِّمُه في السياسة. رحمه الله، لا أزالُ أبكيه منذ وفاتِه.

الآن، وقد كبرتُ وازداد وعيي، أعترفُ بأنّ العاطفةَ في فترةِ مراهقتِنا كانت تسيطرُ عليّ وعلى رفيقاتي في الحزبِ أكثرَ من العقلانيةِ. كم كنتُ أطربُ في المظاهرات حين كان يقودُنا شابٌّ ضخمُ الجثةِ، ذو صوتٍ جَهْوَريٍّ وشاربٍ يقفُ الصقرُ عليه، فكان هذا الشابُّ يصيحُ بأعلى صوتِه:

  • ماذا تريدون؟

فنردُّ عليه كزقزقة العصافير:

  • الوحدة!

ثم يكرِّر قولَه:

  • ماذا تريدون؟

فنردُّ عليه بدورنا:

  • الحريةّ!

ثم يسألُ للمرةِ الثالثة:

  • ماذا تريدون؟

فنردُّ عليه أيضا:

  • الاشتراكية!

فيردُّ هو علينا بقولِه:

  • إذن، أمةٌ عربيةٌ واحدة!

ونكملُ نحنُ شعارَ البعثِ بأصواتِنا الرقيقة العالية:

  • ذاتُ رسالةٍ خالدة!

نعم، كنتُ أشعرُ أننا بهذا الحماسِ قد حققنا الوحدةَ والحريةَ والاشتراكية كلَّها دفعةً واحدة! وحين أختلي بصاحباتي، كنا نضحكُ كثيراً على ما نفعل، لكننا كنا نؤمنُ بما نقول. صديقتُنا عليا وحدَها كانت جديّةً أكثرَ من اللازم، إذ لم تكنْ ترى في ذلك مجالاً للضحك، ربما لأنها كانت مسؤولةً عنا، أو لعلّ شخصيتَها كانت هكذا. لكني كنتُ ولا أزالُ أُحبُّها وأحترمُها. التقيتُ بها بعد طولِ فراقٍ في عمّان، وقد خطَّ العمرُ خطوطَه على وجهِها – وكذلك على وجهي طبعاً. عليا تزوجتْ من أحدِ الرفاقِ في الحزبِ وانتهى بهما الأمرُ في سورية، حيث يتبوآن هي وزوجُها مرتبة قياديةً عُليا في حزبُ البعث.

 

 

(18)

 

 

آه يا جابر، ماذا أقول لك؟ كلُّ هذه السنين، لم تُنسِني أيامَنا الحلوةَ في الديرة. هل كنا نتخيَّلُ أنّ الحياةَ أعقدُ مما كان عليه لهوُنا البريءُ في بساتينِ الديرة، أتذكُرُ كيف كنتَ تصطادُ الحساسين، وكيف كنتَ تصنعُ طائراتِ الورقِ وتطيُّرُها ببراعةٍ كانت تستحوذُ على عقلي. كم كنتُ أراكَ فتىً بارعاً في كلِّ شيء، ولا أشكُّ في أنك بارعٌ في كبركَ كما كنتَ في صغرك. ابنتي عبير قالت إنك الآن جراحٌ في المستشفى، وأستطيعُ أن أشهدَ دون أن أراك بأنّك أبرعُ جرّاحي المستشفى، فالديكُ الفصيحُ في البيضةِ يصيح، كما يقولُ المثل.

بعد أن هاجرنا وفقدنا كلَّ أملاكِنا في الديرة، اضطُرَّ والدي للعملِ في البناء. فقد تعرّفَ على مقاولٍ طيّبٍ، اسمه الحاجّ مُعين العلي، كان والدُه يعرفُ جدي الحاجَّ عثمان، فاشتغلَ معه والدي مراقباً للعمال.

من خلالِ عملِ والدي مع الحاجّ مُعين، تعرّفتُ على ابنِه حامد، الذي خطبني وتزوجنا لاحقا. حين خطبني حامد كنتُ لا أزالُ في المدرسة، وقد رفض والدي أن نتزوّجَ قبل انتهاءِ دراستي. وأنا أيضاً حبّذتُ رأيَ والدي، إذ كنتُ أحبُّ الدراسةَ حبَّا جمًّا. كان هاجسي أن يكونَ رأيُ خطيبي في السياسةِ قريباً من رأيي. فقد كنتُ أخشى أنْ يكونَ من أبناءِ الميسورين المُدلَّلين. لكنّه، لحسنِ حظي، كان متحمِّساً لتحريرِ فلسطين، ويؤمنُ بأنّ الدولَ العربيةَ تخاذلت في نصرةِ ثوارِ فلسطين.

في مناقشاتي مع خطيبي حامد، تبيّن لي أنه عضوٌ في الحزبِ الشيوعيِّ وأنه سُجن سنة 1958 لعلاقتِه بهذا الحزبِ. وإذ كانت تلك سنةَ تخرجِّه من المدرسةِ الثانويةِ، كان عليه أنْ يتقدّمَ للامتحانِ العامِّ، امتحانِ “المترِك” كما كان يُسمَّى. فقرّر هو وبعضُ زملائه في المدرسةِ ممن كانوا مسجونين معه أن يدرسوا في السجنِ الكتبَ المقرّرةَ وأن يتقدّموا للامتحان. وهكذا كان، حسب ما قال لي. وقد نجحوا جميعُهم في ونالوا شهادةَ “المترك”. كان يقولُ لي إنّ نجاحَهم تكلَّلَ بانقلابِ الجيشِ العراقيِّ على الحكمِ الملكيِّ في بغداد، وقد سمعوا الخبرَ من شرطيٍّ في السجنِ قال لهم همساً: “أهلُ بغدادَ تغدَّوْا مقلوبةً أمس!” فأدركوا معنى كلامِه واحتفَوا به. كما أنّ أمَّ حامد، في زيارتِها لولدِها في السجن، جلبت معها طبخةَ مقلوبةٍ له ولرفاقِه، رمزا لذلك الانقلابِ الذي أفرح عامةَ الناس. هكذا كان الناسُ يستخدمون الرموزَ في تخاطبِهم وتصرفاتِهم، ليُبعدوا عنهم شكوكَ المخابرات. وكان في تلك السنةِ أيضاً أن توحّدت سوريةُ ومصرُ في إطارِ الجمهوريةِ العربيةِ المتحدة. يا للخمسيناتِ، كم كانت مبعثَ أملٍ لنا، لكنّ آمالَنا انتكست بهزيمةِ حزيران سنة 1967. غير أننا لم نفقد الأملَ بأمتِنا العظيمةِ التي نؤمنُ أنها ستنهض كالعنقاء. لا بدَّ أنكَ تعرفُ قول أبي العلاء: “أرى العنقاءَ تكبرُ أن تُصادا، فعاندْ ما استطعتَ له عنادا؟” نعم إننا أمةٌ كالعنقاءِ، يا ابنَ عمي، تكبرُ أنْ تُصاد. وستنتصر حتما.

كنتُ أناقشُ خطيبي حول آرائه السياسيةِ الشيوعيةِ، فكان يركِّزُ على عدالةِ توزيعِ الثروةِ وعلى ضرورةِ تولِّي العمالِ والفلاحين قيادةَ الدولةِ، لأنهم الأيدي العاملةُ المنتجة. كان نقاشُه منطقيًّا، لكني كنتُ أعرفُ من نقاشاتِنا في حزبِ البعثِ أن الشيوعيين قبلوا بقرارِ الأممِ المتحدةِ تقسيمَ فلسطينَ سنة 1947، وهذه جريمةٌ لا تُغتفَرُ لهم ولا للاتحادِ السوفييتيِّ، الذي لم يختلفْ موقفُه في فلسطينَ عن موقفِ الدولِ الاستعمارية. ذاتَ يوم، قلتُ له بحدةٍ، تصوّرْ أنّ شاعراً عراقياً شيوعيًّا بلغتْ به الوقاحةُ أن يقولَ عن اليهودِ السكناج: “شعبٌ له حقُّ الحياةِ كما لنا حقُّ الحياة!” طبعاً له حقُّ الحياة، لكنْ ليس على أرضِ وطنِنا وبتهجيرِنا من بيوتِنا وقرانا ومدنِنا. قلتُ له، “ألم يكنْ يجدرُ بقيادةِ حزبِكم أن تذهبَ إلى موسكو وتقولَ لقيادةِ الحزبِ الشيوعيِّ هناك إننا أعلمُ منكم بقضايانا، وهؤلاءِ اليهودُ السكناجُ جلبتْهم بريطانيا المستعمِرةُ من أوربا لتزرعَهم خليةً سرطانيةً في خاصرةِ الوطنِ العربي، ولتقيمَ لهم دولةً وظيفتُها خدمةُ الاستعمارِ الغربيِّ الذي يريدُ أنْ يُهيمنَ على العرب؟ لكنّ قيادتَكم قيادةٌ تابعةٌ، غيرُ مُبدعة.” وكنا نستهزئ بالشيوعيين فنقول: “إذا نزل المطرُ في موسكو، حمل الشيوعيون في بلادِنا الشماسي!” لم أكنْ حقيقةً ضد الشيوعيين وأفكارِهم، لكنني كنتُ قوميةً عربيةً متحمِّسةً لوحدةِ العرب. ولم أختلفْ في هذا يوماً مع زوجي حامد، رحمه الله.

بل كان حامد يُحرَجُ مني حين نبحثُ موقفَ الاتحادِ السوفييتيِّ من القضية الفلسطينيةِ، وأخيراً اتفقنا على أنّ موقفَ الحزبِ الشيوعيِّ وموقفَ الاتحادِ السوفييتيِّ كان خاطئاً، ولا عيبَ في انتقادِ الخطأ. كان هو يُبرِّرُ موقفَ الاتحادِ السوفييتيِّ بأنه ربما كان مخدوعاً بـ”الكِبُتسات” الصهيونيةِ التي كانت مزارعَ تعاونيةً ذاتَ طبيعةٍ اشتراكية، وبأنّ الدولَ العربيةَ الرجعيةَ هي التي كانت وراءَ الهزيمةِ في فلسطين. وقد أخبرني حامد بأنه كان ينقلُ وجهةَ النظرِ هذه إلى رفاقِه في الحزبِ، فكان بعضُهم يميلُ إلى التبرير تعصُّباً، وقلةٌ منهم من اقتنعت بهذا الرأي، من غيرِ أن تتخلَّى عن مبدئها الشيوعيّ. لكنّ علاقةَ الصداقةِ بين مصرِ عبد الناصرِ والاتحادِ السوفييتيِّ جعلنا نحبُّ الاتحادَ السوفييتيَّ، بطبيعةِ الحال. فلا ننسَى تمويلَ الروسِ للسدِّ العالي وافتتاحَ غروتشيف للبدءِ في بنائه.

أخيراً، تخرّجتُ من المدرسةِ الثانويةِ بتفوق، وكان هذا موعدَ زواجي من حامد بعد خِطبةٍ دامت سنةً أو أكثرَ قليلا. كم كنتُ أتمنى أنْ أُكملَ تعليمي في الجامعة، لحبِّي للعلم. لكنّ ذلك كان ترفاً لم أكنْ أحلمُ به، خاصةً أنْ لم يكنْ في نابلس جامعة، مما يعني اغترابي عن أهلي إلى عمّانَ، على الأقل، حيث أُنشئت حديثاً الجامعةُ الأردنية، وهي أقصَى ما أستطيعُ الحلمَ به. هل تعلم، يا جابر، أن أحدَ شبابِ المخيمِ من جيرانِنا أخذ بعثةً دراسيةً من وكالة الغوثِ إلى الجامعةِ الأميركيةِ في بيروت؟ وكان بإمكاني الحصولُ بسهولةٍ على مثلِ هذه البعثةِ، لأنّ علاماتي في المدرسةِ كانت تؤهلني بجدارةٍ لها، فلو تقدمتُ لها لكان بإمكاني زيارتُكم في صيدا. لكنْ، للأسفِ الشديدِ، كانت فكرةُ اغترابِ البنتِ غيرَ مقبولةٍ في مجتمعِنا، مع اعتقادي بأنّ والدي، رحمه الله، كان متفتِّحَ العقلِ ولا يرفضُ لي طلبا. لكنني أيضاً، وهذا هو الأهمُّ، كنتُ مخطوبةً لحامد قبل تخرجي.

بعد تخرجي، كان لا بد من الزواج. كان وضعُ حامد وأهلِه ميسوراً، قياساً بوضعِنا البائس، وأرادت أمُّه أن تقيمَ عرساً بهيًّا لتفرحَ بابنِها البكرِ، كما قالت. لكنني كنتُ مُحرَجةً من مثلِ هذا العرس، إذ لا بدَّ لنا من أنْ ندعوَ الأقاربَ والجيرانَ في المخيّم، وهم على ما هم عليه من بؤسٍ وفقرٍ، كما هي حالُ أهلي أنفسِهم، بطبيعةِ الحال، وأنا بطبعي أمقتُ التباهي. اقتنعَ حامد برأيي، خاصةً لخلفيتِه الشيوعية. أظنُّه وجدَ صعوبةً في إقناع والدتِه، التي كانت لا ترى الفرحَ بزواجِ ولدِها البكرِ إلا بحفلةِ زواجٍ مهيبة. لكنه أخبرَها بأنّ فرحَها بزواجِه لا يكونُ في الإسرافِ في البذخ، بل في الزواجِ نفسِه. وهكذا كان. أقمنا حفلاً متواضعاً لم يشعرْ فيه أهلُ المخيّمِ بأنهم غرباءُ عليه. بل أقنعتُ حامد بأن يُقنعَ والدَه بتوزيعِ ولو جزءٍ من كلفةِ الحفلِ المهيبِ المُفترَضِ على بعضِ الفقراءِ في المخيّمِ وفي المدينة على السواء، فكان لي ما أردت.

الحقيقةُ أنّني كنتُ منسجمةً مع أفكارِ حامد في السياسةِ والحياةِ عموماً بالرغمِ من كوني بعثيةً وكونِه شيوعيًّا، خاصةً أنني، قبل معرفتِه، كنا ننظرُ للشيوعيين نظرةً لا تخلو من عداءٍ بسببِ موقف الاتحادِ السوفييتي آنذاك، حين أيّد قرارَ الأممِ المتحدةِ في تقسمِ فلسطين، كما قلت.

تعلمُ أن مبدأ حزبِ البعثِ يقومُ أساساً على النضالِ لتوحيدِ العرب، وأن الشيوعيين يريدون توحيدَ عمالِ العالمِ في مجابهةِ الرأسماليةِ والرأسماليين. وقد اقتنع مني حامد بفكرةِ الوحدةِ العربيةِ كضرورةٍ لازمةٍ للعربِ، لأن القوةَ في الوحدة، ولن تُفلح الأقطارُ العربيةُ المتشرذمةُ في أن تأخذَ لها مكانةً محترمةً بين دولِ العالم، ما لم تتوحّد. كنتُ أقولُ له لا بأس في تعاونِ عمالِ العالمِ على الرأسماليةِ المتوحشة. لكنْ، أليس الأقربون أولى؟ كنتُ أستشهدُ بقدرةِ عبد الناصر على تعبئةِ الجماهيرِ حين دعا إلى الوحدةِ العربيةِ وحين طبّق الاشتراكيةَ في مصر، خاصةً حين أزالَ الإقطاعَ ووزّعَ الأراضي على الفلاحين الفقراء، وكان حامد يوافقني الرأيَ، فقد كان مُعجَباً جدا بسياسةِ عبدِ الناصر وبنهجِه القوميِّ الاشتراكيِّ، فقد كان عبد الناصر قائداً وُلِدَ من رحمِ الشعبِ الفقيرِ وكرّس نفسَه لخدمتِه. أتعلمُ يا جابرُ، أنا الآن أعتقدُ أنّ المبادئَ الثوريةَ في العالمِ كلِّه لا تختلفُ، وينبغي لأصحابِها أن يكونوا حلفاءَ فيما بينهم مهما اختلفت بلدانُهم وقومياتُهم. خذ، مثلاً، متابعتَنا لثورةِ فيتنام وتعاطفَنا مع الفيتناميين. حين انسحب الأمريكانُ من فيتنام كنا في غايةِ السعادةِ وشعرنا بأنّ انسحابَ اليهودِ من فلسطين مُتحقِّقٌ عاجلاً أم آجلا، وسوف نعودُ كلُّنا إلى ديارِنا المغتصبة. صحيحٌ أن شعورَنا باندحارِ المستعمرين الفرنسيين في الجزائر كان ذا طعمٍ خاصٍّ في نفوسِنا لكونِ الجزائرِ عربيةً، لكنّ اندحارَ الأمريكيين من فيتنام أفرحنا أيضاً، بل أفرحنا كثيرا، وأنا واثقةٌ من أن أحرارَ العالمِ سيفرحون مثلَنا حين نُزيلُ الدولةَ الصهيونية.

كانت هزيمةُ الجيشِ المصريِّ في حزيرانَ مجالاً رحباً للنقاش بيننا وبين أصدقائنا المتنورين. وقد اتفقنا على أنّ الإهمالَ كان السببَ الرئيسيَّ في تلك الهزيمة. اتفقنا على أنّ القيادةَ المصريةَ كانت من الغباءِ بحيثُ لم تتوقعْ حدوثَ الهجومِ الإسرائيليِّ؛ وقولُها “توقعناهم من الشرقِ فجاؤونا من الغرب،” كان مبرِّراً في منتهَى السذاجة، ولو أن عبد الناصر قالَها في خطابِه ليدلِّلَ على أنّ الدولَ الاستعماريةَ، وعلى رأسِها الولاياتُ المتحدةُ كانت تدعمُ الكيانَ الصهيونيَّ في تلك الحرب. لكننا نُسجِّلُ لمصرَ مبادرتَها في حربِ الاستنزافِ على القناة. وهي حربٌ كانت موجعةً للكيان الصهيوني. كنا نشعرُ بذلك من اختلاطِنا باليهودِ في الضفةِ الغربية. كان جنودُهم مرتعبين من تلك الحرب ويخشَى كلٌّ منهم أن يأتي دورُه ليُرسلَ إلى تلك الجبهة. لكنّ موتَ عبد الناصر وتولِّي الساداتِ خلفاً له كان الهزيمةَ الحقيقيةَ للعرب. وهو ما زاد اقتناعي بأنّ استمراريةَ نهجٍ ما في الحكمِ يقتضي وجودَ حزبٍ وراءه يُدافعُ عنه. وقد حاول عبدُ الناصر ذلك، لكنّ الحزبَ الشعبيَّ لا يُنشأ من أعلى. وهكذا محا الساداتُ إنجازاتِ عبدِ الناصر، وحوّل حربَ تشرينَ إلى حربِ تمريرٍ للصلحِ مع الكيانِ الصهيونيِّ بدل أنْ تكونَ حربَ تحريرٍ لفلسطين. آه كم حقدتُ على السادات، وكم كان قتلُه برداً وسلاماً على نفسي!

بعد تخرجي من المدرسةِ وزواجي، كنتُ أودُّ أنْ أشعرَ بأني منتِجةٌ، فقلتُ لحامد إني أريدُ أنْ أعملَ مُعلِّمةً في “وكالةِ الغوث” حتى أبقَى على اتصالٍ بالعلم، ولم يعترض. كان حامد، رحمه الله سمحَ الأخلاقِ، عمليًّا في حياتِه وتصرفاتِه.

 

 

 

(19)

 

 

في 5 حزيران 1967، بعد سنتين من زواجِنا، نشبتْ الحربُ التي كنا ننتظرُها وعقدنا آمالاً كبيرةً عليها لاستردادِ فلسطين. لكنّ ظنَّنا خابَ حين انهزمت الجيوشُ العربيةُ في المعركةِ، فكان أن احتلّ الجيشُ الصهيونيُّ الضفةَ الغربيةَ ودخلَ مدينةَ نابلس. لكنّ المفارقةَ أن دباباتٍ إسرائيليةً مموَّهةً كانت ترفعُ العلمَ الجزائريَّ دخلتْ نابلس من وادي البادان إلى الشرقِ من المدينة، فانخدعَ الناسُ بها واستقبلوها بالتصفيقِ إذ ظنُّوها دباباتٍ جزائريةً حقيقيةً. حين أتذكّرُ الحادثةَ اليومَ أضحكُ من غبائنا، فما الذي جاء بالدباباتِ الجزائريةِ من أقصَى المغربِ العربيِّ إلى الأردنّ، ونحن حقيقةً لم نسمعْ بذلك قبل الحرب. لكنَّ العومَ على شبرِ ماءٍ صفةُ دهماءِ العامّةِ في كلِّ زمانٍ ومكان، خاصّةً أننا كنا واثقين من النصر.

على أيِّ حالٍ، سرعانَ ما اكتشفَ الناسُ الخديعةَ، وأخذتْ القلةُ ممن تحملُ السلاحَ تُطلقُ النارَ ولو عبثاً على الدباباتِ المموَّهة.

المأساةُ، يا جابر، أنّ الحكومةَ الأردنيةَ، التي كانت ترفضُ تدريبَ الشبابِ تدريباً عسكريًّا استعداداً لمثلِ هذه الحالةِ، أخذت توزِّعُ بنادقَ قديمةً على الشبابِ، فخرجوا يُقاومون جيشَ الاحتلالِ بتلك البنادقِ، فما كان من الجنودِ الصهاينةِ إلا أن تصيّدوهم واحداً واحداً، كطيور الحجل. وفي هذه الفاجعةِ استُشهِد كثيرٌ من الشبابِ الأغرارِ، وحتى الآن لا يعرفُ أهلُ الشهداءِ أين ووريت جثثُهم. من هؤلاء ضرغام ابنُ عمي المختار، وقد قيل لنا إنّ جثثَ الشبابِ الصغارِ ملقاةٌ في المقبرةِ الشرقية في المدينة. لكنّ أبي وعمي لم يعثرا لضرغام هناك على أثر، رحمه الله وأحسن إليه. لكَ أنْ تتخيّلَ، يا جابر، ما حلَّ بنا لفقدانِ ابنِ عمنا بهذه الكيفيةِ العبثية. كان عمي ينتحبُ ويقولُ، “يا ربّ طمئني عنه، إن أخذتَه إلى جانبِك فهذا شأنُك، أمّا أنْ يبقَى مفقوداً لا نعرفُ إن كان حيًّا أو ميتاً، فمصيبةٌ لا نتحمّلُها.” لكننا، بمرورِ الأيامِ وتكاثُرِ المحنِ علينا، تحمّلناها. آه ما أكثرَ ما تحمّلنا من محن، يا ابنَ عمي!

ثم كانت وفاةُ والدي أكبرَ محنةٍ حلّت بنا وبي شخصيًّا.

ذاتَ يومٍ صعد والدي إلى سطحِ إحدى العماراتِ التي يعمل فيها لحسابِ العمِّ أبي حامد، فزلّت رجلُه من على جسرٍ خشبيٍّ ووقعَ من أعلى العمارة، وانكسر عمودُه الفقري، ولم يلبثْ أن فارقَ الحياة. صُعقنا لفراقِه، وصُعقتُ أنا بشكلٍ خاصٍّ، فقد كنا منسجمَيْن في نقاشاتِنا السياسيّة.

لم يكنْ أبي حزبيًّا مثلي، أو على الأقلِّ، لم يقلْ لي إنه كان عضواً في حزبٍ في فلسطين، لكنّني أعلمُ أنه اشتركَ في ثورةِ الـ36، وكان مُعجَباً بثورةَ الشيخِ عزِّ الدين القسام، لأنها، كما وصفها، كانت ثورةً شعبيةً حقيقيةً، على خلافِ كثيرٍ من ثوراتِ الزعماءِ الإقطاعيين في فلسطين، التي كانت الوجاهةُ والتنافسُ العشائريُّ ينخران عظمَها. لكنّ الإنكليزَ أخمدوا ثورتَه في مهدِها. وكان والدي يقولُ، وقد قرّح كبدَه القهرُ، ليت الشيخَ عزَّ الدين القسام لم يُكتَشفْ أمرُه باكراً، إذن لاستطاعَ أن يُنظِّمَ صفوفَ رجالِه فتقوَى شوكتُهم أكثر. لكنّ حظَّنا السيِّئَ أنّ الإنكليزَ اكتشفوا أمرَه مبكِّراً وحاصروه في أحراشِ يعبد، وقتلوه هو وثلةٌ من رجالِه. قتل الله الإنكليزَ كم أجرموا في حقِّنا.

انقطعَ عنا دخلُ والدي بعد مصرعِه. صحيحٌ أن العمَّ أبا حامدٍ دفع لنا تعويضاً كريماً لمقتلِ والدي في أثناءِ عملِه. لكنّ الحقيقةَ أنّ دخلَه الثابتَ انقطع. لذلك أصبح راتبي من مهنتي كمعلمّةٍ في “الوكالةِ” أساسيّاً لأهلي.

بُعيد الاحتلال، أخذ كثيرٌ من الناس يفرّون من البلدِ إلى الضفةِ الشرقية. فكان هذا تحديًّا حقيقيًّا لكلِّ العاقلين في المدينة. كنتُ وحامد من أكثرِ المتطوعين حماسةً لمساعدةِ الناس في محنتِهم، وقد طلبنا من مديرِ وكالةِ الغوثِ أن يساعدَنا في أخذِ ما لدى الوكالةِ من مؤنٍ لتوزيعِها على الأسرِ المحتاجة، وقد تحمّس المديرُ ووضع مخازنَ الوكالةِ كلَّها تحت تصرفِنا. وأخذنا نوزّعُ هذه المؤنَ على الفقراءِ من أهلِ المدينةِ والمخيمات. كذلك كان الشبابُ يقفون عند المخرجِ الشرقيِّ للمدينةِ يحاولون إعادةَ الهاربين إلى ديارِهم، ويقنعونهم بالحسنى بأنْ لا داعيَ لخوفِهم، وبأنّ إخلاءَ البلدِ من أهلِه هو ما يتمناه العدوُّ الصهيوني. والحقيقةُ أنّ جيشَ الاحتلالِ حاول ذلك فعلا، حين أجبر بعضَ سكانِ طولكرم وقلقيلية على الخروجِ مشيًا على الأقدامِ إلى الضفةِ الشرقية. لكنّ الحكومةَ الأردنية استطاعت إيقافَ هذا العبثِ الصهيونيِّ، وعلمنا من بعضِ معارفنا في طولكرم أنهم أُعيدوا من الضفةِ الشرقية. فالحقيقةُ أنّ اليهودَ وجدوها فرصةً لإفراغِ بقيةِ فلسطينَ من أهلِها، لكنّ ظنَّهم خاب.

كما قلتُ، كنتُ أنا وحامد ضمنَ مجموعةٍ من رجالِ البلدِ ونسائه أخذنا على عاتقِنا القيامَ بواجبِنا لمنعِ هجرةِ الناسِ وتأمينِ تموينِ الفقراءِ منهم. وقد افلحنا في ذلك بشكلٍ باهر، خاصةً أن هذه المجموعةَ كانت تضمُّ رجالاً ونساءً من كلِّ طبقاتِ المجتمع، والمحرِّكون الأساسيون كانوا المثقفين والمهنيين خاصة، من مهندسين وصيادلةٍ وأطباء. وكانت إحدى الصيدليات مركزاً لتجمّعِ هذه المجموعةِ التي أخذتْ على عاتقِها إدارةَ شؤون البلد.

لكننا أخيراً دفعنا ثمناً لنشاطِ حامد. ذاتَ ليلةٍ اقتحم جنودُ الاحتلالِ منزلَنا واعتقلوا حامد. لك أنْ تتخيّلَ منظرَ ابنتِنا عبير، التي كان عمرُها اقلَّ من سنتين، حين قفزت إلى صدرِ والدِها وهي تصرخُ مذعورةً، والجنودُ يحاولون انتزاعَها من بين يديه. وفي الأيامِ التاليةِ كانت حالتُها النفسيةُ متوتّرةًً، وكلَّ ساعةٍ تصرخُ باكيةً بوجهِ كلِّ من يُكلُّمها: “اليهودُ أخذوا بابا. … بدِّي بابا … بدِّي بابا!” كان منظرُها يُقطِّعُ القلبَ وأنا لا أملكُ إلا أنْ أعدَها بأنه سيعودُ قريبا.

بعد أسبوعٍ من اعتقالِ حامد علمنا أنّه في السجنِ العسكريِّ في صرفند. وإذ لم يُسمَح لنا بزيارته في المعتقل، لم يكنْ أمامَنا إلا أن نكلِّف أحدَ المحامين، على غيرِ رغبةٍ من العمِّ أبي حامد، لأن المحامين في الضفة الغربيةِ أضربوا عن العملِ ورفضوا المرافعةَ أمامَ المحاكمِ الإسرائيلية. لكنْ، كان بمقدورنا اللجوءُ إلى محامٍ في نابلس لم يشتركْ في الإضراب، وهو ما رفضه العمُّ أبو حامد في البداية، لأنه كان يرى خيانةً في عدم التضامنِ مع المحامين المضربين. غيرَ أنه اضطُرَّ إلى ذلك تحت ضغطِ زوجتِه وإخوتِه، وخوفاً على ولدِه حامد. كذلك استعان برئيسِ البلديةِ ليستفسرَ من الحاكمِ العسكريِّ عن وضع حامد. كان جوابُ الحاكمِ العسكريِّ دائماً بأن حامد رجلٌ خطيرٌ ولا بدّ للتحقيقِ من أنْ يأخذَ مجراه. ولكَ أن تتخيّلَ حالَنا إزاءَ هذا الجواب. كنتُ مطمئنةً قليلا لأنّ حامد لم يخبرني عن أيِّ نشاطٍ له، سوى اشتراكِه في أولِ الاحتلالِ – واشتراكي معه، كما قلتُ – في حملةِ رعايةِ الأسرِ الفقيرة، ومنعِ المواطنين من النزوحِ إلى الضفةِ الشرقية. وهذا النشاطُ خفّ كثيرا بعد سنتين من الاحتلال. لكننا أخيراً علمنا أنّ سلطةَ الاحتلال أبعدت حامد إلى الضفةِ الشرقية.

بعد أيامٍ من ذلك، جاءتنا رسالةٌ منه يُخبرُنا فيها بإبعادِه ويقولُ لنا إن نقابةَ المهندسين في عمّان استقبلته هو والمبعدين الآخرين، وإنّ الحكومةَ الأردنيةَ عرضت عليه عملاً في وزارةِ الأشغال. فقرّر العمُّ أبو حامد أن يذهبَ إلى عمّان لرؤيتِه، وأخذَنا معه أنا وامرأةَ عمي أمّ حامد، ومعنا عبير، طبعا.

كان حامد في استقبالِنا عند نقطةِ الجسر، بين جموعٍ من الناس، ولم نتبيّنْ وجودَه إلا حين لمحتْه عبير، التي كنتُ أحملُها على صدري. حين لمحَتْة عبيرُ، صاحتْ بأعلى صوتِها: “بابا … بابا …!” وقفزتْ من بين يديّ وأسرعتْ إليه. نعم يا جابر، عبيرُ التي دلّتنا على والدِها عند الجسر هي التي دلّتنا اليوم عليك! كنتُ دائماً أرى البشارةَ تُبرقُ في عينيها الجميلتين.

كانت آثارُ التعذيبِ لا تزالُ واضحةً على وجهِ حامد وعينيه، وفي المساءِ أراني انسلاخاً كان لا يزالُ ظاهراً في جلدِ إلْيَتِه من أثر التعذيب. وقد قال لي ما لم أكنْ أعرفُه عنه. قال: إن التهمةَ التي كانت موجَّهةً له صحيحة، لكنّه لم يعترفْ بها، وهو ما جعلهم يقرِّرون إبعادَه بدلَ عرضِه للمحاكمةِ من غير بيِّنات، والمحاكمةُ تعني أسرَه مدى الحياة، إذا ثبتت عليه تلك التهمة. كان حقيقةً قد هرّبَ في سيارتِه الفتاةَ التي قامت بعمليةِ تفجيرٍ في تل أبيب قبل سنةٍ تقريبا، وكان هذا سببَ اعتقالِه، بعد أن وشَى به، حين انهارَ في التحقيقِ، الرجلُ الذي أوصل الفتاةَ من تل أبيب إلى طولكرم، حيث استلمها حامد منه. قال إنهم أخذوه في البدايةِ إلى سجنِ نابلس، حيث حققوا معه موجِّهين له تهمةَ تهريبِ تلك الفتاة. كان جوابُه الإنكارَ، إلى أن قال له المحققُ، “ما دمتَ لا تريدُ أن تعترفَ لنا، فليس أمامي إلا أن أحوِّلَك إلى السجنِ العسكري، فالمحققون هناك أقدرُ منا على إقناعِكَ بالاعتراف.” قال لي حامد، إنه لم يكنْ يعرفُ ما هو السجنُ العسكري. لكنْ، بينما كان مستلقيا في السجنِ بعد التحقيق، سأله عن أمرِه سجينٌ آخرُ لا يعرفُه كان مستلقياً إلى جانبِه ويبدو أن لديه خبرةً أكثرَ منه في الاعتقال. وحين أخبره حامد بأنه سيُحوَّلُ إلى السجنِ العسكريِّ، ضربَ ذلك الرجلُ على رأسِه وقال: هذه مصيبة، سيرسلونك إلى سجنِ صرفند العسكري. ثم أخذه إلى زاويةٍ وهمس في أذنِه: “اسمعْ، لا أريدُ أن أُخيفَك، لكنْ، يجبُ أن تعلمَ هذا. حين يأخذونك في السيارةِ العسكريةِ، تكوّرْ على نفسِك، واجعلْ يديكَ حول خصيتيكَ، لأنّهم سوف يعصبون عينيك، وطوالَ الطريقِ سيوجِّهُ لك الجنودُ ما شاؤوا من لكماتٍ وركلاتٍ خاصةً على خصيتيك. أما في التحقيقِ، إذا كان عندك شيءٌ حقيقيٌّ، فإيّاكَ، إيّاكَ أن تعترفَ به مهما عذّبوك. ما دمتَ ترفضُ الاعترافَ فلن يكونَ لديهم مستمسكٌ عليك، وإلا، فستجدُ نفسَكَ أمام مسبحةٍ انفرط عقدُها. وحين تفرطُ منها أوّلُ حبةٍ تتبعها بقيةُ الحبات. لذلك من الأسلمِ لك أن تتمسّكَ بعدمِ الاعتراف، لأن الاعترافَ هو المستمسكُ القويُّ لديهم والورطةُ الكبرى لك. ثم انتبهْ، سوف يُلقون بك في زنزانةٍ حقيرةٍ مُضاءةٍ أربعاً وعشرين ساعة، لا تعرفُ فيها الليلَ من النهار، وسوف تسمعُ فيها أصواتَ شبابٍ يصرخون من شدة التعذيب. لا تخفْ. هذا محضُ تسجيلٍ، وليست أصواتاً حقيقية. تذكّرْ، إنها أصواتٌ مُرعِبةٌ، وعليكَ ألا ترتعب. هذه لعبةٌ قديمةٌ معروفةٌ يستخدمونها ليفتُّوا من عزيمةِ المعتقلين. المهمُّ أن تضبطَ أعصابَك، إنها لعبةُ أعصابٍ وتحمُّلٍ جسديٍّ، والأهمُّ ألا تعترفَ بشيءٍ مهما حدث، حتى لو جلبوا لك من اعترف عليك. الاعترافُ ورطةٌ، كما قلتُ. ولا تنسَ أبدا: حين تفرطُ أولُ حبةٍ في المسبحةِ تفرطُ المسبحةُ كلُّها، ولا شيء يُعيدُها إلى حالِها الأولى. وأوجاعُ التعذيبِ أهونُ عليكَ من أوجاعِ السجنِ المؤبّد.”

قال لي حامد إنّ نصيحةَ رفيقِه في السجنِ كانت مُهمَّةً جداً لمصيرِه. فهذا ما حدث في السيارةِ فعلا. كان الجنودُ يتلذَّذون بركلِه في أيِّ مكانٍ من جسمِه حتى أوصلوه إلى صرفند. وفي ذلك المعتقلِ كانت له جولةٌ قاسيةٌ مع المحققين الذين استخدموا كلَّ أساليبِ التعذيبِ ليعترفَ لهم بالتهمة. كانوا كلّ يومٍ يضربونه بالعصيِّ على قدميه، حتى تورّمتا ونزّ الدمُ منهما. وكانوا “يشبحونه”، أي يُعلقونه من يديه أو رجليه يوما كاملا، ثم يجلبُه المحقِّقُ إلى مكتبِه، وبهدوءٍ بالغٍ يطالبُه بالاعترافِ حفاظاً على نفسِه ومستقبلِه كمهندسٍ في مقتبلِ العمر، وهو يُصرُّ على أنه أخبرهم بكلِّ ما عنده، متذكِّرا نصيحةَ رفيقِه في السجن، متمسِّكاً بها. أخيراً جلبوا له الرجلَ الذي اعترفَ بأنه سلّمه في طولكرم الفتاةَ التي قامت بالتفجيرِ وهرّبَها حامد بسيارتِه من طولكرم إلى البلدةِ القديمةِ في نابلس حيث اختفت عن الأنظار. لكنّ حامد رفض الاعترافَ وكذّب الرجل، بل بصقَ في وجهِه، وقال له: “من أين أعرفُكَ وتعرفُني؟” والحقيقة أنه لم يكن يعرفُه، ولم يكنْ بينهما سوى كلمةِ السرِّ التي نطقَها الرجلُ وردَّ عليه حامد بكلمةِ سرٍّ جوابية، وبناءً على ذلك استلمَ منه الفتاةَ الفدائية. وبقيَ حامد مستمسكاً بالإنكارِ أمام ذلك الرجلِ والمحققين. وحين يئسوا منه ولم يكن لديهم ما يقدِّمونه للمحكمةِ قرّروا الخلاصَ منه بإبعادِه إلى الضفةِ الشرقية.

نحن لا نعرفُ طبعاً تأثيرَ المحامي، رغمَ أتعابِه العاليةِ التي أخذها من العمِّ أبي حامد، ولا نعرفُ تأثيرَ وساطةِ رئيسِ البلديةِ مع الحاكمِ العسكريّ. لكنّ المعروفَ أن الوساطاتِ وتدخُّلَ المحامين لا قيمة لها عند اليهودِ خاصّةً في القضايا الخطيرة. غيرَ أنّ الإبعادَ كان أهونَ الشرّين علينا، لأنه لو اعترفَ حامد بأنه هو الذي هرّب تلك الشابّةَ، لكان عليه أن يغوصَ في مستنقع قاتل: أنْ يدلَّهم عليها، وأنْ يعترفَ لهم إلى أين أخذها، ولمن سلّمها، ومن خطّط للعملية، إلى آخرِ حبةٍ من حباتِ المسبحةِ المفروطةِ، كما نصحه رفيقُه في السجنِ. لكنه تحمّلَ التعذيبَ وصمد، إخلاصاً للشابّةِ الفدائيةِ، وللتنظيم، وللوطنِ، ولنا نحن أسرتَه. رحمه الله وأحسن إليه.

 

(عندئذٍ بكت زينبُ بحرقةٍ حتى كاد صوتُ بكائها يعلو لولا أنها كتمته بيدِها حتى كادت حنجرتُها تتفصّد. ثم، إذا هدأت قليلا، استأنفت مناجاتَها لابنِ عمِّها المُتخيَّل. قالت):

كان لا بدّ لي من أن أنضمَّ إلى حامد في عمان، ما دام ممنوعاً من العودة إلى نابلس. وهكذا كان. بعد أسبوعٍ قضيناه في عمان، عدنا كلُّنا إلى نابلس، حيث جمعتُ ما يلزمُني وما يلزمُ حامد وعبير من ملابس، وقدّمتُ استقالتي من الوكالة، وودّعتُ أمي وإخوتي وأقاربَنا جميعا، وذهبتُ إلى عمان.

لا شكَّ في أنّ لمّ شملِنا ثانيةً كان مُفرحا لي ولحامد ولعبير، لكنّ فكرةَ الهجرةِ من الوطن كانت قاسيةً عليّ، خاصةً أنني لم أكنْ أعرفُ أحداً في عمّان. وكلُّ هذا يهونُ أمام ما كان ينتظرُني من شقاءٍ لا ينتهي.

 

 

 

(20)

 

 

كان عملُ حامد في وزارةِ الأشغال معقولاً، ثم فكّر هو ووالدُه في إنشاءِ شركةِ مقاولاتٍ تشبهُ عملَهما في نابلس، خاصةً أن الطلبَ على المساكنِ تزايد بعد احتلالِ الضفةِ الغربيةِ وتزاحمِ الناسِ في الضفةِ الشرقية. وهكذا كان. حين بدأت الشركةُ تغطي مصروفَها، استقال حامد من عملِه في الأشغالِ ليتفرغَ للعملِ فيها. كان مشروعُ المقاولاتِ مناسبةً لي أيضاً للعملِ في الشركةٍ مديرةً إداريةً لها. وفي هذه الأثناءِ تعلمتُ من حامد بعضَ الخبايا الفنيةِ لمثلِ هذا العمل، وأخذتُ أقرأُ بعضَ الكتبِ في الإدارةِ لأنني كنتُ أومن بأنّ كلّ شيءٍ علمٌ، ومن ذلك الإدارةُ، التي لا شكَّ ليست محضَ جلوسٍ خلفَ مكتب. اشتريتُ كلَّ ما وقع بين يديِّ من كتبِ منهجِ الإدارةِ في الجامعة وقرأتُها كلَّها. وأظنني، بمساعدةِ حامد، أتقنتُ حسابَ المقادير، الذي هو مهمٌّ جدا في المقاولات.

تعلمُ أنه بعد هزيمةِ حزيران، أخذت الضفةُ الشرقيةُ تمتلئُ بالفدائيين والفصائلِ الفلسطينيةِ المقاتلة، وقد تجمَّع أكثرُهم في الأغوار. وحين أُبعدَ حامد إلى الضفةِ الشرقيةِ، وتبعتُه لاحقاً، استأجرنا شقةً سكنيةً في جبلِ الحسينِ في عمّان. وكان المتوقَّعُ أن نتّصلِ ببعضِ هذه الفصائلِ التي تتناسبُ وتوجُّهَنا السياسيّ. لكني لم أُقمْ علاقةً قويةً مع أيٍّ منها هناك، لأنني كنتُ لا أزالُ غريبةً في عمّان، التي لم أحبَّها كثيراً لاختلافِ طبيعتِها عن نابلس، تلك المدينةِ الصغيرةِ المتجانسة. كذلك لم أرتحْ لوجودِ فصيلين بعثيين أحدُهما تابعٌ لحزبِ البعثِ العراقيِّ، تحت اسمِ جبهةِ التحريرِ العربيةِ، والثاني تابعٌ لحزبِ البعثِ السوريَِّ، تحت اسمِ “الصاعقة”. أما حامد، باعتبارِه شيوعيَّ الهوى، فكان أكثر ميلاً للجبهةِ الشعبيةِ لتحريرِ فلسطين، ذاتِ التوجّهِ القوميِّ اليساريِّ، لكنه لم يكنْ عضواً عاملاً فيها. وحين انشقّت عنها ما سُمِّيت الجبهةَ الديمقراطيةَ لتحريرِ فلسطين، تناقشنا في حيثياتِ هذا الانشقاقِ ووصلنا كلانا إلى قناعةٍ بأنه انشقاقٌ انتهازيٌّ لم تكنْ أيدي قيادةِ “فتح” بعيدةً عنه. ولم نكنْ، لا حامد ولا أنا، مرتاحَينِ لطريقةِ عملِ “فتح”، الذي اتسمَ بالفوضويةِ والإقليميةِ، خاصةً حين اتخذتْ شعارَ “يا وحدَنا”. وقد رشَحت لنا رغبةٌ مُبكِّرةٌ لبعضِ قادتِها الأعلَين في التخلي عن الكفاحِ المُسلِّح والتفاوضِ مع العدوِّ الصهيونيّ على حلٍّ للقضيةِ الفلسطينية. كذلك لم نكنْ مرتاحَينِ لمصدرِ تمويلِ “فتح”، الذي عددناه تمويلاً مشبوهاً لارتباطِ الدولِ العربيةِ الممولةِ لها ارتباطاً وثيقاً بالولاياتِ المتحدةِ الأمريكية، وهذه لن تسمحَ بتمويلِ فصيلٍ فلسطينيٍّ جادٍّ في محاربةِ الكيانِ الصهيونيّ. والغريبُ أن الحزبَ الشيوعيَّ الذي أسَّس فصيلا مقاتلا تحت اسمِ “قواتِ الأنصار”، انضمّ إلى فتح لاحقا، وهو ما لم يُعجبْ حامد، ولم يُعجبني طبعا. لكنني أُقدِّرُ، رغمَ كلِّ ذلك، أن كثيراً من الشبابِ المتحمّسين تدفقوا على فتح، بعد معركةِ الكرامةِ سنة 1968، نتيجةَ براعةِ قيادتِها في أن تنسبَ الانتصارَ في الكرامةِ إلى نفسِها، وهؤلاء الشبابُ مخلصون قطعا، وقد استُشهدَ الكثيرُ منهم. لكنّ الحديثَ في هذا يطول.

أما ما سُمِّي “أيلولَ الأسود”، فكان وبالاً حقيقيًّا علينا، خاصةً على القضيةِ الفلسطينيّةِ، إذ كنا نطمحُ، بعد هزيمةِ حزيرانَ أنْ تكونَ الضفةُ الشرقيةُ نقطةَ انطلاقٍ لحربٍ شعبيةٍ تُحرِّرُ كاملَ الترابِ الفلسطينيِّ. كنا نريدُها “هانوي” فلسطين. لكنّ النظامَ الحاكمَ، لأسبابٍ مفهومةٍ، لم يكنْ ليُسلِّمَ الحكمَ للفدائيين، ولم تكنْ الولاياتُ المتحدةُ ولا الكيانُ الصهيونيُّ ليسمحا له بذلك. لهذا نشبت حربٌ ضروسٌ بين الفدائيين والجيشِ الأردنيِّ انتهت بإخراجِ الفدائيين من الضفةِ الشرقيةِ بعد خسائرَ كبيرةٍ في الأرواح. وقد سقطت قذيفةُ مدفعيةٍ بالقربِ من العمارةِ التي كنا نسكنُها في جبل الحسين، أصابت إحدى شظاياها حامد إصابةً بسيطةً في ذراعِه، فاضطررتُ إلى الاستعانةِ بالجيران لمساعدتي في إيقافِ النزفِ، إذ لم يكن ممكناً أخذُه إلى المستشفى بسببِ منعِ التجول. لكنّ المصيبةَ الكبرى التي تستحقُّ أن تكونَ سببَ تسميةِ ذلك الشهرِ الكريهِ بأيلولَ الأسودِ كانت وفاةَ جمال عبد الناصر. فاكتأبتُ بالرغمِ من ظني أن المتنبي كان يصفني بقولِه: “فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ :: تكسّرت النصالُ على النصالِ!”

بعد ذلك أصبحتْ حياتُنا رتيبةً، كنتُ خلالَها ألدُ الأولادَ وأربّيهم، وحامد كان يُغرقُ نفسَه في عملِه، وفي مساءِ كلِّ يومٍ نُفرِّجُ عن كربِنا بالحوارات إما فيما بيننا أو مع أصدقائنا.

لكنّ رتابةَ الحياةِ لم تكنْ لتسرّ امرأةً مثلي امتزجت روحُها بالهمِّ السياسيِّ وبالعملِ الحزبيِّ حين كانت في فجرِ حياتِها، كما لم تكنْ لتسرَّ رجلاً مثلَ حامد، كان نشيطاً في الحزبِ الشيوعيِّ في نابلس، ورغمَ ذلك لم تُتِحْ لنا ظروفُ حياتِنا أنْ نُقدِّمَ شيئاً لوطنِنا يُشعرُنا بأنّ هذه الرتابةَ جاءتَ بعد أداءِ واجبِنا، فنُعزِّي نفسَنا بأننا قدّمنا ولو بعضَ الواجب. لكننا كنا ضمنَ قطيعٍ من البشر يصحو في الصباحِ ليأكلَ ويشربَ، ثم ليأويَ إلى فراشِه إذا جَنَّ الليل. لم يُغادرْني في هذه الأثناءِ الشعورُ بالذنبِ لرتابةِ حياتِنا هذه. كان حامد مثلي، وكنا نجدُ في حديثِنا متنفَّساً للتعبيرِ عن شعورِنا هذا، حتى كانت الطامةُ الكبرى على المستوى الأُسري.

قبل زهاءِ خمسِ سنواتٍ، بدأتْ صحةُ حامد تتراجعُ، ولم نتركْ طبيباً إلا استشرناه، حتى تأكدتْ إصابتُه بالسرطانِ الذي انتشر سريعاً في جسمِه إلى أن بلغ رئتيه وكبدَه، وفي نهايةِ المطافِ، وبعدَ عذابٍ لا يعلمُ به إلا الله، أسلمَ روحَه لبارئها. لا داعيَ لأُخبرَكَ بما أصبحَت عليه حالُنا. لكني آليتُ على نفسي أنْ أعتني بأولادِنا عبير ومعين ونضال الذين كبروا وأصبحوا عوناً لي. قبل ثلاثِ سنواتٍ، تزوجتْ عبير، ثمّ تزوج معين، الولدُ الأكبرُ، وبقي نضال الصغير يماطلُ في الزواجِ لأنه لا يريدُ أن يتزوّجَ زواجاً تقليديا. وحين تخرّجَ من الجامعةِ، آثر أن يعودَ إلى نابلس، فارتحل عنا ليُقيمَ هناك في بيتِ جدِّه.

والآن، يا جابر، ها نحن كلانا في الكويت، ولا أكادُ أصدِّقُ عبيرَ أنها رأتكَ وأنكَ ستزورُنا هذا المساء، وسأراكَ لحماً ودماً بعد هذا الدهرِ الطويلِ من الفراق. كيف كانت حياتُك في الغربةِ؟ هل عانيتَ مثلي؟ هل تزوجتَ وأنجبت أولاداً وأحفاداً؟ كيف هي زوجتُكَ وكيف هم أولادُك؟ هل هم معك في الكويت؟ هل سيأتون معكَ لنتعرّفَ عليهم؟ هل سيعودُون إلى الديرةِ ليمرحوا ويسرحوا في بساتينِها، يُعيدون سيرة طفولتِنا فيها؟ لكنْ، لا بدّ أنهم الآن شبابٌ، وسيعودون إلى وطنِهم فاتحين مُحرِّرين. هل اقتنصَ الدهرُ براءتَك كما اقتنص براءتي وحرمَني من السعادة؟ آه يا جابر، كم كنتُ أحبُّكَ! لكنّ القدَرَ واليهودَ تآمرا علينا بما لا نستحقّ.

 

 

 

 

(21)

 

 

بين صاحٍ وغافٍ، كانَ “جابرٌ” مستلقياً على أريكةٍ في منزلِهِ، سارحاً في أحلامِ يقظتِهِ ومنامِه، يُناجي نفسه بروايةِ قصَّةِ حياتِهِ لزينبَ قبلَ أنْ يراها. وكانتْ تغمرُهُ سعادةٌ لم يعرفْها منذ رماهُ البحرُ وأهلَهُ في مخيّمِ عينِ الحلوة. فإذا أيقظه جرسُ الهاتفِ من أحلامِ يقظتِه، قفزَ من على الأريكةِ، واثقاً من أن زينبَ لا بدَّ على الطرف الآخر من الخط.

  • دكتور جابر؟
  • نعم، أهلا وسهلا!
  • مرحبا، عمّو، أنا عبير بنت زينب.
  • أهلاً وسهلاً، أهلاً برائحةِ الأحبّة! كيف أنتِ وكيف الوالدة؟
  • الحمدُ لله، هاهي الوالدةُ إلى جانبي، خذ، كلِّمْها.

بقيَ جابر وهلةً ينتظرُ صوتَ زينبَ، بينما كانَ يسمعُ صوتَ جَدَلٍ غيرَ مفهوم، لكنّ عبيرَ عادت لتكلّمَهُ وهي تضحك:

  • عمّو، ماما مرتبكة، خجلانة من الكلام، ما رأيُك في أنْ تشرِّفَنا أنتَ في البيت؟
  • بل أتشرَّفُ، أتشرَّفُ، ما عنوانُ بيتِكم؟
  • خذْ كلّمْ زوجي، أظنُّه أحسنَ مني في الوصف.

ثم جاء دور “سامر”، زوجِ “عبير”، الذي بادر “جابرا” بالقول:

  • مرحبا، دكتور جابر. أخبرتني عبيرُ بلقائك هذا الصباحَ، ونحن في هرجٍ ومرجٍ لهذا الخبر.
  • كانتْ صدفةً إلهية، بارك الله فيكم.
  • أنا حقيقةً أسمعُ عنكَ كلَّ الخيرِ من صديقي رائد المحمود، الذي يعملُ تحتَ إدارتِكَ في قسمِ الجراحة. لكنْ لم يخطرْ ببالي أن تكونَ نسيبنا.
  • آه، رائد صديقٌ عزيزٌ وجراحٌ نجيب. شوَّقتَني إلى معرفتِك، خاصَّةً أننا أقاربُ ولم نتعارفْ بعد.
  • ما رأيُكَ في أنْ آتي إليكَ لآخذَكَ بسيارتي؟
  • شكراً، أخي الحبيب، شكرا جزيلاً. إذا وصفتَ لي العنوانَ، أستطيعُ الحضورَ بسيارتي.

 

وهكذا استقلَّ جابر سيارتَه متوجهاً إلى العنوانِ الذي وصفه له سامر، زوجُ عبير. لكنه توقف قليلا أمام محل حلوياتٍ اشترى منه بعض الحلوى هديةً لمن سيزورُهم، ثم توقف أمام محلٍّ لبيع الزهورِ، من حيث اشترى باقةَ زهورٍ أيضاً. حين وصل جابر إلى العنوانِ، كانَ “سامر” ينتظرُ ضيفَه عند بابِ العمارةِ، فلما وصلَ استقبله بحفاوةٍ مُعرِّفا إياه على نفسِهِ، فتعانق الرجلان بحميميةٍ كبيرة. ثم صعدَ وإياه إلى الشقةِ حيثُ يُقيمُ. ولم يكدْ يقرعُ البابَ حتى انفتحَ على مصراعيهِ، إذ كانَ كلُّ من في البيتِ ينتظرُ تلكَ الزيارة. تقدَّمتْ زينبُ فَرِحةً لتُسلِّمَ على ابنِ عمِّها، لكنها لم تستطعْ السيطرةَ على نفسِها، فبكتْ بحرقةٍ أبكتْ أهلَ البيت جميعا، وأولُّهم صاحبُنا جابر. لكنَّ سامر استطاعَ أخيراً إعادةَ الجوِّ إلى طبيعتِه، فجلسَ الجميعُ معا وتجاذبوا حديثاً لم ينقطعْ حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، تناولوا في أثناءِ ذلك عشاءً خفيفاً حضّرته عبير وحظيت لذلك بثناءِ جابر الذي تناول الطعامَ مُثنياً على يدَيْ عبير وإتقانِها ذلك الطعامَ الشهيّ.

 

بعد أنْ أمضى جابرٌ وقتاً طويلا ساهراً مع أحبائه، كان لا بدَّ له من أن يستأذنَ في العودةِ إلى منزلِه. في طريقِ العودةِ، سرَحَ كعادتِه في أحلام يقظته: “الله، ما أجملَكِ، يا زينب، ما زالتْ براءةُ الطفولةِ تتدفّقُ من عينيك. أنتِ زينبُ التي أعرفُها، لم يُغَيِّرْكِ الزمن. لا يزالُ بريقُ عينيكِ يشي بطيبةِ روحِك السمحةِ، كأنك حسونةٌ من حساسين الديرة، أو أقحوانةٌ نبتت عند حافّةِ العينِ، من حيث كانت نساءُ قريتِنا يملأن جرارَهنَّ قبل أن يتماوجْنَ دلالاً، صاعداتٍ إلى بيوتِهنّ، وقد تسربلنَ بأثوابِهنّ المطرزةِ بألوانِ الطيفِ العربيِّ، وعلى شفاهِهنّ تستوطنُ المَيِجَنا والعَتابا. كبرتِ قليلا، لكنّنا كلَّنا كبرنا. وما الكبرُ حقيقة؟ أعوامٌ نعدُّها عدًّا، أم زمنٌ نُراكمُ أيامَه على أديمِ وجوهِنا فلا ينفذُ إلى أرواحِنا الفتية؟ وما قيمةُ كلِّ ذلك، ما دامَ القلبُ طفلاً صغيراً يضحكُ ببراءةٍ لكلِّ ما يُضحكُ، ويبكي لكلِّ ما يُبكي؟”

ثمّ فجأةً قفزتْ إلى بالِهِ فكرةٌ مغامِرة، فساءل نفسَه: “أنفترقُ بعد هذا اللقاء؟ لا والله. ما الذي يمنعُنا من الزواج؟ كبرنا؟ وما المشكلة؟ أولادُ زينبَ كبار، وكلُّهم متزوجون، وهي تعيشُ وحدَها، فلمَ لا نكونُ معاً مرةً أخرى وإلى آخرِ العمر؟” كادَ جابر يطيرُ فرحاً للفكرة، وودَّ لو يعودُ الساعةَ ليعرضَ على زينبَ ما عنَّ ببالِه. تخمَّرتْ الفكرةُ في رأسِهِ، حتى إذا أصبحَ الصباحُ هاتفَها قائلا إن عليه أنْ يراها فورا، لأن هناك ما يريدُ أن يقولَهُ لها.

 

 

(22)

 

 

في الصباحِ، جلس جابر مع زينبَ وعبير، وكان سامر قد غادر البيتَ إلى عملِه مبكِّرا، وقال لعبير، وقد همّت بتحضير القهوة:

  • “أجِّلي القهوةَ قليلاً، يا عبيرُ، واسمعي ما أريدُ أن أقترحَه على الوالدة.”

ثم قال لزينب:

  • “أنصتي لي يا زينبُ، لأن عندي لك اقتراحاً قد تستغربينه، لكنني جادٌّ فيه. أنت الآن أرملة، أطال الله في عمركِ وأعمارِ أولادِك. ما رأيُكِ لو نتزوج؟”
  • نتزوج؟

قالتها وقد اكتسى وجهُها بدهشةِ الفجاءة. ثم ضحكت ضحكةً خفيفةً وشت بقبولٍ واستغرابٍ معا. ثم قالت:

  • “بهذا العمر؟”
  • “نعم، بهذا العمر. أنا الآن في الخمسين من عمري، وأنت أصغر مني بأربعِ سنوات. صحيحٌ أننا في سنٍّ تجاوزت مرحلةَ الزواجِ قليلا، لكننا لا نزال أقوياءَ، ولن نأمل طبعاً في الإنجابِ، فأولادكِ أولادي، حماهم الله من كل مكروه. ما رأيك؟

 

نظرت إليه عبير وقد فاجأها كلامُ جابر لوالدتِها، لكن وجهَها دلَّ على استحسانٍ للفكرة. أما زينبُ، فلا يزالُ الضحكُ جوابَها، وإن كان عرضُ جابر دغدغ مشاعرَها، فكان ضحكُها أقربَ إلى الدلالِ منه إلى الاستهجان. عندئذٍ عادت عبيرُ تستأذنُ لتحضير القهوة؟ فإذا عادت بالقهوةِ، استعانَ جابر بها لتساعدَه في إقناعِ والدتِها. لكنَّها هي الأخرى عادت للضحكِ، وهي تُنقِّلَ عيناً صوبَ أمِّها، وأخرَى صوبَ جابر. حتى إذا شربَ القهوةَ، قال لهما إنّ عليه أن يُسرِعَ إلى المستشفى، وطلبَ منهما أنْ يُفكِّرا بما عرض، وأن يُشركا فيه “سامرا” أيضا.

لم يخلُ الأمرُ من طرافةٍ. لكنَّ جابراً كان، كعادتِه في كلِّ شيءٍ، يعرضُ أفكارَه بحماسةٍ وتسلسلٍ منطقي، كأنه يقومُ بعمليةٍ جراحيةٍ دقيقةٍ تستحوذُ على انتباهِهِ كلِّهِ، منتقلاً بمبضعِهِ من مكانٍ إلى آخرَ متصلٍ به، ليُزيلَ كلَّ عثرةٍ، ويُعيدَ بعدَ ذلك كلَّ شيءٍ إلى حالتِهِ الطبيعية. لم يكنْ لدى أحدٍ سببٌ كبيرٌ للاعتراض، سوى ضحكِ زينبَ كلّما طُلبَ رأيُها. لا شكَّ في أنه لم يخطرْ ببالِها أن تعودَ إلى الزواجِ في هذا العمر، ولو كانَ من ابنِ عمِّها الذي كانتْ في طفولتِها تعشقُه كم تعشقُ الفراشةُ رحيقَ أزهارِ الربيع. بدتْ عيناها للمتأمِّلِ فيهما كأنما استعادَتا ألَقاً طمستْه السنون. حين عاد سامر من عملِه، قصت عليه زوجتُه عبيرُ ما عرضه العمُّ جابر على أمِّها في الصباح، فكان هو وعبيرُ أوَّلَ من استساغَ الفكرةَ، خاصَّةً أن عبيرَ ستحظَى بسكنَى أمِّها بالقربِ منها، بعد أن كانت لا تراها أكثرَ من مرةٍ في السنة.

وهكذا تكلّم الزوجان وزينبُ في الموضوعِ واعترفت لهما زينبُ بأنها، بعد التفكير، “لا تمانعُ” حقيقةً بالفكرةِ، لكنها تستهجنُها فقط من حيث المبدأ. عندئذٍ تولَّى سامر وعبيرُ إقناعَ زينبَ بأنها فكرةٌ معقولةٌ، فجابر لا يزالُ أعزبَ وهي أرملةٌ وعبيرُ وأخوها الأكبرُ، معين متزوجان وأخوها الأصغر، نضال، أصبح كبيرا، وقد ذهبَ للعيشِ في نابلس، وبزواجِ زينبَ من جابر ستجدُ من يؤنس حياتَها الباقية. وهكذا اتفقَ الجميعُ على أنْ تتولَّى عبيرُ مكالمةَ أخوَيْها. فتحقّقَ لجابر، مبدئيًّا، ما أراد.

 

 

 

(23)

 

 

يبدو أنّ هواجِسَ الخوفِ من المجهولِ لدى جابر كانتْ أقربَ إلى الحقيقةِ منها إلى الخيال. فما إن اتفقَ العاشقانِ العتيقانِ على الزواجِ وباركَه الأهلُ بفرحٍ لافتٍ، ولم يبقَ سوى ترتيبِ أمرِ شكليّاتِه، حتى فوجئوا جميعا بزلزالٍ هزَّ الكويتَ، بل المنطقةَ كلَّها. فلقد صحا الناسُ على الجيشِ العراقيِّ يحتلُّ الكويتَ، ويُحيلُها، بينَ ليلةٍ وضحاها، مدينةً مرتبكةً يتخبُّطُ فيها ساكنوها. فما من أحدٍ منهم كانَ قادراً على فهمِ ما يحدثُ. ساعةً يتساءلُ بعضُهم إن كانَ الأمرُ تسويةَ حساباتٍ سياسيةٍ، وهو لا بدَّ منتهٍ في أيام، وساعةً يُقالُ إنه احتلالٌ باقٍ إلى الأبدِ، وإنَّ البلدَ أصبحَ المحافظةَ التاسعةَ عشرةَ من محافظاتِ العراق. لكنَّ المؤكَّدَ أنَّ الناسَ جميعاً، أو من استطاعَ إلى ذلكَ سبيلا، بدأوا يحملونَ ما استطاعوا من متاعٍ ويبحثونَ لهم عن ملاذٍ في الأرضِ يلوذونَ به حتى يقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولا.

لم يكنْ أمامَ سامر وعبيرَ إلا أن يتوجَّها بسيارتِهما حاملَيْنِ معهما طفليهما وما استطاعا حملَه من متاعِهما إلى الأردنِّ، كما فعلَ أغلبُ الناس. وبطبيعةِ الحالِ، كان مقدَّرا على زينبَ أن تعودَ معهما هي الأخرى إلى الأردن. عندَها أصيبَ جابر بحيرةٍ كبرَى لأنّه يحملُ وثيقةَ سفرٍ فلسطينيةً لا تُخوِّلُه دخولَ الأردن. غيرَ أنه قرَّرَ المغامرة: أن يرافقَ الركبَ بسيارتِه إلى حيثُ يذهبون، وعلى الحدودِ هناك يرى ما يمكنُه فعلُه. وهكذا كان. لكنَّ خوفَه من المجهولِ لم يكنْ في كثيرٍ من الأحيانِ غيرَ مبرَّر. فلقد كانَ ما خشيَ أنْ يكونَ، إذ منعتْه سلطةُ الحدودِ من دخولِ الأردن. إزاءَ ذلك لم يجدْ أمامَه إلا أن يُودِّعَ زينبَ كما لم يُودِّعْها يومَ “الهجيجِ” من الديرة. كان يُحسُّ في قرارةِ نفسِهِ أن الفرحَ الذي حظيَ به في الأيام القليلةِ الماضيةِ هو كلُّ نصيبِه من السعادةِ التي تأبَى إلا أنْ تُجافيَهُ منذ أُلقيَ به وأهلَه في بحر يافا يومَ النكبة. لكنّه، بطريقتِه الواثقةِ دائما، قال للجماعةِ، “لا تخافوا، سأعودُ بسيارتي إلى الكويت؛ لا بدّ أنّ الأمرَ عارضٌ، وسنعودُ لنلتقيَ بعده ونُرتِّبَ كلَّ شيء.” هكذا، كعادتِهِ، وجدَ حلاًّ سريعا لمشكلةٍ عجزتْ حركتُه القوميةُ أيّامَ شبابِهِ عن درئها. فما زالت الحدودُ تُشرذمُ الوطنَ العربيَّ، وتكتسبُ على مرِّ السنينَ قداسةً إلهُها الإمبرياليةُ الغربيةُ وكهنتُها الحُكّامُ العربُ القُطريُّون، ودراويشُها دهماءُ العامّة. لكنْ، هل خَطَرَ ببالِه حين قالَ ما قالَ أنَّ القولَ ذاتَه كانَ يتردَّدُ على ألسنةِ الناسِ حينَ هُجِّروا من فلسطين: “أقفِلوا أبوابَ دورِكم وخذوا معكم مفاتيحَها، فإنْ هي إلا أيامٌ معدوداتٌ ترجعونَ بعدها إلى ديارِكم؟” لكنَّ الأيامَ تراكمَ بعضُها فوق بعضٍ سدًّا عالياً في وجهِ الشمس، ولا يزالُ مفتاحُ دارِهم في الديرةِ معلَّقاً في صدرِ دارِ أخيه الأكبرِ في صيدا، أيقونةً يُقبِّلُها أهلُ البيتِ والأقاربُ والأصحابُ بانتظارِ العودة. تُرَى، أتزولُ المحنةُ حقًّا وتعودُ زينبُ إلى جابر على صهوةِ مهرٍ أبلق؟ أم يُحنَّطُ هذا العشقُ مفتاحاً مصلوباً على حائطٍ تكسوهُ رطوبةُ الدهر؟

 

 

 

(24)

 

 

قاد جابر سيارتَه وحيداً حزينا عبر صحراءِ العربِ التي لا تعدُ عابرَها بغيرِ الوحدةِ والوحشةِ والحنين. فإذا أعادته عجلاتُ سيارتِه إلى الكويتِ وجدها وقد انقلبتْ مدينةً للأشباح ومسرحاً للعسكر. لاحظ أنّ من بقيَ من الكويتيين في ديارِهم يتوجَّسُونَ خيفةً من الجنودِ الآتين عليهم من الشمال، بالرغمِ من أنهم من لحمِهم ودمِهم، لكنّ دهماء العامةِ لا تملكُ من أمر نفسِها شيئاً أمام كهنةِ الأقطارِ العربيةِ الجاثين على صدورِ العامةِ، تقديساً للإله الغربيِّ الإمبرياليِّ. فآثروا البقاءَ في بيوتِهم إلا لضرورةٍ قصوى. ما أقبحَ وجهَ الحربِ، وما أقبحَ جنودَها، حتى لو كانوا من لحمِكَ ودمِك! بلى، يأكلُ الكبارُ الحصرمَ ثمّ يضرسُ به الصغارُ. لاحظَ جابر أنّ جنودَ الشمالِ يُحسنونَ معاملتَه حين يعلمونَ أنه فلسطينيّ، إما من لهجتِهِ أو من وثيقةِ سفرِه. فرِحَ للأمرِ قليلا، وضحكَ إذ تذكَّرَ ذلك الصارخَ في مطارِ البحرينِ: “هذا الفلسطيني التشلب!” لكنَّ لُطفَ الجنودِ لم يُفرحْهُ كثيراً، كما لم تُغضبْهُ تلك الشتيمةُ في المطار. جميلٌ حقا أنْ يتعاطفَ العربُ مع محنةِ إخوانِهم في فلسطين، لكنّ الأجملَ ألا يُخرِجوا البَسوسَ من قبرِها ويجعلوا منها إلهةً يعبدونها من دون الله. بيدَ أنه وجدَ عزاءً في أن يُحمِّلَ نفسَه واجباً يبعثُ في سريرتِه الرضا: ما دامت حركتُه سهلة، وما دامَ الجنودُ يُحسنون معاملتَه، فلْيُكَرِّسْ نفسَهُ لمعالجةِ أولئك الخائفينَ في بيوتِهم ولو في ظلامِ الليل. نعم، حمَّلَ نفسَه هذا الواجبَ، فأشرقتْ عليه سعادةٌ أنستْه قليلاً بعضَ ليلِ البَسوس، وأصبحَ ذا حظوةٍ خاصَّةٍ عند الخائفين الذين لم يكدْ يسألُ عن همِّهم أحدٌ غيرَه. لكنَّ استمتاعَه بهذه الخدمةِ لم يدرأ عنه، كلّما خلا لنفسِهِ، الشعورَ بالمرارةِ للأوضاعِ التي لم يكنْ يرى في قسوتِها مبرِّرا. ألفُ لماذا كانت تعنُّ ببالِه، وليسَ حولَه من يُجيبُهُ عليها. ذاتَ يومٍ كريهٍ من أيّامِ الطفولةِ شرَّقتْ زينبُ مع أهلها إلى حيثُ لا يعلم. ولم يكدْ يسألُ أباه: “لمَ لا نُشرِّقُ مع دار عمي صايل، يابا؟”، حتى دهمَهم اليهودُ بالرشاشاتِ وساقوهم غرباً إلى يافا حيث اختطفهم البحرُ ولفظَهم في صيدا. واليومَ غرَّبتْ زينبُ مع ابنتِها وصهرِها وحفيدَيْها فاختطفته ريحُ الصحراءِ ورمالُها ملوَّعَ القلبِ كما اختطفه البحرُ أوّلَ مرة. تُبًّا لعسَسِ الحدودِ يومَ ردُّوه إلى الفلاةِ، وقذفوه في لجَّةِ الوجدِ والخيبةِ والوحدة الكئيبة. ها قد ذهبَ الغرابُ بزينبَ مَرَّةً أخرى، فمرحبا أيُّها الحزن. عُدْ إلى الوحشةِِ التي رافقتْكَ العمرَ كلَّه، يا جابر، وتجرَّعْ وحدَكَ مرارةَ البَيْنِ والقلقِ والتمزُّق. ها هي ذي خيولُ الفرنجةِ تعودُ إلى أرضِ العربِ لتُخَلِّصَ مهدَ المسيحِ من أهلِه. لكنَّ مسيحَ اليوم تفوحُ منه رائحةُ النفط، ولهذه الرائحةِ قداسةٌ أينَ منها قداسةُ عيسى بنِ مريم. بّيْدَ أنَّ فرنجةَ هذا الزمنِ تقولُ عن نفسِها إنها طيِّبةُ القلبِ، حَسَنَةُ الطويَّة، لم تتجشَّمْ عناءَ حشدِ جيوشِها إلا لـ”تحريرِ” الأمةِ من ذاتِها إشفاقاً عليها. هكذا هي الأمّةُ إذن، في ضعفِها، وغبائها، واستخذائها، وتهوُّرِها، وسوءِ حساباتِها، وفي ما يَكْمُنُ في أحشائها من بُؤَرٍ تُعشِّشُ فيها الجراثيمُ متحفِّزةً للانقضاضِ على جسدِها حين ينتابُه الضعفُ لتفتكَ به. ألم يحملْ مُفتي الشامِ إلى بغدادَ خصلةً من شعرِ النساءِ اللائي استباحتهنَّ خيولُ الفرنجة، ظانّا أنَّها ستثيرُ حميّةَ المعتصم؟ لكنَّ المعتصمَ يومَئذ كان جثةً مدفونةً في الترابِ، لا تسمعُ منادياً ولا تستجيبُ لصارخ. فاستنسرَ بموتِهِ بُغاثُ الفرنجة، وخَلَفُهُ مسترخونَ في أحضانِ القيان، لا يستثيرُهم غازٍ إذا غزا أو منتهكٌ لحرُماتِ قومِهم، ما داموا ينعمون بدفءِ اللهوِ القاتل.

وهكذا استوطنَ قلبَ جابر خليطُ القلقِ والحزنِ واليأسِ والشوقِ المُحرَّم، يغفو عليها ويصحو منها، حتى قامتْ القيامة. ركبتْ الثيرانُ رؤوسَها فانطلقتْ في الساحاتِ تُناطحُ حرابَ الموتِ، حتى انتصرتْ الأمةُ على ذاتِها بسيفٍ صقلتْه لها شياطينُ الفرنجة. فيا أبناءَ عدنانَ وقحطانَ، ارفعوا هاماتِكم فقد فازتْ الأمة، ويا أبناءَ ربيعةَ ومضر، طأطئوا رؤوسَكم فقد انهزمتْ الأمة. ويا أيُّها المُهاجرُ من وطنِكَ إلى وطنِك، لا تُلقِ عصاكَ هنا أو هناك، فالفيافي لا تزالُ شاسعةً أمامَكَ، لم ترتوِ بعدُ من دماءِ قدميك النازفة. مازالت رحلتُكَ طويلةً، طويلة. شرَّقتْ زينبُ أمسِ واليومَ غرَّبتْ، وفي الحالينِ تركتْك تجترُّ الوحشةَ، وليس فيكَ ما يُشرِّقُ معها أو يُغرِّبُ إلا شوقَك المُقعَدَ، وأحلامَ وهمِكَ المجنون وعشقَك المرّ.

 

 

 

 

(25)

 

 

انقطعتْ عن زينبَ أخبارُ جابر، بل اسودَّت بأخبارِهِ وجوهُ الآتين من هناك. كانَ سامر وزوجتُه الأقدرَ على الإصغاءِ للأخبار. جاءهما من قالَ إنهم أخذوه من المستشفى، ولم يُعرَفْ مصيرُه بعد ذلك. ثم قيلَ لهما إن الطبيبَ الفلانيَّ كان معه في الحبسِ، ولا بدَّ أنه يعرفُ مصيرَه. ذهبا إليه، فقالَ لهم:

  • بلى، قد جُنَّ جنونُهم. فقدوا عقلَهم. تحوَّلوا وحوشاً كاسرة. ضربوني بماسورةٍ اقتلعوها من جدارِ السجنِ لأنني حاولتُ أنْ أُعالجَ أحدَ المساجينِ من تهتُّكٍ أحدثَهُ الحبلُ الذي ربطوا به يديه وعلّقوه من السقف. ولم يُنجِّني من مصير الدكتور جابر إلا الألمان.
  • الألمان؟
  • نعم، كنتُ طبيبَ السفارةِ الألمانية، فتوسطتْ السفارةُ لإخراجي، ولولا ذلك لربما كان مصيري مصيرَ جابر. أنا لم ألتق بجابر، لكني سمعتُ أنهم قتلوه.
  • قتلوه؟
  • هذا القولُ على ذمّةِ حارسِ السجنِ الذي سألته عنه حين بلَغَنا خبرُ مقتلِه. قالَ لي بلا مبالاةٍ إنهم ذبحوه. لكني لا أستطيعُ حتى أنْ ألفظَ الكلمة. الأفضلُ أنْ أقول: لا أدري.
  • فمن تظنُّهُ يدري؟
  • لا أدري. لكنْ… لمَ لا تذهبونَ إلى سفارةِ الفرنجة، ربما تساعدُكم في الحصولِ على الخبرِ اليقين. إنهم الأسيادُ هنا وهناك بلا منازع.

 

ذهبَ سامر إلى سفيرِ الفرنجةِ وطلبَ منه المُساعدة. ألمْ أقلْ لكم إنّ فرنجةَ هذا الزمنِ طيِّبةُ القلب، حَسَنَةُ الطويَّة؟ صحيحٌ أنّ في يدِ الواحدِ منهم سكّيناً ينحرُ بها رقابَنا، لكنَّ الدموعَ لا تجفُّ من عينيه. دموعُهم على جراحِنا، وسكّينُهم في رقابِنا، نحن الأمةَ المارقةَ الحائرة. بلى، كلُّنا مارقون ما دام كهنتُنا يُصلّون للتشرذمِ ويحرّمون الوحدة. مارقون منذُ نعومةِ أظفارِنا، هكذا تلدُنا أمُّهاتُنا ولا سبيلَ إلى إصلاحِنا ما دمنا راضين بهؤلاءِ الكهنةِ المارقين. إذن، فلينحرونا بالسكين، ولا بأسَ لو فاضتْ بالدمع عيونُهم. لم تدمعْ عينُ السفيرِ، لكنّه وعدَ بالمساعدة، بعد أن عجز العالمُ كلُّه عن أن يأتيَ بالخبرِ اليقينِ عن مصيرِ جابر.

طالَ الانتظارُ، وزينبُ لم تحزنْ في حياتِها حزنَها على فراقِ جابر هذه المرة، بعد أن أعاد لها الأملَ بالارتباطِ بمن عشقته في طفولتِها، وتحرّك عشقُها حين رأته بعد نيفٍ وأربعين عاما من الفراق المرّ. ليتَه لم يظهرْ بعدَ غيابِه الطويل. لكانت تنتظرُ أن يُحسِنَ الله ختامَها، كما فعلَ بزوجِها، وقد كبر أولادُها جميعا، فلم يبقَ لها إلا نافلةُ العُمر. لكنّ ابنَ عمِّها الغائبَ ظهرَ لها فجأةً فأحيَى فيها الأملَ في الحياة. كان قطرةَ ماءٍ تنتظرُها صحراءُ روحِها، لكنّها انقطعت قبل أن تكونَ غيثاً يُعيدُ خضرةَ الربيعِ إلى نفسِها الظمأى. وكما شرَّقتْ أمسِ وتركته في المجهول، غرَّبتْ اليومَ وتركته في صحراءِ العربِ فأشربتها مرارةً كانت أشدَّ عليها من مرارةِ فراقِه يومَ النكبة. كان أملُها كبيرا في اللقاء ثانيةً بعد انجلاءِ المحنة. غيرَ أنّ صحراءَ العربِ ابتلعتْ حبيبَها، ولم يعدْ لدى العربِ من يقصُّ الأثرَ هذه الأيام، لم يعدْ لديهم شيء.

أخيراً رنّ جرسُ الهاتف، فإذا بسفيرِ الفرنجةِ على الطرفِ الآخرِ يقولُ لسامر، نقلا عن زميلِه في الكويتَ، إنَّ وزيرَ الداخليةِ هناك، وبعد إلحاحٍ من السفارةِ المنتصرة، أكَّدَ لهم أنَّ الدكتور جابر نوّاف المسعودي لم يُقتلْ “عمدا”، لكنه ماتَ في أثناءِ التحقيقِ معه، بقضاءِ اللهِ وقدرِه. أما جثتُه، فلا يعرفون مكانَها بسببِ الفوضَى التي عمّت البلدَ أيامَ “التحرير”.

هل قرأتْ زينبُ الخبرَ على وجهِ صهرِها الذي لم يفُهْ لها ببنتِ شفة؟ هلْ قرأتْه في عينَي ابنتِها الحزينتين التي غاب الإشعاعُ من مقلتيها؟ كانت كلَّ يومٍ تسألُ عن جابر، لكنَّها منذ رنينِ جرسِ الهاتفِ الذي لم تسمعْه، لم تعدْ تسأل. صمتتْ زينبُ حتى انعقدَ لسانُها، ولم يجرؤْ أحدٌ على مكالمتِها بعد ذلك.

[1] مارك سايكس كان ممثل بريطانيا، وفرانسوا جورج-بيكو كان ممثل فرنسا في اتفاقية سرية عقت بين البلدين سنة 1916، لتقسيم بلاد الشام بين هاتين الدولتين حين تنتصران على الدولة العثمانية. وقد فضحت تلك المعاهدةَ ثورة تشرين الأول الشيوعية في روسيا.

عن admin

شاهد أيضاً

ما بين المسيرى وجمال حمدان: معادلات الأمن القومى الـ ١٤

بقلم خالد أمين20 فبراير، 2025 من أهم وأبرز معادلات (الأمن القومي) المصرى والعربى .. تلك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *