الرئيسية / حوارات ناصرية / في الذكرى ال57 لأنتصار حرب الاستنزاف – بقلم : عوني فرسخ

في الذكرى ال57 لأنتصار حرب الاستنزاف – بقلم : عوني فرسخ

 

 

انتصار اسرائيل العسكري المبهر في يونيو / حزيران 1967 بدا لصناع قرارها أنها امتلكت زمام المبادرة الاستراتيجية في الإقليم العربي ، وحسمت صراع الوجود واللاوجود مع الأمة العربية . كما يستدل على ذلك مما كتبه حاييم هيرزوج في تقويم  نتائج الحرب قائلا : “بعد حرب الأيام الستة تغير الموقف الاستراتيجي لصالح اسرائيل تغيرا جذريا . فلأول مرة في التاريخ أصبحت اسرائيل تتمتع بعمق دفاعي . وأصبحت الأوراق بيد إسرائيل في شكل المناطق التي كانت تستخدم لنقاط انطلاق للهجوم على إسرائيل . وبشكل عام فإن الانتصار في حرب الأيام الستة كان مذهلا إلى حد أن القيادة الإسرائيلية كانت اميل في بعض الأحيان لأن تنسب لنفسها بعض الانجازات التي تحققت نتيجة للتراخي ونقص التنسيق وضعف القيادة في المستويات العليا على الجانب العربي ، أكثر مما تعود الى الفعالية الإسرائيلية .

 

 

والذي لم يأخذه هيرزوج وبقية القادة الصهاينة في الحسبان أن نصر اسرائيل العسكري المبهر لم يترجم لنصر سياسي ، وما كان له أن يحقق ذلك في مواجهة شعوب أمة غنية التراث الحضاري عرفت على مدى تاريخها العريق بقدرتها الفذة على النهوض من الكبوات ، وإفشال هدف أعتى الغزاة بقهر إرادتها العصية على الاستلاب . وهذا ما تحقق فعلا في اليوم الرابع من “حرب الأيام الستة” عندما خاطب الرئيس الرحل جمال عبدالناصر مساء 9 يونيو / حزيران شعبه وأمته معلنا تحمله المسؤولية كاملة ، وتنحيه عن جميع مناصبه الرسمية ، واستعداده للعودة لصفوف الشعب لمقاومة الغزاة الصهاينة . وسرعان ما انتفضت جماهير القاهرة رافضة تنحيه ، ومصرة على مواصلة الكفاح بقيادته . وكانت انتفاضة تلقائية كما أكد المراسلون الأجانب . وامتدت الانتفاضة العفوية في عموم مصر مؤكدة إرادة الصمود والمقاومة ، ومعبرة عن وحدة الجبهة الداخلية والتفاف الشعب حول قائده . وعمت الانتفاضات الوطن العربي من المحيط الى الخليج مؤكدة رفض الاستسلام ، ومفشلة ما استهدفه العدوان الصهيوني المؤيًد أمريكيا .

 

وتحت ضغط الجماهير وإصرار جميع أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الوزراء ، تراجع عبدالناصر عن تنحيه ، ليبدأ وقد استقوى بالارادة الشعبية مرحلة جديدة في حياة مصر والأمة العربية . إذ أنطلق بسرعة وتصميم في عملية تطهير الجيش من القيادات التي ترهلت وفسدت ، والبدء في إعادة بنائه من جديد بتعيين الفريق أول محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة ، ثم اعاد تشكيل الحكومة برئاسته . وصار كما يذكر محمود رياض “يناقش ويتقبل النقد والنصيحة ويحرص عليها ، ويستمع الى أكبر عدد من معاونيه ، بل ومن الشخصيات ذات الخبرة من خارج الحكم ” .

 

فيما بادر الاتحاد السوفيتي بدعم صمود مصر وسورية عسكريا ، وبالتأييد السياسي في مجلس الأمن والأمم المتحدة . وقد عقد قادة الدول الاشتراكية اجتماعا في موسكو بحثوا فيه العدوان الصهيوني ، واصدروا بيانا وقعوه جميعهم ، عدا ممثلي رومانيا ، تضمن قطع العلاقات مع إسرائيل ، وتقديم العون العاجل لمصر وسوريه ومساعدتهما في إزالة نتائج العدوان . وقدم السوفيت لمصر السلاح والخبراء العسكريين لاعادة تدريب الجيش وتأهيله . كما دعموا مصر اقتصاديا بتأجيل الديون ، وإمدادها بالتسهيلات الائتمانية التي تحتاجها ، وتزويدها بالمواد الخام ، ومساعدتها في تسويق منتجاتها .

 

وحين أعلن عبدالناصر عن تنحيه كانت مصر قد خسرت كل شيء فوق ارض سيناء : السلاح والمعدات وآلاف الشهداء ، ولم يعد لديها الجيش القادر على الدفاع عن أراضيها ، ولا الغطاء الجوي الذي يحمي سماءها . إلا أن الرئيس الراحل كان يمتلك ارادة المقاومة ، المعززة بإصرار شعب مصر على مواصلة القتال . وكان تقديره احتياج مصر لثلاث سنوات لاستعادة قدرتها . وقد تحددت رؤيته الاستراتيجية بأن مصر خسرت معركة ولم تخسر حربا ، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ، وأن الغاية هي استرداد الأرض العربية المحتلة بالعودة لحدود ما  قبل 5 يونيو / حزيران 1967 ، وإنشاء الوطن الفلسطيني .

 

وفي السعي لتطوير قدرات القوات المسلحة أصبح المجند خريج الجامعة والمعاهد العليا أبرز عناصرها باعتباره القادر على استخدام الأسلحة المتطورة ، بحيث أن القدرات العقلية للجندي هي المفضلة على باقي القدرات ، ولاحق القادة تدريبهم في معسكرات التدريب والمدارس التخصصية والمهنية . كما جرى الاهتمام بإعداد القادة تأسيسا على أنه ليست هناك وحدات سيئة بل قادة سيئون . وعليه اعتمد الاهتمام بإعداد القائد القدوة القادر على ان يحظى بثقة جنده بما يتميز به من حكمة وإخلاص وشجاعة ، ولا تنقصه الطيبة والصرامة . وقد أعيد تنظيم إدارة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة واتسع اختصاصها .

 

وكانت معركة رأس العش في 1/7/1967 باكورة المعارك الصغيرة في حرب الاستنزاف ، وفي معارك 14 و 15/7 نجحت طائرات الميج 17 في تأمين منطقة قناة السويس ، ما أعاد الثقة للطيارين المصريين بأنفسهم وسلاحهم ، وأتاح للتشكيلات البرية استئناف مهامها في إعداد وتجهيز ودعم منطقة غرب القناة . وتوالت مؤشرات نجاح عملية إعادة بناء الجيش وكفاءة قياداته الجديدة باغراق المدمرة الاسرائيلية إيلات مساء 21/10/1967 . وبعد استكمال النسق الدفاعي الأول غرب القناة جرى الدفع بدوريات الاستطلاع الى عمق سيناء لتبقى كل دورية خلف خطوط العدو قرابة اسبوعين ، بحيث تجمع أكبر قدر مستطاع من المعلومات الدقيقة عن تحركاته وقواه ، وتدمير عدد من مركباته وعرباته المدرعة ، وتحميله خسائر متزايدة في المعدات ، فضلا عن أن وحدات مدفعية الميدان حققت إنجازات مطردة .

 

ولقد نفذ الاسرائيليون عمليات جريئة في إطار عمليات الاستنزاف المضاد بضرب أعماق مصر . وبرغم إنجازات الاستنزاف المضاد التي لا تنكر ، والتفوق الجوي الاسرائيلي ، والمدد الأمريكي المتزايد لاسرائيل ، استطاعت مصر المضي بحرب الاستنزاف والقيام بعمليات هجوم نشطة : بحيث أن الموقف المصري العام عند وقف إطلاق النار في أغسطس / آب 1970 استجابة لمبادرة روجرز كان أقوى منه في اي وقت مضى ، وبالمقابل كان الموقف الاسرائيلي أضعف منه في اي وقت مضى . وقد انعكس ذلك على صحف وقادة العدو ، ففي 14/8/1970 كتبت دفار تقول : ” لقد اصبحت المبادرة الأمريكية وسيلة خلاص ، لذلك ينبغي ألا نعرقل هذه المبادرة المباركة ، ولنساعد الأمريكان على إخراجنا من الوضع المعقد الذي نحن فيه بسبب حرب الأيام الستة وحرب الأعوام الثلاثة . فإذا كان الأمر كذلك فإن سياستنا خلال الأعوام الثلاثة السابقة لم تكن انجازات جديدة بل سلسلة من الأخطاء الصعبة التي أدت بنا الى نتائج خطيرة للغاية ، بدخول السوفييت الى المنطقة ، ودخول منظمات الإرهاب ، وميزانية دفاع تفوق مليار دولار . وإن كان الأمر كذلك فليس صحيحا أن المصريين استنزفوا في حرب الاستنزاف وإنما نحن الذين استنزفنا ولذلك استجبنا للمبادرة الأمريكية ” وهذا ما يؤكده ماتي بليد ، عضو هيئة الاركان الاسرائيلية في حرب 1967 ، الذي نقل عنه زئيف شيف المراسل العسكري لصحيفة هارتس قوله : “لقد فشل الجيش الإسرائيلي من الناحية العسكرية في حرب الاستنزاف ، وهذه أول معركة نهزم فيها منذ قيام الدولة . إن مصر هي التي حددت الأهداف في حرب الاستنزاف ، وهي التي فرضت على إسرائيل الدفاع عن النفس .

 

وهذا ما لا تدركه النخب العربية المسكونة بثقافة الهزيمة ، والتي لما تزل تبكى على اطلال نصر اسرائيل العسكري المبهر سنة 1967.

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *