
لا تكفي كلمات للدلالة على كبير الفائدة في تسليط الضوء على حقائق تاريخية طال أمد طمسها و تغيبيها بفعل تكاثف عمليات غسل الدماغ العربي التي داومت عليها لعقود ثلاثة قوى الثورة المضادة في طول العالم العربي و عرضه.
والحال أن علاقة آل سعود في ستينات القرن المنصرم مع السيد الأمريكي وأداته الإسرائيلية
واحدة من المساحات الظليلة التي يختلط فيها التعميم بالتزوير ناهيك عن التلفيق.
حجر الأساس في التناول هو بلا شك علاقة ” الثالوث ” بين المؤسسة الإمبريالية الحاكمة في الولايات المتحدة، وهي على رأس الهرم، وبين القاعدة المتقدمة واليد الضاربة إسرائيل، وبين أنظمة التبعية العربية.
في خلفية الصورة أنظمة مسلمة غير عربية مرتبطة بالغرب حتى النخاع كنظام الشاه والعسكر التركي والباكستاني .كانت سويس 1956 نقطة فاصلة في التاريخ العربي الحديث لجهة الفرز بين قوى التغيير وقوى المحافظة.
حين بزغ عبد الناصر قائدا لحركة القومية العربية , بفورانها الجماهيري الغالب بعد حرب السويس , غدا بالضرورة عدوا لدودا لأنظمة التبعية العربية.
قبل السويس كان آل سعود حريصين على الاقتراب من نظام عبد الناصر ـ كما كان الحال مع عرش فاروق ـ ليوازنوا به خصومهم الألداء من الأسرة الهاشمية في بغداد و عمان . نقطة التحول في التجاه المعاكس كانت قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس , وما لحقه من انتصار سياسي مدوي ( رغم وقائع الفشل العسكري ) ارتفع بقامة عبد الناصر فوق الجميع , ليصبح ولاء الجماهير له عابرا للحدود .
حال انتهاء حرب السويس وصدور مبدأ إيزنهاور في يناير 57 ” لملء الفراغ ” كان آل سعود أول الموافقين , ثم ما لبث سعود ـ سلف فيصل ـ أن زار أمريكا ليتحدث فيها مع رعاته عن إنشاء حلف إسلامي يقف بالمرصاد لحركة القومية العربية والتحرر الوطني .
لم ير ذلك المشروع النور في حينها لسببين : الأول ذاتي وهو أن سعود لا يملك من مزايا القائد والقطب ما يمكنه من لعب الدور المحوري المطلوب كحاكم لدولة تضم الحرمين الشريفين ، والثاني موضوعي عكس صعوبة الإقلاع بهكذا مخطط في وجه المد القومي التحرري , وهو في أوجه .
شهد عام 57 أيضا انقلاب الملك حسين على الحكم القومي في الأردن برعاية وكالة المخابرات المركزية , و محاولات مستميتة لهذه الوكالة ـ باءت بالفشل ـ لقلب النظام السوري المتحالف مع عبد الناصر .
كانت سنة 1957 سنة اصطفاف وفرز حاد بين عبد الناصر وحليفته دمشق من جهة , وبين الرياض ـ بغداد ـ عمان من جهة أخرى ( رغم ضعف الروابط بين هذه العواصم لمنافساتها التقليدية الموروثة ) …. لكن ذروة الصدام بين معسكر التحرر ومعسكر التبعية أتت مع إعلان الوحدة السورية ـ المصرية.
وجد آل سعود أن نفوذهم التقليدي في سوريا يضيع بلا أثر وأن تنامي ” الهيمنة الناصرية ” بلغ حدا يصعب رده إن لم يلجم تسارعه …من هنا مبادرة سعود الفجة بمحاولة رشوة عبد الحميد السراج , رجل دمشق القوي , لمنع الوحدة و الانقلاب على عبد الناصر .
أدى فشل سعود إلى اتساع الفتق بين المعسكرين , ضاعف من أثره نجاح انقلاب الضباط الأحرار في بغداد صيف 1958 .
ولولا العامل المستجد في بغداد وتجلياته من نشوء الصراع القومي ـ الشيوعي في الساحة العراقية ، وهو ما خلط الأوراق ، وبدّل في المواقع , لكان ممكنا للفرز الثوري ـ الرجعي أن يصل لخط النهاية قبل نهاية الخمسينات .
كان للولايات المتحدة في المنطقة خصمان رئيسان يتساويان في الخطورة : الأول هو حركة القومية العربية , و الثاني هو الشيوعية المحلية مدعومة براعيتها الدولية .
في صيف 58 ومع نجاح انقلاب بغداد وتصاعد الثورة على نظام شمعون , الغربي الولاء , في لبنان ، كانت الأولوية لمحاصرة و ضرب تصاعد حركة القومية العربية , ومن هنا دعم هاشميي الأردن بالإنزال البريطاني ودعم شمعون بالإنزال الأمريكي , إضافة لمؤامرتي سعود والدندشي في سوريا، فضلاً عن تحريض عبد الله خليل , رئيس وزراء حزب الأمة في السودان , على افتعال خصومة حادة مع جار الشمال .
جرى تبديل نسبي في الأولويات مع تكشف مدى و عمق نفوذ الحزب الشيوعي العراقي بعد انقلاب تموز…. حينها تفاوتت تقديرات الأمريكان والإنجليز لجهة أن الأول دب بهم الهلع من هذا التحول ، بينما أبناء عمومتهم عبر الأطلنطي استثمروا هذا التحول ـ أي المد الشيوعي في العراق ـ ليضربوا به بقسوة ما أعتبروه الخطر الأكبر وقتها وهو حركة القومية العربية.
جمع بين إدارة ايزنهاور وقيادة القاهرة مع نهاية عام 58 هاجس المد الشيوعي في بغداد مما قادهما إلى وقف لإطلاق النار بدأت ملامحه مع تسوية مورفي في بيروت في خريف 58 ، والتي أتت بفؤاد شهاب رئيسا للجمهورية ومنع شمعون من تمديد رئاسته .
تلا وقف إطلاق النار بعض التهدئة الإيجابية أخذت منحيين : الأول مع مصالحة سعود لعبد الناصر وقبول عبد الناصر لاستقباله في خريف 59… والثاني هو بدء مساعدات القمح الأمريكية ـ بالعملة المحلية ـ لمصر .
كان غرض هذه المساعدات أن تبدو عربونا لعلاقة غير صراعية , بل إيجابية ، ولكن الأهم كان أن تصبح مصر بالاعتياد مدمنة على هذه المساعدات بحيث تتحول مع الوقت إلى أداة ضغط فارق عندما تختار الولايات المتحدة أسلوب الحسم مع حركة القومية العربية.
راقبت واشنطن بقلق شديد تقلصات صراع السلطة في الرياض بين سعود وحلفائه من جهة , و فيصل وأنصاره من جهة أخرى ، و بين الاثنين محور ثالث يضم بضعة أمراء شبان على رأسهم طلال .
كانت سمة عدم الاستقرار والتخبط قد وسمت نظام الرياض عبر سنوات 58 ـ 62 إلى أن رجّحت واشنطن كفة فيصل ليقينها بأنه الأجدر والأقوى على الوقوف في وجه عبد الناصر , سيما بعد انفصال سوريا عنه في أيلول 61.
من المهم هنا ملاحظة أن الولايات المتحدة كانت , وهي تتصالح على السطح مع عبد الناصر , تخطط لأمرين متلازمين : الأول هو فصل سوريا عن مصر لتحجيم عبد الناصر و تقليم أظافره ووقف مد حركة القومية العربية ، والثاني هو تقويض نظام عبد الكريم قاسم في العراق.
لجهة قاسم والعراق ، فلقد كانت ذنوبه قد تكاثرت خصوصا وأنه رغم إضعافه للنفوذ الشيوعي الغلاب مع نهاية 59 وبعدها إلا أنه لم يقوضهم بما يرضي الولايات المتحدةمما أتاح لهم البقاء قوة ملحوظة ومهابة في المجتمع العراقي… ثم أنه ارتكب ما أعتبره الغرب ضربة تحت الحزام تمثلت في ” ضمه ” ـ ولو الإعلاني ـ للكويت في يونيو 61 ، ثم حصره امتيازات النفط الغربية بالمساحة التي تقوم فعليا باستثمارها مع استعادة باقي الأراضي العراقية للدولة ( قانون 80 ) في سبتمبر 61.
كان تحرك الولايات المتحدة ضده من شعبتين : أولهما تحريك التمرد الكردي المسلح بقيادة مصطفى البرزاني ( بندقية للإيجار ) في خريف 61 ، و ثانيهما التحضير لانقلاب عسكري يطيح بالنظام ويقضي على حلفائه الشيوعيين… واستغرق ترتيب ذلك – بتقاطع المصالح – مع حزب البعث العراقي ما ينوف عن عام.
أما لجهة عبد الناصر, فلقد أوكلت الولايات المتحدة لملكي السعودية والأردن – بمعاونة المخابرات الألمانية الغربية – مهمة تدبير انقلاب الانفصال السوري , فتولى سعود التمويل , وحسين الإسناد اللوجستي .
بعد نجاح الانفصال حاولت الولايات المتحدة إكمال القطف بالإطاحة بنظام فؤاد شهاب -المتحالف مع عبد الناصر في لبنان- بتحالفها مع الحزب القومي السوري , بتعاون أردني صريح ، لكنها هذه المرة باءت بالفشل .
مع نجاح الانفصال كان واضحا أن قوى التبعية العربية استطاعت , وبتعاون التابع مع السيد الأمريكي , أن تلحق ضربة شديدة بحركة القومية العربية, وإن لم تكن مميتة .
كان الاصطفاف واضح المعالم, وويل للمحايدين , إلا من رحم ربي ( السودان و الكويت ). لبث عبد الناصر يلعق جراحه مصمما على أن يرد وبقوة و في أي مكان كان إليه سبيل .
في أوائل الستينات كانت التبعية السعودية تستحي من علاقة مباشرة مع إسرائيل مفضلة أن يكون التعامل عبر سيد الجميع ، عكسما كان حال أختها اللدود الهاشمية التي ولغت في هذا السبيل المباشر منذ الثلاثينات , وكذلك حال العلوية المغربية والتي – عبر ولي عهدها الحسن – كانت على اتصال سري حميم مع إسرائيل منذ أوسط الخمسينات.
رويداً هوت أسوار التحفظ عند حكام الرياض باللقاء الأول بين واجهتهم عدنان خاشقجي , و بين ضابط الموساد ديفيد كمحي في باريس عام 64 .
والثابت أن بوابة العلاقة الإسرائيلية ـ السعودية , معززة بشقيقها الأردنية ـ الإسرائيلية , كانت التعاون المشترك في حرب اليمن .
صفحة حرب اليمن كانت الصيغة الحادة للحرب الأهلية ـ الدموية ـ بين معسكر التحرر العربي ، وبين معسكر التبعية العربية.
ليس هنا مكان القصة بتفاصيلها ، وإنما دلالات وعناوين ما حدث هي الأساس لفهم ما جرى.. القضية باختصار أن ثوار اليمن كانوا يعدون لإنقلابهم منذ ما قبل وفاة الإمام أحمد ، و فاتحوا مصر عبد الناصر عبر سفيرها محمد عبد الواحد ، لكنهم لم ينفذوا ما خططوا له إلا حين غياب الإمام أحمد بالوفاة .
كان غرض عبد الناصر من تأييدهم , فيما لو نجحوا بمبادرة الانقلاب , هو الانتقام لانفصال سوريا أولا , ثم وضع موطئ قدم في الجزيرة العربية للوثوب منه لتهديد نظام آل سعود , و فرض تغييرات بنيوية عليه تتماشى مع حركة القومية العربية , أو إزالته جملة و تفصيلا. ترافق الوجود المصري في اليمن مع حالة التململ التي كانت قد ضربت منطقة الخليج منذ أواسط الخمسينات , وتنامت مع مطالع الستينات ، و من ثم فالوثبة عبر البحر الأحمر كانت تعني زلزالا استراتيجيا يعيد رسم خريطة الجزيرة والخليج , إن واتته الظروف والإمكانيات .
ماذا فعل نظام آل سعود ؟ ذهب فيصل ولي العهد ـ رئيس الوزراء والحاكم الفعلي – في أكتوبر 62 إلى واشنطن ليتوسل ويتسول دعما أمريكيا صريحا في وجه التهديد الناصري…… وكان له ذلك.
أرسلت الولايات المتحدة أسرابا من F5 , تحت عنوان عملية الغطاء الصلب , إلى المطارات السعودية لتوفير مظلة جوية فوق السعودية “وقاية” من غارات الطيران المصري الحقيقية على نجران وجيزان ( حيث قواعد انطلاق الملكيين ) , والوهمية على الرياض.
بعد توفير هذا التأمين انطلق السعوديون في عملية ضخمة نارها ألوف من المرتزقة الأوربيين ووقودها آلاف أكثر من ملكيي اليمن المؤيدين للإمام المخلوع البدر .
اسهم في هذا الجهد المكثف والمتشعب قوى متحالفة كثيرة ضمت المخابرات المركزية والمخابرات البريطانية والنظام الهاشمي وهيلاسيلاسي اثيوبيا والسافاك الإيراني والمخابرات الباكستانية والموساد , وكان المنسق العام ـ المايسترو روبرت كومر مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي حينها.
وصل الأمر بالثالوث إلى أن يقوم الطيران الإسرائيلي – منطلقا من قواعد في اثيوبيا – مرات عديدة بإلقاء المؤن والذخائر فوق المرتزقة في اليمن.
في الفترة الأولى من حرب اليمن , أي خريف 62 إلى خريف 63 , كان هدف الولايات المتحدة و تابعتها السعودية هو طرد الجيش المصري من اليمن ، ثم مالبث أن تحول الهدف بعدها إلى استبقائه لاستنزافه .
استمر ذلك إلى ربيع 66 عندما قامت مصر بالملاءمة بين ضرورة البقاء طويل الأمد , مع تقصير الخطوط , وتخفيض القوات , وبناء جيش يمني قادر.
( أدى ذلك الى تقلص حجم القوات المصرية مابين ربيع 66 وخريف 67 – تاريخ الانسحاب – الى 8 ألوية أي قرابة 30 ألف جندي ).
رد عبد الناصر على استنزافه باستنزاف الإنجليز في عدن , عبر إشعال ثورة مسلحة أقضت مضاجعهم وأجبرتهم على تدبر أمرهم ورسم إستراتيجية شرق السويس مطلع 66 تنسحب بموجبها القوات البريطانية بعد عامين من ذلك التاريخ .
اتسع رد عبد الناصر ليشمل تشجيع المعارضة الداخلية في شبه الجزيرة على العمل الإيجابي المباشر…. تجلى ذلك عامي 62 و63 , لكنه أخذ شكلاً وازناً مابين صيفي 66 و67 .
شهد عامي 64 وبالأخص 65 قيام فيصل بتحريك وتفعيل كوادر الإخوان الفارة عنده لتقوم بالتواصل مع إخوان الداخل والترتيب معهم للتحرك ضد نظام عبدالناصر , وبالتنسيق مع إخوان السودان بزعامة الترابي .
والحاصل أن عبد الناصر قام في مرات ثلاثة بمحاولة إيقاف حرب اليمن عبر التوصل على حل سياسي معقول لها بالاتفاق مع آل سعود .
كانت الأولى عبر دعوته لمؤتمر القمة العربي الأول في يناير 64 و اجتماعه عبره بالملك سعود… باءت تلك المحاولة بالفشل لأن سعود كان قد غدا حينها يملك ولا يحكم , فأعاق فيصل – الحاكم الفعلي – التوصل إلى تسوية تعيد تعزيز مواقع أخيه المنبوذ.
أتبع عبدالناصر القمة بإيفاد نائبيه عبدالحكيم عامر وزكريا محي الدين الى الرياض للقاء فيصل , فعادا بخفي حنين.
المحاولة الثانية جرت في الإسكندرية في سبتمبر 64 , وكان طرفاها عبد الناصر والأمير فيصل , وجرت عشية توليه العرش بعد عزل أخيه … وصل الطرفان , وحلفائهما اليمنيون , إلى اتفاق أركويت ( مدينة ساحلية في السودان ) , وبدا الأمر وكأنه قد وصل إلى خواتيمه. لكن ذلك كان ذرا للرماد في العيون إذ أن قرار الملك الجديد , بالاتفاق مع الحليف السيد , كان إبقاء بؤرة الاستنزاف مفتوحة على مداها.
مع قدوم صيف 65 كان صبر عبد الناصر قد أوشك أن ينفذ من الدعم السعودي غير المحدود للملكيين , و اقترب من اتخاذ قرار جذري باحتلال نجران وجيزان وضرب مواقع السلطة بالطيران في الرياض وغيرها.
في خضم تصعيده التهديدي قام بحركة سياسية واسعة في آب 65 حين زار جدة وعقد اتفاقا أخر مع فيصل , ما لبث أن باء بالفشل مثل سلفه قبل عام.
والحاصل أن عام 65 كان عام القرار الأمريكي بتصفية عبد الناصر ونظامه … ساهم بل وحرض على الوصول إلى قرار كهذا المؤسسة العسكرية ـ الأمنية الحاكمة في إسرائيل , وآل سعود يتزعمهم الملك ـ القطب .
تجليات قرار التصفية كانت عديدة ….شملت توجيه إنذار لعبد الناصر في مارس 65 يطلب فتح المصانع الحربية والمفاعل النووي للتفتيش , وتحديد واردات السلاح السوفيتي ، وتقليل الاهتمام بالشؤون العربية , مع التفرغ لقضايا مصر الداخلية , إضافة لوقف بل و رد موجة التطبيق الاشتراكي.
شملت أيضا تكليف فيصل بتأسيس الحلف الإسلامي ( ما فشل أخيه في ترتيبه قبل ثمان سنوات ) ليصبح القطب المعاكس لتيار القومية العربية ، تحت شعار أيديولوجي جذاب.
شملت كذلك وقف معونات القمح لإيصال الضغط الاقتصادي إلى مداه , وتسليح السعودية ـ الحرس و الجيش ـ ليكون حاميا أفضل للأسرة الحاكمة .
ماذا فعل عبد الناصر بالمقابل ؟ عندما أحس مع نهاية 65 أن الأرض تميد من تحته في المنطقة , وحتى داخل مصر , بفضل التكاثف الهائل للتآمر الخارجي ، رد بهجوم وقائي مضاد تجلى بإيقافه سياسة مؤتمرات القمة , وشن الحرب الإعلامية الكاسحة على الأنظمة المتحالفة مع الغرب , وتدبير الغذاء دون احتياج الأمريكان وبالمزيد من شد الأحزمة , وبتطبيق سياسة النفس الطويل في اليمن .
نلاحظ هنا من خلال عشرية 57 ـ 67 توفر فترتين للتهدئة بين عبد الناصر وخصومه أتباع الغرب : الأولى من 59 ـ 61 بفعل الوضع الشيوعي في العراق ، والثانية من 64 ـ 66 , و سببها الأساسي محاولة إخراج حل معقول لمصيدة اليمن.
لم يكن في ذهن عبد الناصر أي نية لتصعيد الوضع العسكري ضد إسرائيل , ذلك أن انهماك جزء أساسي من قواته في اليمن عاق منطقيا هكذا نية ، ثم إن تقديرات عبد الناصر وخبرائه العسكريين كانت أن عدداً من الأعوام ضروري لتوفير قدرة الردع الشامل ثم التصدي النشط (الفريق علي عامر ).
كان هذا هو السبب وراء تنبيه عبد الناصر لجورج حبش مع نهاية 64 ليطلب من فتح الامتناع عن العمل العسكري بانتظار خروج مصر من اليمن عسكريا.
عند نهاية 65 بدأ قلق عبد الناصر يتنامى من التقارير المتزايدة حول اقتراب إسرائيل من إنتاج السلاح النووي… كانت مصر خلف إسرائيل في هذا المضمار بقرابة عامين من الجهد , وكانت خلف إسرائيل أيضا في مضمار الصواريخ بعيدة المدى لخلل مزمن في أجهزة التوجيه.
أعلن عبد الناصر في فبراير 66 انه سيقوم بحرب وقائية ضد إسرائيل حالما يثبت له إنتاجها للسلاح النووي… تكاثرت التقارير النووية عن إسرائيل عبر 66 وتفاقمت هموم عبد الناصر حولها لخشيته من أن إنتاج السلاح النووي لديها ـ بسماح أمريكي ـ يعني تحويل الصراع إلى صراع بين متفوٍق و متفوًق عليه ( وبما لا يقاس ).
مع دخول عام 67 كان الثالوث قد عقد العزم على تصفية الحساب خلال ذلك العام … كان فيصل قد أمضى عامين و هو يضغط على جونسون ليتخذ قرارا حاسما بتصفية عبد الناصر, بل وجاوز في ضغطه هذا ما فعله مع كنيدي في خريف 62 بكثير .
كانت مقولته أنه لا علاج لعبد الناصر ولا شافي ولا مخفف ، وأن الكي و البتر هو المطلوب و قبل الاستفحال .
ما جعل الأمر أنضج عام 67 عنه قبلها أن رؤوسا قبله كانت اينعت وقطفت مثال سوكارنو و نكروما وبن بللا وبن بركة وباباندريو.
دعونا نتأمل المشهد .. ملك عربي ، مسلم ، يحرض سيده الأمريكي على استخدام إسرائيل على ضرب عربي ومسلم… و قبل ذلك يسمح لطيران هذا الكيان العدو أن يقوم بعمليات مشتركة معه ضده , وأن ينسق مع موسادها على أصعدة مختلفة أهمها الهم المشترك : عبد الناصر .
في كل سريالية المشهد كانت وقائع الأحداث تقطع بتواطؤ متقن الإعداد و الإخراج و التنفيذ قادته أجهزة العمل السري الأمريكي و نفذته إسرائيل و جيشها و ساهم به ملوك ” العرب “.
والموجع أن فيصل هذا خلق لنفسه هالة , بعد غياب عبد الناصر , لا يستحقها بأي مقياس … فمن طلب وبارك هجوم إسرائيل على مصر عام 67 ، ادعى أنه شارك في حرب 73 بكل ثقله , فيما الحقيقة المجردة تقول أن إسهامه كان في لواء سعودي يتيم عبر الأردن إلى سوريا ووصلها متأخرا .. هذا كل ما كان في وسعه لرفع العتب .
والأهم أنه استفاد كل الفائدة من ارتفاع سعر النفط من 3 إلى 11 دولار دفعة واحدة ، ثم بعدها قفزات أخرى إلى ما فوق العشرين خلال أقل من عام .
هل قطع النفط عن الأمريكان وغيرهم ؟ هو بلا جدال اضطر إلى ذلك اسمياً , واستمر في توريداته فعلياً , ثم سعى ونجح في إجهاض وإيقاف هذا القطع , ولم يبلغ عمره بعد شهورا خمس ( مارس 74 ).
ثم إن رفع السعر ( وليس القطع ) كان بتشجيع أمريكي قاطع تجلى في تحريض شاه إيران على قيادة حملة رفع السعر , وهو الموثوق الأمين .
لماذا ؟ لأن تلك كانت موجة المستقبل سيما إثر بدء عقيدي ليبيا والجزائر – القذافي وبومدين – مع بعث بغداد موجة رفع اسعار النفط عبر عامي 71 – 72, وهو نهج ماكان له الا أن تصل عدواه الى الجزيرة والخليج , ثم أن كسر نيكسون لثنائية الذهب – الدولار أوجبت وجود قاعدة اّمنة للدولار ليس أمثل لها من تسعير البترول به , مما يتطلب تكبير عائده حتى تصبح دولرته مجزية.
نأتي لقصة القدس و صلاته في أقصاها … الرجل نعم يريد الصلاة في أولى القبلتين لا خلاف على ذلك , ولكن بأية شروط ؟ واضح أن سجله القريب و البعيد لا يشي بما يفيد أنه سيأتي القدس محاربا , بل و لا مفاوضا عنيدا , بل كما أتاها السادات في نوفمبر 77 , ولكن دون اتفاقات …أي بترتيبات تجمع الحليفين عبر سيدهما الأكبر .
قد يقول قائل أن الأسرة السعودية ساندت الفلسطينيين بواسطة تمويلها الهائل لحركة فتح ….. ظني أن هذا الدليل مردود على أصحابه , إذ لم يفعل البترودولار لفتح إلا اختراقها و ترويضها وتدجينها وضبط إيقاعها على الموسيقى الأمريكية ، وقبل ذلك وبعده إفسادها وخلق أنماط من السلوك “الثوري” لم تعرفه ثورة في التاريخ المعاصر، وربما لن تعرفه ثورات هي الآن في أحشاء الزمان .
فيصل بالذات يحتاج لتقييم مشرّح… فهو المؤسس الثاني الحقيقي لحكم السلالة , وهو الأب الروحي لأخوة السديري , و هو الذي أسس العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة , وفتح أبواب التعامل السري مع إسرائيل , وتآمر على حركة الثورة العربية في اليمن ومصر والعراق وفلسطين و سوريا و لبنان و الخليج و السودان .آن أوان كتابة تاريخ العقود الثلاثة والأربعة الأخيرة بما يكفل كشف المستور عن كثيرين عاشوا وماتوا وهم في خدمة قوى الهيمنة الغربية .. برروا الخيانة وسموها عقلانية ، واّمنوا أن بقائهم جاثمين فوق شعوبهم مدين لسادتهم في واشنطن , و من ثم فمامن شيء إلا و مسوغ لخدمتهم ورد المكافأة إليهم .
لقد تبرقعوا بالدين منتفعين بوجود الحرمين في الأرض التي يحكمون ، فكان أن أفسدوا وشوهوا شرائح واسعة من الاسلاميين والليبراليين بل وكثير من اليساريين وأيضاً – نعم ! – القوميين , عبر العالم العربي , بل والعالم المسلم كله … ولا زالوا.