كان فتحي الديب في بنغازي بأمر من جمال عبدالناصر في مهمة مكونة من ثلاث كلمات: حماية الثورة الليبية.. ولم يكن الأمر شفهيا فقد وضعت وحدات عسكرية مصرية تحت تصرفه بالقرب من السلوم تتزاحم فيها المدرعات والطائرات وتبدو فيها كتائب المشاة والقوات الخاصة علي هبة الاستعداد.. ولم تكن المهمة صعبة علي رجل تعود علي حماية الثورات وحركات التحرر العربية منذ كلفه جمال عبدالناصر بذلك بعد مرور أقل من شهرين علي نجاح ثورة يوليو1952.
لقد مد فتحي الديب ـ وهو يسعي إلي ربط العالم العربي من الدوحة إلي طنجة في شبكة قومية متماسكة ـ جسوره نحو المستقبل بعمل تنظيم للطلبة العرب كان افراده بمثابة قوة متشعبة في كل الشرايين العربية.. وقد تدرب بعضهم سياسيا وعسكريا في معسكرات خاصة كانت في صحراء مصر الجديدة في المكان الذي يقع فيه نادي الشمس الآن.. وفيما بعد تولي افراد هذا التنظيم مسئوليات سياسية ودبلوماسية ووزارية في بلادهم.. وعبروا عن انتعاش المد القومي بصورة تدعو إلي التفاؤل..
كان فتحي الديب في ليبيا يساعد ثورة الفاتح من سبتمبر عام1969 بكل الإمكانات العسكرية والإعلامية والسياسية عندما اكتشف وهو هناك مؤامرة من صدام حسين للانقلاب علي جمال عبدالناصر والإطاحة به والتخلص منه.. كان صدام حسين قد سبق له الدراسة في القاهرة وعاش في حي العجوزة واشتهر بالعنف والقسوة حتي في علاقاته العابرة.. وقد كانت هذه العلاقات تنتهي بمشاجرة عنيفة.. وسباب ومحضر في الشرطة.. وفي كل مرة كان صدام حسين يجد في سفارته من يخرجه من المأزق الذي وضع نفسه فيه, لانه بعثي والبعثي من طينة غير طينة باقي العراقيين.. لكن عندما زادت متاعبه عن الحد غادر صدام حسين القاهرة دون أن يجد أحدا ممن تعاملوا معه يأسف عليه.
كشف المؤامرة لـ فتحي الديب أحد أعضاء تنظيم الطلبة العرب وكان ذلك في شهر فبراير عام1970.. أما التفاصيل فهي: إن صدام حسين كون خلايا في القاهرة يصل عدد أفرادها إلي(700) شاب من البعث العراقي يدرسون في الجامعات والمعاهد المصرية علي أن ينضم إليهم(70) قيادة بعثية يأتون من بغداد كانت كل خلية لاتزيد علي(10) أفراد.. وكانت الخطة هي الاستيلاء علي المرافق الحيوية وإيجاد نوع من البلبلة علي أمل ان تنحاز إليهم الجماهير المصرية الغاضبة من النظام بعد هزيمة يونيو وفي النهاية يمكن التخلص من جمال عبدالناصر ومحاكمته وإعدامه علي أن يستولي البعثيون علي السلطة في مصر ليحققوا حلما كان بالنسبة لهم خرافة مستحيلة.. والمثير للدهشة ان بعض أعضاء التنظيم تدربوا علي السلاح في أماكن صحراوية علي أطراف العاصمة.. ولم تشم أجهزة الأمن رائحة.
لم يتردد فتحي الديب في أن يوسع اختراقه للتنظيم مستخدما بعض أعضائه وطلب أسماء كل المشتركين في المؤامرة وأماكنهم وتحركاتهم ونجح في ان يضم إليه خمسة من الطلاب العراقيين كانوا يؤمنون بالناصرية ويقول فتحي الديب: إنه علي الفور نزل إلي القاهرة واتصل بـ جمال عبدالناصر وذهب إليه في بيته قبل ان يتناول طعام الإفطار.. وحكي له ـ وهما يتناولان الشاي ـ كل ما لديه من معلومات.. ولم يصدق جمال عبدالناصر ما سمع بل وتشكك فيه.. فآخر ما كان يتصوره هو أن يلعب البعث في عقر دار الناصرية وضد زعيمها شخصيا.. لكن ثقته القوية في فتحي الديب جعلته يستسلم لما سمع.. إن فتحي الديب هو المسئول عن شبكة المخابرات العربية.. وهو الذي كان وراء ثورة الجزائر وهو الذي أوصل رجال الإمام الخوميني إلي مصر وهو الذي أسس شبكة صوت العرب لتكون منبرا سياسيا قوميا.. فلماذا لا يصدقه جمال عبدالناصر هذه المرة أيضا وكما تعود دائما؟
نجح فتحي الديب في اختراق التنظيم البعثي وترك عيونه ترصد وتراقب ـ علي أن يصل إليه ـ حتي وهو في ليبيا ـ تقرير دوري بكل مايجري.. وكان التقرير يصل إليه في بنغازي علي متن الطائرة اليومية التي تأتي من القاهرة وبعد أربعة أشهر تلقي مكالمة تليفونية بالشفرة من محمود وهو المسئول في مكتبه عن متابعة العملية تقول: الأخ ممدوح منتش ويظهر أنه سيتعشي بعد يومين أو ثلاثة وقفز فتحي الديب من مكانه وهو يصرخ: يا خبر أسود وقرر العودة إلي القاهرة بعد ساعات قليلة.. فكلمة العشاء هي الكلمة المفتاح التي تعني ساعة الصفر.. وكان ذلك في شهر يوليو عام1970.
في القاهرة سأل فتحي الديب عن جمال عبدالناصر فعرف انه في الإسكندرية وعبر الهاتف قال فتحي الديب للرئيس: ميعاد العشاء بعد بكرة لكن العشاء سيكون علي ما يبدو ثقيلا جدا. وطلب منه الرئيس ان يحضر اليه فورا.. واستقل فتحي الديب سيارته.. ولاحظ أن هناك سيارة تتبعه.. وبمجرد ان دخل شقته في شاطيء بئر مسعود حتي وجد التليفون يرن.. فعرف انه كان مراقبا ليعرفوا متي سيصل.. كان المتحدث سكرتير الرئيس محمد أحمد الذي طلب منه ألا يأتي بملابس رسمية وإنما يأتي بقميص وبنطلون سبور وشبشب.. أي ثياب لاتصلح إلا للشاطيء.. فقد كان الرئيس في المعمورة.
قبل ان يستمع جمال عبدالناصر إلي تفاصيل المؤامرة طلب من السيدة قرينته تحضير طعام الغداء الذي اعتاد ان يأكله دون إضافة,, خاصة وان فتحي الديب يعاني هو الآخر مرض السكر ويتبع نظاما غدائيا صارما.. وعرف فتحي الديب من الرئيس أيضا: ان زوجته الآن في القطار القادم من القاهرة وان هناك سيارة تنتظرها علي محطة القطار لتأخده إلي بيتها حتي يبقي معها في الإسكندرية عدة أيام سيحتاجه فيها الرئيس.
قضي فتحي الديب أكثر من ساعتين ونصف الساعة وهو يشرح للرئيس أبعاد المؤامرة منذ اكتشاف أول خيوطها حتي اكتمال حصر الشبكة.. وكيف أمكن ادخال بعض العناصر الموالية إليها لمتابعة مايجري في الخفاء لمدة تقترب من6 شهور أمكن خلالها الإلمام بكل أسرار الشبكة والتعرف علي قادتها حتي مستوي الخلية وتمويلها وأنواع تسليحها.
استمع الرئيس بكل اهتمام وناقشه في جميع التفاصيل.. وما كاد فتحي الديب يستأذن للانصراف حتي نهره جمال عبدالناصر قائلا: ألم أقل لك ان تبقي للغداء معي ولم يكن الغداء هو المشكلة, وإنما كان هناك ثلاثة ضيوف كبار كان الرئيس قد استدعاهم وطلب فتحي الديب ان ينتظر حتي يلقاهم.. كان هؤلاء الثلاثة هم مدير المخابرات العامة حافظ إسماعيل ووزير الداخلية شعراوي جمعة ووزير الإرشاد القومي( الإعلام فيما بعد) محمد حسنين هيكل ولم يفت جمال عبدالناصر ان يطلب من فتحي الديب ان يضع تقريره عن المؤامرة في داخل قميصه علي ان يبرز منه طرفا منه حتي يثير فضول الثلاثة الكبار الذين استدعاهم علي عجل دون ان يعرفوا ـ علي ما يبدو ـ سر الاستدعاء.
وسأل جمال عبدالناصر وزير الداخلية عن معلوماته عن هذا التنظيم فأوضح أنهم علي علم به ويتابعونه.. وسأل الرئيس: لكن.. متي سيتحركون؟.. ولم يرد شعراوي جمعة.. أما مدير المخابرات العامة حافظ إسماعيل فقال: إنهم لايعرفون الكثير عن هذا التنظيم.
واستطرد: إن عراقيا دخل البلاد بطريق الخطأ واتضح أنه طالب جاء للدراسة بدون تأشيرة فسمحنا له بالدخول.. وسكت الرئيس قليلا ثم فاجأهما بالمعلومات التي تضمنها تقرير فتحي الديب والتي حصل عليها وهو بعيد في ليبيا.. وأضاف: إن العملية يوم الاثنين.. بعد بكرة.
ولابد ان جمال عبدالناصر شعر بصدمة حادة وهو يسمع عن استقرار الأمن من المسئولين عن الأمن في وقت تجري فيه عملية انقلابية كبري للتخلص منه ومن نظامه.. ولم يتردد حافظ إسماعيل في أن يعلن انه علي استعداد ان يقدم استقالته فورا.. وحسبما قاله لي فتحي الديب فإنه شعر بالألم مما سمعه من حافظ إسماعيل الذي كان معلما له ويكن له كل التقدير والاحترام.. وها هو يؤكد ما عرف عنه ويعلن بلا تردد أنه يتحمل مسئوليته كاملة.. وتبعه شعراوي جمعة في الطريق نفسه وقال: انه هو الآخر مستعد للاستقالة.. لكن جمال عبدالناصر تجاوز ذلك قائلا: إن أخطر ما في أجهزة الأمن أنها لا تتصرف الا علي طريقة رغاوي المياه الغازية كان يقصد ان هذه الأجهزة لا تتحرك إلا متأخرا بعد ان تفور المياه الغازية وتخرج من عقالها.
وأخذ جمال عبدالناصر نسخة التقرير من فتحي الديب وطلب من أحد مساعديه طبع ثلاث نسخ منه وزعها عليهم وهو يقول: لقد تركنا الحبل علي الغارب حتي نجح حزب البعث العراقي في تسريب هذه الأعداد الكبيرة إلي داخل البلاد في غفلة من أجهزة الأمن, ثم سكت برهة واستطرد: إريد ان أعرف موعد ساعة الصفر بدقة.. فلست الوحيد الذي سيدفع حياته ثمان للمؤامرة.. سيذبحونكم أنتم قبلي.
وصدرت الأوامر لإلقاء القبض علي قيادات الشبكة البعثية فورا بعد ان اخذ شعراوي جمعة الاسماء والعناوين من فتحي الديب, لكن قبل ان يحدث ذلك قال جمال عبدالناصر: ان فتحي الديب من اليوم هو المسئول الوحيد أمامي عن الأمن العربي الخارجي وعن التصدي لجميع الأنشطة الحزبية العاربية المشبوهة بكل صورها.. وعلي الجميع تقديم كل المساعدات المطلوبة له.. ولا يسمح لأي عربي بدخول الأراضي المصرية من غير المعروفين بسلامة خطهم ما لم يوافق فتحي الديب عليه.
باشرت نيابة أمن الدولة التحقيق مع أعضاء الشبكة بعد إلقاء القبض عليهم وعندما أعلن النبأ شعرت الأمة العربية بجرح غائر سببه صدام حسين في صدرها بعد ان فكر وخطط وحاول التخلص من أقوي الرموز القومية.. علي أن أهالي الطلبة العراقيين المقبوض عليهم سارعوا إلي الاتصال بسفيرنا في العراق لطفي متولي وهم يستنكرون ما جري وطلبوا نقل رسالة إلي الرئيس جمال الناصر صاحب القلب الكبير ليعفو عن أبنائهم وكلهم أمل في الاستجابة لمطلبهم وفي يوم10 سبتمبر من العام نفسه وردت رسالة من السفير المصري في بغداد تتضمن ذلك الرجاء.. وعندما اطلع الرئيس جمال عبدالناصر عليها أشر برأية قائلا: أري الأفراج عنهم بكفالة وترحيلهم إلي العراق دون محاكمة مع الإعلان عن ذلك.
إن هذه القصة التي خصني بتفاصيلها غير المنشورة فتحي الديب تؤكد أن سعي أجهزة الدعاية السوداء وإصرارها علي ان تعتبر صدام حسين هو خليفة جمال عبدالناصر كان منتهي الظلم لرجل ذابت حياته في سبيل أمته هو جمال عبدالناصر.
ولم ينته ما جري عند هذا الحد.. فقد قرر جمال عبدالناصر إعادة النظر في تنظيمات أجهزة الأمن ووضع هذه المهمة علي كاهل رجل كان يسميه الفايتر أو المقاتل هو فتحي الديب ولكن يبدو ان المقاتل كان في حاجة إلي استراحة ولو إجبارية.. ففي ذلك الوقت سقط فتحي الديب في مكتبه بعد أن صرعته أزمة قلبية مباغتة.. وعندما أفاق من الصدمة وجد أمامه فريق أطباء جمال عبدالناصر وعلي رأسهم إخصائي القلب الدكتور رفاعي كامل وإخصائي الباطنة الدكتور أحمد الصاوي.
وفي ذلك الوقت كانت أحداث أيلول الأسود في الأردن علي أشدها تهلك الجميع وهو ما دفع جمال عبدالناصر إلي الدعوة إلي قمة عربية طارئة حقنت دماء الفلسطينيين والأردنيين وخنفت الفتنة الملعونة.. وفي يوم وداع الملوك والرؤساء العرب كانت لحظة رحيل جمال عبدالناصر.
كان فتحي الديب قد تلقي اتصالا تليفونيا من جمال عبدالناصر أخبره فيه أنه سيمر عليه في بيته للاطمئنان عليه بعد أن يودع آخر الحكام العرب وهو أمير الكويت ولكن الإرهاق استبد بـ جمال عبدالناصر فاعتذر عن زيارة رفيقه في الثورة وتلميذه في مدرسة أركان الحرب وطلب تأجيل الزيارة إلي صباح اليوم التالي.. وفي الساعة السادسة اتصل سامي شرف بـ فتحي الديب يخبره بالنبأ الصاعقة.. رحيل جمال عبدالناصر.
وقد ظل فتحي الديب وفيا لـ جمال عبدالناصر ولفكره, فتفرغ منذ رحيله وحتي الآن لتسجيل ما فعله في ثورة الجزائر وثورة ليبيا وثورة اليمن والثورة الإيرانية وحركات التحرر في المشرق العربي.. وكلها أسماء كتب موثقة.. سيضاف إليها كتاب جديد هو عبدالناصر وعرب المهجر فقد وصلت القومية إلي آخر الدنيا.
إن فتحي الديب رجل يستحق الاحتفاء به.. فهو يعرف الكثير.. ويحترم ما يكتب.. ويوثقه.. إنه شاهد عيان زاهد, في وقت كسب فيه كل من مر مرورا عابرا علي الزعيم الراحل الملايين.