الرئيسية / الوحدة العربية / في ذكري رحيله … حوارات مع احمد بن بيلا

في ذكري رحيله … حوارات مع احمد بن بيلا

 

 …. حوارات مع احمد بن بيلا

في ذكري أنتصار الثورة الجزائرية أحمد بن بلا في حوار شامل
من الإستعمار إلى التدخل………….

نقلا عن شبكة فولتير

حسب أحمد بن بلا، تحرير شعوب الجنوب لم يكتمل بعد
في الوقت الذي يحتدم فيه الجدل المرضي في فرنسا حول منافع الإستعمار ومسؤولية العرب في إعاقة تطور مجتمعاتهم، يستحضر معنا الرئيس أحمد بن بلا مجموعة من الحقائق التاريخية من قبيل: شرعية هيمنة شعب على آخر- سواءا تعلق الأمر منها بما شهدته الجزائر أمس أو ما تشهده فلسطين اليوم-، والواقع الدولي- وليس العربي للإستعمار ومعارك التحرير الوطني، وأشكال التدخل الغربي لقلب الأنظمة القومية والثورية في دول الجنوب ولتثبيت عقابيل الإستعمار. مشددا على أن الأصولية الإنجيلية في الوقت الحاضر هي المصدر الرئيسي للعنف.
11 أيار (مايو) 2006
يعد أحمد بن بلا من رواد القومية العربية. كما كان من بين الأعضاء التسعة في الهيئة الثورية الجزائرية التي أنجبت جبهة التحرير الوطني. حكايته مع الإعتقالات بدأت مع المستعمر الفرنسي عام 1952، قبل أن يلوذ بالفرار. غير أنه لن ينعم طويلا بحريته، إذ سيلقى المصير ذاته، المرة هذه رفقة خمسة من أصدقائه. إذ تم اعتقاله في سجن “الصحة” إلى غاية 1962. وبعد التوقيع على اتفاقات إيفيان، أصبح بن بلا أول رئيس منتخب للجزائر المستقلة.

على الصعيد المحلي، قاد بن بلا سياسة إشتراكية تميزت ببرنامج إصلاح زراعي واسع. أما على الساحة الدولية، فلقد نجح في إلحاق بلاده بمنظمة الأمم المتحدة وبحركة عدم الإنحياز. ولقد سبب تأثيره الفعال والمتزايد في الكفاح ضد الإمبريالية، في الدفع بالقوى العظمى آنذاك إلى دعم مخطط الإطاحة بنظامه عبر انقلاب عسكري. ليوضع تحت الإقامة الجبرية من 1965 إلى 1980. منذ الفترة تلك، فضل بن بلا العزلة بعيدا عن شؤون بلاده الداخلية، دون التوقف عن لعب دور في الساحة الدولية، خاصة كرئيس للحملة الدولية ضد العدوان على العراق. كفاعل رئيسي وشاهد على عدد من التحولات التاريخية، يجيب على أسئلة سيلفيا كاتوري لحساب شبكة فولتير.

سيلفيا كاتوري: هل تقطن سويسرا، عدا خلال رحلاتك بالطبع؟

أحمد بن بلا: كلا، أنا أعيش في الجزائر، غير أني أزور كثيرا سويسرا. لقد عشت هنا لعشر سنوات، بعد أن تشاجرت مع نظام العسكريين الجزائريين. فمضايقات الصحافيين لي في الجزائر لاتنتهي، لهذا أفضل المجئ إلى هنا، حيث أملك شقة صغيرة، في كل مرة أحس فيها بالحاجة إلى الراحة وإلابتعاد عن مشاكل بلدي. تدرين أني بلغت التسعين عاما!

سيلفيا كاتوري: غير أن هيأتك توحي بأنك شاب في مقتبل العمر! أتدري سيد بن بلا أنك تركت صورة رائعة في قلوب الناس عبر العالم؟

أحمد بن بلا: (إبتسامة) صحيح أني عشت حياة فريدة من نوعها إلى حد ما. لقد شاركت في تحرير بلدي. كنت واحدا من الذين نظموا معركة التحرير. شاركت أيضا بشكل فاعل وفعال في كل معارك التحرير .

سيلفيا كاتوري: أنت عربي من أصل مغربي. أي نوع من الصلة مازالت تربطك بأصولك القروية؟

أحمد بن بلا: نعم، أنا جزائري من أصل مغربي عن طريق والدي. غير أن الجزائر، حيث مسقط رأسي، هي حياتي برمتها. أنا إبن مزارع فقير جاء في مقتبل عمره للعيش في الجزائر. ولم يسبق لي أن رأيت محل ولادة أبوي إلا مؤخرا، بنواحي مدينة مراكش .

سيلفيا كاتوري: حين قررت لقاءك، كان لدي انطباع بأنني ذاهبة لملاقات الشعوب والقضايا التي ناضلت من أجلها طوال حياتك. من المؤثر جدا الحديث هنا عن نضالك من أجل بناء عالم أكثر إنسانية، وأكثر عدلا. ألا تجسد كل هذا؟

أحمد بن بلا: حقا، حياتي كانت كلها نضال في نضال، أستطيع القول بأن معاركي هذه لم تتوقف في أي وقت من الأوقات. نضالي بدأته وأنا في سن السادسة عشر. التسعين سنة التي هي عمري الآن لم تضعف شيئا من عزيمتي: هو الورع ذاته الذي يبعث في الحياة .

سيلفيا كاتوري: في عام 1962، تقلدت أهم منصب على الإطلاق في نظام الجزائر المستقلة. كل الأحلام كانت أقرب إلى الواقع. فمن جزائر محتلة إلى بلد مستقل، ومن الساحة السياسية الدولية إلى الكفاح ضد العولمة، لابد أنك دفعت غاليا ثمن عدم إذعانك .

أحمد بن بلا: صحيح أنني دفعت غاليا ثمن كفاحي من أجل العدالة وحرية الشعوب. ولكن لم أفعل سوى ما آمنت به واجبا والتزاما مني. لذلك فإن الإختيار بالنسبة لي لم يكن غاية في الصعوبة. حين التزمت بالنضال من أجل بلدي، كنت صغير السن. ولقد فتحت الآفاق بين يدي، أدركت بعدها وبسرعة فائقة أن المشاكل تتعدى الجزائر، وأن الإستعمار يطال شعوب عدة أخرى، وأن ثلاثة أرباع دول العالم كانت مستعمرة بشكل أو بآخر. ولقد كانت الجزائر حينها، بالنسبة للفرنسيين، إقليم ما وراء البحار، كانت بمثابة فرنسا في الضاحية الأخرى للبحر الأبيض المتوسط .

إن الإستعمار الفرنسي للجزائر طال كثيرا : 132 سنة. ولقد شاركت في الكفاح هذا بالجزائر. مباشرة بعد الإستقلال، إرتبطت بكل أولئك الذين يناضلون هم أيضا، في كل أنحاء العالم، في سبيل تحرير بلدانهم. فمثلت المرحلة تلك شكلا من أشكال معركة التحرير الوطنية التي شاركت في كل حلقاتها. ففي تونس والمغرب والفييتنام، أصبحت الجزائر نوعا ما أما لمعارك التحرير، فكان دعمنا لهذه الدول بمثابة واجب مقدس في نظرنا. ففي كل مرة يأتينا فيها أحدهم طالبا للعون، كان الأمر في غاية القدسية لنا. كنا نساعد طالب العون دون تردد، وإن كانت إمكانياتنا محدودة. كنا نساعدهم بالسلاح، قليلا من المال، وعند الإقتضاء بالرجال.

سيلفيا كاتوري: في العام 1965، تم اعتقالك وسجنك، لكن هذه المرة من طرف رفاقك في السلاح. ماهو إحساسك الآن اتجاه أولئك الذين رتجوا الطريق أمامك بعنف؟

أحمد بن بلا: لا أحس اتجاههم بأي نوع من الإحتقار أو من الكراهية. أظن أنهم ساهموا في أمر ليس بالجد شريف ولكن بالمؤذ جدا، ليس فقط للشعب الجزائري، ولكن أيضا للشعوب الأخرى التي كانت تعول على عوننا. إن كفاحي من أجل تحسين ظروف عيش الجزائريين، والذين كانوا تحت وطأة البؤس، وكفاحي من أجل مساعدة شعوب أخرى مستعمرة لنيل حريتها، الكفاح هذا أزعج كثيرا بعض القوى الحاكمة، التي رأت أنني ذهبت بعيدا في نشاطي. كان لابد من أن أختفي. هذا للقول بأنه لو لم أتعرض لانقلاب من الجيش الجزائري، لتعرضت له على يد قوات أجنبية أخرى. كان لابد أن أبعد لأنني أصبحت جد مزعج. كنت آوي عمليا جميع حركات التحرير، والتي شملت كذلك القادمة منها من أمريكا اللاتينية.

سيلفيا كاتوري: هل كنت في علاقة بالزعيم الكوبي فيديل كاسترو؟

أحمد بن بلا: نعم، إذ زارني شي غيفارا في الجزائر العاصمة حاملا لي رسالة من فيديل كاسترو الذي التقيت به مرتين. كان قد طلب إلينا مساندة حركات الكفاح التي تتضاعف آنذاك في أمريكا الجنوبية، لأن كوبا لم تكن تستطيع فعل أي شئ وهي تحت رقابة الولايات المتحدة التي تحتل جون غوانتانامو. فكل صغيرة أو كبيرة تخرج من كوبا كانت الولايات المتحدة على دراية بها. لم أتردد لحظة واحدة في مد يد العون. فكانت الإنطلاقة من الجزائر بمشاركة تشي غيفارا الذي أقام عندنا لمدة ستة أشهر، إذ وضعت اللبنة الأولى لإنشاء مجلس قيادة جيش تحرير أمريكا الجنوبية. أستطيع القول الآن بأن كل المناضلين الذين شاركوا في معركة التحرير بأمريكا الجنوبية زاروا الجزائر، ومنها انطلقوا كلهم. إذ سهرنا على تدريبهم، وتدبرنا أمرنا بالشكل الذي يسمح بوصول السلاح إليهم، كما أنشأنا شبكات لذات الغرض.

سيلفيا كاتوري: في أي عام زار تشي غيفارا الجزائر؟

أحمد بن بلا في استقبال تشي غيفارا
الجزائر العاصمة، 1963

أحمد بن بلا: زيارة تشي للجزائر حصلت عام 1963، مدة قصيرة بعد تولي للحكم. فتعهدت أنا وحكومتي على مساعدة حركات التحرير الوطني. في الوقت ذاك، كانت لاتزال مجموعة من الدول تحت سيطرة الإستعمار أو ما فتأت حصلت على استقلالها. والوضع هذا ينطبق خاصة على دول إفريقيا، التي لم نتأخر في دعمها. وتندرج في هذا الإطار زيارة السيد مانديلا والسيد أميلكار كبرال للجزائر. أنا شخصيا من قام بتدريبهما، قبل أن يعودا إلى بلديهما لقيادة معركة التحرير. أما فيما يخص الحركات الأخرى، والتي لم تتبنى الكفاح المسلح أو لم تكن في حاجة إلا لدعم سياسي، كدولة مالي، فلقد كان سندنا لها على مستويات مختلفة .

سيلفيا كاتوري: من كان بالظبط وراء استبعادك عام 1965؟ أهو الجيش الجزائري أم هي قوات أجنبية معينة؟

أحمد بن بلا: أنا واثق من أن بعض القوى الأجنبية كانت لها يد، بطريقة غير مباشرة، في إبعادي. لقد تتبعنا الميكانيزمات ذاتها في مناطق أخرى عبر العالم. فحيثما انتصرت حركات الكفاح الوطني، وبعد الأخد بزمام الحكم، سجلنا وقوع انقلابات عسكرية ضد قادتها. وهو أمر كثير الحدوث. فخلال عامين فقط، وقع 22 انقلاب عسكري، خاصة في إفريقيا وبلدان العالم الثالث. لعل انقلاب الجزائر العاصمة عام 1965 هو الذي فتح الباب على مصراعيه للإنقلابات الأخرى. فلم تكن الجزائر إذن إلا نقطة انطلاق مسار مبيّت، وهو ما يجعلني أخلص إلى أن النظام الرأسمالي العالمي هو الذي ركس ضدنا.

سيلفيا كاتوري: هل أنت ماركسي؟

أحمد بن بلا: أنا لست ماركسيا، غير أنني أتموضع بعزم على اليسار. أنا عربي مسلم، يساري التوجه في نشاطي وقناعاتي. وهو ما يجعلني، وإن لم أتبنى المذهب الماركسي، دائما في صف كل حركات اليسار في العالم وفي الدول الإشتراكية، على غرار كوبا والصين والإتحاد السوفياتي سابقا، التي قادت الكفاح ضد الإستعمار والإمبريالية. فبمعيتها شكلنا جبهة تحرير وقدمنا دعمنا اللوجستيكي للقوات الشعبية لإعانة بلدانها على الخروج من الإستعمارية وتأسيس نظام قومي محلي. كانت تلك مرحلة تصفية النزعة الإستعمارية. هذه الأخيرة عبارة عن فكرة رأت النور في الغرب، قبل أن تدفع دولا غربية كفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وابريطانيا إلى احتلال بلدان خارج القارة الأوروبية. احتلال في شكله البدائي، أي عبر تولية سلط أجنبية ردعية داخل هذه البلدان، بجيشها وشرطتها ومرافقها المختلفة. هذه المرحلة عرفت أشكالا استعمارية فظة دامت 300 سنة في أندونيسيا على سبيل المثال.

سيلفيا كاتوري: بعد المرحلة هذه، ألم تنشط ضمن حركة دول عدم الإنحياز؟

أحمد بن بلا: لم تعد هناك أية دول عدم الإنحياز. هذه الحركة كان قد أسسها رجال من طينة ناذرة، كنيهرو وماوتسي تونغ وناصر وشخصيات عظيمة أخرى. كان ذلك خاصة في وقت تضاعفت فيه مخاوف نشوب حرب ذرية جراء الصراع بين الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي سابقا. لقد كنا على حافة الحرب الذرية، التي ساهمت حركة دول عدم الإنحياز بشكل فاعل في إجهاضها. غير أن عمر الحركة لم يتجاوز بضع سنين، إذ لم يتوانى النظام السائد في قبرها.

سيلفيا كاتوري: ألم تلعب دورا هاما، بعد ذلك، في تنمية الحركة العالمية المناهضة للعولمة؟

أحمد بن بلا: إن النظام العالمي القائم يجسد كل ما تحدثنا عنه، لقد أوجد شكلا آخر من الهيمنة تحت إسم “العولمة”. “عولمة” مصطلح جميل في حد ذاته، مصطلح يمكنه أن يوحد الصفوف ويبث مشاعر الأخوة بين الشعوب. والحال أن المصطلح هذا، بالمعنى الذي أعطي له، يحمل كثيرا من الإساءة، إنه وراء عولمة البؤس والموت والجوع. إنه السبب الرئيسي وراء سوء التغذية التي تذهب بأرواح 35 مليون شخص سنويا. أي نعم، كان من الممكن أن يكون مصطلحا جميلا لو عولمنا الخير والرفاهية للجميع. لكن الواقع جاء مغايرا. إنها عولمة منحرفة للشؤم والموت والفقر.

سيلفيا كاتوري: ألم تكن للعولمة سوى آثار مشؤومة؟

أحمد بن بلا: إن الفضل الوحيد الذي حصدناه من العولمة هو أننا أصبحنا اليوم أكثر اطلاعا على الأحداث مقارنة بالماضي. لا أحد يستطيع أن يتجاهل كون هذا النظام ينشر المجاعة أكثر فأكثر. صحيح أنه تم خلق الثرواة، غير أنها ثرواة مفتعلة. إنها الشركات المتعددة الجنسيات من قبيل “جنرال موتورز” و”نيستلي”، إنها شركات صناعية كبرى تزن، على المستوى النقدي، أكثر من بلدان كبرى كمصر. إذا اعتمدنا على هذه الأرباح كمعيار، فإن “جنرال موتورز” على سبيل المثال أغنى أربع مرات من مصر الذي يبلغ عدد سكانها 70 مليون نسمة. بلد الفراعنة، ذلك البلد الجميل ذو الساكنة الأكثر ثقافة بين الدول العربية الأخرى. هذا يعطيكم صورة عن معنى مصطلح “العولمة”. لهذا السبب ناضلت ضد هذه المنظومة التي تفضل مجموعات تزن، على الصعيد النقدي، أكثر من بلد كبير والتي تنتج هذا القدر من التباين. لهذا يجب علينا نحن، نحن الآخرين، تشجيع فهم أوضح للمشاكل التي تم تعقيدها عمدا، والتي في الأخير، رغم ذلك، تمثل تعبيرا عن شئ واحد هو التأسيس لنظام وحشي.

سيلفيا كاتوري: في العام 2003، و رغم الإرادة المعبر عنها بوضوح من طرف ثلاثة أرباع ساكنة العالم، لم تنجح الحركات التقدمية في منع نشوب الحرب. ألم يكن ينتابك، من حين إلى آخر، إحساس بأن قادة هذه الحركات قد أخلفوا خطوة ما، أو صراحة ذهبوا في الطريق الخطأ حين فشلوا في إدراك الحوافز الحقيقية للخصم؟

أحمد بن بلا: أنا الرجل المنتمي إلى الجنوب، ألاحظ أن تغييرا ما وقع في الشمال، وتوضيحه غاية في الأهمية. إن التغيير الذي حصل بالضبط في هذة الوجهة المسماة متقدمة في الشمال، التي حاربتنا واستعمرتنا ومارست علينا أمورا مهولة، هو وجود رأي يعبر عنه هاهناك وشباب يصيح عاليا “كفى”. وهذا يشير إلى أن هذه النظام الدولي الضال لم يعد يسئ إلى الجنوب فحسب، وإنما إلى الشمال أيضا. في الماضي كنا نتحدث عن الفقر والبؤس في الجنوب فقط، أما اليوم فهناك الكثير من البؤس والأذى يخلف عددا من الضحايا في الشمال كذلك. لقد أصبح الأمر هذا جليا، إذ أن هذا النظام العالمي لم يبلور لخدمة مصالح الجميع، بل لخدمة أهداف الشركات المتعددة الجنسيات. إذن، داخل الشمال هذا الذي حاربناه كثيرا، توجد الآن حركة وفئة شابة بمجملها تريد أن تتحرك، تنزل إلى الشوارع وتناهض رغم أن اليسار لم يعرف كيف يمد شبابه، الطواق إلى التغيير، بمفاتيح حل القضية. هكذا كانت الأمور تسير دائما، أي أن كل حركة حركة تبدأ بالشكل هذا. فحركة التحرير التي قدت في الجزائر، أي المنظمة التي أنشأت لمكافحة القوات الفرنسية، كانت في البداية حركة محدودة جدا. لم نكن أكثر من بضع عشرات في الجزائر كلها، والتي تمثل خمس مرات مساحة فرنسا.

سيلفيا كاتوري: ماذا استفادت أجيال الشباب هذه التي علقت آمالا كبيرة على “أتاك” مثلا، التي تقترح “إصلاح العولمة”؟ ألم يكن من المفروض رفض مبدئها ذاته وتبني إجراءات أكثر راديكالية، في مواجهة راديكالية النظام المسمى بالليبيرالي؟

أحمد بن بلا: إن قادة اليسار، حين يأخدون بزمام الحكم، لايختلفون عن قادة الأحزاب الأخرى. فيما يخص الجزائر، حاولنا العمل مع اليسار الفرنسي. والحال أننا لم نعرف حكما أسوء من الذي مارسه الحزب الإشتراكي الفرنسي، الذي عانينا في ظله من أسوء الأمور. إذ أنه لم يسبق لسلطة سياسية من قبل أن حاربتنا بالشراسة التي واجهنا بها نظام الإشتراكي “كاي مولي”. أنا أحكي لكم عن وقائع واضحة، أحكي ما عشته. كنت على رأس جبهة التحرير الوطني حين قامت حكومة “كاي مولي”، بعد أن أدركت أن فرنسا لم تعد تستطيع الصمود في الجزائر، بالإتصال بجمال عبد الناصر طالبة إليه أن يستفسرنا إن كنا مستعدين للتباحث معهم، وهو ما كنت أتوقعه دائما. أي أنه سيأتي يوم لابد فيه من الجلوس للتفاوض ولتحديد السبيل الأمثل الذي سيمكن الجزائر من الحصول على استقلالها الكامل. ذلك هو المبتغى الذي كنا نرجوه، أن نصبح مرة أخرى أحرارا، وأن نتخلص من العيش تحت سيطرة نظام قمعي. أجبت بالقبول وأنني كنت مستعدا للتفاوض بشرط أن يقوم الفرنسيون أنفسهم بطلب ذلك. كان ذلك في غاية الأهمية، لأن الأكثر ضعفا هو الذي يطلب دائما التفاوض. كما اشترطت أن تجري المفاوضات، والتي دامت ستة أشهر، في مصر. توصلنا بعدها إلى حل. وبقصاصة الورق تلك في جيبي، في سبتمبر 1956، ذهبت لملاقاة وإخبار ملك المغرب محمد الخامس، الذي لعب دورا في هذا الكفاح من خلال مساعدته لنا، بما فيها العسكرية. بعد ذلك، وفي طريقنا إلى تونس حيث أردنا كذلك إشعارالسلطات المحلية، تم تعقب طائرتنا من طرف الطيران الفرنسي. كان ذلك بمثابة أول خطف لطائرة في التاريخ. كان في هذه الطائرة ثلثي قادة الثورة الجزائرية. كانوا يريدون تصفيتنا على الفور، غير أننا نجينا من الموت بمعجزة. كل هذا لأوضح لكم رأيي في الإشتراكيين: إنه “كاي مولي”، الذي مافتأ وقع التزاما، حتى خانه. أستطيع القول الشئ ذاته عن الحاكم “لاكوست”، هو أيضا كان اشتراكيا. لا، لم تدعمنا أحزاب اليسار، بل العكس هو الذي حصل. مهما كان الحال، فإن اليسار هو الذي كان يهمنا ومعه مازلت أكافح. أنا رجل يساري.

سيلفيا كاتوري: إذن في كل مرة تجد فيها نفسك جنبا إلى جنب مع ممثلي” الإشتراكية العالمية”، في منصات الملتقيات الإجتماعية، ألاتقول في نفسك، في وقت من الأوقات، بأن حضورهم يخدم اعتباراتهم الشخصية قبل كل شئ؟

أحمد بن بلا: صحيح أنه من حين لآخر أظن بأنهم غير جديين. أنا أود بحق تغيير هذا العالم، أريده أن يتغير. لتغيير الأمور، نحن في حاجة إلى أشخاص مخلصين ومترفعين قبل كل شئ.

سيلفيا كاتوري: هل تؤمن حقاً بضرورة التغيير؟

أحمد بن بلا: أجل. فمنذ فتوّتي وأنا أومن بهذه الضرورة. وسوف أعود إلى قولك. إلى ما يقودني شخصياً إلى نوع من الثقة بالمستقبل. أريد الكلام عما ألاحظه هنا في الغرب. إنني مقتنع بأن النظام الليبرالي لا مستقبل له. فأود أن أقول لهؤلاء الشباب، لهؤلاء التلامذة الذين رأيتهم ينزلون إلى الشوارع. هؤلاء الشباب الذين يتظاهرون، سعيا وراء قيم جديدة : ” أنا بدأت على هذا النحو، حين كنت في سنّكم. بدأت بخطوات صغيرة. وشيئاً فشيئاً سار ورائي شعب بكامله. ” وحين أتوجّه إلى المظاهرات، أراقبهم وأتحدث إليهم، وأرى أنهم هم الذين يمسكون بالأوراق في أيديهم.

سيلفيا كاتوري: هنالك سؤال يطرح طرحاً ملحّاً: ألم يراع زعماء الحركات المناهضة للإمبريالية إسرائيل، وهي الدولة العنصرية إيديولوجياً وتشريعياً، والتي تطبّق منذ إنشائها سياسة تطهير عرقي في فلسطين؟ فقاموا بالتالي بحرف أجيال من الشباب عن وجهتهم، وزوّروا الجدل. في حين كانت إسرائيل تعمل بكل نشاط، مع الولايات المتحدة، على محاربة الشيوعية ومحاربة عبد الناصر والقومية العربية، ومساندة الأنظمة الرهيبة؟

أحمد بن بلا: هذه المسائل مطروحة اليوم على بساط البحث، وهي تثير الجدل. نحن لا نرغب في تضامن زائغ. ولا نرغب في دولة، تكون كإسرائيل، الأداة الفضلى بيد ذلك النظام الشمولي الظالم الذي تقوده الولايات المتحدة، التي تطبق سياسة سبق لها أن تسببت بمظالم كثيرة. ونحن نرى وجود غدر مزدوج. هنالك أولاً غدر الذين كان عليهم، وهم في معسكر اليسار، أن يقفوا إلى جانبنا مخلصين للقضية الفلسطينية والعربية. لكنهم لم يفعلوا. وهنالك من بعد غدر كافة أولئك اليهود الذين نشعر حيالهم بالقرابة، والذين بيننا وبينهم نقاط تشابه ونعيش معهم بتناغم تام. إن العرب واليهود أبناء عمومة. فنحن نتكلم اللغة نفسها، إنهم مثلنا ساميون. فهم يتكلمون الآرامية ونحن نتكلم الآرامية. للآرامية عدة فروع: إثيوبيا تتكلم الآرامية، وإريتريا تتكلم الآرامية، والذين يعتنقون اليهودية يتكلمون الآرامية والعرب يتكلمونها أيضاً. إن ذلك ما يؤلمنا أشد الألم: أن نشعر أن أقرب الناس إلينا قد غدروا بنا، غدر بنا أناس هم أبناء عمومتنا، ويشبهوننا ويتكلمون الآرامية مثلنا. اللاسامية نحن نعرفها، فنحن ساميون. وأضيف على ذلك أن نبيّهم هو نبيّنا. إن موسى والمسيح من الأنبياء عندنا.
(JPEG)
أحمد بن بلا رفقة جمال عبد الناصر

سيلفيا كاتوري: منذ نهاية التعددية العسكرية، وهيئة الأمم المتحدة واقعة تحت الوصاية الأميركية والمحافظين الجدد. وكل بلد عربي لا يخضع لإملاءاتهم، يغدو معزولاً بين الأمم. فكيف ترى هذا الوضع؟ وكيف السبيل إلى الخروج منه؟ ومن جهة أخرى، أليست حماس، في مواجهتها الأحادية الجانب مع إسرائيل، مهددة بالفشل والسقوط، والتخلي عما يقاتل من اجله الشعب الفلسطيني منذ 60 عاماً؟

أحمد بن بلا: أعتقد أن حماس مثال متميّز لما يجري لدينا، ولهذا البعد الذي يتخذ الآن لونا دينيا شديدا، يتحمل مسؤوليته الإسلام. أنا عربي مسلم، لكنني لا أرغب في العيش في بلاد توجهها أصولية إسلامية. إلا أنني، وهنا أكلمك بكل صراحة، لا ألومهم. فهذه الحاجة إلى الدين، إنما أوجدتها التواءات النظام الرأسمالي. إن إفراط المتطرفين في إسرائيل والولايات المتحدة في إلحاق الأذى بنا، بدلاً من أن يؤدي إلى قيام حركة ذات صبغة عروبية، تأتزر بالثقافة والانفتاح، جعلهم يجدون أنفسهم حيال هذا المأزق .فهم المسؤولون عن خلق هذا الوضع.

سيلفيا كاتوري: ألست راغباً في الخطاب الديني؟

أحمد بن بلا: أنا مسلم، لكنني لا أتمنى أن يكون الخطاب دينياً. ولست أرفض الواقع الديني بحد ذاته، وأرفض أن لا يتوجه الخطاب الديني نحو تجديد الإسلام، وأن يكون خطابا إسلامياً رجعياً، بقراءة قهقرية. في حين أننا نتميّز في الإسلام بالإيمان بالديانتين: الديانة اليهودية والديانة المسيحية. فليس محمد بالنسبة لنا سوى استمرار ليسوع المسيح وموسى?

سيلفيا كاتوري:أليس المسلمون هم الذين يتولون اليوم زمام المقاومة ضد الاستعمار؟ أليس هنالك ما يدعو للاعتراف بأن العرب والمسلمين لا يناهضون قيم الغرب وإنما سياسته العدوانية؟ ألم يقم حزب الله، على سبيل المثال، وهو لا يتمتع بأية سمعة حسنة عندنا، بدحر الإمبريالية الأميركية والإسرائيلية في لبنان؟ ألا ينبغي على التقدميين أن يتجاوزوا أحكامهم المسبقة حيال المسلمين، وأن يعتبروهم عنصراً فاعلا في الكفاح ضد الظلم وأن يدعموهم؟

أحمد بن بلا: أجل، أجل. فالمسألة هنا مسألة تربية. فمن واجب الذين يتولون قيادات الأحزاب التقدمية، أن يردوا رداً ملائما على مثل هذه الأوضاع. لكن ذلك لا يحصل. نحن لدينا علم ولدينا نشيد وطني. أما بشان الباقي، فإن الغربيين، من كافة النوازع والأهواء، هم الذين يتولون اتخاذ القرارات بدلاً عنا. ويتم ذلك في لبوس كلام جميل منمّق، تحت مظلة مساعدة المنظمات مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي. وهي منظمات لا تتعدى كونها وسائل تعذيب أوجدها الغرب ليواصل سيطرته علينا. وذلك يعني أننا خرجنا من نظام استعماري مباشر لنبادله بشيء يبدو مظهره أفضل، إلا أنه ليس في حقيقته كذلك. على كل حال أعود لأقول لك، إنني أضع أملي في هذا الشمال الذي سبق فألحق بنا ضرراً كبيراً، فجيل الشباب يعي هذا المنطق من السيطرة التي تتسبب بفقر متزايد في الشمال كما في الجنوب على حد سواء. وإذا لم تكن السيطرة هي نفسها المطبقة في الجنوب، فإنها تتسبب في وضع من العوز لا يسع كائنا حراً أن يقبل به. فكم يبلغ عدد الناس الذين يعانون من البطالة ومن الفقر فيهيمون على وجوههم في الشوارع؟ قد يكون ذلك ما سيحرّض شعوب الشمال على تغيير نظرتها لتنضم إلينا انضماماً صريحاً.

سيلفيا كاتوري: لكننا لا نرى في الغرب اليوم أناساً كثيرون يحتجون على الفظائع التي ترتكب في العراق وفي فلسطين وفي أفغانستان. أليس لديك انطباع بأن هنالك الكثير الكثير من الأحكام المسبقة، ضد العرب والمسلمين، والتي أُحسنت صياغتها وترسيخهاــ حتى في صفوف المنظمات المناهضة للحرب ــ بحيث أضحى دعم العرب في مقاومتهم فكرة بعيدة عن أولئك بعدأ كبيراً؟

أحمد بن بلا: هذا صحيح، والأحزاب اليسارية التي كنا نعوّل عليها خيّبت آمالنا. فاتخذت منا موقفا معارضاً. فما إن تحدثيهم عن الإسلام حتى يقولوا لك بن لادن. أنا لا أرغب في العيش في ظل نظام يتزعمه بن لادن، لكنني لا أنتقده. فحين أرى ما فعلت يدا بوش، لا يسعني أن أنتقد بن لادن. وأقول لك بكل صراحة: إنني لم أشجب الهجمات على أبراج نيويورك. أنا أدين بوش وأدين الحكومة الأميركية، لأنني أعتبر بن لادن ثمرة السياسة الأميركية. لقد أغلقوا كافة أبواب الحوارمع العرب والمسلمين. وجعلوهم يعتقدون طيلة عقود بأنهم إن يفعلوا هذا الشيء أو ذاك، فإن الغرب سيحل العدل في فلسطين. وواقع الحال أن إسرائيل وحلفاءها لم يرغبوا يوماً في إحلال السلام عندنا. فإسرائيل لم تكف عن محاربة الشعوب وترويعها. وبن لادن هو الصنيعة غير المباشرة لبوش وإسرائيل. فهذان البلدان يزرعان الموت والحقد في الشرق الأوسط والعالم: فلم يدعا أمامنا من خيار آخر سوى المجابهة العنيفة. فكافة الحركات الراديكالية التي توصف بـ “الإرهابية” أو ” الأصولية”، إنما نشأت ردا على الإرهابيين، الذين يقودون من تل أبيب وواشنطن، حروب دمار ضد الشعوب العربية. فأي خيار أمام تلك الشعوب التي يقصفونها بمثل تلك الهمجية؟ وماذا أمامهم من سلاح، وهم في مجابهة جيوش حديثة، سوى التضحية بحياتهم وهم يفجرون أنفسهم؟ إن ذلك يدعى في القرآن “الشهادة”. إنها فكرة خارقة يجري التعبير عنها بهذه الكلمة. إنها حالة يأس، لا يعود الذي يحس بها، قادراً على العيش. إنه يضحّي بنفسه، لا ليحصل على حياة أفضل لنفسه، بل على أمل أن يتمكن ذووه من العيش عيشاً أفضل. إنها أعظم تضحية. أما هنا في الغرب فيسمونهم “إرهابيين”. وأنا أقول لك بكل صدق، وأؤكد على أنني انحني احتراما أمام امرىء يقوم بمثل تلك التضحية.

سيلفيا كاتوري: إن كنت قد أحسنت فهمك، فأنت تقول إن كل ما يتسبب في إثارة سخط الناس في الشرق الأوسط قد نشأ بواسطة الغرب. وإن على الذين يقاتلون أن يضحوا بأنفسهم وأن يتألموا من أجل الآخرين. وإن العرب أبدوا كل تسامح في الماضي؟

أحمد بن بلا: تماماً. فالعنف الذي يتجلى في العالم العربي والإسلامي إنما هو ثمرة ثقافة الحقد والعنف التي بذرتها إسرائيل حين فرضت نفسها بالقوة على الأراضي العربية. إن الفظائع التي ترتكبها تلك الدولة اللاشرعية هي التي ترغم أبسل الناس على الرد. ولست أظن ان هنالك من نضال يفوق شرفا نضال الفلسطينيين الذين يقاومون المحتل. فحين أرى ما عانى هذا الشعب منذ ما يزيد على قرن من الزمان، وأنه ما يزال يجد القوة على متابعة الكفاح، تمتليء نفسي إعجاباً. أما اليوم فإن هؤلاء الذين يعملون في هذا الشعب تقتيلاً، هم الذين يظهرون رجالات حماس على انهم فاشيون وإرهابيون. لكن ليس هؤلاء بفاشيين وليسوا إرهابيين، إنهم مقاومون!

سيلفيا كاتوري: فلسطين وطن سجين. فكيف انتهى الأمر، حتى مع اليسار، للكلام عن “إرهاب”، بدلاً من الكلام عن الحق في المقاومة المسلحة؟ فهل ترى جوانب موازية أم فروقات رئيسة بين الاستعمار الفرنسي للجزائر واستعمار فلسطين من قبل إسرائيل؟

أحمد بن بلا: الوضع في فلسطين أسوأ بكثير. يضاف اليه التمييز العنصري. فما كان بوسع الفرنسيين أن يطردوننا خارج حدود بلاد أكبر مساحة من فرنسا بخمس مرات. لقد حاولوا أن ينشئوا في شمال البلاد منطقة عازلة، تضم أقل عدد ممكن من الجزائريين، لكن ذلك لم ينجح. ولم ينشئوا على الأرض نظام تمييز عنصري كما يفعل الإسرائيليون في فلسطين. لقد أنشأت إسرائيل أكثر أشكال الهيمنة فظاعة.

سيلفيا كاتوري: هل تعتقد بأن الفلسطينيين سيعيشون تحت الاحتلال زمنا أقل مما عاش الجزائريون تحت الاحتلال الفرنسي؟

أحمد بن بلا: أجل أعتقد ذلك. فالاستعمار، بادىء ذي بدء، ظاهرة محظورة بالقوانين الدولية. ومن ناحية أخرى، إن كان لمسألة أن تحظى بالإجماع في العالم العربي، فهي المسألة الفلسطينية. وما دام الفلسطينيون لم ينالوا حقوقهم العادلة، فإن العالم العربي الإسلامي لن يشعر بحريته، هو أيضاً. سيظل العرب يشعرون بأن قطعة من جسدهم ما زالت في الأسر.

سيلفيا كاتوري: لم تكن السياسة فيما مضى أكثر نبلاً، لكن كان هنالك توازن. أما مع انتهاء ثنائية الأقطاب، فإن المبادىء الأخلاقية الأساسية جداً قد كُنست. فأينما تتوجّه تسمع حديثاً عن “الإرهاب”، لكن ليس من يذكر بكلمة واحدة 800 طفل قتلوا في فلسطين برصاص الجنود الإسرائيليين منذ عام 2000. ولا ملايين الأطفال العراقيين الذين قتلوا، أو المرضى الذين لم يعد من حقهم أن يأملوا بحياة طبيعية. هل كان لسجون غوانتانامو أو أبو غريب أن تقوم، لو كان لدى الأسرة الدولية اللباقة الكافية لتقول كلا بوجه عنف واشنطن؟ ومن هو رجل الدولة المسؤول الذي ما تزال يداه نظيفتين بعد تلك الحرب المزعومة ضد ” الإرهاب “؟

أحمد بن بلا: إن ما قد حدث في غوانتانامو وأبو غريب وفي أماكن أخرى لشيء رهيب .وما زال ذلك الهول كله في انتشار متواصل ليولّد آلاماً أكبر. وقد بلغنا أن الولايات المتحدة أقامت سجوناً في أوربا الشرقية لتكون في مأمن من الملاحقات القضائية في بلادها، وأن أوربا ضالعة في ذلك كله. بل جرى توجيه لوم إلى سويسرا لأنها سمحت بأن تحلق فوق أراضيها تلك الطائرات التي تحمل سجناء مجهولين، جرى اختطافهم ثم أخضعوا للتعذيب.

سيلفيا كاتوري: ما هي، حسب رأيك، الوسائل الكفيلة بالوقوف في وجه الاستراتيجية التي يعتمدها بوش والمحافظون الجدد؟

أحمد بن بلا: إنها حركة أصولية، لكن هذه مسيحية! فالمعضلة التي نواجهها اليوم هي التالية: إن إيديولوجية بوش هي أسوأ أصولية يمكن أن نتخيلها. فالإنجيليون البروتستانت المعروفون، هم مصدر وحي بوش وإلهامه. وهي أصولية رهيبة. فما الوسائل المتوفرة لدينا في نهاية المطاف للكفاح؟ كلّمتك عن الآمال التي أعلّقها على الشبيبة، مع علمي الأكيد بأنها لا تملك وسائل حقيقية لمقاتلة ذلك النظام المرعب. وأنا أعلم حق العلم أن النزول إلى الشارع لا يكفي. فينبغي الانتقال إلى شيء آخر، وابتكار وسائل فعل أخرى. لكن ينبغي الفعل والتأثير، لا مجرد التلقّي. وحين يتولانا الإحساس بعدم التقدم، ينبغي أن نقول إننا نمر في أطوار، وإنه يلزمنا بعض الوقت لبلوغ الفهم من قبل العدد الأكبر. فنبدأ الفعل مع الذين يتمتعون بفهم واضح، حتى لو لم يكن ذلك يغطي كافة المسائل. لكن ينبغي من بعد أن نتجاوز العوائق وأن نقول لأنفسنا إنه ليس الحزب الاشتراكي الذي سيغير العالم، مهما قال عن نفسه إنه اشتراكي، ولا أيّ تجمع آخر.

سيلفيا كاتوري: هل سيأتي الحل، لبلوغ شيء من عودة التوازن، من جانب الصين وروسيا؟

أحمد بن بلا: أعتقد أن الأمل يمكن أن يأتي عن طريق الصين. لقد ساعدتنا روسيا في الماضي مساعدة خارقة. لكن روسيا، ولسوء الحظ، ليست الآن في وضع سهل. فلن أعلق آمالاً عليها. سأراهن على الصين أكثر بكثير. فلديها من المبررات ما لا يتوفر لدى روسيا. والصين على رأس البلدان التي تنمو وتزدهر. والغرب نفسه في طريقه للاستقرار في الصين من أجل تنشيط اقتصادها. ولسوف نرى بعد 20 عاماً ظهور خارطة سياسية جديدة.

سيلفيا كاتوري: وبانتظار ذلك، ما عسانا نقول للشعوب المتروكة لمصيرها مثل فلسطين والعراق؟

أحمد بن بلا: إننا لا نقوم بالفعل أبدا ونحن نفكر في أننا سنكون في عداد المنتفعين. إننا نقوم بالفعل لأن من واجبنا أن نفعل. وما كانت الإنجازات العظمى قط ثمرة جهود جيل واحد. يقال عندنا إن من يأكل ليس من يُعدّ الطعام. فلا بدّ من إنشاء شبكات تضامن تدعم كفاح تلك الشعوب دون شروط.

سيلفيا كاتوري: وما عساك تقول أيضا لتلك الشبيبة التي ذكرت، لا سيماأنها الشاهد على كل تلك الخروقات؟

أحمد بن بلا: على الشباب أن يتجاوزوا هذا الواقع، وأن يتخذوا المبادرات. ولئن لم يعد كافياً عقد لقاءات دورية وإقامة تجمّعات كبرى، وإذا لم يتغيّر من شيء، فينبغي التحول إلى شيء آخر: ينبغي ابتكار أشكال جديدة من النضال دون أي انتظار.

سيلفيا كاتوري: لكن أما آن للعرب أن يمسكوا بأيديهم بزمام الحركة المناهضة للحرب، والتي ما تزال بأيدي الغربيين؟

أحمد بن بلا: بلى، بلى. ونظراً لخطورة الوضع في الشرق الأوسط، فإن على الفلسطينيين أو على ممثلي الحركات في العالم العربي أن يتحرّكوا. وأعتقد أن على هذه الحركة العربية، والحركة الفلسطينية، وكافة تلك القوى، إن تتضافر معاً وتتجاوز خلافاتها. أن تمثّل أملاً، وليس للعرب فقط. إنها تستطيع أيضاً أن تساهم في تغيير هذا العالم، وفي تغيير النظام العالمي على نحو ما يعمل الآن.

سيلفيا كاتوري: إنك تبدو متفائلا ً!

أحمد بن بلا: أنت تعرفين أنني لست مجرد متفائل: فأنا أمضي حياتي وأنا أفعل. فلا اكتفي بإلقاء الخطب. إنني أكرّس وقتي كله للفعل عن طريق منظمة الشمال ــ الجنوب . وعلى ذلك أعتقد أن قوى الأمل تأتي أحياناً من حيث لا نتوقع قدومها.

سيلفيا كاتوري: عقد في القاهرة، في نهاية آذار الماضي، المؤتمر التأسيسي الأول للتضامن الشعبي العربي مع المقاومة. ودعا المشاركون الشعوب للانضواء ” تحت لواء الأممية لدعم الشعب العربي في كفاحه ضد العدوان الإمبريالي “. أليست نقطة الانطلاق لحملة، بوسعها، اذا ما انضمت إليها الأحزاب التقدمية في الغرب، أن تشكل الحركة للتيار المناهض للحرب، وأن تمضي ضمن مسار آمالك؟

أحمد بن بلا: أنا أؤيد شخصياً هذه المبادرة. والأساس هو التقدّم. فالمرء لا يتقدّم حين تساوره الشكوك، وحين يظن أن كل شيء قد انتهى. أو حين يستقر به المقام فوق المنازعات. على المرء أن يتقدّم وأن يصلح الأخطاء. على هذا تقوم الحياة. وما تزال في المعسكر العربي عقبات كبيرة لا بد من تجاوزها. والواقع أننا نعاني، في الحركة العربية، من نقاط الضعف نفسها التي تعاني منها الحركة المناهضة للإمبريالية في الغرب.

سيلفيا كاتوري: هنالك ما يقرب من عشرة آلاف فلسطيني معتقل اعتقالاً تعسفياً في السجون الإسرائيلية. وليس من يعترف بهؤلاء سجناء سياسيين. وجرى في آذار الماضي اختطاف أحمد سعدات وخمسة من رفاقه من سجن أريحا ــ بينما كان في ظل حراسة أميركية بريطانية مشتركة ــ ومن حينها وهو عرضة لتعذيب متواصل. ولقد عاد فكرر عزمه على الصمود قائلا : : ماهمني مكان وجودي، فسوف أواصل النضال”. لا بدّ أن تجد نفسك في هذا التأكيد، لا سيما أنك تعرف ما يعني العيش معتقلاً؟

أحمد بن بلا: أجل. فقد أمضيت في السجن 24 عاماً ونصف العام. حين اعتقلني الفرنسيون في سجن الصحة “سانتيه” ،وضعوني مع السجناء الذين ينتظرون الإعدام بالمقصلة. كنت أشاهد المقصلة من زنزانتي. إن ما تلحقه إسرائيل بالفلسطينيين من سوء المعاملة، لأمر مشين ورهيب. وليس لدي حالياً سوى مشروع واحد: إنه فلسطين. سوف أقوم بما وسعني لمساعدتهم. أما التوصل إلى السلام في فلسطين وفي العالم، فيستوجب إزالة نظام التجار القائم هذا. أما وأن المعضلات هائلة الحجم، فإن الأضرار هائلة الحجم أيضاً. وإنها لجريمة أن نترك العالم في أيدي التجّار والقتلة. فذلك هو الإرهاب، وليس بن لادن.

سيلفيا كاتوري: حين تسمع رؤساء دول يقولون إنهم يخوضون الحرب في العراق باسم الحرية والديمقراطية، فماذا ترغب في أن تقول لهم؟

أحمد بن بلا: أقول لهم إن الحق في الحياة هو أول حقوق الإنسان. وإن حقوق الإنسان إنما هو حق الحياة. يتكلّم كافة الفلاسفة عندنا عن حق الحياة. فأول ما يطمح إليه كل إنسان، هو الحفاظ على الحياة، هو العيش. وواقع الحال أن النظام العالمي، لا يأبه بالحفاظ على هذا الحق. فهو يستغلّ، وهو يقتل. وحين لا يستطيع القتل، يقوم ببناء سجون وحشية. وهي أشكال من الإفراط والمزاعم بإحلال الديمقراطية. لقد أخذت الولايات المتحدة تفعل في أفغانستان والعراق، ما قامت به إسرائيل في فلسطين على الدوام. إنهم يكلموننا عن ديمقراطية إسرائيلية وأميركية. ولكن بأية ديمقراطية جاؤوا وهم يقومون بتدمير كل أمل في الحياة؟

سيلفيا كاتوري: أنت تتألّم من اجل العراق؟

أحمد بن بلا: إيه ! العراق بالنسبة لي… لو تعلمين أنني ذهبت إلى العراق خمس عشرة مرة. ( صمت). أوشكت أن أُقتل في العراق. إن رؤية ما ألحقوا بالعراق تفوق القدرة على الاحتمال. بتلك البلاد التي هي مهد الحضارة. بدأ الإنسان الزراعة في العراق. وهنالك ولدت البشرية، هنالك وضعت الشرائع الأولى، وهنالك ولدت الأبجدية، وأول قانون وضعه حمورابي. وذلك كلّه جرى تدميره بأيدي قادة جهلاء، وبعمل أمة لا يزيد عمرها عن 250 عاماً من التاريخ، بعد أن كانت مستعمرة بريطانية. لقد أزالوا الاستعمار البريطاني ليقيموا استعمارا على صعيد الكون كله. فما حال الهنود الأميركيين وتعدادهم 80 مليوناً من البشر؟ لن أعود إلى أميركا أبدا، لأنها بلاد لصوص.

سيلفيا كاتوري: هل ترى أن الحروب التي شُنّت في أفغانستان والشرق الأوسط حروبا عنصرية؟

أحمد بن بلا: تماماً. فهي حروب شنّت على الإسلام وعلى الحضارة العربية. وهذه حقيقة جليّة. فليس بين البلدان الخارجة عن القانون (المارقة) حسب بوش، سوى بلد واحد من خارج حدود البلدان العربية والإسلامية، وهي كوريا الشمالية. اما الأخرى: أي سورية والعراق والسودان وإيران فكلها بلدان إسلامية. قيل إن الحروب الصليبية كانت ترمي لاستعادة قبر يسوع المسيح. وأحياناً أقول للغربيين وأنا أقصد مناكدتهم:أية لغة كان يتكلم يسوع المسيح؟ كان ينطق بلغتي أنا، لا بلغتكم أنتم. كان يتكلم الآرامية مثلي أنا. حين تقرؤون الإنجيل تجدون المسيح يقول: ” أيلي، أيلي، لما شبكتني؟” (1) ونحن في الجزائر نقول: ” إلهي، إلهي، لماذا سبكتني” . إنها الكلمات نفسها التي تفوّه بها يسوع المسيح. كان المسيح يتكلم مثلما أتكلم أنا. والإسلام يأخذ أشياء كثيرة من الإنجيل أو من التوراة، التي جاء ليكملها. إنني أوشك أن أنفجر لشدة ما أرى من ظلم. لقد أساؤوا إلينا كثيراً. لقد أصابونا في كرامتنا. من غير أن نتكلم عن ذلك الشعب الصغير في فلسطين. فكم عدد الفلسطينيين المرغمين على العيش تحت النير الأشد إذلالاً؟ ليس في ردة فعلنا شيء من العنصرية. لكن حسبنا ذلك. فقد أساء الغرب إلينا كثيراً. ألم تقم في الغرب تحديداً أسوأ الجرائم ضد الإنسانية؟ فأين ولدت الفاشية؟ وأين ولدت النازية؟ والستالينية أين ولدت؟ وأين نشأت وتطوّرت مرحلة التفتيش التي دامت 400عام؟ أقول بصراحة إنه يلزمني يومياً كثير من إنكار الذات كي لا أقول في نفسي إنني لا أريد أن أكره الغرب.

سيلفيا كاتوري: ألا ينبغي تجريم القائلين بـ “صراع الحضارات”، والموالين لإسرائيل، بوصفهم على رأس المحرّضين على الحقد ضد العرب وضد الإسلام، ذلك الحقد الذي ينتشر انتشاراً مقلقاً ضد شعوبكم؟

أحمد بن بلا: صحيح تماماً. فاللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة شيء مرعب. كان الكلام عنه حتى الآن محظوراً خوفاً من الاتهام بمعاداة السامية. وجاءت مؤخراً عدة دراسات، مدعّمة بأمثلة لا تدحض، لتبين مدى الوزن الذي يشكله اللوبي الإسرائيلي على اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية ضدنا. وليس من يستطيع اليوم أن ينكر أهمية، ناهيك بخطر، هذا اللوبي الذي يخترق كافة المدارات الاستراتيجية. إنني معنيّ إذن بهذا المظهر للأشياء، الذي يجعل تسوية المسألة الفلسطينية أكثر مشقّة. ولسوف أقول لك شيئاً عن الإسلام الذي عرف مشقات كثيرة. إن الإسلام لم يلحق من أذى ببلدان أخرى. لقد أظهر الإسلام عبر التاريخ تسامحاً لا مثيل له في أي مكان آخر، في حين أن إسرائيل تمكنت من أن تنغرس بالقوة ضمن فضاء و في مكان كان يسكنه الفلسطينيون ـ وهم شعب من أكثر الشعوب العربية تطوراًــ وأن تنشيء عن طريق انتزاع أرضيهم منهم، دولة عنصرية. وما دامت إسرائيل تنكر على الفلسطينيين حقهم في الوجود، وحقهم في الرجوع إلى أراضيهم، فلن يكون في العالم سلام.

ترجمة: عبود كاسوحة وحكيم إدلسان

أحمد بن بيلا: ناصر فى قلبي
التاريخ: 13-12-1426 هـ

لم يترك لى الزعيم الجزائرى أحمد بن بيلا فرصة الترحاب به على أرض مصر التى جاء إليها فى زيارة قصيرة فى الذكرى ال 50 لانطلاق الثورة الجزائرية عام 1954..
رحب بى فى مقر اقامته بوصفه مصريا مثلما هو جزائرى.. يتمنى لو تنتهى حياته على أرض مصر ويدفن فيها بجوار الذين أحبهم وأحبوه وفى مقدمتهم أخوه جمال عبدالناصر كما يحب أن يقول – كان عائدا فى نفس اليوم من زيارة الى قبر الراحل فتحى الديب الذى عهد اليه جمال عبدالناصر مسئولية التنسيق مع قيادات الثورة الجزائرية وتولى ملفها بالكامل حتى تحقق الاستقلال وارتبط بأوثق العلاقات مع بن بيلا، وشهد – كما قال لى قبل رحيله – منزله فى مصر الجديدة اجتماعات عديدة لقادة الثورة.
حدثه الإعلامى الشهير الأستاذ أحمد سعيد عن رغبتى فى إجراء حوار صحفى فوافق على الفور قائلا: العربى فى القلب.. العربى فى القلب.. وحين أطل على بوجهه الملائكى المهيب لم يكن ترحيبه بى تقليديا:

أخى سعيد.. ناصر من علامات المنطقة اللى نورت.. لولا مصر ما كانت ثورة الجزائر.. لولا ناصر ما كانت المساعدات للثورة. أتمنى أن أختم حياتى فى مصر.
أول زيارة
التقطت هذه الحالة الوجدانية الصافية لدى أحمد بن بيلا المستعد كما يقول لتسلق الجبال إذا كان ذلك فى صالح أمته، ورغم عمره ال 88 منها 24 عاما فى السجن إلا أن قلب الشباب لم يغادره فقلت له سيادة الرئيس.. هل تذكر هذا اليوم الذى حضرت فيه إلى مصر حاملا شعلة ثورة شعب الجزائر ضد الاستعمار الفرنسى؟.. ضحك قائلا: نعم يا أخى.. نعم يا أخى.. طوال 6 أشهر منذ أن وطئت قدماى أرض مصر لأول مرة، كنت اشتهى أكل الفول.. ولم أكن أتحدث العربية.. كنت اتحدث الفرنسية، لأن اللغة العربية كانت ممنوعة بأمر الاستعمار الفرنسى ونسيى سجن 10 لسنوات لأنه كان يعلم العربية!.
كان أحمد سعيد أول رئيس لإذاعة صوت العرب هو أول من استقبل أحمد بن بيلا فى مصر، وعن طريقه تم تقديمه إلى ضابط المخابرات المصرى الراحل فتحى الديب لتبدأ قصة مساعدة مصر لثورة الجزائر..يتذكر أحمد سعيد هذا اللقاء قائلا فى مذكراته التى ستصدر قريبا: فى عصر يوم الأحد 27 سبتمبر عام 1953 أبلغنى حارس باب مبنى الإذاعة بشارع الشريفين بحضور شخص من الجزائر يرجو لقاء أى مسئول موجود من أفراد أسرة صوت العرب.. صعد السائل ليدخل على أحمد سعيد فرأى أمامه – كما يقول – شابا باسق الطول تميل بشرته إلى السمرة بينما بدت ملامح وجهه أشبه بنتوءات حادة فى صخور جبل رغم ما تعكسه من بساطة وتشيع من ارتياح مؤثر فى الآخرين.. يضيف أحمد سعيد: حرصت فى هذا اليوم على إعطاء زائرى اهتماما كبيرا رغم انشغالى فى إعداد حلقة الليلة من صوت العرب، وتعليقى الجديد بها حتى إننى طلبت إليه أن يعود لزيارتى الساعة السابعة من مساء نفس اليوم عقب انتهائى من إذاعة البرنامج.. وعاد بالفعل فى الموعد المحدد.
استغرق اللقاء نحو الساعة عرف فيه أحمد سعيد من الشاب الجزائرى أنه قادم من الإسكندرية إلى صوت العرب مباشرة، وتلا هذا اللقاء لقاء آخر شهد فك قدر من الغموض المحيط بهذا الشاب الهارب من السجن بعد القبض عليه لرئاسته التنظيم العسكرى السرى لحزب الشعب الجزائرى، وعلى طعام العشاء ثم أقداح الشاى فى مطعم كازينور المطل على نيل الجيزة تحرر من غموضه الشاب الجزائرى الذى قدم نفسه باسم مزيانى مسعود وهو اسم مستعار اتخذه لنفسه ليؤمن هروبه من الجزائر وبعد أن ساعده أحمد سعيد فى تدبير أمر اقامته فى بنسيون بوسط القاهرة وكذلك شراء بعض الملابس، عكف على كتابة تقرير عما حدث رفعه فى اليوم التالى لضابط المخابرات فتحى الديب قال فيه:
– إن مزيانى مسعود ليس مجرد لاجئ جاء القاهرة طالبا الأمان من ملاحقة بوليسية استعمارية
– إن لديه تحفظا يقظا وعنيدا يمنعه مؤقتا من الاتصال الحر بغير الجزائرى أو المغربى أو التونسى.
– إنه منضبط فى حركاته وايماءاته وبعض ألفاظه العفوية بالفرنسية والعربية مما يعكس بساطة شخصية والتزامه بمهمة ويوحى بسبق نشأته وتربيته عسكريا.
– إن نظرته إلى الزعامات السياسية للتنظيمات الحزبية أو الجمعيات الدينية وعلى رأسها جمعية العلماء المسلمين تتجاوز حرص هذه الزعامات على قصر كفاحها على النشاط السياسى رغم ما حرص على إبدائه يوما من احترام لبعض هذه الزعامات وأغلبها يمثل جماعة العلماء.
– إن شبانا حزبيين كثيرين قد يئسوا من امكان تحقيق مكاسب وطنية بالعمل السياسى.. وإن قيام الثورة واستمرارها فى اتساع أوشك أن يشمل كل بلاد المغرب رغم وجود حكومة مغربية لدى رئيسها آلاف يأتمرون بأمره وحده من المقاتلين البربر يجعلهم يطمحون فى إمكان تجاوز الشعب فى الجزائر لأحزان ومخاوف مذابح سطيف، والتفكير فى تطوير المواجهة مع فرنسا بعمل غير سياسى أكثر ايجابية، وأن ثمة نوعا من التمرد مر بمراحل متعددة بين مجموعة هؤلاء الشبان وقيادتهم الحزبية.
– إن محمد خيضر مسئول الجزائر فى مكتب المغرب العربى بالقاهرة محل ثقة هؤلاء الشبان بحكم مواقفه الصلبة ضد الاستعماريين واعتراضاته قبل حضوره إلى القاهرة وغضبه على استمرار القيادات الحزبية فى لعبة المناورات السياسية والمواجهات السلمية.
– إن ثمة أسماء ذكرها عرضا وهو يروى عن الصراعات داخل التنظيمات السياسية منها ما سبق له أن سمع به أحمد سعيد من محمد خيضر مثل الأمين دباغين وفرحات عباس، ومنها ما لم يسمع عنه أحد بالقاهرة من قبل مثل عبدالحميد مهرى ومحمد بوضياف.
كان هذا التقرير هو اللبنة الأولى فى صرح العلاقات بين مصر بقيادة عبدالناصر والثورة الجزائرية.. كان صوت العرب هو العنوان الذى بدأ تحته تواصل ثوار الجزائر بثوار مصر.. وذلك فى سياق مهمتها التى شيدت من أجلها عام 1953. قلت لأحمد بن بيلا جانبا من هذا الكلام والذى ذكره أحمد سعيد فى مذكراته التى أتيح لى الإطلاع على بعض فصولها قبل صدورها فابتسم قائلا: كان صوت العرب بشيرا بثورة الجزائر.. ودوره فى دعمها حتى النصر جليلا عظيما.. وفضله كبيرا فى توحيد وتثوير وتعريب العمل من أجل الاستقلال.. هناك شيء لم أذكره من قبل عن صوت العرب، وحدثت أخى جمال عنه.. ففى اليوم الذى طلبت فرنسا المفاوضات معنا وحدثنى الأخ جمال عنها جاء وزير خارجيتها، واتفقنا على أن يقدم كل طرف مطالبه، وتقدم الفرنسيون بعدة مطالب.. تصورت أن يتصدرها وضع ال 2.5 مليون فرنسى فى الجزائر، ومزارعهم وممتلكاتهم وكل الأشياء التى تخصهم.. لكن فوجئت بأن الذى يتصدر حديثهم هو صوت العرب.. كان أكثر من جيش بالنسبة لهم.. كان جيش يحارب… هى لليوم إذاعتى المفضلة..أذكر أن أول خطاب وجهته إلى شعبى فى الجزائر من صوت العرب.. كان بالعربية لكنه مكتوب بحروف فرنسية، فالعربية وكما قلت لك كانت ممنوعة.
ثقة جمال عبدالناصر
إلى أى حد تثق فى هذا الشاب.. طرح جمال عبدالناصر هذا السؤال على ضابط المخابرات فتحى الديب بعد أن قدم له الأخير تقريرا وافيا عن بن بيلا منذ قدومه إلى القاهرة، ثم اللقاءات التى تمت معه والتى دارت حول امكانية تفجير الثورة فى الجزائر.. أجاب الديب لعبدالناصر: أثق فيه ثقة تامة لأنه من نوعية فريدة فى عالمنا العربى لم أقابل مثلها من قبل،ومنذ البداية لمست فيه الصدق والإيمان والإخلاص والعزم إلى جانب صلابة الرجال.. وأوضح الديب فى إجابته لعبد الناصر فائدة فتح جبهة فى الجزائر قلب الشمال الافريقى حيث سيعد ذلك ضربة قاضية للاستعمار الفرنسى..
وفى ختام هذا اللقاء قال عبدالناصر للديب: أنا موافق على مبدأ دعم حركة النضال المسلح بالجزائر ويهمنى أن تتابع التحضيرات بكل دقة وتخطرنى أولا بأول وسوف أقابل بن بيلا فيما بعد.
لا ينسى بن بيلا أبدا قصة أول لقاء بعبدالناصر.. يضحك قائلا: فى أول لقاء بأخى جمال كان يوجد شخص ثالث مترجم لأنه لم يكن يتحدث الفرنسية التى اتحدث بها، وأنا لم أكن اتحدث العربية.. ورغم وجود المترجم.. كانت القلوب تتكلم.. شيء ما كان يتجاذبنا.. قلبى قلبه.. وقلبه قلبى.. اللُحمة كانت واحدة… جمعنا الحب الذى لا يفرق أبدا.. فيه ناس لما يجلسوا مع بعض شيء ما يمر بينهم..هذا الشيء مر بينى وبين الأخ جمال.. أقاطعه متسائلا: هل العلاقة التى نمت بينك وبين جمال عبدالناصر لعبت دورا حاسما فى احتضان مصر للثورة الجزائرية؟. يجيب: فعلا لعبت دورا.. لكن لا ننسى أن هذه العلاقة كانت أهدافها واحدة..أخى جمال كان يقاوم الاستعمار، ونحن نقاومه.. كان يناضل من أجل استقلال أمته، نحن أيضا.. لكن ثورة يوليو كانت هى الحضن، ولولاها ما كان الاستقلال.. كان يمكن أن نستقل ولكن بعد 5 سنوات من وقت ما حدث.. الدفع فى تحقيق الأهداف جاء من التلاحم بين الثورتين المصرية والجزائرية.. تلاحم الرجال فى البلدين.. جمال أصبح أخى.. وكل من معه من قيادات أصبحوا أخوة مثل حسين الشافعى.
كان الفارق الزمنى بسيطا بين قيام ثورة يوليو عام 1952، ومجيء بن بيلا إلى مصر فى 27 سبتمبر عام 1953 أى فترة تزيد على العام بقليل، مما يؤكد البعد القومى المبكر لثورة يوليو لها كان المجيء محسوبا أم مصادفة، ويقول بن بيلا: جئنا إلى ثورة يوليو لأننا رأينا فيها شيئا لم نره من قبل.. أشياء دخلت فى صميم الشعب العربى.. حقيقة شعرنا بأن شيئا جديدا فى الطريق.. شيئا يفجر المخزون الموجود منذ مئات السنين.. شيء يفجر هذه المنطقة العربية التى هى وريث لعظمة الإسلام بحضارته، وتنميته التى صنعها عظام من علمائه وفلاسفته مثل ابن رشد وابن الهيثم والخوارزمى، وجابر بن حيان.. فى مصر رأينا شيئا جديدا مع الثورة.. شيء فيه خصوبة. فجئنا إليه.. أخى جمال كان تتويجا لنضال الوطنية المصرية.. ونحن جئنا إلى مصر بخلفية نضال طويل للشعب الجزائرى.. ثورتنا كان حلقة فى ثورات سابقة.. فطوال وجود الاستعمار الفرنسى والذى استمر 132 عاما.. كان الشعب يثور ثورة كبرى كل عشر سنوات، واستمرت ثورة عبدالقادر الجزائرى 15 سنة.. قلت: المؤكد أنكم استفدتم من هذه الثورات كحلقات فى تاريخ النضال الجزائرى.. فقال: كانت كل ثورة من هذه الثورات تؤهل الشعب الجزائرى لثورة تالية، وبشهادة الاستعمار قتل الفرنسيون فى كل هذه الثورات 7.5 مليون جزائرى وفى ثورتنا الأخيرة دفع الشعب الجزائرى مليون ونصف مليون شهيد.
المساعدات
تنوعت المساعدات المصرية للثورة الجزائرية ما بين السلاح والمال، وحتى الرجال، ولعبت المخابرات المصرية أعظم أدوارها على الإطلاق فى تهيئة كل السبل لانطلاق الثورة.. ويحكى فتحى الديب عن أول مرحلة فى خطة اندلاع الثورة الجزائرية قائلا: عاد بن بيلا عاد إلى القاهرة يوم 9 أكتوبر 1954 بعد اجتماع فى العاصمة السويسرية برن حضره كل من مصطفى بن بوالعبد وديدوش مراد وكريم بلقاس وبن مهيدى العربى، ومحمد بوضياف، وبيطاط محمد وأحمد بن بيلا الذى أبلغهم فيه موافقة عبدالناصر على دعم كفاحهم ماديا وأدبيا، ووافقوا بالإجماع على خطة بدء الكفاح المسلح التى تمت مناقشتها فى القاهرة.. وتحدد لها ساعة الصفر 30 أكتوبر، وغادر بن بيلا القاهرة إلى ليبيا يوم 22 أكتوبر ليتابع عملية التنفيذ منها، وزوده الديب بمبلغ 5 آلاف جنيه لشراء كميات الأسلحة والذخيرة المتوفرة من السوق السوداء الليبية لمباشرة عملية التهريب فورا لحين تزويدهم بالكميات اللازمة من مخازن الجيش المصرى، وتوالت المساعدات بعد ذلك لتشمل شحنات من البنادق والرشاشات وذخائر وأسلحة أخرى أدخلتها المخابرات المصرية إلى الجزائر عبر الحدود مع المغرب، وليبيا، ويحتوى كتاب فتحى الديب عبدالناصر وثورة الجزائر على عشرات الوثائق عن ذلك، وتحمل التوقيعات على الاستلام توضيحا بأن هذه الأسلحة قدمتها مصر إلى جيش التحرير الجزائرى دون مقابل..

لم يكن السلاح وحده هو العون والمدد الذى قدمته مصر، بل قدمت شهداء ربما لا تحوى الكتب عنهم شيئا، ولا أنس القصة التى رواها لى بتأثر بالغ المرحوم فتحى الديب عن الصحفى الهامى بدر الدين الذى استشهد وعمره 23 عاما فقط.. قال الديب: دخل إلهامى الصحافة من أبوابها العنيفة.. كان فى بدايات عمله.. مقداما فى اندفاعه.. لا يخاف الموت ويحدوه الأمل فى أن يكون صحفيا كبيرا من خلال معايشته للثورة الجزائرية.. فطلب منى التوجه الى هناك، وأعطيته الإذن بذلك مع تقديم جميع التسهيلات له.. ونزل بالفعل فى منطقة وهران، وظل فيها ثلاثة أشهر، وطلب بعدها أن يدخل إلى منطقة القبائل، وكان يقودها كريم بلقاس.. وبعد 15 يوما من وجوده فى هذه المنطقة، وكانت شديدة الحساسية، وفيها قتال ضار مع الفرنسيين، واستشهد مع بعض رجالها، ودفن هناك، وأبلغت بالعملية، وحاولت أن أنقل جثته الى القاهرة، وفشلنا فى ذلك واعتبرنا أنه استشهد فى أرض الله الواسعة بجانب أشقائه من الجزائريين.. وكان أهله مساكين ومحترمين، وكل ما قالوه حين تلقوا خبر استشهاده: نشهد أن لا إله إلا الله، قلت لأحمد بن بيلا هل كان اعتمادكم فقط على مصر فى امدادات السلاح.. فقال: أمدتنا مصر بالسلاح والعتاد والمال، وحتى السلاح النوعى الذى احتجنا إليه مع السلاح المصرى كان من الزعيم الهندى نهرو..كان السلاح الهندى قويا وأفضل من السلاح الفرنسى الذى يقتلوننا به..كانت خطوة أخى جمال لدى نهرو حاسمة فى إمدادنا بالسلاح، وحاسمة فى التأكيد على أن مصر بثورتها وثقلها الكبير تساعد بل تتبنى الثورة الجزائرية، وهو ما ساعد فى عرض قضيتنا فى المحافل الدولية.. ويضيف بن بيلا: لم تبخل مصر أيضا بالمال، وحتى نذكر للكل فضله، أذكر أن الملك سعود تبرع بمبلغ 100 ألف جنيه هذا على الرغم من أن العالم العربى كان أتعس كثيرا من وقتنا هذا وكان التبرع لمصر وبجهود أخى جمال، على أن تقوم مصر بإنفاقه على كفاحنا.. ويذكر فتحى الديب قصة هذا المبلغ، قائلا إنه كان تبرعا للملك سعود للكفاح بشمال إفريقيا وأبلغنى به السيد جواد ذكرى الوزير المفوض بالسفارة السعودية، وطلب مقابلة السيد زكريا محيى الدين لتسلمى الشيك بحضور سيادته، كطلب الملك سعود، وتم صرف المبلغ بعد تسلم الشيك ليوضع ضمن الرصيد الموضوع تحت طلبى للصرف منه على احتياجات الكفاح المسلح.
انطلاق الفعل الثوري
بدأت شرارة الفعل الثورى الجزائرى يوم 1 نوفمبر.. واستمرت لسنوات، والتفاصيل فى ذلك كثيرة والمخططات كانت تتم فى مصر برؤية أن تحرير واستقلال أى قطر عربى هو تأكيد لاستقلال مصر.. وأن أمن مصر يبدأ من المحيط والخليج.. تلك الرؤية التى غيرت مجرى الوطن العربى ورفعت أعلامه خفاقة فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى.. ومنذ أن فرطنا فيها أطل الاستعمار برأسه من جديد.. وينظر أحمد بن بيلا الى هذه المرحلة المشرقة فى التاريخ العربى وبعد كل هذه السنوات بنظرة جامعة ملخصها ببساطة أن جيله فتح الباب… يقول: نحن فتحنا الباب وأخذنا الاستقلال.. أعدنا الأرض.. رفعنا الأعلام العربية.. رغم التراكمات التى تكونت طوال سنين طويلة.. لكن ظل السؤال الأساسى.. كيف نترجم هذا الخروج فى بناء؟.. كيف نبنى مجتمعاتنا من جديد.. ربما لم نتوجه بما فيه الكفاية لهذه المرحلة، وفى رأيى أن كل مرحلة لها رجالها الذين يصنعونها.. كان المطلوب كيف نبنى بثقافتنا وليس بثقافة أخرى.. وأسأله: هل هذا نوع من النقد الذاتى لكم؟.. فيجيب: نعم.. نعم.. نعم.. نقلنى هذا النقد الموجز الى طرح السؤال الموجع عن أسباب تراجع وانحسار وهزيمة مشروع الاستقلال الوطنى الذى ناضل هو من أجله وعبدالناصر الذى أحبه وجعل منه رمزه الأول، وآخرين فى عالمنا العربى من محيطه الى خليجه.. فأجاب: النظام العالمى لابد أن نجعله ميدان البحث الرئيسى فى هذا الأمر.. مثلا أنا وأخى جمال لم نستطع التحكم فى عملية تحديد سعر البيع والشراء مع الغرب.. هو الذى يحدد السعر فى الحالتين.. بمعنى أنهم هم الذين يقررون أن يبقوا فوق ونحن تحت!.. لم يوافقنى بن بيلا على قولى له: ألا يعد هذا إلقاء مسئولية على الآخرين؟.. لا.. لا.. يا أخى سعيد.. وآخر صور الاستعمار نراها الآن.. هم يرفضون العيش معنا فى وقت نريد العيش معهم.. كانت هناك محاولات لكسر حدة وظلم هذا النظام فى محاولة أخى جمال فى تجربة عدم الانحياز.. مازال الاستعمار موجودا فى نظام دولى ليس لصالح الإنسانية، وإنما لصالح جبهة هى الغرب.. الغرب الذى لا يريد الصالح للجنوب.
كاريزما وإلهام
سألنى أحمد بن بيلا عن عمرى.. وعن منابع معرفتى.. كان حميميا حنونا الى أبعد حد، فالتقطت سؤاله والحالة التى فيها لأسأله.. سيادة الرئيس: كانت المقاومة والتضحية بالدماء من أجل الاستقلال هى مصدر إلهام لأجيالكم التى اكتوت بنار الاستعمار، فما الشيء الذى تراه ملهما للأجيال الجديدة؟.. يهز الرجل رأسه قبل أن يقول: الاستعمار يعود من جديد.. لكن أرى مصادر الالهام للأجيال الجديدة فى العلم والمعرفة.. لابد أن يكون هناك إنسان عربى جديد.. إنسان يتعلم ويعرف ويحمى مصالحه بأسلوب علمى، ويعرف من سبقوه من الذين صنعوا نهضة هذه الأمة فى يوم ما.. ويفهم أن العلم ليس محايدا، بمعنى أنه فى الغرب يحافظ على مصالحه.. وأجدد لك المثل فى أننى وأخى جمال وأنا، لم نستطع تحديد السعر بإرادتنا فى عملية بيع أى منتج من عندنا للغرب، أو شراء أى منتج منه.. هم الذين كانوا يحددون السعر، كان هذا رغم مقاومتنا ورفضنا لسياسات الغرب.. فما بالك الآن والغرب يؤكد سياسته الاستعمارية ولا يتنازل عنها.. فكيف نتسلح الآن بالعلم والمعرفة لمواجهة مثل هذه السياسات.. وصدقنى لو امتلكنا ذلك ما جاءت أمريكا الى العراق بكذبها المفضوح عن تطبيق الديمقراطية التى سقطت فى جوانتانامو، وسجن أبوغريب.
التقطت رؤية بن بيلا حول العلم والمعرفة كمصادر إلهام للأجيال الجديدة، وأستأذنه فى تقديم تفسير لظاهرة الكاريزما لزعماء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. مثل جمال عبدالناصر.. وهو.. هل هى تعود الى الظرف التاريخى؟.. فيقول: نعم تعود الى الظرف التاريخى.. الإسلام كل مائة سنة يأتى من يجدد شبابه.. وبصورة أوضح.. جاء رجال فهموا هذا الظرف ومتطلباته التى هى متطلبات الوطن، فمنحتهم الجماهير الحب والتقدير والولاء.. لكن فى رأيى أن المهمة انتهت لهذه الكاريزمات.. فأنت تعيش الآن على أرضك وتتولى سيادتها عكس ما كان.. كانت شروط الظرف التاريخى لجيلنا مختلفة حيث سيطرة الاستعمار على أرضنا، ونهبه لثرواتها.. والقائد الذى يأتى ليقود النضال ضد هذا، ستمنحه الجماهير التفويض، وستقف وراءه.. لا مجال الآن لوجود كاريزما مماثلة لأن الشروط مختلفة.. والبديل فى قوى شعبية فهى المنوط بها الآن القيام بدور الرافع والداعم لمتطلبات الاستقلال والمصلحة، ونحن نحاول فى هذا على صعيد مقاومة ظلم النظام العالمى الجديد.
يرى بن بيلا أنه رغم محاولاتهم فى الماضى وثوراتهم ضد الاستعمار إلا أن ظلم النظام العالمى كان، ولا يزال لكنه الآن وصل الى ذروته، وأن ما حدث للعراق هو دليل قطاع على ذلك الذى هو دليل أيضا على الحرب ضد الحضارة العربية الإسلامية بكل معطياتها: أنظر الى الخريطة يا أخى، ستجد المكان الذى فيه بترول فيه إسلام، كرمنا الله به، ولكن هما لازم يتفاوضوا عليه.. أصبحنا فى حالة من الحملة الصليبية الجديدة!.. أقول له: هل هى صليبية بالفعل؟.. يرد: صليبية.. صليبية.. هل المشروع الأمريكى سيهزم فى العراق؟.. يرد: الأمريكان فى مستنقع.. ووفقا لما أسمعه من الداخل العراقى، فإن المقاومة تشن ما يقرب من 200 عملية فى اليوم الواحد.. وهذا ما جعل الأرض العراقية جهنم للأمريكان.. جنود يهربون فى الصحراء، وجنود ينتحرون.. والمقاومة فى التحليل السياسى العام لا تحارب لتحرير العراق فقط، وإنما هى عطلت العدوان المتوقع على سوريا، وضرب إيران، والسودان، كما أنها هزمت الذين توهموا أن العراق سيدخل حربا طائفية فالطائفية ليست وليدة اليوم هى فى المنطقة العربية منذ 14 قرنا، وفى كل الأزمات تعايشت الطوائف، والعراق من أهم دول المنطقة فى ذلك.. أنا مطمئن على الحالة العراقية من هذه الناحية.
صفة شخصية
قل.. قل يا أخى.. انتظر أى سؤال.. هكذا.. قاطعنى بن بيلا ضاحكا، وأنا أستأذنه فى نقل الحديث الى صفة شخصية: سيادة الرئيس من يتتبع سيرتك يلمس فيها التجدد بتألق حتى ولو كان تحولا يرد: أخى أنا لم أتحرك خارج إطارى العربى والإسلامى، وكإنسان لا أتعصب فى رؤيتى ومنفتح على الآخرين، وتجربتى الشخصية فى هذا ثرية.. فأنا قرأت الكثير فى فترة السجن، وبعد خروجى منه، وكما قلت كان هذا يتم فى إطارى العربى الإسلامى.. لم أكن فى يوم من الأيام ماركسيا على الرغم من مد هذا الاتجاه فى الخمسينيات والستينيات.
* كنت حاكما.. على طول الخط مناضلا. فأى الألقاب تحب؟
– أنا مناضل.. أحب هذا اللقب.. أعاون بلادى.. وأبحث مصلحة شعبى.
* انتقلت من مسئولية الحكم الى ظلام السجن.. فكيف تنظر الى هذه التجربة؟
– لا أنظر الى تجربة السجن من جانبها المر.. لا ابغض أحدا.. وعلى الدوام أرى شعبى ماذا يريد.. قلت قبل ذلك أنا ناضلت والعصمة لله، وعملت لبلدى، وإذا كنت أخطأت فقد سجنت 24 عاما، وإذا كان هم أخطأوا فى حقى فليسامحهم الله.
* من تحمل معك معاناة السجن؟
– أمى الكريمة رحمها الله، وأخواتى الذين توفاهم الله، وزوجتى زهرة التى شاركتنى أتعس لحظاتى، وتحملت حياتى التى حبانا الله بها.
تنقلت لزوم التصوير فى أرجاء الحجرة معه ممسكا بيدى فى حنان أبوى بالغ.. وقفت الى جواره وهو يطل من البلكونة بتأمل عميق الى النيل.. كانت مياهه تعكس شمس الأصيل وأشعتها تلامس وجهه الباسم على الدوام.. حفزتنى هذه الحالة الى الرغبة فى طرح عشرات الأسئلة الأخرى، لكنه كان على موعد آخر ومع ذلك سألته: ماذا تشعر وأنت تسير فى شوارع القاهرة؟
أجاب: أسير على أرضى.. وفى بلدى، وأتمنى أن أتحدث مع كل ما يقابلنى.. أشرح له قصة مصر مع ثورة الجزائر.. أقول مصر فى قلبى.. ناصر فى قلبى ولولا مصر لما كانت ثورة الجزائر، وثورات أخرى، مصر كانت كل شيئ.. اليوم الذى جئت فيه القاهرة لم يكن معى شيء.. ووقفت أمام قدرة الفول.. وأطعمتنى.. وأخذنا السلاح والطعام والمال لنحرر بلادنا.. أتمنى لو أتم أيامى فى هذا البلد.. والله هذه أمنية أدعو الله أن يلبيها.
وكما بدأ معى هذا الحديث بالكلام عن جمال عبدالناصر، جاء الختام أيضا:
جمال عبدالناصر ظاهرة مضيئة لكل الشعوب العربية والإسلامية، وشعوب العالم الثالث.. هو إنسان ليس معصوما من الخطأ، لكنه ظاهرة نظيفة ومضيئة فى مجملها.. لن تنساه أبدا هذه الشعوب عامة، والشعب الجزائرى خاصة.

سعيد الشحات – العربي”

فولتير

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات هاتفية باحتلال العراق للكويت

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *