
لم يكن القرار الرسمي المصري بإنشاء بعثة دائمة لدى مقر حلف شمال الأطلسي في العاصمة البلجيكية وعاصمة الاتحاد الأوروبي؛ لم يكن مفاجئا لبعض المراقبين في القاهرة، وفي عواصم أخرى؛ عربية وغير عربية، وجاء في وقت تناقلت فيه وسائل الإعلام أخبارا عن إمكانية تأسيس «ناتو» صهيو عربي يولجه إيران. بجانب ما استجد من اهتزاز علاقة روسيا الاتحادية مع مصر، بشكل قد ينذر بعودة التوتر بينهما إلى ما قبل تولي السيسي رئاسة الدولة، وكانت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية قد كشفت النقاب في تقرير لها عن مقترح جاء نقلا عن مسئولين عرب؛ لم يكشفوا عن أسمائهم؛ أشاروا فيه إلى عمل «الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط على استكشاف إمكانية قيام تحالف عسكري عربي»؛ يتعاون مع الدولة الصهيونية في مجال تبادل المعلومات بغرض التصدي لإيران، على حد قول الصحيفة، ويضم التحالف المقترح أربع دول عربية زائدا الدولة الصهيونية 4+1، وطلب ترامب شخصيا أن تكون القاهرة مقرا للحلف المصغر!!.
وليس من المتصور أن تنحصر مهمة الحلف الجديد في التصدي لإيران فقط في منطقة برسم التمزيق والإفناء، وهذا يكشف عنه «ينس ستولتنبرغ»، أمين عام حلف شمال الأطلسى، عن علاقة هذا التقارب بالصراع على ليبيا، وأشاد وهو يرحب بقرار تعيين سفير لمصر بالحلف، وبالتعاون المشترك مع القاهرة، وأن قرار السيسي يعزز من شكل ونوع التعاون المشترك بين الناتو والقاهرة، ويزيد حجم التدريبات المشتركة بين الطرفين. ونوه أمين عام الحلف في تصريحات تليفزيونية، إلى زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري لمقر الحلف، حينما كان في زيارة رسمية لبلجيكا ووصف الزيارة بـ«بالجيدة والبناءة»، وأكدت عمق العلاقات والتعاون بين الطرفين.
وبخصوص ليبيا ذكر: إنه ناقش مع شكرى، الملف الليبي، فمصر قريبة من ليبيا، ولديها حدود مشتركة معها، بشكل يجعلها من أهم الدول التى يجب التعامل معها من أجل إحلال الاستقرار والأمن هناك، والقضاء على «تنظيم داعش»، وهذا يمثل مصلحة للجميع، من وجهة نظره، مستطردا: «باسم حلف شمال الأطلسى نعبر عن رغبتنا في بناء الهياكل الدفاعية ومؤسسات سياسية قوية في ليبيا بالتعاون مع القاهرة.. وهذا لن يتم إلا إذا كان هناك حوار مستمر بيننا وبين مصر…. وبهذه الطريقة فقط يمكن أن نعيد الاستقرار لليبيا».
أما إيران أقوى حلفاء روسيا في المنطقة، فيرى «ألكسندر بيريندجييف» استاذ العلوم السياسية بجامعة «بليخانوف» في موسكو؛ بأن «آفاق هذا التحالف لن تكون إيجابية إطلاقا».
ما الذي حدا بالرئاسة المصرية إلى الإقدام على مخاطرة من هذا النوع؟، وكيف لها أن تلقي بنفسها وببلدها في أتون صراعات لا ناقة لها فيه ولا جمل، فالناتو حلف استعماري توسعي، وتجربته في تدمير ليبيا مريرة، وما زالت شاهدة على ذلك.
منذ ذلك الزمان درج الموقف الشعبى والرسمى المصري فيما قبل ثورة يوليو 1952؛ بداية من عهد الملك فاروق، مرورا بعهد عبدالناصر وعهود من أتوا بعده؛ درج على رفض الانضمام إلى الأحلاف العسكرية، التي تكون الدول الاستعمارية طرفا فيها. وهو ما أفشل مفاوضات صدقي – بيفن 1946، وكانت قد تضمنت انضمام مصر إلى تحالف عسكرى تقوده بريطانيا شرطا لجلائها عن مصر، ثم رفض الانضمام إلى «منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط» سنة 1950 وكانت بدعوة من واشنطن، ومشاركة بريطانيا وفرنسا.
وعاد بنا استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة مصطفى كامل السيد إلى مناسبة توقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954 بما تضمنته مادتها السادسة من بقاء قاعدة قناة السويس العسكرية صالحة للاستخدام، تعود لها القوات البريطانية فى حالة حدوث عدوان على مصر، أو إحدى الدول الأعضاء فى الجامعة العربية أو تركيا، كان ذلك يشي بحلف عسكري ضمني بين بريطانيا ومصر، وأشار إلى أن ذلك «كان واحدا من الانتقادات التي وجهت لهذه الاتفاقية، إلا أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر انتهز فرصة العدوان الثلاثي على مصر والذى شاركت فيه بريطانيا وفرنسا متآمرتين مع إسرائيل لإلغاء هذه المعاهدة فى أعقاب انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من بورسعيد 23 كانون الأول/ديسمبر سنة 1956، ولم يكن قد مضى أكثر قليلا من عامين على هذه الاتفاقية».
ونذكر حين كنا تلاميذ صغارا وخروجنا في مظاهرات دعما للحملة القوية التى أطلقها رجال الثورة ضد انضمام دول عربية لحلف بغداد سنة 1955، وإدانتهم لـ«نظرية الفراغ» التي نادى بها أيزنهاور؛ كأساس لإحلال الوجود الأمريكي لملء الفراغ الذي تتركه القوى الاستعمارية التقليدية بعد انسحابها من قواعدها ومستعمراتها في المنطقة، وقرار السيسي أتى والقوات الأجنبية منتشرة على أراض عربية عدة، وبمسميات مختلفة، وتحالفات دولية لها قواتها التي تغطي كثير من بلدان الوطن العربي؛ بنفس الدعاوى والمبررات، بجانب القواعد العسكرية المقامة في مواقع أخرى على امتداد «القارة العربية»، وهذا يتم في سياق تعويل رسمي على ضعف الذاكرة الوطنية، حيث لا يكترث أولو الأمر بما يحيط مواطنيهم من أخطار؛ ما داموا يستندون إلى من يحافظ على مصالحهم ويضمن لهم استمرارهم في الحكم، ولهذا ما أصيبت الحياة السياسية العربية بالعقم وتصلب الشرايين.
ويبدو أن الناتو الصهيو عربي المصغر (4+1)، وإن كان مظهره التصدي لإيران من جانب، أو بادعاء «الرغبة فى بناء الهياكل الدفاعية والمؤسسات السياسية القوية فى ليبيا بالتعاون مع القاهرة».. فهذا خداع؛ من المفترض ألا تنطلي على أحد، فما زال درس العراق حاضرا في الأذهان. وكيف استفادت واشنطن من دخوله الحرب ضد إيران، وفور أن وضعت الحرب أوزارها وإنهاك الجيش العراقي، وقد كان قويا مهابا، تمت الاستدارة إلى العراق ككيان وشعبه وتماسكه، وقضوا على الكيان ومزقوا الشعب.
وهذا سيناريو يتكرر دائما مع من لا يتعلمون، وغير مستبعد -لا قدر الله- مع مصر وشعبها. وعلينا أن نتوقع اللحظة التي قد تأتي، ونستعد لها، ونراهن على الشعب وسواعد أبنائه وقدرتهم على المقاومة، مع أن الوضع الأمثل هو تغيير السياسات العربية كاملة، وبناء القوة العربية الذاتية المستقلة؛ لكنه ما زال مطلبا صعب المنال.