ستظل مشاهد فرار الاستعمار من منطقتنا العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، موحية لكل مقاوم عربي يحمل سلاحه الآن في وجه الاستعمار العائد بنفس ثوبه القديم، حيث شهدت شعوب المنطقة في هذه المرحلة الناصعة بنضالها اعلامها ترفرف للمرة الأولي بعد عشرات السنين من ذل الاستعمار وقهره، وعاشت صحوة التواصل القومي بفضل قيادة جمال عبدالناصر الذي رأي مبكرا وبعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952 أن أمن مصر في العرب وأمن العرب في مصر، وانطلاقا من هذه الرؤية وفي عام 1953 كلف ضابط المخابرات فتحي الديب بوضع خطة لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، فوضع الديب خطته التي قامت علي عدة عناصر كان من ابرزها تأسيس برنامج اذاعي يحمل اسم صوت العرب، صار اذاعة مستقلة فيما بعد، ووقع اختيار الديب علي أحمد سعيد ليكون مذيعه، ثم مسئولا عنه بعد أسابيع قليلة من اطلاقه في 4 يوليو عام 1953 وتدريجيا اصبح هو الصوت الاعلامي الأبرز لجمال عبدالناصر، كما أصبحت صوت العرب السوط الاعلامي الذي يلهب ظهر الاستعمار.
ولم يكن أحمد سعيد مجرد م
في الحلقات الخمس الماضية تناول أحمد سعيد بدء التفكير في صوت العرب، ومراحل التأسيس لها
يقول أحمد سعيد:
عبدالناصر يسأل فتحي الديب عن شاعر امازيغي جزائري، فيقودنا سؤاله الي حوار ثري عن الأمازيغ والعروبة والإسلام في الجزائر
يدين صوت العرب في تحديد صياغات مفردات خطابه الاعلامي المساند للثورة الجزائرية لابن غرداي اول مجموعة أناشيد جزائرية عرفناها في مصر.. وتم استثمار هذه التسجيلات في الخطاب الاعلامي المواك الشعب للثورة التي بدأ الاعداد لها وتلته مباشرة إذاعة تسجيل أحدث أناشيد صبية الكشافة الجزائرية والذي يح اليوم عقب حديث أحمد بن بيللا.. فأجابه فتحي الديب بأن المؤلف أمازيغي الاصل اسمه مف
ابدي عبدالناصر اعجابا لما أصبح متوافرا لدي صوت العرب من معلومات عن الجزائر. وعلي وقع .ابتسامات عظيم.. ثم يشير إلينا أنا والديب الي ضرورة استلهام تفاصيل صياغة الخطاب الإعلامي الموجه للجزائريين من واقع ما سمعه اليوم من كلمات هذا الشاعر الأمازيغي الأصل ويسألني عبدالناصر عن موقع الاسلام والعروبة في كلمات النشيد الذي سمعه الليلة.
بلغ صوت العرب عامه الاول في الثالث من يوليو من عام 1954 ولا انسي فيه ما حييت لقاء من اهم لقاءا مذكرة اقتراحه بتوجيه برنامج اذاعي الي
واشار عبدالناصر الي موقف صوت العرب من ازمة مارس سنة 1954 وكيف تعامل معها صوت العر لمجلس الثورة، غير أن جمال عبدالناصر يبادر الي القول في نبرة حازمة:
– يا فتحي.. ده صوت العرب.. مش صوت مص
أحدثت هذه الكلمات من جمال عبدالناصر رد فعل لدي حول قضية كانت تشغلني وانتهزت يومها الحوراني وصلاح البيطار من سوريا ومثل بيير الجميل وريمون اده وكامل مروة الذين كانوا قد نظموا في دمشق وبيروت مظاهرات ضد ثورة مصر إبان ازمة مارس 1954، استمع جمال عبدالناصر باهتمام بالغ إلي هذا العرض قائلا:
– صوت العرب مسئوليتك يا أحمد من ألفه ليائه.. ولك ان تعمل فيه كل اللي تشوفه يحقق اهدافه، وانا لما اشرت بعلامة عندي البناء مش الهدم.. وحتي لو اضطريت للهدم يبقي من أجل بناء أحسن واثبت وانفع.. وأظن مفهوم يا أحمد.. الحرية مسئولية قبل ما تكون ممارسة.
لم أتمكن من التعقيب علي مفاهيم رئيس مجلس الوزراء جمال عبدالناصر لأن صاحب فكرة صوت العرب رجل المخابرات فتحي الديب سبقني الي قول باسم اجابة عليه عبدالناصر يقول نصل..
قال فتحي الديب ضاحكا..
– يا أفندم.. بعد كلام سيادتك ده أنا مش أعرف أقول لأحمد سعيد تلت التلاتة كام.
ويقول لي: المهم عندي يا أحمد البناء مش الهدم، وحتي لو اضطريت للهدم يبقي من أجل بناء أحسن واثبت وانفع، والحرية مسئولية قبل ماتكون ممارسة
ويعقب جمال عبدالناصر في مرح ظاهر لم يلبث ان سيطر عليه حزم باسم:
– ابقي تعالي قل لي انا بداله تلت التلاته كام..وأنا اخليه يندم انه حوجك لسؤالي.
هممت لحظتها بالمشاركة فيما يدور من حوار لولا طرق علي الباب وانفراجة من سكرتير عبدالناصر الافريقي وخاصة الجزائر حيث توالت ايامها سنة 1954 – ومازالت حتي اليوم من سنة 2003 في كثير من مضمونها الشأن الامازيغي.. علي أنه هم قومي يحتاج الي حكمة بالغة الفطنة في معالجة ومخاطبة جماهيره.
وصية عبدالناصر بالأمازيغ
كان سؤال عبدالناصر حول الأمازيغ ووضعهم وأهميتهم في الشأن الجزائري، وتتابع الحوار ثريا حول تفاصيل ا آخر الأمر فكرة عند جمال عبدالناصر عكست عندي وكما قلت فيما بعد قناعة كاملة بأنني أعمل مع رجل فيه من القدرات ما يؤهله لقيادة جيل وزعامة أمة ومحاولة الوصول الي كثير من الأهداف.
قال عبدالناصر:
– فتحي عاوزك تبلغ أحمد (يقصد أحمد بن بيللا) انه واخوانه لازم يهتموا بضم قبليين للقيادات العليا حتي لو من دون بقية الجزائر.. البحث ده وكل اللي زيه لابد يا فتحي يدروسوه في صوت العرب عشان يعرفوا كويس بيكلموا مين ويقولوا ايه.
ويبتسم فتحي الديب وهو يطمئن الرئيس عبدالناصر بأن هذا البحث وغيره من ا
ويداعب عبدالناصر فتحي الديب قائلا:
– يعني صاحي لشغلك وبلاش أنا اتفلسف.. ويبادر فتحي مبتسما.
– العفو ياريس.. أنا بس بطمن سيادتك.. ويعاود عبدالناصر نصحه بشأن القبلية في الجزائر قائلا.
– فهم أحمد يا فتحي () إن وجود كم جنب منهم في القيادات العليا ح يضمن شيوع الثورة وشمولها كل الشعب ويضمن لوحدة الجزائر حريتها بعون الله.
ترك هذا الحديث تأثيرا خاصا علي أحمد سعيد لم يغادره أبدا حتي هذه اللحظة من حياته.. يقول عنه:
تأكدت قناعتي بزعامة عبدالناصر ووجدت فيه في هذا اليوم ما يمكن أن يجسد ميراث ملايين طال تعطشها قرونا عديدة لنهضة وحدوية يعم خيرها كل الجماهير العربية خاصة وانها تمتلك من القدرات الاقتصادية ما يؤهلها لمكانة رفيعة في دنيا القرن العشرين.
خطاب عبدالناصر
انتهزت إشادة عبدالناصر بموقف “صوت العرب” المحايد في أزمة مارس 1954، وطلبت منه إتاحة الفرصة لاستضافة معارضين عرب لثورة يوليو مثل ميشيل عفلق، واكرم الحوراني،،وصلاح البيطار، وبيير الجميل
خرجنا من عند جمال عبدالناصر وبحوزتنا كلمته التي سيلقيها الي الجماهير العربية في كل مكان، وكانت هي الاولي منه في الاتصال المباشر معهما.. قال عبدالناصر في كلمته: “ايها الاخوة في العروبة المجيدة”.
باسم الله العلي القدير وباسم العروبة ا
اطلقت مصر “صوت العرب” من قلبكم القاهرة حربا علي المستعمرين، وشوكا يدمي ظهور الغادرين اطلقته مصر الاسمي، وهم مؤمنون به، لأنه من العرب وبالعرب وللعرب، وكم سعدنا جميعا اذ نري صوتنا جميعا “صوت العرب” وقد حقق الوحدة العربية، اذ جمع العرب حوله، وعقولهم تفكر معه في مشكلات الأمة العربية الواحدة، وكفاحهم يتشكل بكفاحه من أجل الحرية العربية الخالدة.
وكان طبيعيا و”صوت العرب” يسعي الي وحدة الاحرار ان تتآلب عليه قوة المستعمرين والغادرين، تريد أن تخنقه،. ولكن “صوت العرب” لأنه صوت الحق العربي الثابت علي مر الأيام والدهور.
واليوم اذ يبلغ “صوت العرب” الوليد العام الاول من عمر الدهر وسط خضم هائج تروج فيه الدسائس، ويتصدع من أجل العروبة، وأحيي فيه العرب الذين التفوا حوله، وووثقوا به، وآمنوا بعروبته، احييكم واحيي وحدتكم العربية الخالدة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كانت هذه الكلمة هي أول اتصال مباشر من جمال عبدالناصر بالجماهير العربية عبر الاذاعة، وتركت صدي هائلا بينها لمسناه من ردود الأفعال التي وصلتنا.
تتابع الاعداد الجزائري والدعم المصري استعدادا لبدء الثورة، واختار فتحي الديب مكتبي بالدور الخامس بمبن ويدوش مراد – كريم بلقاس – بن المهيدي – محمد بوصياف ورايح بيطاط) وفاجأني الديب يطلب من بن بيللا وخيضر فك طلاس بين قادة الجزائر في الداخل والخارج علي تنفيذها في العديد من انحاء البلاد ضد المراكز والمنشآت العسكرية الفرنسية في تمام الساعة الواحدة من فجر يوم 30 أكتوبر سنة 1954. ويروي أحمد سعيد كيف امضي ساعات اليوم الموعود بالثورة التي عاشها في صوت العرب وهي مجرد حلم للقادة الجزائريين يريدون دعم مصر لها سلاحا واعلاما منذ زاره في مكتبه علي غير موعد الشاب الجزائري الباسق الطول واسمه التنكري مزياني مسعود في سبتمبر عام 1953.
بدأت يومي مع عصر اليوم بعد محاولات فاشلة للنوم حيث جعلني الترقب اردد لنفسي منذ اسهمت في تبييض نسختين من تكاد تكون الوصف المشترك لجميع كتاب تقارير من جزائريين ومراكشيين وتونسيين واقوال فرنسيين تحررين ثم ان ثمة عناصر اجل و ودعما معلوماتيا متصلا بعناصر كثيرة مطلوبة لانجاح اية ثورة.. ولما لم تكن متوافرة لثورة الجزائر وصناعها الاوائل بالقدرات المناسب معهم لم أكن اعرف الكثير عنهم غير أسمائهم وأعراقهم وأدوارهم القيادية في اطلاق الشرارة الأولي للثورة، مما ج الساعات بدقائقها وثوانيها أملا في وقوع المعجزة في موعدها.. وقلقها بشدة من احتمالات ان تكتشف سلطات الاستعمار ما يريبها ف مسعود (الاسم التنكري لأحمد بن بلللا).. أحاول ان استمد منه بعض الطمأنينة خاصة انه يضم خريطة للجزائر حدد لي عليه الاخرين ومستويات تدريبهم وانواع واعداد اسحلتهم وذخائرهم لاكتشف للمرة الأولي رغم اني قرأت ملخصا لهذا التقرير الامر المنوط به صوت العرب وبدأ في التمهيد له منذ العشرين من أغسطس 1954 يوم ذكري مرور عام علي جريمة الاستعمار في بل يستبد بي مع صباح اليوم الحادي والثلاثين من أكتوبر.. واذ تجاوزت الساعة العاشرة افا!
جأ بفتحي الديب يتصل بي بصوت الشمس لأعاود استرداد حلم اليقظة المرجو، ويمر ليل 31 اكتوبر بطيئا ثقيلا خانقا ليبدأ اول نوفمبر وانا اتمسك بآمال توشك ان تتهاوي وتص رويتير الانجليزية بحروف نبأ يقول ان هجمات وانفجارات وقعت في انحاء متعددة في الجزائر مع الساع
كتبنا أنا والديب وبن بيللا في حجرة صوت العرب البيان الأول للثورة الجزائرية في أربع نسخ
وبينما أنا أقرأ تعليقي في صوت العرب الموجه وفق الحملة الإعلامية – لشعب الجزائر فوجئت بزميلتي ناد عن محاكاة الثورة المغربية وحركة النضال التونسية منهيا التعليق في اقل من دقيقة زمن. لأغلق الميكروفون بعدها ولينطق اللحن المميز الختامي لنشرة أخبار الساعة الثامنة التي كنا قد اطلقنا عليها اسم – كفاح العرب – وتدخل مسرعة نادية هاتفة..
– الجزائر ثارت.. ثارت.. وأدعو نادية توفيق ان تسرع الي قاعة الأخبار العامة بالاذاعة لتأتيني فورا بكل برقية جديدية لوكالات الأنباء لاعلام فتحي الديب قبل اذاعة النبأ واعلان الثورة.
ويتم ما طلبه فتحي من خلال تعليمات صارمة من مراقب الاخبار العامة بالاذاعة عبدالحميد الحديدي () الذي ادرك بخبرته الطو عندما تبين لنادية والحديدي ان مبني اذاعتهما شهدت احدي حجراته وبالتحديد حجرة صوت العرب أول واخر مرحلة من مراحل التفكير والتدبير لثورة الشعب في الجزائر وفق ما اقسم عليه ونظم له الثوار الاوائل من القادة الشبان.
انتظرنا نحو ساعة ونصف الساعة في الاذاعة نتابع خلالها برقيات آلاف التيكرز لمختلف وكالات الأنباء عن الأحداث وردود الفعل الانباء الفرنسية وما نشرته صحف فرنسا المسائية وعلي رأسها فرانس سوار عن الأحداث المتناثرة التي شهدتها ال علي جمال عبدالناصر الذي يبادر بتهنئة فتحي الديب تليفونيا، ويدعوه مبتهجا الي نقل تهانيه لجميع المشاركين من المصريين والجزائريين ايضا.
ويتصل فتحي الديب نحو الساعة التاسعة والخامسة والاربعين دقيقة وبين يدي نسخة من البيان الأول لثورة الاستقلال الجز العلني لحملة تنوير الشعب وانصهاره تباعا في العمليات النضالية حتي يكون الكل الجزائري في الواحد المجاهد، في نفس الوقت الذي يجب علي صو نعتذر عن استكمال البرنامج المذكور انتظارا لوصول انباء مهمة ويكرر المذيع المنوب التنبيه المثير حتي وصلت الاستديو وفي يدي بيان اعلان الثورة الجزائرية.
غير اني افاجأ بمهندس الوردية يدعوني سريعا الي غرفة الكنترول لمكالمة تليفونية عاجلة من مكتب رئيس الوزراء جم بها حتي تصل من داخل الجزائر تفاصيل العمليات فيعاد بثها ولو بعد أيام علي انها بلاغات التنظيم الثوري في الداخل.
واسرع الخطي عائدا الي الاستديو وقد ازدادت قناعتي بعبدالناصر زعيما وقائدا.. لأبدأ في القاء البيان العام باعلان الثورة ف فبراير 1962 عندما اقر ممثل حكومة الرئيس الفرنسي شارل ديجول لممثلي جبهة التحرير الوطني بحق الجزائر في الاستقلال العام ووحدة التراب الجزائري