Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف

 كـتـاب

فـلـسفـة الـثـورة

بقلم

جمال عبدالناصر

الجزء الثنى

ـ2 ـ

 

 
 
ولكن ما الذي نريد أن نصنعه ؟ وما الطريق إليه ؟ الحق أني في معظم الأحيان كنت اعرف الإجابة عن السؤال الأول . وأخال أني لم اكن وحدي المنفرد بهذه المعرفة ، وإنما كانت تلك المعرفة أملاً أنعقد عليه إجماع جيلنا كله . أما الإجابة عن السؤال الثاني (( وما طريقنا إلى هذا الذي نريد ؟ )) فأنا أعترف إنها تغيرت في خيالي كما لم يتغير شئ أخر ، وأكاد أعتقد أنها موضوع الخلاف الأكبر في هذا الجيل
ومما من شك في أننا نحلم بمصر المتحررة القوية .. ذلك أمر ليس فيه خلاف بين مصري و مصري .أما الطريق إلى التحرر و القوة .. فتلك عقدة العقد في حياتنا ولقد واجهت تلك العقدة قبل 23 يوليو سنة 1952 ، وظللت أواجهها بعد ذلك كثيراً حتى اتضحت لي زوايا كثيرة كانت في الظلال تسقط عليها فتخفيها ، وبدت أما بصيرتي أفاق كان الظلام الذي ساد وطننا قروناً طويلة يلفها فلا أراها
***
ولقد أحسست منذ انبثق الوعي في وجداني ، إن العمل الإيجابي و جب أن يكون طريقنا ولكن أي عمل !.ولقد تبدو كلمة (( العمل الإيجابي )) على الورق كافية لتحل المشكلة . ولكنها في الحياة وفي الظروف العسيرة التي عاشها جيلنا وفي المحن التي كانت تنشب أظفارها في مقدرات وطننا ، لم تكن كافية
وفي فترة من حياتي كانت الحماسة هي العمل الإيجابي في تقديري . ثم تغير مثلي الأعلى في العمل الإيجابي و أصبحت أرى أنه لا يكفي أن تضج أعصابي وحدي بالحماسة ، وإنما على أن أنقل حاستي كي تضج بها أعصاب الآخرين..وفي تلك الأيام قدت مظاهرات في مدرسة النهضة ، وصرخت من أعماقي بطلب الاستقلال التام ، وصرخ ورائي كثيرون .. ولكن صرخنا ضاع هباءً بددته الرياح أصداء واهنةً لا تحرك الجبال و لا تحطم الصخور .ثم أصبح العمل الإيجابي في رأي أن يجتمع كل زعماء مصر ليتحدوا على كلمة واحدة ، وطافت جموعنا الهاتفة الثائرة ببيوتهم واحداً واحداً تطلب إليهم باسم شباب مصر أن يجتمعوا على كلمة واحدة .. ولكن اتحادهم على كلمة واحدة كان فجيعة لإيماني . فإن الكلمة الواحدة التي اجتمعوا عليها كانت معاهدة سنة1936 . وجاءت الحرب العالمية الثانية و ما سبقها بقليل على شبابنا فألهبته و أشاعت النار في خلجاتهم فبدأ اتجاهنا ، اتجاه جيل بأكمله يسير إلى العنف.وأعترف – ولعل النائب العام لا يؤخذني بهذا الاعتراف- إن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي المشتعل في تلك الفترة على أنها العمل الإيجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه إذ كان يجب أن ننقذ مستقبل وطننا
وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التي تقف بين وطننا وبين مستقبله , ورحت أفند جرائمهم , وأضع نفسي موضع الحكم على أعمالهم , وعلى الأضرار التي ألحقها بهذا الوطن ، ثم أشفع ذلك كله بالحكم الذي يجب أن يصدر عليهم .وفكرت في اغتيال الملك السابق وبعض رجاله الذين كانوا يعبثون بمقدساتنا . ولم أكن وحدي في هذا التفكير .ولما جلست مع غيري انتقل بنا التفكير إلى التدبير .وما أكثر الخطط التي رسمتها في تلك الأيام ، وما أكثر الليالي التي سهرتها ، أعد العدة للأعمال الإيجابية المنتظرة
كانت حياتنا في تلك الفترة كأنها قصة بوليسية مثيرة .كانت لنا أسرار هائلة ، وكانت لنا رموز ، وكنا نتستر بالظلام ، وكنا نرص المسدسات بجوار القنابل ، وكانت طلقات الرصاص هي الأمل الذي نحلم به !.وقمنا بمحاولات كثيرة على هذا الاتجاه ، ومازالت أذكر حتى اليوم انفعالاتنا ومشاعرنا ونحن نندفع في الطريق إلى نهايته
والحق أنني لم أكن في أعماقي مستريحاً إلى تصور العنف على أنه العمل الإيجابي الذي يتعين علينا أن ننقذ به مستقبل وطننا.كانت في نفسي حيرة , تمتزج فيها عوامل متشابكة ، عوامل من الوطنية ومن الدين ، ومن الرحمة ومن القسوة ، ومن الإيمان ولم ومن الشك ، ومن العلم ومن الجهل ..ورويداً رويداً وجدت فكرت الاغتيالات السياسية التي توهجت في خيالي ، تخبو جذوتها وتفقد قيمتها في قلبي كتحقيق للعمل الإيجابي المنتظر ..وأذكر ليلة حاسمة في مجرى أفكاري وأحلامي في هذا الاتجاه , كنا قد أعددنا العدة للعمل و اخترنا واحداً قلنا أنه يجب أن يزول من الطريق .ودرسنا ظروف حياة هذا الواحد ووضعنا الخطة بالتفاصيل .وكانت الخطة أن نطلق الرصاص عليه وهو عائد إلى بيته في الليل .
ورتبنا فرقة الهجوم التي تتولى إطلاق النار , ورتبنا فرقة الحراسة التي تحمي فرقة الهجوم , ورتبنا فرقة تنظيم الإفلات إلى النجاة بعد تنفيذ العملية بنجاح .وجاءت الليلة الموعودة
وخرجت بنفسي مع جماعة التنفيذ وسار كل شئ طبقاَ كما تصورناه..كان المسرح خالياً كما توقعنا ، وكمنت الفرق في أماكنها التي حددت لها ، اقبل الواحد الذي كان يجب أن يزول ، وانطلق نحوه الرصاص ..وانسحبت فرقة التنفيذ ، وغطت انسحابها فرقة الحراسة ، وبدأت عملية الإفلات إلى النجاة ، وأدرت محرك سيارتي و انطلقت أغادر المسرح الذي شهد عملنا الإيجابي الذي رتبناه .وفجأة دوت في سمعي أصوات صريخ و عويل ، ولوعة امرأة ورعب طفل ، ثم استغاثة متصلة محمومة
وكنت غارقاً في مجموعة من الانفعالات الثائرة ، والسيارة تندفع بي مسرعة .ثم أدركت شيئاً عجيباً.كانت الأصوات مازالت تمزق سمعي .الصراخ و العويل والولولة والاستغاثة المحمومة
لقد كنت بعدت عن المسرح بأكثر مما يمكن أن يسري الصوت ، ومع ذلك بدأ ذلك كله يلاحقني و يطاردني .ووصلت إلى بيتي ، واستلقيت على فراشي ، وفي عقلي حمى وفي قلبي ضميري غليان متصل . وكانت أصوات الصريخ و العويل و الولولة والاستغاثة مازالت تطرق سمعي .
ولم انم طوال الليل …بقيت مستلقياً على فراشي في الظلام ، أشعل سيجارة وراء سيجارة ، وأسرح مع الخواطر الثائرة ، ثم تتبدد كل خواطري على الأصوات التي تلاحقني .
*أكنت على حق ؟ . وأقول لنفسي في يقين :- دوافعي كانت من أجل وطني
*أكانت تلك وسيلة لا مفر منها ؟.وأقول لنفسي في شك :- ماذا كان في استطاعتنا أن نفعل
*أيمكن حقاً أن يتغير مستقبل بلدنا إذا خلصناه من هذا الواحد أو من غيره ، أم المسألة أعمق من هذا
وأقول لنفسي في حيرة :- أكاد أحس أن المسألة أعمق
*إننا نحلم بمجد أمة ، فما هو الأهم : أيمضي من يجب أن يمضي , أم يجئ من يجب أن يجئ ؟وأقول لنفسي وإشعاعات من النور تتسرب بين الخواطر المزدحمة . بل المهم أن يجئ من يجب أن يجئ …إننا نحلم بمجد أمة … ويجب أن يبنى هذا المجد
وأقول لنفسي ومازلت أتقلب في فراشي في الغرفة التي ملأها الدخان و تكاثفت فيها الانفعالات :- وإذن ؟- أسمع. هاتفاً يرد علي :- وإذن ماذا ؟- وأقول لنفسي في يقين هذه المرة :- إذن يجب أن يتغير طريقنا.... ليس ذلك هو العمل الإيجابي الذي يجب أن نتجه إليه.. المسألة أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد أغوارا
وأحس براحة نفسية صافية ، ولكن الصفاء ما يلبث أن تمزقه هو الآخر أصوات الصراخ والعويل والولولة و الاستغاثة ، تلك التي مازالت أصدائها ترن في أعماقي ؟.ووجدت نفسي أقول فجأة :- ليته لا يموت !.وكان غريباً أن يطلع علي الفجر وأنا أتمنى الحياة للواحد الذي تمنيت له الموت في المساء !.وهرعت في لهفة إلى إحدى صحف الصباح …و أسعدني أن الرجل الذي دبرت اغتياله …قد كتبت له النجاة.ولكن تلك لم تكن المشكلة الأساسية .وإنما المشكل الأساسية….. هي العثور عن العمل الإيجابي
ومنذ ذلك الوقت بدأ تفكيرنا الحقيقي في شئ أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد أغواراً .وبدأنا نرسم الخطوة الأولى في الصورة التي تحققت مساء 23 يوليو ، ثورة منبعثة من قلب الشعب , حاملة لأمانيه , مكملة لنفس الخطوات التي خطاها من قبل على طريق مستقبله .ولقد بدأت هذا الحديث بسؤالين :أولهما : ما الذي نريد أن نصنعه !؟.و الثاني : وما طريقنا إليه ؟.وقلت أن الإجابة عن السؤال الأول أمل أنعقد عليه الاجتماع .أما السؤال الثاني : ما طريقنا إلى الذي نريد أن نصنعه ؟ فهو الذي أطلت فيه الكلام حتى وصلت إلى 23 يوليو
ولكن أكان الذي حدث بوم 23 يوليو هو كل ما نريد أن نصنعه ؟. والمؤكد أن الجواب بالنفي ، فإن تلك لم تكن إلا الخطوة الأولى على الطريق . والحق إن فرحة النجاح يوم 23 يوليو لم تخدعني ، ولم تصور لي أن الآمال قد تحققت ، وأن الربيع قد جاء …بل لعل العكس هو الصحيح …لقد كانت كل دقيقة تحمل إلي انتصار جديداً للثورة .تحمل إلي في نفس الوقت عبئاً ضخماً ثقيلاً تلقيه بلا مبالاة فوق كتفي .ولقد قلت في الجزء الأول من هذا الحديث : (( إني كنت أتصور فبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة ، وأنها لا تنتظر إلا الطليعة تقتحم أمامها السور فتدفع الأمة ورائها صفوف متراصة منتظمة زاحفة )) . وقلت : أنني تصورت أن دورنا دور الطليعة ، وكنت أتصور أنه لن يستغرق أكثر من بضع دقائق يلحق بنا بعدها زحف الصفوف المنتظمة . ورسمت أيضاً في ذلك الجزء صورة للخلاف والفوضى والأحقاد و الشهوات التي انطلقت من عقالها في تلك اللحظات ، كل منها يحاول بأنانيته أن يستغل الثورة لتحقيق أهداف بعينها
ولقد قلت وسأظل أقول أن تلك كانت أقسى مفاجأة في حياتي .ولكن أشهد أنه كان يجب أن أتوقع أن يحدث الذي حدث .لم يكن يمكن أن نضغط على زر كهربائي فتتحقق أحلامنا .ولم يكن يمكن في غمضة عين أن تزول رواسب قرون ومخلفات أجيال .ولقد كان من السهل وقتها – ومازال سهلاً حتى الآن – أن نريق دماء عشرة أو عشرين أو ثلاثين ، فنضع الربع والخوف في كثير من النفوس المترددة ونرغمها على أن تبتلع شهواتها وأحقادها وأهوائها .
ولكن أي نتيجة كان يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا العمل ؟.ولقد كنت أرى أن الوسيلة لمواجهة مشكلة من المشاكل هو ردها إلى أصلها ومحاولة تتبع الينبوع الذي بدأت منه .وكان من الظلم أن يفرض حكم الدم علينا دون أن ننظر إلى الظروف التاريخية التي مر بها شعبنا والتي تركت في نفوسنا جميعاً تلك الآثار وصنعت منا ما نحن عليه الآن…ولقد قلت مرة أني لا أريد أن أدعي لنفسي مقعد أستاذ التاريخ ، فذلك آخر ما يجري إليه خيالي ، وقلت أني سأحاول محاولات تلميذ مبتدئ في التاريخ .ولقد شاء لنا القدر أن نكون على مفرق الطريق من الدنيا .
وكثير ما كنا معبراً للغزاة ، مطمعاً للمغامرين ، ومرت بنا ظروف كثيرة يستحيل علينا أن نعلل العوامل الكامنة في نفوس شعبنا إلا إذا وضعناها موضع الاعتبار . وفي رأي أنه لا يمكن إغفال تاريخ مصر الفرعوني ، ثم تفاعل الروح اليوناني مع روحنا ، ثم غزو الرومان ، والفتح الإسلامي وموجات الهجرة العربية التي أعقبته . وفي رأي أيضاً أنه يجب التوقف طويلاً عند الظروف التي مرت علينا في العصور الوسطى ، فأن تلك الظروف هي التي وصلت بنا إلى ما نحن عليه الآن . وإذا كانت الحروب الصليبية بداية فجر النهضة في أوروبا ، فقد كانت بداية عهود الظلام على وطننا . فلقد تحمل شعبنا وحده معظم أعباء الحروب الصليبية ، وخرج بعدها فقيراً ، معدماً ، منهوك القوى . وفي نفس الوقت الذي هدته المعركة فيه ، شاءت له الظروف أن يعاني الذل تحت سنابك خيول الطغاة القادمين من المغول والشركس

كان يجيئون إلى مصر عبيداً فيفتكون بأمرائهم ويصبحون هم الأمراء .وكانوا يساقون إليها مماليك فلا تمضي عليهم فترة في البلد الطيب الوديع حتى يصبحوا ملوكا .وأصبح الطغيان والظلم و الخراب ، طابع الحكم في مصر على عهدهم الذي عاشت مصر في مجاهله قرون طويلة .في تلك الفترة تحول وطننا إلى غابة تحكمها وحوش ضارية
كان المماليك يعتبرونها غنيمة سائغة ، وكان الصراع الرهيب بينهم على نصيب كل منهم في الغنيمة .وكانت أرواحنا ، وثرواتنا ، وأراضينا ، هي الغنيمة . وأحياناً حينما أعود إلى تقليب صفحات من تاريخنا ، أحس بالأسى يمزق نفسي إزاء تلك الفترة التي تكون فيها إقطاع طاغ لم يجعل له من عمل إلا مص دماء الحياة من عروقنا ، وأكثر من هذا سحب بقايا الإحساس بالقوة والكرامة من هذه العروق ، وترك في أعماق نفوسنا تأثيراً يتعين علينا أن نكافح طويلاً لكي نتغلب عليه …والواقع أن تصوري لهذا التأثير يعطيني في كثير من الأحيان تفسيراً لبعض المظاهر في حياتنا السياسية
أحياناً مثلاً يخيل إلى أن كثيرين يقفون من الثورة موقف المتفرج الذي لا يعنيه من الأمر إلا مجرد انتظار نتيجة معركة يتصارع فيها طرفان لا تربطه بأيهما علاقة . وأحياناً أثور على هذا الوضع ، وأحياناً أقول لنفسي ولبعض من زملائي :لماذا لا يقدمون ، ولماذا لا يخرجون من المكامن التي وضعوا فيها أنفسهم ، ليتكلموا ويتحركوا ؟. ولا أجد تفسيراً لهذا إلا رواسب حكم المماليك . كان الأمراء يتصارعون ، ويتطاحن فرسانهم في الشوارع ويهرع الناس إلى بيوتهم يغلقونها عليم بعيدين عن هذا الصراع الذي لا دخل لهم فيه . وأحياناً يخيل إلى أننا نلجأ إلى خيالنا نكلفه أن يحقق لنا في إطار الوهم ما نريد ، ونستمتع نحن بهذا الوهم ونعقد به عن محاولة تحقيقه . ولم نتخلص كثيرون منا من هذا الشعور بعد ، ولم يهضموا أن البلد بلدهم وأنهم سادته وأصحاب الأمر فيه
ولقد ظللت مرة أحاول أن أفهم عبارة كثيراً ما هتفت بها طفلة صغيرة حينما كنت أرى الطائرات في السماء .((يا ربنا يا عزيز .. داهية تأخذ الإنكليز)).ولقد اكتشفت فيما بعد أننا ورثنا هذه العبارة عن أجدادنا على عهد المماليك ، ولم تكن يومها منصبة على الإنكليز وإنما حورناها نحن أو حورتها الرواسب الكامنة فينا والتي لم تتغير وإن تغير اسم الظالم ، فقد كان أجدادنا يقولون :(( يا رب يا متجلي.. أهلك العثملي ! )).وبنفس الروح التي لم يتغير جرى المعنى على لساننا وان تغير أسم (( الإنكليز )) باسم العثمانيين طبقاً للتغيرات السياسية التي توالت على مصر بين العهدين !.ثم ماذا حدث لنا بعد عهد المماليك ؟.جاءت الحملة الفرنسية ، وتحطم الستار الحديدي الذي فرضه المغول علينا ، وتدفقت علينا أفكار جديدة ، وتفتحت لنا أفاق لم يكن لنا بها عهد .وورثت أسرة محمد علي كل ظروف المماليك ، وإن حاولت أن تضع عليها من الملابس ما يناسب زي القرن التاسع عشر . وبدأ اتصالنا بأوروبا والعالم كله من جديد .وبدأت اليقظة الحديثة !.وبدأت اليقظة بأزمة جديدة
لقد كنا – في رأي – أشبه بمريض قضى زمناً في غرفة مغلقة ، واشتدت الحرارة داخل الغرفة المغلقة حتى كادت أنفاس المريض تختنق ..وفجأة هبت عاصفة حطمت النوافذ و الأبواب ، وتدافعت تيارات الهواء البارد تلسع جلد المريض الذي مازال يتصبب عرقاً لقد كان في حاجة إلى نسمة هواء .فانطلق عليه إعصار عات و أنشبت الحمى أظافرها في الجسد المنهوك القوى .هذا ما حدث لمجتمعنا تماماً ، وكانت تجربة محفوفة بالمخاطر !.كان المجتمع الأوروبي قد سار في تطوره بانتظام ، واجتاز الجسر بين عصر النهضة من أعقاب القرون الوسطى إلى القرن التاسع عشر خطوة خطوة ، و تلاحقت مراحل التطور واحدة أثر أخرى .أما نحن فقد كان كل شئ مفاجئاً لنا .كنا نعيش داخل ستار من الفولاذ فانهار فجأة .كنا قد انقطعنا عن العالم واعتزلنا أحواله ، خصوصاً بعد تحول التجارة مع الشرق إلى طريق رأس الرجاء الصالح ، فإذا نحن نصبح مطمع دول أوروبا ومعبراً إلى مستعمرتها في الشرق والجنوب .وانطلقت علينا تيارات من الأفكار والآراء لم تكن المرحلة التي وصلنا إليها في تطورنا تؤهلنا لقبولها .كانت أرواحنا مازالت تعيش في آثار القرن الثالث عشر ، وان سرت في نواحيها المختلفة مظاهر القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين
وكانت عقولنا ، تحاول أن تلحق بقافلة البشرية المتقدمة التي تخلفنا عنها خمسة قرون أو يزيد ، وكان الشوط ماضياً والسباق مروعاً مخيفاً .وما من شك في أن هذا الحال هو المسؤول عن عدم وجود رأي عام متحد قوي في البلاد ، فان الفارق بين الفرد و الفرد كبير ، والفارق بين الجيل و الجيل شاسع .ولقد جاء علي وقت كنت أشكو فيه من أن الناس لا يعرفون ماذا يردون ، وان اجتماعهم لا ينعقد على طريق واحد يسيرون فيه ، ثم أدركت بعدها إنني أطلب المستحيل ، وإنني أسقط من حسابي ظروف مجتمعنا …أننا نعيش في مجتمع لم يتبلور بعد ،ومازال يفور و يتحرك ولم يهدأ حتى الآن أو يتخذ وضعه المستقر ويواصل تطوره التدريجي بعد مع باقي الشعوب التي سبقتنا على الطريق.وأنا أعتقد ، دون أن أكون في ذلك متملقاً لعواطف الناس ، أن شعبنا صنع معجزة ، ولقد كان يمكن أن يضيع أي مجتمع تعرض لهذه الظروف التي تعرض لها مجتمعنا ، وكان يمكن أن تجرفه هذه التيارات التي تدفقت علينا.. ولكننا صمدنا في للزلزال العنيف
صحيح أننا نفقد توازننا في بعض الظروف ، ولكن بصفة عامة ، لم نقع على الأرض .
وأنا أنظر أحياناً إلى أسرة مصرية عادية من آلاف الأسر التي تعيش في العاصمة .
الأب مثلاً فلاح معمم من صميم الريف . والأم سيدة منحدرة من أصل تركي .وأبناء الأسرة في مدارس على النظام الإنكليزي .وفتياتها في مدارس على النظام الفرنسي .كل هذا بين روح القرن الثالث عشر ومظاهر القرن العشرين .انظر إلى هذا وأحس في أعماقي بفهم للحيرة التي نقاسيها والتخبط الذي يفترسنا، ثم أقول لنفسي: سوف يتبلور هذا المجتمع ، وسوف يتماسك ، وسوف يكون وحدة قوية متجانسة ، إنما ينبغي أن نشد أعصابنا ونتحمل فترة الانتقال
تلك إذاً هي الأصول التي انحدرت منها أحوالنا اليوم ، وهذه هي الينابيع التي تجري منها أزمتنا ، فإذا أضفت إلى هذه الجذور الاجتماعية ، ظروفاً من أجلها طردنا (( فاروق )) ، ومن أجلها نريد تحرير بلادنا من أي جندي غريب – إذا أضفت هذا كله ، لخرجنا إلى الأفق الواسع الذي نعمل فيه ، والذي تهب عليه الرياح من كل ناحية . وتزمجر في جناباته العواطف الهوج ، وتتوهج البروق وتهدر الرعود ، والذي قلت أنه من الظلم أن يفرض فيه علينا حكم الدم ، مع مرعاة كل هذه الظروف والملابسات
وإذاً ما هو الطريق ؟ وما هو دورنا على هذا الطريق ؟ إما الطريق فهو الحرية السياسية والاقتصادية . وإما دورنا فيه فدور الحارس فقط؟ لا يزيد ولا ينقص …الحارس لمدة معينة بالذات موقوتة بأجل
وما أشبه شعبنا الآن بقافلة كان يجب أن تلزم طريقاً معيناً ، وطال عليها الطريق ، وقابلتها المصاعب ، وانبرى لها اللصوص وقطاع الطرق ، وضللها السراب ، فتبعثرت القافلة . كل جماعة منها شردت في ناحية ، وكل فرد مضى في اتجاه
وما أشبه مهمتنا في هذا الوضع بدور الذي يمضي فيجمع الشاردين والتائهين ليضعهم على الطريق الصحيح ثم يتركهم يواصلون السير .هذا هو دورنا ولا أتصور لنا دور سواه .
ولو خطر لي أننا نستطيع أن نحل كل مشاكل وطننا لكنت واهماً ، وأنا لا أحب أن أتعلق بالأوهام .أننا لا نملك القدرة على ذلك ، ولا نملك الخبرة لنقوم به .إنما كل عملنا أن نحدد معالم الطريق كما قلت وأن نجري وراء الشاردين فنردهم إلى حيث ينبغي أن يبدءوا المسير ، وان نلحــــق بالسائرين وراء السراب فنقنعهم بعبث الوهم الذي يجرون ورائه .
لقد كنت مدركاً منذ البداية أنها لم تكون مهمة سهلة ، وكنت أعلم مقدماً إنها ستكلفنا الكثير من شعبيتنا
لقد كان يجب أن نتكلم بصراحة ، وأن نخاطب عقول الناس ، وكان الذين سبقونا قد تعودوا أن يعطوا الوهم ، وأن يقوا للناس ما يرد الناس أن يسمعوه !. وما أسهل الحديث إلى غرائز الناس وما أصعب الحديث إلى عقولهم !.وغرائزنا جميعاً واحدة ، أما عقولنا فموضع الخلاف والتفاوت وكان ساسة مصر في الماضي من الذكاء من حيثوا أدركوا هذه الحقيقة فاتجهوا إلى الغريزة يخاطبونها . أما العقل فتركوه هائماً على وجهه في الصحراء .وكنا نستطيع أن نفعل نفس الشيء.كنا نستطيع أن نملئ أعصاب الناس بالكلمات الكبيرة التي لا تخرج عن حد الوهم و الخيال ، أو تدفعهم وراء أعمال غير منظمة لم تعد لها العدة ولم تتخذ لها أهبةً ، أو كنا نستطيع ترك أصواتهم تبح من كثرة هتافهم :(( يا ربنا يا عزيز .. داهية تأخذ الإنكليز )) .
تماماً كما كان أجدادنا تبح أصواتهم أيام المماليك من كثرة هتافهم :(( يا رب يا متجلي .. أهلك العثملي )).وبعدها لاشيء !. لكن كانت تلك مهمتنا التي شاءها لنا القدر
وما الذي كنا نستطيع أن نحققه فعلا إذا سرنا في هذا السبيل ؟ ولقد قلت في الجزء الأول من هذا الحديث إن نجاح الثورة يتوقف على إدراكها لحقيقة الظروف التي تواجهها وقدرتها على الحركة السريعة . وأضيف الآن إلى ذلك أنها يجب أن نتحرر من أثار الألفاظ البراقة و أن نقدم على ما تتصور أنه واجبها مهما كان الثمن شعبيتها ومن الهتاف بحياتها والتصفيق لها ! وإلا فإننا نكون قد تخلينا عن أمانة الثورة وعن واجباتها
***
وكثيراً ما يجيئني من يقول لي :- لقد أغضبتم كل الناس
وعلى مثل هذه الملاحظة أرد دائماً :- ليس غضب الناس هو العامل المؤثر في الموقف ، وإنما السؤال هل كان الذي أغضبهم يعمل لصالح الوطن أو لغيره ؟ .أنا أدرك إننا أغضبنا كبار الملاك .لكن ، هل كان يمكن ألا نغضبهم ونترك تربة وطننا فريسة لشهواتهمةوفسادهم وصراعهم على مغانم الحكم ؟ ..وفينا من يملك من عشرات الألوف من الأفدنة وفينا من لا يملك قطعة يدفن فيها بعد أن يموت
وأنا أدرك أننا أغضبنا الساسة القدماء !.ولكن هل يمكن أن نغضبهم ونترك وطننا فريسة لشهواتهم وفسادهم و صراعهم على مغانم الحكم ؟.وأنا أدرك أننا أغضبنا عدد كبير من الموظفين .ولكن هل يمكن أن نعطي أكثر من نصف ميزانية الدولة مرتبات للموظفين و لا نستطيع- – كما صنعنا بالفعل – أن نخصص أربعين مليوناً من الجنيهات للمشروعات الإنتاجية ؟.ماذا علينا لو كنا فتحنا – كما فعل غيرنا – خزائن الدولة ووزعنا ما فيها على الموظفين وليكن بعد ذلك الطوفان ، وليكن-أيضاً – أن يجئ العام القادم فلا تستطيع الحكومة أن تدفع المرتبات موظفيها أصلاً و أساساً . وما كان أسهل أن نرضي هؤلاء جميعاً وغيرهم … ولكن ما الثمن الذي كان وطننا سيدفعه من أماله و مستقبله في مقابل هذا الرضى
***
ذلك دورنا الذي حدده لنا تاريخ وطننا ، ولا مفر أمامنا من أن نقوم به ، مهما كان الثمن الذي ندفعه .ولم نخطئ أبداً في فهم هذا الدور ، ولا في إدراك طبيعة الواجبات التي نلقيها علينا .تلك خطوات لإصلاح أثار الماضي ورواسبه مضينا فيها وتحملنا من أجلها كل شئ .فلما جاء الكلام عن المستقبل قلنا أننا لا نملك هذا وحدننا
***
فمن أجل ضمان الحياة السياسية في المستقبل ذهبنا إلى عدد من قادة الرأي من مختلف الطبقات والعقائد وقلنا لهم . ضعوا للبلد دستور يصون مقدساته .وكانت لجنة وضع الدستور .ومن أجل ضمان الحياة الاقتصادية في المستقبل ذهبنا إلى أكبر الأساتذة في مختلف نواحي الخبرة وقلنا لهم :نظموا للبلد رخائه وضمنوا لقمة العيش لكل فرد فيه.وكان مجلس الإنتاج .
تلك حدودنا لم نتعداها .إزالة الصخور والعقبات من الطريق ، مهما يكن الثمن .والعمل للمستقبل من كل نواحيه مفتوح لكل ذوي الرأي و الخبرة ، فرض لازم عليهم وليس لنا أن نستأثر به دونهم ، بل أن مهمتنا تقتضي أن نسعى لجمعهم من أجل مستقبل مصر …مصر القوية المتحررة

 

........"

- يتبع -

يحى الشاعر


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's

Web guest

Thank you for your visit






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US