الرئيسية / تقارير وملفات / شائعات مضللة عن دور العرب في التاريخ

شائعات مضللة عن دور العرب في التاريخ

 280px-Ibn_al-Muqaffa'_by_Khalil_Gibran
 دعبد الله الرشيد
 
يُروى أن الأديب العربي -الفارسي الأصل- عبدالله بن المقفع كان مع جماعة في المربد، فسألهم: (أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض؛ فقالوا لعله أراد أصله من  فارس، فقالوا: فارس. فقال ابن المقفع: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيراً من  الأرض، ووجدوا عظيماً من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، فما استنبطوا  شيئاً بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حِكم في نفوسهم. قالوا: فالروم؟ قال: أصحاب صنعة. قالوا: فالصين؟ قال: أصحاب طرفة. قالوا: الهند؟ قال: أصحاب  فلسفة.. إلخ. قالوا: فقل، قال: العرب. فضحكوا! قال ابن المقفع: إني ما أردت  موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسب فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أُثِرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، وافتتح الله دينه وخلافته بهم إلى الحشر، فمن وضع حقهم خسِر، ومن  أنكر فضلهم خُصِم).
 
تعبر هذه القصة القديمة عن حالة ثقافية ربما تتشابه في بعض الوجوه مع الوضع الثقافي الراهن الذي وصل إليه الواقع العربي من التقهقر والتراجع على مدى قرون طويلة، حتى ظن البعض من أبناء العرب أنفسهم  أن هذا هو قدر العرب، وهذا هو أصل حالهم منذ الأمد والأبد، ولم يكونوا سوى رعاة وعالة وأمة هامشية في التاريخ، أما حضارتهم ودولتهم فلم يؤسس بنيانها  إلا العناصر الأجنبية وأبناء الأمم الأخرى، ومع مرور الزمن انتشرت هذه  الأفكار وشاعت، فهُمش دور العرب، ومُحي أثرهم في قيام النهضة والعلم، وحُصروا في خانة صغيرة ضيقة.
 
ثم جاء عدد من المؤرخين، على رأسهم ابن  خلدون (المتوفى سنة 808هـ) فأشاع النظرة السلبية تجاه العرب، وأطلق في حقهم الأوصاف الظالمة، ونفى عنهم سمات العلم والحضارة والصناعة، وحصر دورهم في  الهدم والتخريب والتوحش، كما ورد في مقدمته، (الفصل الثالث والأربعون)، بعنوان (في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم)، يقول: (من الغريب  الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته.. والسبب  في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة).
هذه المقولة  المجحفة الظالمة تسببت بشكل كبير في الإساءة لتاريخ العرب وتشويه الحقيقة وتضليل المتلقي، ثم انتقل أثرها بعد ذلك إلى عدد واسع من المثقفين العرب والمؤرخين الذين جاؤوا بعد ابن خلدون، ومازال صداها وأثرها شائع حتى يومنا هذا.
 
هذه السلسلة المتراكمة في تشويه صورة العرب، وسلبهم الدور المؤثر في صناعة الحضارة، هي نتيجة طبيعية للتنافس الطويل بين الأمم والأعراق التي  دخلت وتسابقت في ساحة الحضارة الإسلامية، وإذا أردنا أن نفند هذه التراكمات الطويلة فإن المسألة تحتاج إلى رجوع للقصة منذ بدايتها وتفكيكها،  ثم إعادة المسألة إلى نصابها الطبيعي.
 
ليست المسألة هنا تعصباً قومياً، أو انحيازاً عرقياً، بل إنصافاً للحقيقة وللتاريخ، فالشعارات المطلقة التي  تقول بأن العرب لم يبنوا الحضارة الإسلامية، وبأن عماد العلماء والفلاسفة  فيها هم من العجم، وأن دخول الفرس والسريان والروم وغيرهم من الأعراق هو الذي نهض بالحضارة الإسلامية؛ هي إطلاقات خاطئة مضللة، وقراءة قاصرة جداً لحركة التاريخ، وأثر العربية والإسلام في تاريخ الأمم والشعوب.
 
دعونا نفند هذا الأمر نقطة، نقطة، ونبدأ مع الفكرة الشائعة التي تقول إن غالب العلماء والفلاسفة في الحضارة الإسلامية هم من غير العرب، وجلهم من الأعاجم  والأعراق الأخرى.
لنتحقق أولاً من هذه النظرية، هل هي صحيحة أصلاً أم لا؟ 
إننا إذا بحثنا في سير العلماء في الحضارة الإسلامية، ثم دققنا في أصولهم وأنسابهم، نجد أن هناك عدداً كبيراً من أبناء القبائل العربية أسسوا وبرعوا وبرزوا في كافة العلوم العقلية والنقلية منذ بزوغ حركة العلوم والنهضة والتدوين، حيث نجد: العالم والكيميائي والفيلسوف خالد بن يزيد الأموي، صاحب أول مشروع للترجمة إلى العربية، ونجد أئمة المذاهب الفقهية: مالك بن أنس الأصبحي الحميري، ومحمد الشافعي المطلبي القرشي، وأحمد بن حنبل  الشيباني الذهلي، ونجد أعلام اللغة: الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي اليحمدي، وأبوسعيد الأصمعي الباهلي، وأيضاً مؤسس الفلسفة العربية أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، ابن شيوخ قبيلة كندة، وجابر بن حيان الأزدي مؤسس علم الكيمياء، وابن الهيثم البصري مؤسس علم الضوء، وإبراهيم الزرقالي التجيبي صاحب الاكتشافات الفلكية، وابن النفيس المخزومي القرشي الطبيب الشهير ومكتشف الدورة الدموية، والجغرافي الكبير محمد الإدريسي الهاشمي.. وغيرهم كثير. 
(لمزيد من التفصيل، انظر كتاب: عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية، للمؤرخ العراقي الكبير ناجي معروف، وكتابه الآخر: أصالة  الحضارة العربية).
 
لكن هب أن هذه النظرية صحيحة، وأن جل العلماء في  الحضارة الإسلامية هم من العجم، فإن ذلك لا يغير من المعادلة شيئاً، بل يزيد من قدر ومكانة العرب، الذين رحبوا بالعلماء والمبدعين من كافة الأمم، واحتضنوهم وقدموهم وأعلوا مكانتهم حتى على أبناء جلدتهم. إنها دلالة بالغة على قيمة العلم والثقافة في الضمير العربي، واحترامه لسيرة العلم  والعلماء، ولا عجب إذن أن أصبح الأدب العربي جامعاً شاملاً لمختلف الأمم والأعراق والأجناس، وبرز في الفقه واللغة والشعر والأدب علماء وأدباء من كافة الأمم والقوميات.
ولذلك عبر الفيلسوف العربي السوري جميل صليبا عن هذه  الحالة بمقولة رائعة: (إن الحضارة الإسلامية بكل ما تحويه من العناصر والقوميات الأجنبية، تبقى أثراً من آثار العبقرية العربية).
 
إن المسألة ليست مرتبطة بالعرق والنسب، فالعروبة حالة ثقافية، و(العروبة لسان)، كما يقرر ذلك كثير من المؤرخين والمحققين، فإن من انتمى للحضارة العربية الإسلامية، وكتب مؤلفاته باللغة العربية، وساهم في ثراء الثقافة العربية، وألف باسمها، وانتمى لها؛ فإنه بذلك يصبح أحد علمائها الكبار، ورمزاً من رموز الثقافة العربية, بغض النظر عن أصله ونسبه.
 
وقد علق المستشرق  الفرنسي الشهير لويس ماسنيون حول الفكرة التي تقول بأن (رجال الحضارة والأدب العربيين لم يكونوا ذوي دم عربي محض، بل موالٍ مستعربون)، فقال: (هذا لا يعتبر في نظرنا ظاهرة ضعف، بل قوة فريدة جعلت من الضيوف أبدالاً توافدوا من كل أمة، وهم عارفون لهذه اللغة قوتها في التعبير، وإيجازها الفريد، بل إنها معجزة لغوية للدراسة العلمية).
 
لننظر مثلاً لتاريخ الحضارة اليونانية، هل جميع العلماء والرموز الذين انتموا لها يرجع نسبهم وأصلهم إلى الإغريق؟ بالطبع لا، بل فيهم أعراق وقوميات متعددة، كـبطليموس الشهير صاحب (كتاب المجسطي)، هو من كبار الفلاسفة اليونان لكنه ابن مصر، ومثله الفيلسوف اليوناني هيرون السكندري، وغيرهم الكثير من حكماء مكتبة الإسكندرية في عصر الإغريق الذي كانوا شعاعاً فكرياً للحضارة اليونانية؛ لم يكن أصلهم من أثينا، أو روما القديمة، لكنهم أصبحوا أبناء الثقافة اليونانية لأنهم انتموا لها، وكتبوا بلغتها. كما يُروى عن إيزوقراط قوله: (إن اليونانيين هم الذين يشاركون في تكوين ثقافتنا، وليس الذين يشاركوننا  في أصولنا).
 
من ناحية أخرى، لو تأملنا أهم المعاهد والكليات والمراكز العلمية في تاريخ الحضارة الإسلامية لوجدنا أن أكبر من رعاها ودعمها وضخ فيها الروح والأموال، هم الحكام والخلفاء العرب منذ الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، الذي قام بأهم مشروع نهضوي في تعريب دواوين الدولة، معلناً بذلك انطلاق العلوم العربية في الآفاق، ثم هارون الرشيد، ومن بعده المأمون، في عهدهما انطلق (بيت الحكمة) في بغداد، أكبر مركز ثقافي وعلمي قام بحفظ علوم الأمم وتراثها الإنساني، نقلوها إلى العربية، ثم أضافوا الكثير من العطاء الكبير لحركة العلوم الإنسانية باللغة العربية التي أصبحت في ذلك العهد لغة العلم العالمية.
 
ما فعله هؤلاء الزعماء العرب أنهم فتحوا المجال أمام كل العلماء والماهرين والمحترفين والخبراء، من كافة الجنسيات والأعراق أن ينضموا إلى هذه الحركة الثقافية المتقدة، وأجزلوا لهم الأجر والمكافآت، وصنعوا بذلك أحد أعظم الحضارات الإنسانية التي قامت بنقلة كبرى في تاريخ العلوم واكتشاف الكون والفضاء، وفتحت الآفاق بعيداً، وأثرت البشرية بعطائها العلمي الخلاق، وانتقل نورها عبر مشاعل العلم العربية نحو أعماق إسبانيا، وحتى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا، فانطلق بذلك عصر التنوير الأوروبي، وبدأ تاريخ الحضارة الغربية.
 
إن رسالة الإسلام قد  نبعت من جزيرة العرب، ونزل الوحي على رجل من أشراف العرب، وجاء القرآن  بلسان عربي مبين.. من هذه الأرض نشأ الحرف العربي الأول، وكُتبت المعلقات  العشر الفاتنة. من أرض الجزيرة العربية انطلق أبناء قريش فأسسوا الدولة الأموية، والعباسية، بنوا حضارة الأندلس، وشيدوا المدن والحواضر، وتزينت دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة والقيروان بمآثر العرب وعلومهم وآدابهم، فكانت واحدة من أعظم الحضارات في تاريخ الإنسانية.
 

 

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات هاتفية باحتلال العراق للكويت

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 2 أغسطس 1990..إيقاظ مبارك وفهد وحسين من النوم على اتصالات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *