الرئيسية / حوارات ناصرية / الوجه الآخر لخطاب رئيس الوزراء ..!

الوجه الآخر لخطاب رئيس الوزراء ..!

   

بقلم: أحمد عز الدين
(1)
نحن أمام أكثر من إشكالية غريبة ، قدمها خطاب الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء ، فهو في تقديري خطاب خطير في مضمونه ، بقدر ما هو مدهش في توقيته ومكانه ، غير أنني لا أريد أن أتوقف عند التوقيت أو المكان ، حتى لا أذهب بعيدا عن منهج الخطاب ذاته .
أولا : لست مع بعض الكتابات التي تعاملت مع الخطاب من منظور قيمّي ، مثلما كتب البعض أنه خطاب في الإذلال ، أو أن صاحبه مثير للشفقة ، ولست مع بعض الكتابات التي تعاملت معه ، على أنه بحكم تفسيراته لكثير من الأحداث ، وتقييمه لبعض الوقائع ، لا ينم عن معرفة حقيقية بالتاريخ ، لأن الإشكالية هنا ليست إشكالية المعرفة أو عدم المعرفة ، العلم أو الجهل ، وإنما إشكالية الغاية والهدف ، أو على وجه التحديد إشكالية الرسالة .
ثانيا : إنني على العكس من ذلك أرى أن الخطاب قد أُعد له إعداد جيد ، وتوفرت على مادته مجموعة محترفة ، ووصلت بجهودها ووسائل إيضاحها ، إلى خطاب قد يبدو متماسكا للبعض ، أو عقلانيا عند البعض ، مع استبعاد أي معايير موضوعية يمكن أن تخلع على الخطاب أوصافا مختلفة .
ثالثا : لكي تتوفر للخطاب هذه الدرجة من التماسك ، أو العقلانية ، عمد الخطاب إلى استخدام منهج انتقائي ، فقد أيقظ في تاريخ يمتد لقرن ونصف ، ما شاء له من وقائع ، وتغاضى عما شاء له من حقائق ، بل إنه عمد إلى تفسير وقائع هذا التاريخ بما يسمح بتوظيفه للوصول إلى غايته ورسالته ، أي أنه لوى عنقها ووظفها غيلة ، بغير أي مسحة علمية ، أو موضوعية ، فضلا عن أن الوقائع والحقائق التي يمكن أن تعكس تهافت الرسالة وبطلانها ، قد تم طمسها وإخفاؤها .
رابعا : رغم هذا المسح التاريخي الطويل ، الذي انتقاه الخطاب ، وفصله على مقاسه الذاتي ، فلسنا أمام خطاب في الماضي ، أو يتعلق بالتاريخ ، وإنما أمام خطاب يتعلق بالمستقبل ، كما يراه مستنسخا من رؤيته للماضي ، وفق قواعد يراها ملزمة ، ويتحتم أن تشكل منهج الحكم والحكومة .
(2)
ثمة ملاحظات جوهرية في مضمون الخطاب ورؤيته :
لك أن تلاحظ – أولا – أن الخطاب وهو يتحدث عن 150 عاما من التاريخ الوطني ، لم ير مرة واحدة أو تغافل بالجملة ، عن أن هناك ثلاثة أرباع قرن كان الاحتلال البريطاني فيها جاثما على صدر مصر بالقوة العسكرية ، وأن إرادتها السياسية كانت مرتهنة بالكامل له ، وأن القرار الاستراتيجي والعسكري والسياسي والاقتصادي ، كان موضوعيا في يده وبشكل كامل .
أليس مدهشا ألا ترى رؤية الخطاب ولو ظلا صغيرا عابرا ، لوجود هذا الاحتلال ولدوره في بؤس أوضاع مصر ، على امتداد هذه العقود ، مثلما رأت ازدهار محصول القطن ، الذي كان يشتريه هذا الاستعمار بسدس ثمنه في السوق العالمي ، أو كما رأى البورصة اللامعة ، التي كان يتحكم فيها حفنة من الأجانب ، أو كما رأى السبق في إقامة خطوط السكك الحديدية التي أقامها الاستعمار نفسه بالسخرة لخدمة أغراضه العسكرية ، ولست اعتقد في النهاية أن ذلك إنما يعبر عن جهل بالاحتلال ودوره ، ولا يعبر عن غفلة عنه ، بقدر ما يعبر عن استغفال .
ولك أن تلاحظ – ثانيا – أن هذه الرؤية لم تر الشعب المصري ولو في صورة تذكارية ، على امتداد هذه العقود ، رأت قناة السويس ، ورأت الأوبرا ، ورأت القاهرة الخديوية ، ورأت الملكية ، ورأت صور الشوارع الجانبية اليتيمة ، وأضواء البورصة وبعض الأسواق ، دون أن نلمح في زاوية ضيقة من الرؤية ولو بالعدسات المكبرة ، هذا الشعب ، لقد وضعت الخديوي إسماعيل في قلب المشهد ، بل وعلى رأسه ، لكنها لم تر لا سعد زغلول ، ولا مصطفى النحاس ، ولا مكرم عبيد ولا جمال عبد الناصر في المرحلة التالية ، ولا حتى أنور السادات ، وكأن هذا التاريخ كله ، كان خاليا من القادة ، بل وخاليا من الاضطرابات الكبرى والثورات ، التي أشعلها هذا الشعب العظيم ، فهذا الشعب بقاداته ومقاومته وثوراته ، وفيضاناته الوطنية ، وأدواره البطولية في التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ليس موجودا بالفعل إلا في صورة بعض المنحنيات البيانية وبعض الأرقام ، وبعضها ليس صحيحا ، وبعضا يستند إلى منهج انتقائي واضح ، رغم أن مقود الحركة السياسية في مصر ، كان قد انتقل كليا ، منذ عام 1946 من السلطة والملك ، ومن الحكومات المتعاقبة ، ومن الأحزاب السياسية إلى الشارع العام .
ولك أن تلاحظ – ثالثا – ذلك المستوى الفريد والمكانة الرفيعة ، التي وضعت فيها الرؤية تجربة الخديوي إسماعيل ، لقد حولت إسماعيل وتجربته ، إلى تمثال وطني مقدس ، ينبغي أن ننحني له ، فهو رسول التحديث ، ورسول الحضارة ، وجسر التطوير والتغيير والتقدم ، وسط تزاحم الأحداث والوجوه والمتغيرات في مجرى تاريخي واسع وطويل ، رغم أنه جسر الاستدانة والتغلغل الأجنبي ، والاحتلال العسكري المباشر ، فقد بدأت الكارثة من حيث بدأ إسماعيل ، وانتهت بتحديثه المعماري الزخرفي الشكلي ، وبولعه بكل ما هو أجنبي ، إلى تدمير اقتصاد مصر ، وإسقاطها في حالة مركّبة من التبعية ، وعندما صك مقولته ( مصر لم تعد بلدا أفريقيا ، بل بلد في أوربا ) كان إفلاس مصر قد أصبح حتميا ، وهكذا غادر مصر مخلوعا ، كما غادرها فاروق على الباخرة المحروسة ، إلى نفس الوجهة وهي إيطاليا .
أما خطوط السكك الحديدية التي وضعتها الرؤية ، تاجا فوق رأس المرحلة ، فلم تكن من صنع إسماعيل ، وإنما كانت من صنع سابقه عباس ، الذي لم يمنح الأجانب أي امتيازات ، ورفض مبدأ الاستدانة ، ولذلك من المدهش أن يقال أن تطور مصر اللاحق بعد عشرات السنين كان موروث إسماعيل ، رغم أن موروثه الحقيقي هو دخول مصر تحت براثن احتلال عسكري مباشر ، هو ذاته الذي أطاح بكل محاولات مصر للتحديث والعصرية والتقدم ، منذ عام 1879 وحتى عام 1952 .
ولك أن تلاحظ – رابعا – أنه في محاضرة ثقافية ، يلقيها رئيس وزراء مصر على منصة القوات المسلحة المصرية ، وفي أوج احتفالات نصر أكتوبر ، ينتهي العرض الذي يقدمه ، إلى تجريد الجيش المصري من دوره التاريخي المشهود ، على امتداد هذه العقود ، سواء تجريده من دوره في قلب الحركة الوطنية المصرية المتصاعدة ، والتي شكَل نبضها الحقيقي ، في لحظات ملهمة في التاريخ ، وتمسكه بدور متميز في صيانة الوحدة الوطنية ، وبموقع خاص سمح له بأن يندمج كليا في تطلعات وطنه وطموحاته دون فجوات ، بل سمح له هذا الموقع أن يتقدم ، ليسد كثيرا من الثغرات والفجوات ، كان من بينها فجوات ذات طبيعة تكنولوجية وتحديثية ، إضافة إلى تضحيات كبرى بالدم قبل العرق .
لقد كان الاحتلال الأجنبي دوما ، يعرف عدوه الحقيقي ، باعتباره وعاء القوة المنظمة ، ولهذا كان القرار الجوهري ، الذي تلا الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 ، هو حل الجيش المصري ، بعد إعدام بعض من قادته ، وسجن ونفي البعض الآخر ، وبعدها بعامين فقط ، بعد تشكيله على أسس مختلفة ، قدم هذا الجيش في السودان وحدها 32400 شهيد ، وقدم بعد ذلك فوق المسرج ذاته وهو يتولى إقامة خطوط السكك الحديدية في السودان لمسافة 325 ميلا ، عددا غير محسوب من الشهداء وصفتهم مذكرات أحد الجنرالات البريطانيين وصفا مؤثرا ، بقوله : ( تحت كل شبر من هذه الخطوط جثمان جندي مصري ) .
لكأن ذلك كله لم يكن قائما في التاريخ ، ولم يكن طاقة في تحولات هذا التاريخ .
ولك أن تلاحظ – خامسا – في أدوات العرض ومنهجه ، ما يبدو تلاعبا واضحا بتقسيم المراحل الزمنية ، فصلا أو جمعا ، لتأكيد الرسالة ، بما في ذلك مثلا توظيف قيمة العملة الوطنية ، كعنصر وحيد في تقدير صحة الاقتصاد ، وسلامة توجهه من مرحلة إلى أخرى ، وهو أمر ليس في صالح الرؤية أو الرسالة ، لأننا إذا أعدنا تقسيم هذه المراحل في أطر زمنية مختلفة ، واستخدمنا نفس المعيار ، سننتهي إلى نتائج قاسية ومحبطة ، فإذا قارنا – مثلا – بين نسبة انخفاض قيمة الجنيه خلال عشر سنوات ، بين أعوام 1952 و1969 ، وبين نفس النسبة خلال عشر سنوات أخرى بين 2010 و2020 ، سنجد أن نسبة الانخفاض في الأولى في حدود 6% ، بينما سنجد النسبة في الثانية في حدود 230% ، فهل يصلح توظيف هذا الفارق كعنصر وحيد في تقدير صحة الاقتصاد وسلامة توجهه .
هل يصلح معيار آخر للمقارنة ، نعم لنأخذ نسبة نمو الصناعة ، في السنوات العشر الأولى وصلت هذه النسبة إلى 18% أي حوالي ثلاثة أمثال نسبة النمو ، أما في العشر سنوات الثانية ، فقد تقزم نمو الصناعة في العام الأخير ، إلى نسبة أقل من 1% ، أي أقل من ثلث نسبة النمو ، ولذلك تبدو الصناعة غائبة تماما في الرؤية ، باستثناء إشارة خاطفة إليها خلال الحرب العالمية الثانية ، بينما قامت على مجهودات أفراد ، فلم تكن لدى الحكومات المتعاقبة خطط للصناعة من أي نوع .
ولا يتناقض المنطق نفسه مع قضية معدلات الزيادة السكانية ، فلا أحد يستطيع أن ينفي ، أن معدلات هذه الزيادة ، تشكل عبئا دائما على التنمية ، ولكنها تصبح خطرا داهما في ظل توجه اقتصادي بعينه ، وإذا كان المثال السابق هو الأقرب للتوضيح ، أي بين عامي 1952 و1969 ، فقد بلغت الزيادة السكانية معدلات غير مسبوقة ، فقد أضيف عشرة ملايين مولود خلال هذا العقد ، ورغم أنها بالضرورة شكلت عبئا لكن امتصاص آثارها قد تم في حلقات النمط الاقتصادي الاجتماعي نفسه ، فقد وفرت مصر احتياجاتها من القمح إلى نسبة غير مسبوقة وغير تالية وهي 80% ، وبلغ محصول القطن قرب نهايتها ، المستوى الأعلى في الإنتاج ( 10 ملايين و800 قنطار ) أما بقية المحاصيل فقد وصل إنتاجها إلى حدود أقرب إلى الاكتفاء الذاتي ، بعد أن أتاح السد العالي إضافة 2 مليون فدان إلى رقعة مصر الزراعية ، أما أبواب الصناعة بما في ذلك الصناعات الثقيلة والماكينات ، فقد كانت مفتوحة على مصراعيها ، لتستوعب خطوط إنتاجها ما يفيض في سوق العمل .
يمكن أن يضاف إلى ذلك ما أراد الخطاب أن يلوح به من أن الحروب المتتالية – وقد فُرضت على مصر – هي أحد العوامل الرئيسية فيما لحق بالاقتصاد الوطني من علل ، فقد بدأت مصر هذا العقد وهي ما تزال تجمع آثار هزيمة عام 1948 ، ثم تعرضت لعدوان 1956 ، ثم عداون 1967 ، وبينهما حرب اليمن ، بينما كانت نسبة النمو 6.5% ، أما نمط توزيع هذا النمو فقد صعد بطبقات وشرائح اجتماعية كاملة من أسفل إلى أعلى ، ضمن حراك اجتماعي واسع ، ولم يهبط بها من أعلى إلى أسفل ، كما هو الشاهد في عقود تالية فصلت بين نسبة النمو وبين نمط توزيع عوائده .
ولك أن تلاحظ – سادسا – فيما يتعلق بصورة القاهرة ، وليست مصر كلها ، فقد وضع الخطاب صورتها في إطار من ذهب ، باعتبارها الأجمل ، على مستوى العالم ، رغم أن المقصود مساحة مربعة من الكيلومترات من ميدان التحرير في زاوية من قلب القاهرة ، هي ما أصطلح على تسميته القاهرة الخديوية ، حيث كان السكان الأغلب من الأجانب ، أما صورة القاهرة الحقيقية فسوف أستعير لوصفها شهادة أديب وكاتب فرنسي ، هو ( جان كوكتو ) الذي زار القاهرة في عام 1949 ، ثم أصدر في عام 1950 كتابا عن زيارته وضع له عنوانا بحروف فرنسية كلمة مصرية عامية هي ( معلهش ) ولحسن الحظ أن أديبا مصريا مبدعا هو يحي حقي قد ترجم جانبا من كتاب (كوكتو) عن القاهرة عام 1949 ، وذلك جانب حرفي من النص :
“سيارات مصر ذات فخامة واقتدار، أو هي على الأقل مجرد مظهر لهذا الاقتدار لأن مصر لا تستطيع استخدام هذه السيارات، فإذا استثنيت طريق الهرم، والأوتستراد الذي يربط القاهرة بالإسكندرية، والذي رصفته شركة شل فإنك تجد مصر محرومة من الطرق.
وأول شيء يستلفت نظر راكب السيارة هو هذا الخلط بين فرط الترف، وفرط الفاقة. وإذا كان هذا الترف يبطن أحيانا سقم الذوق فإن الفاقة تكشف عن وجهها للناظرين على الأرصفة في مشارف أحياء مبنية بالطين. وعلى الكباري، وفوق عربات الكارو (وهي بمقام التاكسي في مصر) حشد من النسوة بملايات لف سوداء. الجلاليب الطويلة القذرة الكوفيات الملتفة على الرءوس، هيئة مشية الناس، القفا الطويل الأسمر. كل ذلك ينطق بنبل ووفرة هيهات أن تجد لهما مثيلاً في أي ديكور مسرحي.
هذا الشعب الذي يتسكع في الطرقات، وينام على التراب يؤثر بحكم مطابقة البيئة ألوانًا هيهات تقليدها. ألوان الرمل والسماء وماء النيل، إنه مخلوق للكسل والموت، إنه يفوق الزمان طولا ودواما، هذا الشعب الذي تهيج أعصابه القهوة والحشيش والشاي الأسود، إنه توزع بين إضراب التلاميذ في حوش المدرسة، وبين غيبوبة هي أشبه بدبيب الموت. إن زعيق الكلاكسيون لا ينتهي كل سائق يستخدمه بلا مبرر. كأنه طفل يلهو ببوق.”
(3)
لكي لا يبدو الكلام ، تقليلا من الرؤية أو تجريدا لها ، فتلك صورة لمصر من واقع دراسة لي، تضم كافة الأبعاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا خلال الأربيعينيات ، ليست ردا فقط على ما قاله الخطاب من أن مصر ازدهرت اقتصاديا وحضاريا خلال هذه السنوات ، لأنها لم تنغمس في أي حرب ، بما في ذلك الحرب العالمية الثانية ، فالواقع أنها دفعت من دمها ولقمة خبزها وصحتها ، ثمنا أكبر بكثير ، وإذا كان الأمر الجوهري هو الاقتصاد أولا فليس ثمة وصف يحيط بأوضاع الاقتصاد المصرى خلال هذه السنوات، أكثر دقة من تلك الصورة التى رسمها د.عبد الجليل العمرى والتي رأى فيها هذا الاقتصاد: ” .. كبقرة ترعى فى أرض مصر. ولكن ضروعها كانت تحلب خارجها ..”.
لكن الحقيقة أن الحلفاء كانوا ينفذون بدقة أكثر وصية ابن مروان لواليه فى مصر، حيث قال له ذات يوم:
“إذا جف اللبن، فاحلب الدم”، فقد كان دم مصر هو الذى يحلب طهورًا سائغًا للشاربين».
كانت جيوش الحلفاء التى تزحف – ككل جيوش الدنيا – على بطونها، ترعى فى وادي النيل، دون أن تدفع مليمًا واحدًا، وإنما مجرد تعليمات إلى البنك الأهلى بأن يطبع أوراقًا خضراء فى مقابل ما تحصل عليه، وهو ما تحول إلى ماكينة لتنمية التضخم والعوز والجوع، وروافدها وتوابعها كما هو شائع.
لقد بلغ الارتفاع فى تكاليف المعيشة فى مصر 350% خلال هذه السنوات، رغم أنه لم يتجاوز فى انجلترا نفسها 145٪.
وكيف لا يحدث ذلك إذا كانت الأرصدة الاسترلينية المستحقة الدفع على الحكومة البريطانية قد وصلت إلى 450 مليون جنيه استرليني، وإذا كان العجز فى الميزان التجارى. المصرى قد بلغ ۱۰۰ مليون جنيه .
تلك هي مقدمات الاضطراب الاجتماعي الكبير، والذي سرعان ما تحول إلى احتراب اجتماعي أيضًا، بعد أن انهارت طلائع الطبقة المتوسطة الجديدة، وازداد العمال والفلاحون انسحاقًا فوق انسحاق.
خلال هذه السنوات، ارتفع عدد أصحاب الملايين فى مصر من خمسين مليونيرا إلى أربعمائة، وزادت الودائع فى البنوك من خمسة وأربعين مليونًا من الجنيهات إلى مائة وعشرين مليونًا، دون أن يصاحب ذلك زيادة إنتاجية تتكافأ معه.
وإذا كان ضرع البقرة المصرية قد استمر حلبه فى الخارج، فإن البقرة نفسها التى لم تجد ما تأكله قد أخذت تأكل فى لحمها، لقد كان حافظ عفيفى نفسه هو الذى لاحظ أن أربعة ملايين شخص من سكان مصر، يعيش الواحد منهم بإيراد يقل عن جنيه فى الشهر، أي بنحو ثلاثة قروش فى اليوم الواحد، ومن بين ما كانت الحكومة تجمعه من ضرائب، كانت الطبقات المطحونة تدفع من دمها – هي الأخرى – ما يساوي ثلاثة أرباع إيردات الدولة المصرية.
لذلك لم يكن غريبًا – وفق الإحصائيات الرسمية فى ذلك الوقت – أن يكون عدد المصابين بالبلهارسيا اثني عشر مليون مواطن، أي حوالى ثلاثة أرباع عدد السكان، وبالديدان المعوية، ثمانية ملايين مواطن، أي نصف السكان، وبالرمد الحبيبي أربعة عشر مليون مواطن، أي بنسبة تسعين بالمائة من السكان.
وعندما تم فحص طلاب الجامعة للخدمة العسكرية تبين أن ثلاثة وثمانين فى المائة منهم لا يصلحون نهائيًا لأداء الخدمة على المستوى الصحي.
لقد رصدت الحكومة ثلاثمائة جنيه لوضع خطة قومية لمقاومة وباء الملاريا. وسرعان ما اشتدت وطأة المرض حتى وصلت نسبة الوفيات به فى بعض مناطق الصعيد إلى 20% وتجاوز إجمالى رقم الوفيات به فى هذا العام [43] عدد عشرين ألف مواطن [!]، بينما كانت حالات الوفاة فى العام السابق [42] بين المصريين، بسبب انتشار وباء التيفود تتجاوز اثنی عشر ألف مواطن [!]
فقد كان الفقر والمرض هما جوادا السبق فى الحلبة المصرية الواسعة. ووفق الوثائق الرسمية فقد كان متوسط الدخل القومی للفرد يساوی تسعة جنيهات وأربعون قرشًا سنويًا. بينما «كان الكثيرون يبيتون على الطوى فى انتظار الرغيف المرتجى فى الصباح الباكر».
ووفقًا لتقرير لجنة برلمانية رسمية فقد أصبح «ربح الزارع يقدر بقيمة التبن فقط»، فقد كان كبار الملاك يبتكرون أساليب جديدة للمضاربة فى الأراضي الزراعية [وقد انخفض سعرها إلى النصف، واستتبع ذلك تحول جديد فى شكل الملكيات الزراعية وبينما كانت الحكومة تأخذ أردب القمح عنوة من الفلاح مقابل ثلاثة جنيهات كان سعره فى السوق السوداء يتجاوز ثلاثة أمثال ذلك.
غير أن الاستثناءات كانت صارخة، ووفق استجواب تقدم به أحد النواب فقد كانت «مديرية قنا تصرف مائة أردب شهريًا من القمح لأحمد عبود باشا بدعوى تموين المستخدمين بناحية أرمنت، وتصرف ثلاثمائة أردب شهريًا لمصنع السكر الذى يملكه بأرمنت بدعوى تموين العمال»، وهكذا كان أحمد عبود باشا وحده والذي كانت تنتج مزارعه هناك أربعمائة أردب قمح لا تمسسها يد الحكومة، يستولي على ربع ما يصرف من تموين للأقصر التى كان يبلغ عدد سكانها مائة وخمسة وسبعين ألف مواطن.
كانت الأرض التى يملكها كبار الملاك فى ازدياد مستمر، بينما كان عدد المالكين فى نقصان مستمر، وفي مواجهة خمسة عشر مليون مواطن لا يملكون شيئًا على الإطلاق، كان هناك اثنا عشر ألف مالك يملكون ما يربو على مليونين من الأفدنة، أما فى المدينة فقد تركزت الثروة فى أيدى عشرة آلاف مالك، هم كبار التجار، وكبار أصحاب الأسهم والسندات والودائع، وأعضاء مجلس إدارات الشركات.
وإذا كان موظفو الحكومة قد بلغوا مائتين وخمسة وستين ألفًا، فإن عدد العمال قد بلغ مليونين، بينما وصلت البطالة المقنعة إلى مليون عامل ونصف مليون يقومون بأعمال غير منتجة، قبل أن تنفجر سوق البطالة بعد ذلك بحوالى نصف مليون عامل تم الاستغناء عن خدماتهم.
وإذا كان إجمالى الدخل القومى قد قدر فى ذلك الوقت بحوالى خمسمائة مليون جنيه، فإن نصيب الأرباح والإيجارات التى تخص كبار الملاك من بينها قد تجاوزت ثلاثمائة مليون جنيه.
وحين عرضت حكومة أحمد ماهر بعد ذلك على مجلس الشيوخ فرض ضريبة سنوية – للدفاع – على الأطيان الزراعية بمقدار قرش ونصف القرش سنويًا على كل فدان، «أي جنيه ونصف سنويًا ضريبة على كل مائة فدان» عارض الملاك بشدة، ورفضوا أن تخضع الضريبة، لعنصر مساحة الأرض المملوكة لهم [!].
أما عن التطور الرأسمالي نفسه خلال الفترة ذاتها فقد ركز الرأسماليون المصريون – كما يقول سيرنيان – اهتمامهم أساسًا على تطوير الصناعات الصغيرة، وإبرام العقود المختلفة مع جيوش الحلفاء، وأعطت سلطات الاحتلال الإنجليزى الأولوية لبناء مشاريع لا تتوفر لها خدمات راسخة فى البلاد فكان أن تلاشت هذه المشاريع بعد الحرب ..، ووضعت كل الموارد البشرية والمادية فى البلاد تحت خدمة مركز الشرق الأوسط للإمداد والتموين الذى كان يتقدم بطلباته للمشاريع الصناعية ويتدخل حتى فى تنظيم الأجور».
وإذا كان النمو الاقتصادي متدنيًا بين أعوام 1914 – 1939 حيث لم يزد خلال سنواتها على 1.5 سنويًا، فقد ترتب على الإدارة الاقتصادية خلال سنوات الحرب استهلاك جانب مهم من رأس المال الاجتماعي المصرى، وعند ذلك لم تجد الحكومة حرجا فى أن توافق على طلب السفارة البريطانية بإدخال خبراء أجانب فى هيكلة الاقتصاد تحت دعوى إصلاح الخلل فيه.
لقد نمت الرأسمالية المصرية خلال سنوات الحرب، وحملت معها طبيعة نموها غير الرشيدة، فعندما تزحزحت أجور العمال إلى أعلى قليلاً، أعلن تقرير للاتحاد المصرى للصناعات [1944] أن متوسط إنتاج العامل قد هبط نتيجة محاولة تحسين حاله من الناحية المادية، بدلاً من تربيته اجتماعيًا وفنيًا، وعندما طرح مشروع لإنشاء مناطق صناعية، واجه الاتحاد المشروع بضراوة لأن: «حشد العمال فى مكان أو أماكن بعينها قد يغريهم بأشكال ثورية تجتاح الأمن والنظام». كما عارض الاتحاد نفسه، فى مشروع عقد العمل الفردي بعد أن أقره مجلس الوزراء، ورفض فرض ضريبة على الأرباح الاستثنائية.
تري، كيف تكون الصورة الاجتماعية الموازية لهذه الصورة الاقتصادية السياسية، بأوضاعها وتناقضاتها ..؟
لقد ارتفعت الجرائم ارتفاعًا كبيرًا خلال هذه السنوات، فقد زادت جنح السرقة وحدها بين عامى 1940 و 1944 من حوالى خمس وستين ألف جنحة إلى حوالى مائة وعشرة آلاف جنحة، وارتفعت الجنايات فى القاهرة وحدها بين عامى 42 و 1943 بنسبة 56% لكنها بلغت فى الإسكندرية 136%، وزاد استهلاك المخدرات حيث قدر فى عام ۱۹۳۹ بما يساوی 1896 كجم [أفيون وحشیش] لكنه وصل فى عام 1942 إلى 3987 كجم، حيث سيواصل القفز بعد ذلك [ليصل فى عام 1947 إلى 13268 كجم].
«وظهرت – كما يقول د. عبد الوهاب بكر – وسائل جديدة للتخدير تخلصًا من عدم التفكير فى الفقر، مثل البانجو، وخلط أوراق نبات الحشيش بالسكر، وأكل أقراص أوراق الشاي.. إلخ».
وفوق هذه الخلفية كلها كان طبيعيًا أن تمارس الدعارة على نطاق واسع، وحيث يقارن د. عبد الوهاب بكر، بين الأرقام الدالة على ذلك بين عامى [42/43] و[43/44] يجد أن عدد النسوة اللاتي قبض عليهن وهن يحرضن المارة على الفسق فى الأولى هو ۲۷۰۹، وفي السنة الثانية 5155 امرأة.
لقد قدرت مصلحة الإحصاء [في عام 1942] أن ما يلزم العامل وزوجته وأولاده لإشباع الحاجات الأساسية حد الكفاف لا يقل عن 439 قرشًا فى الشهر، بينما كان متوسط الأجر الشهرى للعامل فى العام نفسه لا يتجاوز ۲۹۳ قرشا، فقد كان متوسط الأجر السنوي لعمال المدن (وفق إحصائيات عام 1942) لا يتجاوز خمسة وثلاثين جنيهًا، انخفضت على امتداد العامين التاليين من عمر وزارة النحاس، حتى أصبحت قیمتها الشرائية لا تساوي أكثر من ثمانية جنيهات.
لقد نبتت المشكلة الاجتماعية فى مصر، فى أصيص واحد، مع المشكلة الوطنية، وكان ذلك جزءا من سياق تاریخی كامل، ولكن الجميع ينظرون إلى كل منهما بشكل مستقل عن الأخرى ، ولذلك أخطأ الجميع فى تشخيص الحقيقة، وتنكبوا طريق الحل، حسب رواية الأمير محمد على إلى الوزير المفوض الأمريكي (تاك) – وفق تقريره إلى واشنطن 26/11/1945 – فإنه قال لهم فى إنجلترا أثناء زيارته: “إذا لم تساند إنجلترا الملوك الشباب فى العراق وإيران ومصر فإنهم لن يبقوا طويلاً على عروشهم”.
وأضاف: “إنهم جميعًا يطالبون بخروج الجيش البريطانى من مصر وما أن يخرج سيرون الفترة التى سيبقاها فاروق محتفظا بالعرش، إن كتلة من الشعب المصرى تنتظر اللحظة المناسبة للسلب والنهب، وإذا ذهب الجيش البريطانى فلن يكون هناك من يوقفهم”.
ووفق رواية الأمير – أيضًا – فإن ونستون تشرشل فاجأه بالقول:
”إن أحوال الفلاحين المصريين لم تتحسن خلال الثلاثين عامًا الأخيرة”، ورد عليه الأمير:
“إن شوارع القاهرة على نفس القدر من القذارة التى كانت عليها منذ 62 عامًا، ولاتزال مليئة بالمتشردين والشحاذين”.
لكن الأمير قدم حلاً طريفًا للمشكلة تتلخص فى أن تقوم الحكومة المصرية، بترحيل إجبارى لمائة أسرة يتسول أبناؤها فى الشوارع إلى السودان وعندما ينتشر الخبر ستخلو شوارع القاهرة من الشحاذين”.
وكان منهج الحل الذى يقدمه الأمير محمد علي – للأسف الشديد، هو المنهج السائد، سواء عند الحكومات المصرية المتعاقبة، أو عند البريطانيين أنفسهم.
لقد طلب رئيس الوزراء البريطاني – الذي ينتسب إلى حزب المحافظين – من الملك فاروق – خلال لقائهما بعد الحرب في القاهرة – أن يتخذ منهجًا حاسمًا لتحسين الأوضاع الاجتماعية في مصر، مؤكدا أنه ليس ثمة مكان في العالم كله، يجمع التناقض بين الثروات الهائلة والفقر الحاد على النحو الظاهر هنا في مصر.
بل إن الزعيم البريطاني المحافظ تساءل أكثر من مرة محرضًا الملك على أن يأخذ جانبًا من ثروات البشوات الأثرياء لتحسين مستوى معيشة الشعب، ومع طول تكراره قال فاروق مستسلمًا:
“إن ذلك ما كان يفكر فيه بالفعل”.
ثم قدر لفاروق أن يسمع كلاما مشابهَا ولكن من الأمریكی روزفلت الذي حدثه – أيضًا – عند لقائهمها، عن ضرورة معالجة الوضع الاجتماعي في مصر، وتحسين أحوال الفلاحين، وفي أعقاب اغتيال أحمد ماهر ذهب شقيقه على ماهر إلى السفارة البريطانية (13/3/1945)، ليشكر السفير على عزائه، قبل أن يفاجئه السفير بالقول: “إن أهم الأعمال التي ينبغي الإقدام عليها في المستقبل في مصر هي الإصلاح الاجتماعي وهو عمل لا يتطلب نشاطًا حزبيًا، ولذلك كان رأی كیلرن: “إن البلاد غدت معرضة لحدوث قلاقل اجتماعية خطيرة في أي وقت”
لكن مصر لم تتوقف عن الغليان والفيضان، وانتقلت أعراض الأزمة من الزوائد إلى المراكز، ومن الأطراف إلى القلب.
وكانت مظاهر ذلك أكثر وضوحًا:
إضراب شامل في منطقة شبرا الخيمة الصناعية يشل الإنتاج، مظاهرات عمالية عارمة في المحلة الكبرى تنتظم عشرين الف عامل يتم قمعها بالقوة، إضراب لكونستبلات البوليس، وبعضهم يوزع في الشوارع منشورات يسارية، القبض على الجمعية الوطنية الاشتراكية المتطرفة) في الجيش وضبط أعضائها وتوجيه تهمة نشرة المبادئ الثورية المتطرفة بين أفراد الجيش، والتدبير لاغتيال النقراشی – صدقی – النحاس – مكرم عبيد – عطا الله باشا) والمتهمون خمسة عشر ضابطا وأربعة صولات من بينهم الصاغ رشاد مهنا والصاغ أحمد يوسف حبييب والصاغ أحمد فؤاد واليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف.
لقد كتب «مكتب الشرق الأوسط» البريطاني محذرًا:
“إننا قد نجد أنفسنا في موقف تحرق فيه مصر كل شئ بريطاني، إلا فحمنا ….”.
(4)
هذا إذا خطاب خطير ، واستخلاص رسائله بعد ذلك ، لم يعد يتطلب بحثا ، ولا جهدا ، لكنني من منظور وطني خالص ، أقرب إلى التعبير عن مفهوم ( الأمن السياسي ) بغير انحياز إيديولوجي ، أعتقد أن تحويل هذه الرؤية إلى قضبان تُدفع فوقها قاطرة الوطن ، لن يكون منتوجه إلا اضطرابا كبيرا ، وأن قاطرة مصر ستذهب إلى حيث لا ينبغي لها أن تذهب .

عن admin

شاهد أيضاً

توماس سانكارا .. “الأصدقاء لا يخونون “.

  بقلم : عمرو صابح       كان توماس ايزيدور نويل سانكارا رائداً في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *