الرئيسية / حوارات ناصرية / سامي شرف يكتب: عبد الناصر وثورة الفاتح الليبية (3)

سامي شرف يكتب: عبد الناصر وثورة الفاتح الليبية (3)

سامي شرف

سامي شرف

نشر في: الثلاثاء 16 يونيو 2020 – 3:24 م | آخر تحديث: الثلاثاء 16 يونيو 2020 – 4:25 م

قادة الثورة الليبية بالسفارة المصرية في طرابلس وأول صورة للقذافي..
في يوم 4 سبتمبر 1969 حضر إلى مقر السفارة حيث كان الوفد يقيم: كل من المقدم آدم حواز والنقيب مصطفى الخروبي ومعهما ضابط برتبة الملازم الأول قدماه باسم ملازم أول معمر القذافى قائد الثورة و رئيس مجلس قيادة الثورة . وتميز اللقاء بحرارة بالغة وقام مصور جريدة الأهرام الذى كان بصحبة هيكل بالتقاط مجموعة من الصور، لكن ذلك أثار اعتراض القذافى نظرا لأنه لا يرغب فى الإعلان عن شخصه فى الوقت الحالي، فطمأنه هيكل مشيرا إلى أن هذه الصور ليست للنشر وإنما سترسل للرئيس جمال عبد الناصر ليتعرف بواسطتها على قائد الثورة!!

بدأ الاجتماع على الفور وشارك فيه من الجانب المصرى كل من فتحى الديب ومحمد حسنين هيكل والعقيد أحمد رشدى والمقدم صلاح السعدنى كما حضره العميد محمد عبدالحليم عبد الرحمن ممثلا للرئيس السودانى جعفر نميرى والذى كان قد سافر مع الوفد المصرى على نفس الطائرة للتهنئة بنجاح الثورة.

وشارك من الجانب الليبى كل من القذافى والخروبى وآدم حواز.

بدأ اللقاء بتسليم القذافى رسالة مكتوبة، وأخرى شفوية من الرئيس جمال عبد الناصر سلمها وأبلغها له فتحى الديب، وكان نص الرسالة المكتوبة كما أملاها علىّ الرئيس عبد الناصر قبل سفر الوفد كما يلى :

«الأخ الكريم رئيس مجلس قيادة الثورة، يسعدنى باسم شعب الجمهورية العربية المتحدة وباسمي أن أتوجه إليكم وإلى رفاقكم فى النضال بأطيب تحية مصحوبة بأمنياتنا الصادقة أن يوفقكم الله وأن يكلل جهادكم النجاح، التى هى أهل له من أجل حرية الشعب الليبى وعزته وتقدمه الكامل، وهى الأهداف التى كانت بغير جدال دافع ثورتكم المجيدة ومحرك أملكم العظيم.

إن إنطلاقة الثورة كانت وستكون موضع اعتزاز وفخار للأمة العربية كلها وللإنسان العربى المعاصر وكلاهما يواجه الآن مرحلة من الكفاح هامة وحاسمة.

ولقد رأيت أيها الأخ الكريم أن أبعث إليكم بهذه الرسالة تعبيرا عن تأييدنا غير المحدود للثورة الليبية وإيمانا بوحدة العمل والمصير العربي لكم أن تثقوا ثقة مطلقة أن الشعب المصرى معكم بمشاعره وبكل قدراته وطاقاته، والله يوفقكم ويحقق لكم نصره العزيز لأمتنا العربية

والسلام عليكم أيها الأخ العزيز ورحمة الله وبركاته.
أخوكم جمال عبد الناصر
كما قدم العميد محمد عبد الحليم عبد الرحمن رسالة مماثلة من اللواء جعفر نميرى، وكانت موجهة إلى اسم العقيد سعدالدين أبو شويرب الذى قدمته الثورة في لحظاتها الأولى كواجهة علنية على غرار نموذج اللواء محمد نجيب فى مصر ـ عين سعد الدين أبو شويرب فى 24 اكتوبر 1969 سفيرا لليبيا فى مصر ـ وقد اعتذر ممثل الثورة السودانية عن هذا واستأذن أن يسمح له القذافي بتصحيح الاسم.

بعد أن قرأ القذافى الرسالتين قام مجددا بشرح ظروف تشكيل تنظيم الضباط الوحدويون الأحرار، وشدد على ضرورة الالتزام بعدم نشر أسرار التنظيم فى الوقت الحالى، كما شرح أهداف ومبادىء الثورة الجديدة ولفت النظر تأكيده على رفض الحزبية التى تقود إلى التفتيت والتزام التركيز على إجلاء القواعد الأجنبية فى ليبيا، واعتبار مطلب الوحدة العربية مطلبا ملحا، وأنه وزملاءه مصرون على إتمام الوحدة الفورية مع مصر حتى ولو كان من خلال إتمامها واقعيا دون إعلان رسمى لإدراكهم أن الرئيس جمال عبد الناصر لا يرضى بالوحدة الفورية ؛ ومن ثم فهم يقترحون النظر فى توحيد بعض القطاعات كمرحلة أولى، مثل: التعليم والاقتصاد وتطوير التعاون وتبادل الخبرات بين مختلف الأجهزة والمؤسسات فى البلدين.

وأشار القذافى أيضا إلى أن الشعب الليبى يكره كلمة الاشتراكية حيث يتشكك فى مفهومها، ولكن الشىء الذى يطمئن الشعب هو أن الثورة ناصرية و تحمل مبادىء عبد الناصر.

وبعث فتحى الديب بتقريره الأول مزودا بانطباعاته وانطباعات أعضاء الوفد المرافق له عن الثورة وقائدها وطبيعة المشكلات والتهديدات المتوقع أن يواجهها النظام الجديد فى ليبيا فى مجالات الأمن والسياسة والإقتصاد والسياسة الخارجية.

وكان مجلس قيادة الثورة يتكون من: معمر القذافي، عبد السلام جلود، عبدالمنعم الهوني، مصطفى الخروبي، أبوبكر يونس جابر، الخويلدى الحميدي، مختار القروي، محمد نجم، عوض حمزة، بشير هوادي، محمد المقريف، عمر المحيشي.

وعاد محمد حسنين هيكل إلى القاهرة فى اليوم التالى مباشرة ليقدم تقريره إلى الرئيس عبد الناصر مزودا بالصور الفوتوغرافية التى التقطها مصور الأهرام.

وعلى أثر تلقى الرئيس عبد الناصر للتقريرين كلفنى بالسفر إلى ليبيا فى نفس الأسبوع كمبعوث خاص له ولإبلاغ القيادة الليبية بإقتراح الرئيس عقد لقاء مباشر مع قائد الثورة الليبية سواء فى بنغازى أو فى القاهرة وفقا لما يراه القذافي.

وكان رد القذافى بعد لقائي معه على انفراد فى بيته ثم مع جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة في مقر القيادة العامة حيث تناولنا طعام الغداء جميعا على طريقة معسكرات الجيش البسيطة والتى لا تعقيد فيها ، الشىء الذى أعادنى إلى حياتى الأولى فى الجيش المصرى وطريقة المعيشة التى اعتدناها، الأطباق الصاج التى تحوى الخضار وقطعة اللحم وإلى جانبها الأرز ورغيف الجراية (العيش).

وبعد تناول الغذاء اصطحبنى قائد الثورة إلى مكتبه حيث أبلغنى رسالة لأنقلها إلى عبد الناصر ردا على رسالتة وفحواها أنهم يرحبون ترحيبا فوريا بهذه المبادرة وهم يتركون للرئيس تحديد الموعد والمكان المناسبين ، وأنه ليس عليهم سوى التنفيذ ـ هكذا قالها.

وعقد اللقاء الأول بالفعل فى القاهرة فى 1969 وتوالت بعد ذلك اللقاءات فى القاهرة أيضا وكان القذافى يحضر فى كل مرة يصحبه إثنين أو ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة.

وتحول الوفد فى مقر إقامته فى بنغازى إلى فريق عمل في شكل مجموعة من المستشارين لمجلس الثورة الليبي، كل فى مجال اهتمامه برئاسة السيد فتحى الديب، وكانت قضية الأمن تستحوذ بالطبع على الاهتمام الأول لقيادة الثورة ، ولم يكن يمر يوم إلا ويحدث لقاء مع ممثل لقيادة الثورة ، يعرضون على الفريق خططهم ويستطلعون الرأى بشأنها، وكانت هذه الاتصالات تبلغ إلى القاهرة أولا بأول من خلال شبكة اتصال مباشر بينى وبين فتحى الديب تعمل طوال الأربع وعشرين ساعة يوميا.

وكان الرئيس عبد الناصر يزودهم برأيه ونصائحه، التى كان من أهمها هو ضرورة التعامل بقدر من الروية والابتعاد عن العصبية والتشنج فى معالجة مسألة الأمن. وعلى سبيل المثال فقد كان حظر التجول مفروضا على مدى اثنين وعشرين ساعة يوميا ويترك للمواطنين ساعتين فقط للخروج لتصريف مصالحهم وقضاء أمورهم الخاصة ، و برغم الترحيب الشعبى الجارف بالثورة إلا أن هذا الوضع إضافة إلى تكثيف حركة القوات فى الشارع وحول المواقع الرئيسية والحيوية فى نفس الوقت الذى ما زالت أسماء قائد الثورة وأغلب عناصرها غير معلنين قد أصاب المواطنين بالتوتر، فبعث الرئيس عبد الناصر برسالة ينصح فيها بضرورة تخفيف حالة حظر التجول وبخاصة قبل حلول يوم الجمعة الذى يتجمع فيه المواطنون للصلاة ، وقد تشهد هذه المناسبة صورة من صور التعبير عن التعاطف مع الثورة، وبالفعل استجاب قادة الثورة لهذه النصائح واتخذوا قرارا بتخفيف ساعات حظر التجول وإتاحة الفرصة أمام المواطنين لتصريف أمورهم الحياتية اليومية وكسر الإحساس بتقييد حريتهم لمدة أربعة أيام متواصلة.

وفى الخامس من سبتمبر 1969 كان يعقد فى القاهرة اجتماع يضم الرؤساء: عبد الناصر وبومدين (الجزائر) ونور الدين الأتاسى (سوريا)، وقد تداولوا فى الموقف من الثورة الليبية إلى جانب القضية الأولى التى حضروا من أجلها وهى المعركة مع العدو الإسرائيلى والوضع العربى العام و اتخذوا قرارا فوريا بمساندة الثورة الليبية مساندة كاملة مع البدء فى اتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع هذا القرار موضع التنفيذ بما فى ذلك المساندة بالقوات المسلحة التابعة للدول الثلاث إذا ما تعرضت الثورة الليبية لأى عدوان خارجي، وبعث جعفر نميرى برسالة إلى عبد الناصر تفيد تضامنه مع الرؤساء الثلاثة فى هذا القرار.

وكانت العلاقات بين القاهرة والخرطوم فى تلك الفترة تتم في شكل اتصال مستمر على مدى الليل والنهار لتبادل المعلومات والآراء حول كل المسائل التى تهم البلدين سواء على الصعيد الداخلى أو الخارجى أو الأمنى ـ وقام الرئيس عبد الناصر بإبلاغ هذا التأييد للقيادة الليبية فى رسالة عاجلة سلمها فتحى الديب للقذافي.

سحب وعودة الوفد المصري من ليبيا .. لماذا؟
وقد أثارت التحركات التى جرت فى الأيام الأولى للثورة بعض الملاحظات التى يجدر تسجيلها فى هذا المقام.

أولى هذه الملاحظات هى أن قيادة الثورة الليبية لم يكن لديها خطة واضحة لأسلوب إدارة الدولة بعد نجاح التغيير، أكثر من ذلك فلم يكن لديهم معرفة بنوعية الشخصيات المدنية التى يمكن الإستعانة بها فى الحكم وبخاصة فيما يتعلق بشخصية من يصلح لتولى رئاسة الوزارة مثلا، فبعد أن تقرر أن يتولى القذافى هذا المنصب وأن يتولى وزارة الدفاع والداخلية أعضاء من مجلس قيادة الثورة عاد فى اليوم التالى ليكلف محمود المغربى بتولى منصب رئيس الوزراء بناء على ترشيح من عمر المحيشى عضو مجلس قيادة الثورة، وكان كلاهما ـ المحيشى والمغربي، متأثرا بأفكار حزب البعث فى ليبيا ولهما علاقات أخرى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كما أن المغربى لا ينتمى لأصل ليبى وقد كان لهذا الموضوع ردود فعل سلبية عديدة على المستوى الشعبى ، كما تسبب أيضا فى إثارة مشكلات وانقسامات متعددة داخل الوزارة نفسها.

أما الملاحظة الثانية: فقد انعكست فيما بدا من استياء بعض الرؤساء العرب مما أسموه وجودا مصريا فى ليبيا ومبادرتهم بتقديم النصيحة بالحد من هذا الوجود المصري، وكان أبرز الأمثلة على ذلك هو التحذير الذى تقدم به الرئيس الجزائرى هوارى بومدين للقذافي، خلال زيارته لبنغازى في 9 سبتمبر فى طريق عودته من القاهرة من التعامل مع فتحى الديب، وعندما شعر الأخير بتأثر القذافى بهذا التحذير قام من فوره بإبلاغ الرئيس عبد الناصر بهذا الواقع الجديد، فسارع الرئيس بدوره بإصدار قرار بإنهاء مهمة الوفد المصرى والأمر بعودتهم إلى القاهرة بعد أن يبلغ القذافى بهذه التعليمات التى وصلتهم.

لكن القذافي تنبه وطلب إبلاغ الرئيس عبد الناصر بأنه يصر على بقاء المجموعة المصرية فطلب فتحى الديب أن يعود هو إلى القاهرة لشرح الموقف للرئيس، فوافق القذافى على أن تؤجل العودة ليومين أو ثلاثة حتى يمكنهم خلالها إعداد جميع احتياجاتهم من مصر ، وكرر شكره وتقديره للقاهرة للمساعدات التى قدمتها وتقدمها للثورة الليبية.

وكان نص التعليمات التى أرسلت إلى فتحى الديب بناء على هذا التطور كالآتي:

برقية من سامى شرف إلى فتحى الديب:

قابلوا العقيد معمر القذافى والإخوة أعضاء مجلس الثورة لتبليغهم أن مأموريتكم قد انتهت وأنكم ستعودون للقاهرة مع الوفد المصرى خلال الأيام القليلة القادمة. وتفسروا هذا القرار إذا سئلتم عن سببه على أساس أن الأمور قد أصبحت فى وضعها الطبيعى خصوصا بعد قيام مجلس الثورة ومجلس الوزراء بمهامهما.

السفير أحمد رياض، سفيرنا فى ليبيا فى ذلك الوقت، سيمارس مهامه لفترة، ثم يحل محله سفير آخر كما سيتم تعيين ملحق عسكري.

الجمهورية العربية المتحدة على أتم استعداد لتلبية ما يطلبه الإخوة فى جميع المجالات بلا تحفظ.

هذه التعليمات صدرت تلبية لرغبتكم فى رسالتكم الشخصية الأخيرة.

وتأتي الملاحظة الثالثة ذات معنى خاص: فقد شهدت الأسابيع الأولى فى عمر الثورة حضور العديد من الوفود العربية التى كانت تحضر دون استئذان تحت ستار التهنئة، وإن كان الهدف الحقيقى هو محاولة التأثير على اتجاهات وسياسات القيادة الليبية الجديدة ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك هو الوفد العراقى الذى حضر فجأة ودون إخطار سابق يوم الخامس من سبتمبر 1969، وكان الوفد برئاسة وزير الدفاع العراقى وقتها صالح مهدى عماش ( حزب البعث ) وكان معه بعض من كان يعمل من قبل فى قطاع البترول فى ليبيا قبل الثورة ، والتقى عماش ومن معه المقدم آدم حواز وأخذ يقدم نصائحه التى كان من أبرزها أن تتحرك الثورة بسرعة لاعتقال معارضيها وتودعهم السجون لمدة عامين وبعد العامين تستجوب كل فرد منهم فإذا تعرف أى معارض على اسمه يعود إلى السجن مرة أخرى.

وبالطبع أبدى العراقيون استعدادهم لتقديم الخبرات وألوان الدعم اللازم لتأمين الثورة بما فى ذلك الاستعداد لتزويد ليبيا فورا بفرقة مدرعة عراقية، وقد دفع هذا الأسلوب قيادة الثورة الليبية إلى إجراء مقارنات بين أسلوب مصر فى تقديم المساعدة والدعم وبين الأسلوب العراقى مما دعا القذافى لعدم الالتقاء بهم مما اضطرهم للمغادرة يوم 6 سبتمبر 1969، لكن ذلك لم يدفع إلى اليأس فعاد وفد عراقى جديد يوم 14سبتمبر وبنفس الأسلوب.. أى بدون إخطار أو استئذان سابق وكان الوفد هذه المرة برئاسة صدام حسين عضو مجلس الثورة العراقى وقتها وكان يضم مجموعة من المسئولين فى حزب البعث منهم سعدون حمادى عضو مجلس الثورة العراقى والذى كان يعمل فى أحد البنوك الليبية قبل الثورة، وتم اعتقاله ضمن تنظيمات البعث الليبى فى عهد الملكية، ومعه مجموعة مكونة من وزير الشباب وبعض العاملين فى قطاع البترول ومدير الإعلام وكرروا نفس العروض السابقة ومنها أساسا ضرورة اعتقال معارضى الثورة والضرب بيد من حديد على أى تحرك دون هوادة أو رحمة.

كما عرض صدام حسين استعدادهم لإرسال سرب طائرات وفرقة مدرعة لحماية الثورة الليبية وتحدث عن موقف العراق فى حرب يونيو67 وأن الحكم أيامها كان رجعيا ، الشىء الذى نفاه الجانب الليبى لمخالفة هذا الكلام للواقع، ثم عرض بعد ذلك قوانين ثورة العراق وإعادة تنظيم الجيش الليبي.

وقد سألهم القذافى ردا على هذه العروض وكان السؤال: ما هو موقفكم من الجبهة الشرقية وحاجتها لهذه الطائرات والمدرعات؟ وهل أنتم أممتم البترول فى العراق أو رفعتم سعره أصلا؟ وقد رد الوفد العراقى بأنهم ليس لهم أطماع فى ليبيا.

وخلال شهر نوفمبر 1969 وصل صالح مهدى عماش وزير الدفاع العراقي إلى ليبيا مطالبا بقرض قدره عشرة ملايين جنيه لسداد قيمة صفقة طائرات ميراج من فرنسا ثمنها ثمانية عشر مليون جنيه ، وطلب العقيد القذافى التحقق من نوايا العراق حول هذا الموضوع، كما طلب معرفة حقيقة ميزانية العراق وأرصدتها الخارجية.

وقد رد الرئيس عبد الناصر عليه برسالة جاء فيها أن العراقيين لم يتكلموا معنا فى أى موضوع خاص بليبيا، وفى تقدير عبد الناصر أن القرض المطلوب بعشرة ملايين جنيه للعراق سيستخدم جزء منه لتمويل سرقة الثورة الليبية.

وقد رد القذافى على الوفد العراقي بأنه يشترط وصول هذه الطائرات إلى العراق قبل البت في موضوع القرض، وأنه قرر تأجيل جميع مشروعاتهم التنموية والعمرانية وأن كل الإمكانيات ستسخر لصالح المعركة.

كما جرت محاولة أخرى من جانب السودان لاستقطاب الثورة، فقد وصل فى اليوم التالى لوصول الوفد العراقى وفد من الخرطوم وطلب اللقاء مع مجلس القيادة لتقديم خبراتهم الثورية وكان أن رد القذافى عليهم بقوله:
«أنكم لم يمضِ على ثورتكم إلا ثلاثة شهور فأين هى خبرتكم هذه!!»

أما المحاولة التالية فقد كانت من جانب الولايات المتحدة الأمريكية فى صورة مهمة قام القنصل الأمريكى بمحاولة تنفيذها؛ حيث وضع ثلاثة شروط للاعتراف بالثورة الليبية هى:
الاحتفاظ بالقواعد الأمريكية ـ والإلتزام بالاتفاقيات والمعاهدات الثنائية ـ واستمرار التعاون والمحافظة على مصالح أمريكا فى ليبيا، وقد أبدى مجلس الثورة موافقته الشفوية فقط على هذه الأمور وقد حاول القنصل الأمريكى فى نفس الوقت معرفة شكل العلاقات بين ليبيا ومصر ومدى حجمها وعمقها وإلى أين تسير وأسئلة أخرى كثيرة بهدف الاحتواء ومحاولة إيجاد ثغرة لافساد هذه العلاقات بأى شكل.

على أية حال كان الخط الاستراتيجى الذى قرره الرئيس عبد الناصر إزاء الثورة الليبية هو أننا لا نريد من هذه الثورة إلا أن تستقر وتتقدم لتكون دعما للقوة العربية ؛ ومصداقا لهذا فقد عرض فى إحدى جلسات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى لما تتحمله مصر بالنسبة للخبراء؛ فأشار لقصة حدثت فى بداية الثورة الليبية حين طلب حسن عباس زكى وزير الخزانة المصرى فى ذلك الوقت من فتحى الديب أن يعرض على القيادة الليبية تدبير 2 مليون جنيه استرلينى لتغطية نفقات موسم الحج المصرى نظرا لأننا كنا نعانى من عجز فى العملة الصعبة وغضب الرئيس عبد الناصر عندما علم بها الموضوع وقال بالنص:

«إياكم ومثل هذه المسائل، هل انقلب الحال بنا لنتساوى مع من يحاولون ابتزاز الثورة الليبية، وسأحاسب حسن عباس زكى على طلبه هذا دون الرجوع إلىّ، وإذا علمت أنكم تكلمتم فى مثل هذه الأمور ولو بطريق غير مباشر سوف أحاكمكم لأنكم ترتكبون جريمة فى حق وسمعة مصر» . وتكفل بتدبير المبلغ من بنود أخرى.

وبهذه المناسبة فقد حدث عكس هذا الموقف تماما بعد رحيل الرئيس عبد الناصر. ففى فبراير 1971 طلب الرئيس السادات قرضا بحوالى 25 مليون جنيه من ليبيا ووضعنا، فتحى الديب وأنا، فى مأزق عندما أصر على أن أطلب هذا المبلغ من العقيد القذافى شخصيا رغم معارضتنا من حيث المبدأ ـ وقد وافق القذافى على تحويل المبلغ على أساس أنه لصالح المجهود الحربى.

على أية حال لم تفلح هذه المحاولات فى إثناء القيادة الليبية عن طلب المساندة المصرية فى مختلف المجالات، وكانت البداية هى طلب خبير مصرى لإعداد مشروع الإعلان الدستورى ، وقد قام بإعداده الدكتور جمال العطيفى المستشار القانونى لمؤسسة الأهرام .

ثم بدأت قوائم الاحتياجات تتوالى وكان أولاها قائمة باحتياجات الجيش الليبى من مصر والتى كانت تتلخص فى طلب عدد من المستشارين يرتدون الملابس المدنية ثم يلى ذلك وصول خبراء عسكريون للعمل فى الوحدات الليبية لرفع الكفاءة القتالية للجيش خلال ستة أشهر.

وتوالت الاحتياجات للخبرة المصرية فى مختلف القطاعات مثل الزراعة والإسكان والإعلام والتعليم والصناعة ومختلف قطاعات الخدمات.

وبعد دراسة الموقف وحصر هذه الاحتياجات تقرر استدعاء فتحى الديب إلى القاهرة يوم 16ديسمبر1969و توجه بصحبة بعض أعضاء الوفد من المطار إلى مكتبى مباشرة حيث عقد إجتماع ضم كل من الفريق محمد فوزى وشعراوى جمعة وأمين هويدى . وفى بداية الإجتماع شرح فتحى الديب رؤيته التى استخلصها للثورة الليبية وقياداتها وأهدافها ، ثم طرح بالتفصيل كافة الاحتياجات الليبية من مصر وخلص المجتمعون إلى التوصيات التالية وقد قمت بعرضها على الرئيس عبد الناصر الذى كان يعانى فى ذلك الوقت من أزمة قلبية ألزمته الفراش بناء على توصية الأطباء، فقرر:

عودة فتحى الديب إلى ليبيا للإقامة بشكل دائم ليكون قريبا من رجال الثورة ولتقديم المشورة السياسية لهم فى حالة طلبها ، مع تأخير عودة السفير المصرى إلى ليبيا والذى كان يقضى أجازة بالقاهرة.

تعيين المقدم صلاح السعدنى ملحقا حربيا فى ليبيا، وتكون مهمته الرئيسية هى العمل كمستشار لوزير الدفاع ومشرفاً على المستشارين العسكريين الذين يتم إيفادهم إلى ليبيا.

الاستجابة لطلبات ليبيا من الخبرات المصرية، على أن يتم إنشاء جهاز خاص فى رئاسة الجمهورية أُطلق عليه إسم « مكتب الخبرة» (أمين هويدى وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء) مهمته تنسيق هذه العملية مع الوزارات المختلفة وتحديد أنظمة العمل وقواعد التعامل مع الجانب الليبى.

ولقد لعب مكتب الخبرة المشار إليه والذى كان يشرف عليه أمين هويدى بتنسيق مستمر ويومى مع سكرتارية الرئيس للمعلومات وباقى الوزراء المعنيين فى توفير كافة الإحتياجات التى طلبها الجانب الليبى وبخاصة فى القطاع المدنى حيث أن القطاع العسكرى كان يتم التعامل بشأنه مع القيادة العامة للقوات المسلحة مباشرة أخذا فى الاعتبار أن القائد العام كان عضوا دائما فى مختلف مجموعات التخطيط الرئاسية المسئولة عن إدارة العلاقات الليبية المصرية.

على أن هذا المكتب ـ أى مكتب الخبرة ـ قد كشف عن واقع ربما مازلنا نعانى منه حتى اليوم فيما يتعلق بمشكلة المعلومات، ذلك أن الظروف التى أعقبت قيام الثورة الليبية فرضت الحاجة إلى تجميع أكبرقدر من المعلومات عن ليبيا فى مختلف قطاعات الإنتاج والخدمات حتى يمكن وضع خطط التنمية على أسس علمية سليمة . وقد اتضح أن هذا القدر الكبير من المعلومات متوافر فعلا وربما يفوق كل تصور لكنه كان موزعا على عديد من الوزارات والمؤسسات ، كل منها يفرض حصارا على أرشيفه ويحجم عن تبادله مع الأجهزة الأخرى ذات العلاقة ، ومن ثم فقد نجح هذا المكتب بالتعاون مع سكرتارية الرئيس للمعلومات والمخابرات العامة فى تجميع هذا الحجم الضخم من المعلومات فى أرشيف مركزى واحد أتيح لكل الجهات المعنية للاستفادة منه بقدر احتياجها ، وبالطبع فقد كان للإشراف الرئاسى على هذه العملية دورا مهما فى تسهيلها إلى أقصى حد.

ويجب أن نعترف بهذه المناسبة أن مشكلة المعلومات فى مصر هى افتقاد نظم التنسيق الرأسى والأفقى والتعاون المشترك مما يضاعف من حجم الإنفاق من جانب ويقود التنافس بين الأجهزة والمؤسسات إلى ضياع الكثير من الجهد والوقت من جانب آخر.

المهم، أخذت عملية الاستعانة بالخبرة المصرية فى التصاعد إلى مستويات غير مسبوقة فقد شكل وجود فتحى الديب بما يتمتع به من خبرات طويلة بالقرب من مجلس قيادة الثورة إغراء الاستعانة به فى عديد من الأمور فطلبوا منه إعداد دراسة عن كيفية بناء التنظيم السياسى وكان آدم حواز الذى عين حلقة اتصال بينه وبين مجلس قيادة الثورة يطلب منه إعداد خطابات يلقيها فى الاجتماعات الجماهيرية كما طلب منه أيضا إعداد نشرات توعية توضح أهداف الثورة بهدف تعميمها من خلال أجهزة الإعلام، وقد قام فتحى الديب بالفعل بإعداد ما كان يطلب منه.

وفيما يتعلق بنشرات التوعية فقد قام بإعداد منهج متكامل يقوم على مجموعة من الدراسات إحداها حول مفهوم الثورة وأهدافها والثانية عن ضمانات استمرار الثورة، وكانت تذاع باسم المقدم آدم حواز وتلقى ردود فعل إيجابية لصالحه خاصة بين قطاع المثقفين مما أثار حفيظة باقى أعضاء مجلس قيادة الثورة لعلمهم بالمصدر الحقيقى لهذه الدراسات، لكن فتحى الديب صارح العقيد معمر القذافى ـ وكان قد رقى إلى رتبة العقيد بقرار من مجلس قيادة الثورة وعين قائدا عاما للقوات المسلحة فى الثامن من سبتمبر 1969ـ، بظروف طلب وإعداد هذه النشرات ، فطلب منه القذافى تجهيز هذه الدراسات وتوزيعها على أعضاء مجلس قيادة الثورة لدراستها والتسلح بما جاء فيها من أفكار. وفى العاشر من نوفمبر 1969 توقف نشر هذه الدراسات فى أجهزة الإعلام اكتفاء بتوزيعها على أعضاء مجلس قيادة الثورة.

من جانب آخر بدا أن القيادة الليبية تتطلع إلى العمل فى خطين رئيسيين:

أولهما: إعادة بناء وتنمية المجتمع الليبى من مختلف الجوانب، والاستفادة فى هذا السبيل بالموارد الإقتصادية والبشرية المتاحة لليبيا حتى يمكن تقديم إضافة حقيقية للشعب تنسب إلى الثورة.

أما الإتجاه الثانى؛ فيتمثل فى رغبة القادة الجدد في ممارسة دور فعال على المستوى الإقليمى وخاصة على الصعيد العربى والإفريقى وفى دائرة البحر المتوسط.

وكان كلا من الاتجاهين يستدعى توفر خبرات عالية الكفاءة وعميقة التخصص؛ ومن ثمّ توالت طلبات ليبيا لسيل من الخبرات المصرية فى مختلف المجالات ، وكانت الاحتياجات من المستويات العليا من الخبرات تقدم بموجب طلب كتابى من القذافى شخصيا بوصفه رئيسا لمجلس قيادة الثورة ، أما باقى المستويات فكان يتم تنسيقها بين الوزارات المعنية والمتناظرة فى البلدين تحت إشراف مكتب الخبرة الملحق برئاسة الجمهورية. ومن أمثلة الطلبات التى كان يوقعها القذافى لطلب الخبرة المصرية أعرض هذا الخطاب كما قدم لنا بالنص كما ورد مرفقا بتقرير فتحى الديب رقم (12) 7/9/1969 والمعنون « نتيجة الاجتماع بالرئيس معمر»:

الجمهورية العربية الليبية
مجلس قيادة الثورة
الموضوع/ طلب بعض المستشارين
طرابلس الرقم ج. ع. ل . /2/1969م 19/9/1969

ســــرى جـــــدا إلى/ السيد القائم بأعمال سفارة الجمهورية العربية المتحدة
بعد التحية:
يسر مجلس قيادة الثورة للجمهورية العربية الليبية أن يستسمحكم فى طلب المستشارين من الجمهورية العربية المتحدة الشقيقة فى المجالات الآتية:
1- مستشار عسكرى عدد ( 2 ) .
2- « سياســـى عدد ( 2 ) .

3- « اقتصــادى عدد (2 ).
ونود إذا أمكن أن يبقوا بصورة شبه دائمة وإلى حين الانتقال من هذه المرحلة .

كما نود أيضا أن يكون متفقا عليه بيننا أنهم عرضة للتبديل بغيرهم.
مع تحياتنا وشكرا ،،،

توقــيع:
عقيد معمر القذافى القائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس قيادة الثورة
(كتب بخط اليد)
والأصل محفوظ فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى.

أما اتجاه العمل الخارجى لممارسة دور ليبى غاب طويلا، فقد ركز القادة الليبيون على النفاذ من باب المساعدات الفنية والاقتصادية مع اختيار بعض مواقع النفوذ الأجنبى لتدخل ليبيا كبديل مناسب لهذا النفوذ.

وعلى سبيل المثال أولت ليبيا اهتماما بارزا للعمل في مالطة منذ فترة مبكرة، وأخذت تضغط بهدف التخلص من النفوذ البريطانى هناك حتى أقدمت الحكومة المالطية بالفعل على طلب ترحيل الخبراء البريطانيين الذين يديرون مطار فاليتا ، المطار الدولى الرئيسى فى مالطة واستبدالهم بخبراء ليبيين ، وكان هؤلاء الخبراء الليبيون هم خبراء مصريون تم استدعاؤهم على عجل وزودوا بجوازات سفر ليبية وغادروا إلى مالطة لتولى الإدارة الفنية للمطار.

ونفس الموقف حدث مع أوغندا عندما عرضت عليها ليبيا في هذا الوقت المبكر تزويدها بخبرات فى مجال التعليم فى إطار برنامج للمساعدات ، وبالفعل تم التعاقد على عدد من المدرسين والخبراء التربويين من مصر وزودوا بجوازات سفر ليبية وسافر هؤلاء إلى أوغندا بوصفهم خبراء ليبيين.

(وللحديث بقية … )

اقرأ أيضا..

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *