الرئيسية / حوارات ناصرية / ناصريون مجهولين ..محمد غانم.. الرجل الذى فتح القارة السمراء بشركة النصر للاستيراد والتصدير: مصالحنا فى أفريقيا لا تقتصر على المياه فقط.

ناصريون مجهولين ..محمد غانم.. الرجل الذى فتح القارة السمراء بشركة النصر للاستيراد والتصدير: مصالحنا فى أفريقيا لا تقتصر على المياه فقط.

شركة النصر للتصدير والاستيراد

 

 

شركة (النصر للتصدير والاستيراد)»، الكتاب عبارة عن حوار طويل أجراه د. باسم عادل، مؤلف الكتاب، مع السيد محمد غانم، رجل المخابرات الشهير، ومؤسس وأول رئيس لشركة النصر للتصدير والاستيراد. أهمية هذا الكتاب أنه يأتى فى أيام يعود فيها الحديث مجددا عن حدود الدور المصرى فى أفريقيا، والكتاب هو أول دراسة توثق تجربة شركة النصر فى أفريقيا. وتاريخ شركة النصر وارتباطها بأدوار وطنية بات أمرا معروفا للجميع.

أصبح عدد الفروع فى الدول الأفريقية 17 فرعاً فى ساحل العاج والنيجر والسنغال وتوجو والكونغو والكونغو الديمقراطية وبوروندى وأفريقيا الوسطى والكاميرون، وكينيا وأوغندا وتنزانيا وزامبيا وزيمبابوى وغانا ونيجيريا، وفى الدول العربية 5 فروع فى الكويت والأردن ولبنان وسوريا والسودان، وفى أوروبا فرع باريس، كما أن هناك دراسات لفتح بعض الفروع الأخرى فى بعض الدول الأفريقية».

التاريخ

تأسست شركة النصر للتصدير والاستيراد فى عام 1958 كشركة قطاع خاص صغيرة برأسمال 25 ألف جنيه، ثم تأممت عام 1961، وزاد رأسمالها إلى مليون جنيه. وهنا بدأ نشاطها الحقيقى، بعد ست سنوات فقط من هذا التاريخ أصبح لشركة النصر للتصدير والاستيراد 25 فرعا فى أفريقيا وأوروبا والبلاد العربية، وفى السنة التالية لذلك أصبحت تمتلك أسطولاً للنقل البحرى بحمولة 215 ألف طن، وفى أواخر الستينيات أصبحت الشركة، حسب تقدير جامعة إلينوي الأمريكية، واحدة من أهم 600 شركة على مستوى العالم، وقد وصل عدد العاملين فيها إلى 3500 موظف، فيما اعتبرها بنك أوف أمريكا الشهير أنها بالنسبة لدول حوض المتوسط تعادل شركة ميتسوبيشي العملاقة فى الحجم والقوة الائتمانية بالنسبة لليابان.

فى عام 1958، عاد السيد محمد غانم من بيروت بعد أن قضى هناك ثلاث سنوات فى عملية مخابراتية مناهضة لحلف بغداد، وذلك عبر غطاء شركة «النيل للإعلانات»، التى عمل مديرا لفرعها فى بيروت، وكان يريد أن يحظى بشىء آخر غير الغطاء الدبلوماسى يمكّنه من القيام بعمله ذى الطبيعة السرية، خاصة أن اسمه فى عالم المخابرات كان معروفا لكل الأجهزة الغربية، جاءت فى ذهنه فكرة تأسيس الشركة التى اتخذها غطاء لعمله، أصر على أن تكون التسمية شركة «النصر للتصدير والاستيراد» بنفس هذا الترتيب، «التصدير» قبل الاستيراد، وذلك بهدف أن تشكل هذه الشركة انفتاحا لمصر على أسواق العالم.

فى هذا التوقيت- بداية الستينيات- كانت أفريقيا كلها تحت الاحتلال، باستثناء مصر وليبيا وتونس والمغرب، وكانت القارة السمراء مغلفة بالاستعمار والفقر والمرض، ومغلقة على سفارات أربع دول فقط، أمريكا وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل طبعا، ويبدو أن ذلك الوضع المعقد هو ما استفز السيد محمد غانم فقرر اختراق قارة أفريقيا ومواجهة الأعداء هناك، وكانت البداية بأفريقيا الاستوائية قبل أن تتوسع الشركة لتمارس نشاطها فى 25 دولة أفريقية أخرى، كان الرعايا الأجانب من الدول الاستعمارية يرغبون فى تصفية ممتلكاتهم بالدول الأفريقية المحتلة، استعدادا للعودة إلى أوطانهم، وذلك عن طريق بيعها بشرط قبض الثمن فى أوروبا، حيث كان من غير المضمون بالنسبة لهم الخروج بأى أموال من الدول الأفريقية المستقلة حديثا.. واستغلت شركة النصر هذه الفرصة لشراء الأراضى والعقارات التى أصبحت فيما بعد مقار للشركة فى قلب أفريقيا، ومنها بناية شركة النصر العملاقة فى أبيدجان- عاصمة كوت ديفوار- وقد تحمس رئيس البلاد لهذا المشروع، لدرجة أنه شارك فى وضع حجر الأساس للمبنى، وشارك فى افتتاحه، ومنح السيد محمد غانم وساما رسميا بدرجة رئيس وزراء. من بين ما ذكره الكتاب أن أحد رؤساء الوزراء السابقين أراد بيع ذلك المبنى فى أبيدجان بمبلغ أقل كثيرا من قيمته الحالية التى تقدر بالمليارات، وذلك لسداد ديون الشركة، وأن السيد محمد غانم قاد معركة فى مجلس الشعب لمنع هذه «الكارثة».. ونجح فى وقف البيع.

أملاك عقارية في الخارج

تمتلك الشركة العديد من العقارات في بعض الدول الإفريقية:

مبني إداري مؤجر للشركات. عدد 2 فيلا في زامبيا مؤجرة للغير

  • فيلا في كينيا مؤجرة للغير
  • شقتين في الكونغو كينشاسا ملك الشركة مؤجرة للغير

مخازن ومناطق حرة:

من شركة رأس مالها 25 ألف جنيه فقط، إلى واحدة من أهم 600 شركة على مستوى العالم فى الستينيات من القرن الماضى، حيث لم تكن شركة النصر للتصدير والاستيراد مجرد شركة تجاربة هادفة للربع، وانما واحدة من أهم “القوى الناعمة” لمصر، وذلك لامتلاكها 35 فرعا بالدول الأفريقية حديثة الاستقلال فى ذلك الوقت.

 
 

شركة النصر للتصدير والاستيراد

تأسست الشركة على يد محمد غانم، ضابط المخابرات المصرى، عام 1958، برأس مال 25 ألف جنيه فقط، ثم تم تأميمها عام 1961 ورفع رأسمالها إلى مليون جنيه، ومنذ ذلك التاريخ تمكنت الشركة من التوسع فى انشاء فروعها بالخارج، وتحديدا بالدول الافريقية التى نالت استقلالها حديثا، وذلك بهدف تدعيم الوجود المصرى فى تلك الدول، عن طريق زيادة التبادل التجارى بينها وبين مصر، الامر الذى اثبت نجاحه اكثر من الجهود الدبلوماسية العادية، حتى بلغ عدد الفروع ٣٥ فرعًا فى ٣٨ دولة إفريقية.

 
وبنهاية الستينيات من القرن الماضى، صنفت جامعة ألينوى الأمريكية شركة النصر كواحدة من أهم 600 شركة على مستوى العالم، وتعادل فى أهميتها شركة ميتسويشى العملاقة فى الحجم والقوة الائتمانية بالنسبة لليابان فى ذلك الوقت، حيث بلغ عدد العاملين فى الشركة 3500 موظف، بجانب امتلاكها أسطولا للنقل البحرى بحمولة 215 ألف طن.
images

شعار الشركة

كما استخدم اسم الشركة للتغطية فى بعض العمليات المخابراتية، ابرزها ما يعرف بعملية “الحفار”، حيث انتحل احد الضباط المشاركين فى العملية، التى دارت فى عدد من الدول الافريقية، صفة موظف بشركة النصر للتصدير والاستيراد، نظرا للتواجد القوى للشركة بذلك الوقت، كذلك لعبت الشركة دورا فى مساندة الحركات التحرر من الاستعمار فى افريقيا.

بدأت الشركة بالتراجع بدأ من سبيعنيات القرن الماضى، خاصة مع استقالة مؤسسها محمد غانم، منذ ذلك الوقت بدأت الشركة بالتدهور وتراجع دورها فى الدول الافريقية، حيث انخفض عدد الفروع إلى 22 فرعا، حيث يبلغ رأس مال الشركة بالوقت الحالى ما يقرب من 85 مليون جنيه، موزعًا على 850 ألف سهم بقيمة إسمية للسهم 100 جنيه، ومملوكة بالكامل للشركة القابضة للنقل البحرى والبرى.

محمد غانم.. الرجل الذى فتح القارة السمراء بشركة النصر للاستيراد والتصدير: مصالحنا فى أفريقيا لا تقتصر على المياه فقط.. والوقت لم يفُت لإصلاح أخطائنا

حوار   نشوى الحوفى    ٢٦/ ٥/ ٢٠١٠

تصوير: تحسين بكر
غانم يتحدث إلى «المصرى اليوم»

فى مكتب عتيق بمبنى تراثى فى شارع عبدالخالق ثروت، تستشعر فيه رائحة الستينيات المصرية، يستقبلنا ببشاشة، يرد على تعبيرى عن سعادتى للقائه بجملة: «بلاش بكش».. أؤكد له صدق العبارة فيتساءل: «وماذا تعرفين عنى؟»، لأجيب أن السعى للقائه لم يكن لما قام به من أعمال تتعلق بالأمن القومى وحسب فيما مضى من سنوات، ولكن لما بذله من جهود عبر تأسيس شركة النصر للتصدير والاستيراد لدعم أمن مصر فى أفريقيا.. عندها هدأت أساريره وخاطبنى قائلاً: «برافو عليكى».

هكذا بدأ الحديث مع محمد غانم، ضابط المدفعية فى الجيش المصرى منذ عام ١٩٤٤، الرجل الذى ساهم فى رسم وتنفيذ السياسة المصرية فى العالم العربى وأفريقيا، ومؤسس ورئيس شركة النصر للتصدير والاستيراد التى اخترقت ٢٥ دولة أفريقية بإنشاء فروع بها لتأمين مصالح مصر.

يتذكر «غانم» بتركيز شديد تفاصيل كفاحه مع رجاله العاملين فى فروع الشركة التى أنشئت لربط مصالح دول أفريقيا واقتصادها مع مصر. يحكى أنه طالب الحكومة وقتها بمنحه ٢٥٠ ألف دولار عن كل فرع يسعى لإنشائه فى أفريقيا، لكن خواء الخزانة والتزامات الدعم العسكرى خفض المبلغ فى نهاية المطاف إلى ١٠ آلاف دولار فقط لكل فرع.

يحكى كيف أصر على بناء أعلى مبان فى الدول الـ٢٥ لتكون مقار لأفرع الشركة وتحمل على قمتها اسم مصر. تسأله: «كل هذا بـ١٠ آلاف دولار؟»، فيجيبك بقوة تتنافى وسنوات عمره التى جاوزت الثمانين: «لا، بل بعزيمة الرجال».

يقارن غانم بين ما فعله هو ورجاله فى الستينيات فى دول أفريقيا وبين ما هو حادث الآن مع دول حوض النيل فيقول: «لو فعلنا فى إثيوبيا ودول حوض النيل ما فعلناه فى غرب وجنوب أفريقيا ما وصلت الأمور لما وصلت له الآن»، فإلى نص الحوار.

■ ضابط بالجيش المصرى وخريج الكلية الحربية.. ما علاقتك بالاقتصاد وتأسيس الشركات؟

– دعينى أُعدْ صياغة الجملة لتكون: مواطن ودارس لفنون القتال والدفاع وضابط فى الجيش المصرى ومحب لكل ذرة تراب فى هذا الوطن.

وعندما يطلب منى الوطن أن أكون ضابطاً فأنا كذلك، وحينما يحتاجنى كرجل اقتصاد فأنا هو، وفى الوقت الذى يطلبنى فيه كرجل مخابرات فمرحباً بالمهام. لقد تخرجت فى الكلية الحربية عام ١٩٤٤ والتحقت بسلاح المدفعية وشاركت فى حرب فلسطين ومُنحت عن دورى فيها نجمة فؤاد العسكرية، كما تطوعت فى ديسمبر عام ١٩٤٨ كضابط ملاحظة مدسوس وسط قوات العدو الإسرائيلى الذى حاول اختراق الحدود المصرية فيما بين رفح وغزة، وبفضل الله نجحت فى مهامى وصرت مسؤولا عن ١٠ متطوعين لا تعرف قلوبهم الخوف، فسببنا الألم للعدو الإسرائيلى وقتها.

وفى عام ١٩٥٤ حصلت على النجمة العسكرية لأننى كنت رأس حربة للفدائيين فى منطقة القنال لإزعاج القوات البريطانية وإشعارها أن مصر لم تعد البلد الآمن لوجودها، وكان اسمى الحركى محمد صلاح. وفى عام ١٩٥٤ وقع الاختيار على لمحاربة تشكيل حلف بغداد الذى سعت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لتكوينه لعمل حزام أمنى يحمى مصالحها فى المنطقة ضد التهديد الروسى لمناطق البترول، فسافرت لبيروت تحت اسم محمد عزت، مدير فرع شركة النيل للإعلان هناك، لتنجح مصر عبر دعم موجات القومية العربية فى شعوب المنطقة فى حث الدول العربية على التراجع عن المشاركة فى الحلف ماعدا العراق التى عرف عن رئيسها فى ذلك الوقت «سعيد النورى» ولاؤه للإنجليز. وفى عام ١٩٥٨ كان إنشاء شركة النصر للتصدير والاستيراد التى لعبت دورا بارزا فى أفريقيا.

■ الحديث عن شركة النصر للتصدير والاستيراد يطول.. ولكن ما صحة ما يُقال من أنها أنشئت أصلاً لتحقيق أهداف الأمن القومى فى أفريقيا؟

– كان هناك وعى بأهمية دور مصر فى أفريقيا وأهمية دول القارة فى دعم المحور الاستراتيجى المصرى، فلا خلاف حول أهمية السودان ومنطقة الحزام الاستوائى وغرب وجنوب أفريقيا لمصر. وكانت شركة النصر إحدى وسائل السياسة المصرية فى تحقيق هذا الهدف عبر دعم التعاون الاقتصادى والتجارى مع تلك الدول، وبخاصة بعد انتهاء العدوان الثلاثى حين سعت مصر لدعم وجودها فى أفريقيا لمواجهة الاختراق الإسرائيلى الذى كان بمثابة يد الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق مصالحها فى القارة السمراء بعد الانسحاب الصورى للاستعمار من دول القارة سواء كان بريطانياً أو فرنسياً.

فحتى وقوع العدوان الثلاثى على مصر لم يكن يُسمح بوجود أى سفارة فى الدول الأفريقية لغير بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإسرائيل. ولكن بعد العدوان نجحنا فى إقناع الدول الأفريقية بقطع علاقاتها مع إسرائيل، وهو ما حدث على الأقل ظاهرياً، لأنه كانت هناك أنظمة على علاقات خاصة مع الحكومة الإسرائيلية وترتبط معها بمصالح، لكن على الأقل نجحنا فى حثها على اتخاذ موقف معلن يسمح لنا بالتواجد وبقوة فى أفريقيا. وهكذا أدركت مصر فى تلك الفترة أهمية العمل على عمقها الإستراتيجى فى أفريقيا.

■ كيف جاء إنشاء شركة النصر فى نهاية الخمسينيات؟

– أسست الشركة فى عام ١٩٥٨ باسم محمد غانم وشركاه، وكان هدفنا توطيد العلاقات الاقتصادية مع كل دول القارة كما قلت. كان رأسمال الشركة يومها ٢٥ ألف جنيه. ولكن عندما صدرت قوانين التأميم فى عام ١٩٦١ رفعت الحكومة رأسمالها إلى مليون جنيه. وعملنا على تصدير كل شىء ممكن لأفريقيا واستيراد كل ما يمكن منهم.

وفى أحد الأيام كنت أتحدث مع وزير الاقتصاد حسن عباس زكى وطلبت منه أن يساعدنى فى فتح أفرع للشركة فى أفريقيا فرحب، وسألنى عن التكلفة، فقلت نحتاج ٢٥٠ ألف دولار لكل فرع. ففزع وقال لى الميزانية لا تسمح ولكن سأمنحك ٥٠ ألف دولار. ورضيت وذهبت إلى عبد الحفيظ فودة مدير النقد لأتسلم المال ففوجئت به يقول لى: «من أين لى؟ لن أمنحك سوى ١٠ آلاف دولار فقط مصر بحاجة للعملة الصعبة لشراء السلاح».

وكان هذا هو التحدى، أن أفتتح أفرعاً للشركة بتلك الميزانية الضئيلة ولكن كان هناك ١٢٠ رجلاً من العاملين فى تلك الفروع امتلكوا العزيمة والوطنية لتحقيق المستحيل وتوطيد أقدام مصر فى أفريقيا، وطلبت منهم أن يتصرفوا ويتاجروا بمنطق الفلاح عندما يبيع المحصول ويكون لديه التزامات، فيوزع ما لديه عليها بحكمة.

وطلبت من كل منهم أن يكون مقر الشركة فى دولة كل منهم فى أعلى مبنى وفى أفضل منطقة وأن يُبنى على أحدث الطرز. فقالوا لى من أين؟ فاتفقت مع حسن عباس زكى على فتح حساب بنكى للشركة فى البنك الأهلى فرع بيروت نحول له كل ما تكسبه الشركة استعداداً لبناء تلك المبانى وليكون معنا عملة صعبة فى أى وقت تحتاج لها مصر.

كان الرجال يعملون ٤٨ ساعة فى اليوم ليرفعوا رصيد الشركة، مصر كانت فوق رؤوسهم. لم يكن الواحد منهم يحصل على راتبه ولكن كان هناك هدف يعرفون قيمته. عمارة أبيدجان كان مساحتها ٤٦٠٠ متر مربع ومكونة من ٤ أدوار فوقها برج مكون من ١٧ دوراً، على الطابق الأخير لافتة الشركة يراها أهل البلد والوافدون لها. فى النيجر لم يكن هناك مبان أعلى من طابقين ولذا كان بناء مقر الشركة هناك حدثاً حضر افتتاحه رئيس الجمهورية الذى استأذننى فى أن أسمح له بأن يصعد ويرى البناء ويجرب المصاعد والحمامات فرحبت. وكذلك كان الأمر فى ساحل العاج.

هنا يتوقف المحارب القديم عن الحديث ويبكى من الانفعال. ثم يضيف: «عندما كان عاطف عبيد وزيراً لقطاع الأعمال الذى تتبعه الشركة، فوجئت بهم يعلنون عن نيتهم بيع مبنى الشركة فى ساحل العاج لسداد ٦٠ مليون جنيه خسرها فرع الشركة هناك فى عمليات غير مدروسة. فذهبت له وأنا أبكى على مجهود رجال فرطنا فيه بلا سبب، وقلت له إن العمارة رمز لوجود مصر ولا يجب أن نفرط فيها مهما حدث، فلم أستشعر اهتماماً.

ذهبت إلى مجلس الشعب وعرضت الأمر عليهم وأوضحت ما بذل من مجهود فيها وأهميتها لمصر. يومها أصدر المجلس قراراً بعدم بيع أى مبنى من مبانى الشركة فى الخارج. المبنى رمز لجهود رجال أفنوا حياتهم لرفع اسم مصر وتأمين عمقها الاستراتيجى فكيف نتركه بتلك السهولة؟

■ ماذا تعنى بتعبير العمل على عمقها الاستراتيجى فى أفريقيا فى ظل تراجع للدور المصرى اليوم فى القارة؟

– أعنى الوفاء بالالتزامات وتقدير حجم المسؤولية المنوط بدولة كمصر القيام بها. مصر احتضنت جميع الحركات الثورية فى أفريقيا وكانت ملجأ للكثير من القادة السياسيين، جزء كبير منهم عاش هنا ودعمتهم سياسيا ومعنويا وبالسلاح، وفتحت بابها لعشرات الآلاف من الطلاب الأفارقة للدراسة والتعلم هنا لخلق كوادر قادرة على قيادة بلدانها، فالاستعمار لم يسمح لأى بلد فى أفريقيا بتنمية كوادره، مئات الألوف من الأفارقة درسوا فى الأزهر وجامعة القاهرة وعندما عادوا لبلادهم ظل ولاؤهم لنا. ليس هذا فحسب بل قامت مصر بتزويد جميع الدول الأفريقية بما تحتاجه من كوادر فى جميع المجالات لحين توافر الكوادر الوطنية، وعندما أقول كوادر أعنى بها مجالات التمريض والتدريس والطب والإنشاءات والاقتصاد.

فى أحد الأيام كنت أتناول طعام الغداء مع رئيس النيجر «أحمد أهيجو» فى قصر الرئاسة الذى كان مقر الحاكم الفرنسى قبل الاستقلال، وقال لى «أهيجو»: «نحتاج لمساعدة مصر فى مدنا بالكوادر، فرنسا لم تترك لى مهندساً زراعياً أو طبيباً واحداً، أحتاج لمصريين أطمئن إليهم» وهو ما تم تحقيقه لدولة النيجر وغيرها من الدول الأفريقية. وهذا نوع من التوغل الإستراتيجى لمصر فى أفريقيا قائم على أساسين، أولهما تقدير أهمية النظام للعمق الإستراتيجى فى القارة، وثانيهما إدراك حجم المسؤولية التى علينا القيام بها.

■ تتحدث عن خطوط عامة أدت لنجاح مصر فى مواجهة الاختراق الإسرائيلى فى القارة فى ستينيات القرن الماضي. ولكن كيف تم ذلك على أرض الواقع؟

– سأضرب لك مثلاً، عندما استقلت زامبيا وأصبح «كينيس كاوندا» رئيسا لها، سارعت مصر بالاعتراف بزامبيا وسافر وفد مصرى برئاسة حسين الشافعى وضمنى والسيد محمد فائق وكنت أرأس الوفد التجارى. وقتها كانت هناك شركتان إنجليزيتان تسيطران على عملية استخراج النحاس وتصديره للخارج، مقابل منح زامبيا ٣٨ مليون جنيه إسترلينى فى السنة. كان الإنجليز يدعون أن تكلفة طن النحاس ٦٠٠ جنيه إسترلينى، وكانوا يبيعونه فى بورصة لندن بمبلغ ٨٠٠ جنيه إسترليني. جلست مع رئيس الوفد الزيمبابوى وكان إنجليزياً وبوطنية تحدثت معه عن استعداد مصر لشراء طن النحاس بمبلغ ٧٠٠ جنيه إسترلينى، وهكذا تكون مصر وزيمبابوى قد استفادتا من فارق السعر.

إلا أنه غضب وأنهى الاجتماع وبالطبع أخبر رئيس الجمهورية الذى دعانا لاجتماع عام بحضور وزراء حكومته بعد ساعات قليلة، وأكد لنا فيه أنه ليس فى شجاعة عبد الناصر الذى أمم القناة وأنه يخشى لو فعل ذلك أن تكف بريطانيا عن دفع الـ٣٨ مليون جنيه فى الوقت الذى تبلغ فيه ميزانية دولته ٤٢ مليون جنيه إسترلينى. ولكنه قال لو استطعت لفعلت، وهو ما حدث فى غضون عامين من ذلك الموقف وبتنا نستورد النحاس من هناك بـ٧٠٠ جنيه إسترلينى للطن.

مثال آخر فى نيجيريا التى كانت تعتمد على تصدير الزيوت وتحتكره بريطانيا، وذهب مدير الفرع الخاص بالشركة للمسؤول النيجيرى عن الأمر، وسأله لم لا يصدروا هم بأنفسهم محصول الزيت، فتعجب الرجل وقال له أنهم لن يستطيعوا فعل ذلك لأنهم لا يعرفون وإن فعلوا خسروا كل شىء. ظل مدير الفرع فى نيجيريا يلح فى طلبه حتى نجح فى إقناع الرجل بمنحه جزءاً من المحصول لتصديره وبسعر أعلى وبالفعل نجح فى ذلك بسرية تامة وصدر المحصول لفرنسا، وكان حدثاً شديد الأهمية وخرجت الصحف النيجيرية كلها بعنوان واحد «We Can Do It» أى نستطيع فعلها.

■ يقال إن موازين القوى فى المنطقة باتت تحدد مبادئ اللعب فى أفريقيا والمنطقة وهذا هو السبب فى تراجع دورنا وتأثيره فى أفريقيا.. ماذا ترى؟

– أى موازين قوى تلك التى تغيرت؟ أفريقيا كانت خاضعة للاستعمار من قبل القوى العظمى فى العالم فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وعندما حدث الاستقلال لها كانت للاستعمار اليد الطولى اقتصاديا هناك إلى جانب اللاعب الإسرائيلى الذى كان يسعى للسيطرة على الكثير من الأمور فى الدول الأفريقية عبر علاقات مباشرة مع كثير من الزعماء الأفارقة، ورغم ذلك نجحنا فى أن نكون موجودين، لأننا كنا نمتلك الرؤية والعزيمة الصادقة لفعل ذلك رغم حالة اقتصادنا الذى كنا نعانى منه.

الرئيس عبدالناصر كان يعرف ذلك، ولذا كان هناك فى رئاسة الجمهورية مكتب للشؤون الأفريقية خاص بكل ما يتعلق بالقارة، كنا نعرف أن الاستعمار تركهم بلا أى وسيلة للحياة، ولذا كانت مصر سباقة فى مد يد العون لا من باب التعالى ولكن من باب الإيمان كما قلت بالعمق الاستراتيجى لها فى القارة.

■ ما تفسيرك إذن لابتعادنا عن دول القارة الآن؟

– من أيام الملك مينا ومصر تُحكم حكم الفرد، عبدالناصر كانت له رؤية تحررية ومغالية فى الوطنية وله ٣ دوائر لسياسته عربية وإسلامية وأفريقية. الرئيس السادات كانت لديه رؤية مختلفة آمن فيها بأن ٩٩% من حل مشاكل مصر فى يد الولايات المتحدة، فكان قرار التواصل معها على حساب علاقاتنا بالعرب وأفريقيا. فقل الاهتمام بهذين البعدين وهو ما استمر لحد كبير حتى يومنا هذا.

■ هل كان لشركة النصر أى فروع فى منطقة منابع النيل والقرن الأفريقى؟

– لا للأسف أو لسوء الحظ لم يسعفنا الوقت لعمل ذلك، ولكن دعينى أذكر لك أنه على الرغم من عدم وجود أفرع للشركة هناك، فإن التواجد المصرى كان فعالاً لأعلى درجة، كانت دول حوض النيل تعرف مدى أهمية مصر لها، وبالمناسبة أطماع إسرائيل فى منابع النيل ليست بالجديدة، ولكن مصر كانت موجودة هناك.. أذكر أنه فى قرية تسمى «جينيما» وهى إحدى قرى أوغندا عند منبع النيل كان لمصر مكتب لقياس مياه النيل ومنسوب الأمطار به عدد من مهندسى الرى المصريين، وكان يرأس المكتب مهندس مصرى، لا أذكر اسمه الآن، وثق علاقاته مع سكان القرية كلها عبر التغلغل فى حياتهم ومساعدتهم على حل مشكلاتهم والتواصل مع كل شخصيات القرية المؤثرة، كانوا يقولون له إنه لو رشح نفسه رئيسا للجمهورية لاختاروه، هذا ما نحتاجه الآن للأسف، ولكنه غير موجود.. هم يحتاجون أن نمد أيدينا لهم لا أن نتعالى عليهم. كيف نتجاهلهم ونطلب منهم وقت الأزمة الوقوف بجانبنا؟ التواجد المصرى فى أفريقيا كان تواجد الروح والجسد والثقة فيما نفعله من جانبنا وجانبهم.

■ لماذا تركت الشركة فى عام ١٩٧١ وتقدمت باستقالتك منها؟

– لم أتقدم باستقالتى ولكن الرئيس السادات أعلن قبول استقالة لم أتقدم بها، رغم أن الشركة كانت تحقق مكاسب كبيرة وتُدخل العملة الصعبة لمصر، وأذكر أنه فى منتصف الستينيات أرسلت لى جامعة «إلينوى» الأمريكية خطاباً قالت فيه إنهم اختارونى ضمن أهم ٦٠٠ رئيس شركة فى العالم على اعتبار أن شركة النصر باتت أهم شركة فى مصر والشرق الأوسط وأفريقيا، وطلبوا منى المساهمة فى معهد اقتصادى أنشأوه لتبادل الخبرات، والحقيقة أن عملنا لم يقتصر على أفريقيا بل كانت لنا فروع فى الكويت وباريس وموسكو وروتردام ودمشق وبيروت، وعلاقات مع كل دول العالم، كنا نصدر كل شىء ونفكر فى الخامات التى لا تكلفنا وتعود لنا بالعملة الصعبة، وبخاصة أن التصدير من قبل فى مصر كان يقتصر على القطن والغزل.

لا أنسى أننى عندما زرت اليابان وجدتهم يأكلون الأعشاب البحرية، واكتشفت أننا نعانى منها على شواطئ الإسكندرية وبورسعيد كل عام وندفع أموالاً لإزالتها، فعدت واتفقت مع محافظى المدينتين على رفعها بلا مقابل، وفرزت ما تم جمعه وأعددته للتصدير، مرة أخرى علمت أن شعر الجاموس تُصنع منه فرش الشعر فى العالم، فذهبت للسلخانة واتفقت معهم على حلق شعور الجاموس قبل ذبحها ونظفته وعبأته وصدرته.

■ فى رأيك هل تقتصر مصالح مصر فى أفريقيا على مياه النيل وحسب؟

– بالطبع لا ألم يكن استيراد النحاس بسعر أقل من السوق العالمية مصلحة؟ ألم يكن إقناع دول أفريقيا بإعلان مقاطعتها لإسرائيل مصلحة؟ ألم يكن تواجدنا فى قلب تلك الدول والقرب من زعمائها مصلحة؟ ألم يكن انتماء أهل تلك البلاد لنا وتبجيلهم لكل ما هو مصرى مصلحة؟ ألم يكن تصدير الخبرات والكوادر المصرية لكل دول القارة مصلحة؟ مخطئ من يظن أن مصلحة مصر فى أفريقيا تقتصر على المياه فقط، ومخطئ من يظن أن الوقت قد فات لإصلاح ما أخطأنا فيه، ولكننا نحتاج الرؤية الصحيحة والعزيمة الصادقة.

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *